العقَّاد الشاعر
١
البصر الموحي إلى البصيرة، الحسُّ المحرِّك لقوَّة الخيال، المحدود الذي ينتهي إلى اللامحدود، ذلك هو شعر العقَّاد، بل ذلك هو الشعر العظيم كائنًا مَن كان صاحبه.
إن للشاعر — كما لسائر عباد الله — عينًا ترى، وأذنًا تسمع، لكن الشاعر — دون سائر عباد الله — ينتقل من المرئي والمسموع إلى رحاب نفسه، ليجد هناك وراء ذلك المحسوس الجزئي المقيد بزمانه ومكانه، عالَمًا من صور أبدية خالدة، لا تقتصر حقائقُها على زمان بعينه ومكان بعينه، وهكذا يفعل العالِم، لولا أن العالِم يستخلص تلك الصور هياكل من علاقات مجردة، وأمَّا الشاعر فيقدمها عامرة بالمضمون والفحوى، فتصبح بالنسبة إلى وقائع الحياة الجارية بمثابة النموذج من تطبيقاته؛ فالأول ثابت، والثانية عابرة تجيء وتذهب، ومن هنا كان الشعر هو الذي يُضفي على الحياة وقائع معناها؛ لأنه يطويها تحت نماذجها التي تفسِّرها وتُفصح عن كوامنها، فلئن قيل إن الشاعر الحق يصوِّر الحياة، فليس التصوير المقصود هنا هو تصوير المِرآة للواقف أمامها، بل هو تصوير المثال الثابت للجزئية الطارئة؛ فالأول يفسِّر الثانية ويوضِّحها ولولاه لظلت الجزئية العابرة واقعة صماء خرساء لا تجد اللسان الذي يعبِّر عما انطوى في دخيلتها، ولعل هذا ما أراده العقَّاد حين قال:
فالشاعر حلقة وُسطى بين عالم المعاني الخالدة من ناحية، وعالم الحياة الجارية العابرة من ناحية أخرى، ينظر إلى أعلى ليكتسب الصور في أبديتها ودوامها، وينظر إلى أسفل ليرى تيار الحياة الواقعة كما يجري، فيردُّ المادة هنا إلى الصورة هناك، وإلا لَلَبِثتْ مادة الحياة الجارية حادثات تتصاحب أو تتعاقب بلا معنًى ولا مغزًى، فلئن كان لا بد للشاعر من عالم أعلى يستمد منه صوره الثابتة، فكذلك لا بد لسائر الناس من شاعر يردُّ لهم أحداثَ حياتهم الواقعة إلى صورها التي تُكسبها معناها. يقول العقَّاد:
وبهذا المقياس ننظر إلى شعر العقَّاد.
افتح الجزء الأول من ديوان العقَّاد، واقرأ أول قصيدة منه وعنوانها «فرضة البحر» (الميناء)، وإنما اخترت لك أول قصيدة من أول ديوان للشاعر، حتى لا يكون اختيارنا متحيزًا ولا متعمدًا، فأول لقطة حسية يلقطها الشاعر ببصره هي المنار يظهر ضوءُه ويختفي، فيدخل الشاعر بهذه اللقطة الحسية الجزئية المحدودة بمكانها وزمانها، يدخل بها إلى طوية نفسه فيجد أن الضوء المرئي لا يُغني عن هداية الفكر شيئًا، فإن تراكمت على النفس شبهاتُها وأشجانُها، فمَوئلها هو لُمَع الأفكار لا لمعات الضياء، فأمامك في القصيدة صورتان متشابهتان: إحداهما خارجية والأخرى داخلية. فظلمات البحر في الخارج يقابلها شبهاتُ النفس وأشجانها في الداخل، ولمعات المنار في الخارج يقابلها لُمَع الأفكار في الداخل، وانطلاق الضوء على جوانب اليمِّ بلا حدودٍ تحدُّه ولا قيودٍ تقيِّده يقابله انطلاق العقل حُرًّا نافذًا … صورتان متشابهتان: أمَّا إحداهما فمن الواقع المحدود، وأمَّا أخراهما فمن المطلق اللامحدود. لكن الصورة الأولى تظلُّ حادثةً طبيعية كأية حادثة أخرى في الطبيعة حتى تسعفها الصورة الثانية فتضفي عليها المعنى:
