التجديد في الشعر الحديث
في الشعر جديد، ولكن ليس في الشعر تجديد؛ ذلك إذا أخذنا كلمة التجديد بمعناها الحرفي، وهو أن يَحُلَّ الجديد محل القديم، بحيث تزول عن القديم معالمُ وجوده كلها أو بعضها. هذه هي الفكرة الساذجة التي أعرضها، ولقد تبدو فكرةً واضحة بذاتها لا تحتمل القول بلْه الخلاف والجدل، فمن ذا يزعم أن ظهور المتنبي — مثلًا — في دولة الشعر قد استلزم أن يزول امرؤ القيس؟ أو كما يتساءل الشاعر روبرت جريفز: «هل استطاع شيكسبير أن يُنقِص شيئًا من مكانة تشوسر»؟ كلَّا فشأن الشعر كشأن سائر الفنون كلها، يجيء الجديدُ ليضاف إلى القديم إضافة الشقيق إلى شقيقه في الأسرة الواحدة.
نعم إنها لتبدو حقيقة واضحة بذاتها لا تحتمل القول فضلًا عن الخلاف والجدل، لكننا نلاحظ في تاريخ الفنون — ومنها الشعر — أن أصحاب القديم وأصحاب الجديد يتوهمون دائمًا أن حياة فريق منهما مرهونة بزوال الآخر، وأن ميدان الفن لا يتسع لهما معًا، ومن هنا كانت المعارك الأدبية التي ما تنفك قائمة بين الفريقين.
وهنا ينشأ السؤال: ما الذي يدعو إلى استحداث الجديد في دولة الشعر؟ والجواب واضح من مهمة الشاعر نفسه، فمهما اختلفت الآراء في طبيعة الشعر، فأحسب ألا خلاف في الرأي على هذا الحد الأدنى من الموضوع، وهو أن الشاعر يتصيَّد من اللاشعور حقائقَ يحسُّ وجودَها في ذاته إحساسًا غير منطوق فيصوغها لفظًا، لينقلها إلى مجال الشعور الواعي، وعندئذٍ يستطيع أن يشاركَه فيها من أراد أن يشاركه، أو بعبارة أخرى إن مهمة الشاعر هي تحويل الحقائق الخافية المبهمة من مستوى اللالفظ إلى مستوى اللفظ، وإذن فكلُّ حقيقة نفسية مما وجد سبيله إلى اللفظ — أي إلى الوعي — لا يعود بها حاجة إلى شاعر جديد يُخرجها، لكن تيار الحياة دافق، فهو أبدًا في تغيُّر وتحوُّل، ولكل حالة من حالات التغير أصداؤها في أغوار النفس وثناياها، يكون إحساسُ صاحبها بها أول الأمر إحساسًا مبهمًا روَّاغًا، لا يكاد يُمسك بها حتى تُفلت منه، وهنا تجيء مهمة الشاعر، ففي مستطاعه — دون سائر الناس — أن يُمسكَ بتلك الظلال المراوغة، فيقيدَها بقَيد من اللفظ المحكم، فتصبحَ عندئذٍ منظورة لكلِّ من أراد النظر؛ وذلك هو الشعر، وإنما يكون شعرًا جديدًا لأنه تناول من خاطرات النفس ما لم يكن قد تناول سابقوه؛ إذ هو وليدٌ تغيَّر في مجرى الحياة وأحداثها.
ونخلص من هذا إلى مبدأين هامين في قبول الشعر الجديد، أولهما: أن يكون قد جاء ليصوغ حالات لم تخرج من قبل إلى عالم الصياغة اللفظية، وثانيهما: ألا تكون هنالك وسيلة أخرى غير الشعر لقَيد تلك الحالات الجديدة؛ إذ إنه لا مسوِّغ يُسوِّغ لنا أن نفرض على أنفسنا قيود الصياغة الشعرية، في حالات يكفيها النثر.