واللقطة الحسية الثانية التي يلقطها الشاعر ببصره هي الحركة التي تعجُّ بها الميناء من راحلين وقادمين، فيدخل الشاعر إلى طوية نفسه مرة ثانية، ليرى صميم الحياة أضدادًا متجاورة: فبرٌّ وبحرٌ، وشرقٌ وغربٌ، وراحلٌ وقادم، ومغتربٌ عن الوطن وعائد، ولغاتٌ مختلفات وألوانٌ متباينة:
ويعود الشاعر إلى المرئي المحسوس مرة ثالثة، فيرى الميناء ناتئةً بصخرها وسط الموج، ومرة ثالثة يدخل بالصورة المرئية إلى طوية نفسه ليرى النموذج العقلي في صورة الحصن الحصين، أو في صورة الطود الراسخ أو في صورة البطل الصنديد الذي لا تنال منه الزوابع والزعازع مهما اشتدَّ بطشُها ومكرت بحيلتها، فلتعنفْ هجمات الأعداء لكن الحصن ثابت، ولتهبَّ الريح عاتية لكن الطود راسخ، وليمكر الماكرون وليخدع الخادعون لكن البطل مطمئن النفس رابط الجأش:
واقرأ القصيدة مرة ثانية على ضوء جديد، اقرأها على أن العقَّاد يتحدث عن نفسه لا عن الميناء، تجد شخصيةَ الشاعر قد ارتسمت أمامك بخصائصها المميزة، فهذا رجل قويُّ البناء متين الأخلاق ماضي العزيمة، ينهض وسط الشدائد كالطَّود الأشمِّ تكتنفه في دنيا الفكر مشكلاتٌ فينفذ فيها بشعاع العقل حتى يهديَ ويهتديَ. فكم من سفينة عقلية جرفَها الطوفان فكان لها الجودي الأمين! وكم من شاردة في الفكر، وكم من واردة أسلست له القياد واطمأنَّت عنده في موضع مستقرٍّ آمن! وكم تتنوع الأفكار والثقافات في رأس الشاعر ثم تتوحد وتتكامل في شخصه الفريد، كما تتنوَّع الأحياء والأشياء في الميناء، ثم تُوحِّدها معًا وحدةُ الميناء! هكذا ترى الشاعر ينظر إلى الأشياء كما ينظر إليها سائرُ الناس، لكنه دونهم يجوب بالمرئي في آفاق الفكر والخيال حتى يجلوَه ويجلوَ نفسه في آن معًا.
ونسوق مثلًا آخرَ نبيِّن به كيف يختار الشاعر من محسوساته ما يوحي بمعانٍ خالدة، فاقرأ معي قصيدة «العُقاب الهرم» تجدها مثلًا واضحًا لما أسلفناه لك من سمات العقَّاد؛ فاللقطة الحسية هنا هي عُقاب زالت عنه قوةُ شبابه فجثم على الأرض عاجزًا عن النهوض والتحويم في أقطار السماء كما كان يفعل إبَّان عنفوانه، ويتلفت الشاعر حوله فإذا صرصورٌ ناشطٌ بوثباته، وإذا طائر القَطا يصيح، أمَّا شيخ الطيور فقد حطمته السنون ولم يعُد له من حياته إلا الحُطام، لكن وا عجبَا لعينيه الواهنتين ما زالتَا تُرهبان بُغاثَ الطير فتفرُّ هاربةً لا تقوى على مجرد النظر إلى صاحب السطوة حتى بعد أن زالت عنه سطوتُه.
هذه هي الصورة المرئية المحسوسة، يرسمها الشاعرُ بتفصيلاتها رسمًا يوحي للقارئ أشدَّ إيحاء بالصورة الخالدة المتكررة في شتى الكائنات وعلى مرِّ العصور: صورة المجد المخوف المهيب المرهوب الجناب، تذهب مع الأيام قوَّته المادية لكن تبقى له آثار الهيبة الماضية يخشع لها الرائي راضيًا أو كارهًا. فانظر إلى آثار معبد قديم زالت عنه قوةُ العقيدة، فهل يسعك أن ترى أطلالَ المجد ولا تخشع لها؟ أو انظر إلى صاحب الجاه القوي ذهب عنه الجاه، أو إلى الليث حبيسًا وراء القضبان، أو إلى أمة ضعفت بعد قوة، أو إلى ما شئتَ من أصحاب الجبروت تذهب عنهم علائمُ الجبروت كلُّها وظواهره كلها، لكن شيئًا عجيبًا ملغزًا يظل فيهم باقيًا ينتزع احترامَ الرائي انتزاعًا.
وها هي ذي قصيدة «العُقاب الهرم» فطالعْ في هذه القصيدة المنظرَ المحسوس بتفصيلاته ومقارناته، ثم تعقَّبْ إيحاءَه في نفسك، فإن وجدت أنك قد انتقلت مع الشاعر من عالم الحس المحدود إلى عالم المطلق اللامحدود، وإن وجدت شواهد التاريخ وشواهد خبرتك في الحياة قد تقطرت إلى ذهنك بفعل الصورة المحسوسة التي طالعتها في القصيدة، فاعلم أنك إزاء شعر عظيم:
وقفةُ الشاعر هنا أمام العُقاب المحطَّم المهدَّد شبيهةٌ في جوهرها بوقفة الشاعر القديم أمام الطلول؛ فالقالبُ الشعوري واحدٌ في الحالتَين، أمَّا مضمون الخبرة الحسية فيختلف باختلاف الخبرة عند الشاعرَين، ووحدة الصورة مع اختلاف المضمون تبيِّن أين تكون الصلة بين مراحل الشعر قديمِه وحديثه وأين يكون تفرُّد الشعراء الأفراد.
٢
شعرُ العقَّاد أقربُ شيءٍ إلى فنِّ العمارة والنحت؛ فالقصيدة الكبرى من قصائده أقربُ إلى هرم الجيزة أو معبد الكرنك أو مسجد السلطان حسن، منها إلى الزهرة والعصفور وجدول الماء، القصيدة الكبرى من قصائده أقربُ إلى تمثال رمسيس منها إلى الإناء الخزفي الرقيق أو إلى غلالة شفافة من حرير، فلو عرفتَ أن مصر قد تميَّزت في عالم الفن طوال عصور التاريخ بالنحت والعمارة، عرفتَ أن في شعر العقَّاد الصُّلب القوي المتين جانبًا يتصل اتصالًا مباشرًا بجذور الفنِّ الأصيل في هذا البلد.
القصيدةُ عند العقَّاد بناءٌ من الصوَّان، والقلمُ في يده هو إزميل النحَّات، إنه لا يَصوغُ قطعةً من العجين اللين، ولا يُقيم بناءً من الطين الطري المطواع، فلا الفكرة عنده قريبة المنال، ولا المادة سهلة التشكيل. القصيدة عنده هي المسلَّة القديمة قُدَّتْ من حجر الجرانيت لترسخَ في الأرض وترتفعَ إلى السماء، فها هنا العمق والسُّموق معًا. إنك لا تلهو بالمسلَّة، تُحرِّكُها بين أناملك كما تُحرِّك القصبة النحيلة، بل تقف إلى جانبها متنبِّهَ الحواس، مرهفَ الأعصاب، مشدود العضلات، رافع الرأس في طموح. فمن أراد أن يقرأ الشعر وهو ملقًى على ظهره في استرخاء العابث اللاهي، فليس شعرُ العقَّاد شعرَه، أمَّا مَن يدخل ديوان الشعر دخولَه معبدًا رفيعَ العُمُد متينَ الجدران، كلُّ شيء فيه يدعو إلى التمهل والتأنِّي والتأمل، ويظلُّ يخرج فيه من محراب ليدخلَ محرابًا، وينتقل فيه من تمثال هنا إلى نقش هناك، حتى إذا ما فرغ من تأمُّل أجزائه جزءًا جزءًا، أدرك في النهاية أنه معبدٌ واحد تتآزر تفصيلاتُه وتتعاون نُحوتُه ونقوشه ورموزه؛ أقول إنَّ من أراد قراءة القصيدة من الشعر مثل هذه القراءة فديوانُ العقَّاد ديوانه.
واقرأ معي قصيدته «أنس الوجود»، وهي من أولى قصائد الجزء الأول من ديوانه، تجدك إزاء بناءين، بناء منهما يُضاهي بناء؛ فالمعبد من ناحية، والقصيدة من ناحية أخرى، فيهما صلابة، وفيهما متانة، وفيهما ثبات، وفيهما جلال.
«أنس الوجود» معبدٌ قديم بالقرب من أسوان، وشاعرُنا الأسواني إذ يدنو من هذا الأثر العظيم، يبدأ بتوجيه الخطاب إلى التماثيل المنحوتة في البناء كأنما هو يبدأ بتحيَّتها، فيقول عنها في هدوء المتأمل المتعمق إنها هي الصورة الصغرى التي تبلورت فيها حقيقةُ مصر الكبرى. وأحسب أن الشاعر عندئذٍ كان يستعرض لنفسه حقائقَ الوجود الكبرى، كيف تتمثلُ في حقائقه الصغرى؛ فالذرَّة الصغيرة هي في تكوينها صورةُ الكون الكبير في تكوينه، والفرد الواحد من الإنسان بجسمه وعقله هو الصورة الصغرى للكون العظيم بمادته وروحه، وحبَّةُ القمح الواحدة هي في جوهرها شجرة القمح بكل ما لها من خصائص ومقومات. وعلى هذا المنوال نفسه تتمثَّل مصر الكبرى في هذه التماثيل الصغرى، فحسبُكَ أن تتأمل خصائص هذه التماثيل لتنتهيَ منها إلى خصائص الوطن الكبير، أو أن تُحلِّل خصائص الوطن الكبير لتعلم منها خصائصَ هذه التماثيل. ولكن هذه التماثيل الصغيرة الدالة على أمِّها الكبرى — مصر — هي صغيرة في الحيِّز المكاني وحده، أمَّا من حيث القيمةُ فهي الآية الكبرى التي لو سُئلت مصر: ما آيتُكَ؟ أجابت: آيتي هي هذه التماثيل التي تجمَّعت فيها الطاقةُ الفنية كلُّها، والطاقة الدينية كلها، وما أنا إلا دينٌ وفنٌّ. ولو تصوَّرنا الوطن الكبير إنسانًا واحدًا حيًّا، كانت هذه التماثيل على جبينه بمثابة الطِّلسم الواقي له من شرِّ المعتدين والحاسدين، لأنها ليست حجرًا وكفى، ولا هي فنٌّ وكفى، ولا هي دينٌ وكفى، بل إن فيها لسحرًا تُدركه الروح ولا تراه الأبصار:
إن شاعرنا ما يزال واقفًا أمام التماثيل، يشخصُ إليها ببصره، ثم يَسبحُ سبحاتٍ من الفكر والخيال. فها هي ذي تماثيلُ حجريةٌ قُدَّت على صورة البشر، أفيكون الأصل خيرًا من صورته الحجرية؟ كلَّا، فليس ذلك هو الحقَّ دائمًا؛ فمعجزة الفن حتى وهو يُحاكي الطبيعة هي أن المحاكاة تفوق أصلَها، فهي أغزر معنًى وأبقى على الدهر حياةً، فكم من رجل يجيء إلى الحياة ويذهب وكأنه الظلُّ يظهر ويختفي فلا جدوَى ولا أثر، ولا حاضرَ ولا ماضي. أمَّا التمثال الفني فهو حاضرٌ وماضٍ، هو صناعةٌ قائمة مشهودة وذكرى تُعيد مجدَ الغابرين، هو حياةٌ موصولة لا تنقطع ولا تزول:
ويفرغُ الشاعر من تحيَّته هذه ويدور ببصره في المحيط المكاني كلِّه؛ فقد انتحى المعبد من أرض الوطن بقعة قصية كأنه الراهبُ يلوذ بصومعته البعيدة المنعزلة عن ضجة الحياة الزائلة وصخبِها، فالعزلةُ المكتفية بذاتها سِمةٌ تميِّز الشخصية الفذَّة الفريدة المعتدة بكيانها؛ لأنه إذا عزَّ القرينُ تعذَّرت الصحبة التي تصون للممتاز امتيازَه، وقد اختار راهبُنا — أنس الوجود — ذلك المكان القصيَّ صومعةً له ليصمدَ هناك صمودَ الجبال المحيطة به، ثم ليحيَا مع الشمس في مكان تكون الشمس فيه أظهر ما تكون وأجلى ما تكون، فلا ستارَ يحجبُها هناك عن أبصار أبنائها وعابديها، فقَيظُها هناك يشتدُّ حتى لكأنه سيَّال من النار ينساب على رمال الصحراء انسيابًا فيُحيلها جمرات، فليست الشمس هناك كالشمس في سائر البقاع؛ لأنها هناك أفواه البراكين تقذف بحِمَمها شآبيبَ تقتل قطر الماء في الهواء قتلًا، وإن تكن هي نفسها التي تُحيي قطرَ الماء بما تُحدثه من بخر ومن مطر في بقاع أخرى، لذلك كان أبناء أسوان — ومنهم العقَّاد — هم أبناء الشمس بأوثق معنًى للبنوَّة، استمدوا حياتَهم من ضِرامها فجاءت أنفسُهم حرَّى من حرِّها:
وبهذا البيت الأخير يبدأ الشاعر في ربط الصلة بين نفسه وهذا المحيط، فيتحدث بضمير المتكلم جمعًا مشيرًا إلى نفسه وإلى أهله من أبناء مصر بعامة وأبناء أسوان بخاصة، فيقول إنهم نشئوا وتربَّوا في نفس المكان الذي تنهض فيه عروشُ الأسلاف كأنما هي الخطيب يوجِّه خطابًا إلى الدهر كلِّه من أزلِه إلى أبده خطابًا لا تشوبه جلبةُ الأصوات؛ إذ هو خطابُ المطمئن في سكينته وكأن تلك العروش القائمة هناك آثار خطرات الزمن تركها على صفحة الرمال سطرًا خالدًا ينطق قائلًا: هنا سار الزمن، وهنا صنع التاريخ:
تلك كانت أولى وقفات الشاعر إزاء معبد أنس الوجود، وقف والشمس مشتعلة، والجو ملتهبٌ حول معبد أُقيم لعبادة الشمس، وإنك لتقرأ الأسطر الأخيرة من المقطوعة السالفة فتكاد تحسُّ لسْعةَ الحر: شمس، قيظ، وقدة، جمر، براكين، ضرام، حَر، حرَّى — ثمانية ألفاظ من نار، حُشدت في ثلاثة أبيات، فأشاعت في المقطوعة وهجًا هو الوهج نفسه الذي يغمر المعبد في ساعات النهار.
لكن اليوم ليس كلُّه نهارًا، فالنهار يعقبه ليلٌ، والشمس يتولها قمرٌ، وها هو ذا الشاعر يزور المعبد ليلًا والبدر مكتمل، والدجى في وقاره ساج:
ومرة أخرى يقف الشاعر مبهورًا أمام هذه المعجزة الفنية التي هي أخلد من الزمن، ففيها انطوى الزمنُ وفي جوفها رقَد، وكأن هذا المعبد مقبرته، ثم كأنه في الوقت نفسه، بمثابة الرسم الذي يُجسِّد الزمن كيان منظور:
ففي هذا الرسم المجسِّد للزمن، وفي هذا القبر الذي يرقد الزمن في جوفه، ترى الماضي قائمًا على هيئة شخوص من حجر، كأنها شخوص آدمية مسَّها ساحرٌ بسحره فتجمَّدت حجرًا، وهي الآن ترجو أن يجيئَها كاهنٌ فيُزيل عنها فعلَ السحر لترتدَّ إلى الحياة فيخفق فيها القلبُ بعد سكون، ويمتلئ الصدرُ بالهواء بعد جمود، فمحالٌ على غير الله الخالق أن يخلق مثل هذه الشخوص في دقَّة صُنعِها، فهي إذن من أبناء الماضي المجيد ولو نطقت لحدثتُك عن أهلها، وهي في صمتها شاهدةٌ على مجدهم وعُلاهم، فكلما رأيتَ في البناء حجرًا يعتلي حجرًا، أو أزرًا يشدُّ أزرًا، وكلما رأيت عُمُدَه القائمة في غمر الماء كأنها العذارى وقفْنَ بقدودهن الجميلة في الماء، رأيت آيةً بعد آية من مجد ذلك الزمان الماضي وأهله … إننا الآن ننظر مع الشاعر إلى الأحجار والعُمُد والتماثيل في ساعات الليل المقمر النديِّ، فلولا أن الأيدي تمسُّ منها حجرًا صُلبًا لقالت الأعين عنها إنها نديَّة طرية تدبُّ فيها دماء الحياة:
إلى هنا قد وقف الشاعر إزاءَ المعبد وقفتين، إحداهما في وهج الظهيرة والأخرى في طراوة الليل، إحداهما والشمس حارقة والأخرى والبدر طالع، وهو في هاتين ينظر إلى المعبد من خارجٍ، إلى أحجاره وتماثيله ومحيطه، وبقيَ له أن يدخله. فما أشدَّ التباين بين ظاهره وباطنه، فنورُ الشمس الوهاج، وضوء القمر الحالم، يُقابلهما في الداخل ظلامٌ لا ينقضي ولا يزول، كأنه الليل الدامس الذي لا يعرف النهار، فاعجبْ لهذه الصوامع التي شُيِّدَت لعبادة الضحى، قد انطوت على هذه الظلمة الدامسة التي تطير فيها الخفافيش طيرانًا موصولًا، فقد لبث الظلامُ يتراكم في جوفها على مرِّ السنين حتى ازدادت فيها غزارةُ الظلام، فوا عجبَا لأوزيريس — إله الضوء — يغمر بالضياء السهل والجبل، ثم يترك هذه الأبراج التي أُقيمت من أجله ظلامًا طامسًا دامسًا، لكن لا عجبَ، فلكلِّ إله — مهما بلغ من إشراقه — جانبٌ مظلم يحول دون انطلاق الفكر حُرًّا.
وللشاعر بعد ذلك تأملات يكمل بها القصيدة …
وبعدُ، فإني أسأل القارئ: كيف كان إحساسك وأنت تقرأ ما قد أسلفته إليك من هذه القصيدة؟ هل أحسست انبثاقةً كتغريدة العصفور تنطلق منسابةً في غير ضابط، أم أحسست جهدًا ومعالجة كجهد المثَّال وهو ينحت الصخر بإزميله وكجهد البنَّاء وهو يُقيم بناءَه الشامخ، حجرًا على حجر، وعمودًا إلى جانب عمود؟ قد كان يستطيع العقَّاد أن يتناول من الصور أسهلها تناولًا وأيسرها تشكيلًا ويلهو بها لهْوَ الصبيان برمال الشاطئ يبنونها في سهولة ويهدمونها في سهولة، وكان يستطيع — كما يفعل سواه من «أمراء» الشعر — أن يصوغ الخيال على الصورة التي تتفق مع حسن النغم، فسواء لديه أأخذ فكرة معينة أم أخذ نقيضها ما دامت الفكرةُ المأخوذة تحقِّق له البهرج ودقات الطبل. لكن العقَّاد يُرغم المادة إرغامًا حتى تستويَ له على النحو الذي يريده هو لها، كما يرغم المثَّال قطعة الجرانيت على التشكل بالصورة التي يبتغيها لها، فهي التي تُطاوعه، وأمَّا هو فلا يطاوعها إلا بالمقدار الذي يُبرز طبيعتها وصلابتها.
٣
الوقفة أمام الزهرة والعصفور والجدول، والوقفة أمام الطَّود والعُقاب والبحر الخِضَمِّ، كلتاهما وقفة جمالية، لكنهما مع ذلك مختلفتان اختلافًا دعَا فلاسفة الفن إلى التفرقة بين الجمال والجلال. فالحالة الوجدانية التي يُثيرها «الجميل» تختلف عن الحالة الوجدانية التي يُثيرها «الجليل». ومن الفوارق القريبة الظاهرة بين ما هو جميل وما هو جليل اختلاف الأبعاد وتفاوت الامتداد وتبايُن الملمس، فيغلب أن يكون «الجميل» صغيرًا ناعمًا منحني الخطوط متداخل الأجزاء في إطار نحيل رشيق، ولا يوحي بأي معنًى من معاني القوة والصلابة والعنف، وأمَّا «الجليل» فيغلب أن يكون ممتدَّ الأبعاد كبيرَ الحجم ناطقًا بمعاني القوة وطول البقاء، بل إن مجرد امتداد الأبعاد لا يكفي، ولا بد أن يُضاف إليه اتجاهٌ معين؛ فالامتداد الذي طولُه مائة متر على سطح الأرض لا يُروِّع الرائي كما يُروِّعه البُعد نفسه وهو قائم إلى أعلى كالبناء المرتفع أو الجبل الشامخ، والارتفاع بدوره لا يروِّع كما يروِّع البُعد نفسه نازلًا في عمق عميق، كالهُوَّة السحيقة.
ومن هذه الروعة التي نحسُّها إزاءَ الأبعاد والأحجام الكبيرة، تأتي روعتُنا من المعاني المطلقة بالقياس إلى شعورنا إزاء المعاني المحددة المقيدة، فحديثُنا عن «الأبدية» و«اللا نهاية» و«اللامحدود» كفيلٌ أن يترك فينا أثرًا شبيهًا بالأثر الذي تُحدثه رؤيتُنا للجبل الأشمِّ وللمعبد العظيم وللبحر الطامي.
وليس «الجميل» و«الجليل» بالمتشابهَين فيما يتركانِه في النفس من أثر وجداني؛ فالأول من شأنه أن يهزَّ النفس بعاطفة «الحب» أو ما يشبهها في التأثير. فالمحب أميل إلى الحنين والذوبان والفناء في موضوع حبِّه. وأمَّا «الجليل» فيهزُّ النفس بعاطفة «الإعجاب» لا الحب، وعاطفة الإعجاب مركَّب يأتلف من عناصر أولية منها: الهول والروعة والرهبة والقداسة. وإذا كان حب الشيء الجميل يدفع صاحبه إلى الذوبان والفناء وما يُشبه الغيبوبة، فالإعجاب بالشيء الجليل يدفع صاحبه إلى كمال الوعي وشدة التنبه وإرهاف الحواس وشعور المرء شعورًا كاملًا بوجود نفسه.
«الجميل» يبعث في النفس لذةً مباشرة، وأمَّا «الجليل» فيبعث فيها لذةً عن طريق غير مباشر؛ فالنظر إلى امرأة جميلة أو إلى زهرة رقيقة، يُطلق في النفس دوافعَها الحيوية المباشرة؛ كدافع الجنس مثلًا، ولذلك كان للأشياء «الجميلة» جاذبيةٌ سريعة الأثر؛ ولذلك أيضًا كان من السهل على هذه الأشياء الجميلة أن «تلعب» بالخيال لعبًا فيه خفَّة اللعب ونشوته وطلاوته، وأمَّا «الجليل» فهو — على خلاف ذلك — يلجم الحيوية إلجامًا مؤقتًا، فتنصرف هذه الدوافع إلى مسالك أخرى غير المسالك التي تكون فيها الاستجابة غريزية مباشرة، فوقوفك أمام الطَّود الشامخ لا يستثير فيك لذةً كلذَّة الجنس مثلًا، ولكنه يدعوك إلى الوقار والتسامي والإعجاب، وها هنا ترى الخيال لا «يلعب» لعب النشوان، بل يَجِدُّ في عمله جِدَّ الإرادة المصممة الماضية.
بل إن الوضع الجسدي نفسَه ليختلف عند النظر إلى «الجميل» عنه عند النظر إلى «الجليل»: فقِف أمام طاقة من الزهر مرة، ثم قِف أمام سلسلة من الجبال العالية مرة تجدْك في الحالة الأولى قد مِلْتَ برأسك قليلًا، وأغمضت العين بعضَ الشيء كأنما أنت في طريقك إلى استرخاء النعاس، وفَغَرْتَ فاك قليلًا، وأبطأت التنفس، ودلَّيت ذراعيك مسترخيتَين، وسادك في الباطن شعورُ الحنين والذوبان والتهافت، وقد تنطلق منك آهاتٌ خفيفة تعبِّر بها عن هذه الحالة كلِّها، أمَّا في الحالة الثانية فالأرجح أن يشرئبَّ منك العنق، ويعتدلَ الرأس، ويتوتر العضل، وتتفتَّح العين، ويشتدَّ التنبه، ويزداد الوعي والصحو، وتُزَمَّ الشفتان، ويسُود شعورٌ بالسمو والقوة.
وأعود إلى شعر العقَّاد فأقول — بصفة عامة لا على سبيل الحصر الدقيق — إنه أدخلُ في باب «الجليل» منه في باب «الجميل» بالمعنى الذي حددناه لهاتين الكلمتين؛ ففي هذا الشعر — كما أسلفنا — شموخ الجبال وصلابة الصوَّان وعمْق المحيط، فيه من الحب جناح العزة لا جناح الذلة، فيه من الشعور صحوُه لا نعاسُه، فيه من الإرادة عزمها لا تراخيها وضعفها، فيه من الإنسان كبرياؤه لا تخاذلُه وخنوعه، فيه من الخيال جدُّه لا لعبه، فيه من الروح أعماقه وذُراه، فلا عجب أن يمسَّ ديوانَه العابثون فيتركوه قائلين: هذا فلسفة وليس شعرًا.
أمَّا بعد، فإني لم أتجاوز بالقارئ بضع صفحات من الجزء الأول من ديوان العقَّاد — وله من الدواوين عشرة — وإن موعدي مع نفسي ومع القرَّاء لكتابٌ أحلل به هذا الشعر الخالد وهذا الشاعر العظيم.