ولننظر — على سبيل التطبيق — إلى الشعر الجديد في الآداب العالمية المعاصرة، وسأقصر حديثي فيه على الأدب الإنجليزي والأمريكي، الذي أستطيع أن أطالعه وأتابعه. وسنرى أن جديدَه إنما يجيء دائمًا ليوسِّع من رقعة الشعر، بأن يُضيف إليها جوانب لم تكن مشمولة فيها، ولنبدأ حديثنا الموجز السريع بالعشرة الأعوام التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، فها هنا نجد زمرة من الشعراء، على رأسهم إمامان ما يزالان صاحبَي سلطان على دولة الشعر، وهما إزرا باوند، وتوماس ستيرنز إليوت، فهذان — مع غيرهما من أعلام الأدب عندئذٍ — خرجوا جميعًا من الحرب ودمارها وكأنما أصابهم الدوار، وعزَوْها إلى سذاجة الدهماء الذي يُسلِمون قيادهم لساسة الحروب عُميًا صُمًّا، فلم يجد الشعراء عندئذٍ بُدًّا من أن يلوذوا بأبراج من جلاميد الصخر حصانةً لأنفسهم من ابتذال العوام، وتعمَّدوا أن يجيء شعرهم على أرفع درجة من الثقافة العريضة الغزيرة، حتى لكأنما مهمة الشاعر قد أصبحت أن يتحدث الإنسان، الحاملُ لثقافة الماضي كلِّه، أن يتحدث إلى نفسه أو إلى أشباهه من المثقفين، وكان ذلك الاتجاه من الشعراء بمثابة الدفاع الجاد عن الثقافة الرفيعة وعن تقاليد الحضارة الإنسانية كلها من ديانات وآداب ونظم اجتماعية وتأملات فلسفية وغيرها. وكيف يصنعون ذلك؟ يصنعونه بالإحالات التاريخية التي لا يكاد يخلو منها سطر واحد من القصيدة، وبديهي أن بناء قصيدة على هذا الأساس الثقافي الذي يُراد له إحياء القيَم الحضارية على مدى التاريخ؛ أقول إنه من البديهي أن بناء قصيدة من هذا الطراز لا يجيء عفو ساعته ولا وَحيًا سهلًا هيِّنًا يوحَى به إلى الشاعر دون حاجة منه إلى عناء، بل هو وليد دراسة الأولين والآخرين. وكذلك قراءة قصيدة كهذه لا تكون والقارئ مسترخٍ يترنَّم باللفظ وهو شارد الذهن، بل إنها لقراءة تحتاج أن يجلس القارئ ومن حوله المراجع من شتى الصنوف، بل إن كل ذلك لا يكفي أحيانًا فيضطر الشاعر إلى كتابة الحواشي التي يوضِّح بها إحالاته. وأوضحُ مثلٍ لهذا الذي نقوله قصيدة الأرض اليباب لإليوت، وأناشيد إزرا باوند. ولسنا بحاجة إلى القول بأن شعرًا غايتُه أن يَحْمل تبعة التاريخ الثقافي كله إذ هو ينظر إلى الحاضر، لا يجد أمامه من الجهد فضلةً ولا من الوقت فراغًا ليزوِّق اللفظ ويُجمِّله، أو ليرصَّ المترادفات رصًّا ليملأ فراغ الورق: كلَّا، بل إن هؤلاء الشعراء ليجعلونه مبدأ ألا تَرِد كلمة واحدة بغير ضرورة تقتضيها، وأن تكون الكلمات المنتقاة دقيقة المعنى، فلا إبهام ولا لَبْس، وأن تكون الصورة المرسومة واضحة المعالم متعينة الحدود فريدة التكوين.
واختصارًا فإن الجديد الذي أُضيف بهذا كلِّه إلى دولة الشعر، هو أن يكون الشعر حديثَ المتحدث إلى جانب كونه غناءَ المتغنِّي. كان الشعر قبل ذلك يجنح نحو الغناء، فأرادوا له أن يؤديَ مهمة أخرى كذلك، وهي أن يكون حديثَ متحدث، وأيُّ متحدث؟ متحدث من خاصة الخاصة يحدِّث نفسه أو أنداده من العلْية الممتازة. وما دام حديثًا فلا بد أن يُساق فيما يُشبه الرواية، ثم ما دام الحديث مقصورًا على العلْية الفكرية، فلا بد أن يُشحن شحنًا بأمارات الاطلاع الواسع والعلم الغزير. إن الشعر هنا لا يُكتب ليُنشَدَ على جمهور، بل يُكتب ليُدرس في صمت بين المراجع، إنه صور تُرى وليس نغمًا يُسمع، إنه فنٌّ للعين ولم يعُد فنًّا للأذن، ولهذا فلا ضير على الشاعر أن ينتقل من لغة إلى لغة، ولا بأس في أن تُساق عبارات تتخلل القصيدة من أية لغة من لغات العالَمين قديمهم وحديثهم، ولا ضير على الشاعر أن ينتقل من ثقافة إلى ثقافة، ومن بلد إلى بلد، ومن عصر إلى عصر في القصيدة الواحدة؛ لأن التراث الفكري الإنساني كلَّه مِلْكُ يمينه.
تلك كانت الحال في العشرينيات من هذا القرن، فلما حانت الثلاثينيات وجد الشعراء أن أنصار ثقافة الكتب قد غالوا وأسرفوا في ترفُّعهم عن الجماهير عمدًا، فأرادوا جديدًا يُليِّنون به تلك الصخور الناشفة التي أوشكت أن تكون ذهنًا خالصًا وصنعة فنية خالصة. فلماذا لا يتجه الشاعر بشعره إلى سواد الناس؟ أليست ضواغط السياسة والاقتصاد عندئذٍ — قبيل نشوب الحرب العالمية الثانية — تُحتِّم على صاحب الحكمة أن يهديَ مَن هم في أمسِّ الحاجة إلى هداية؟ إذن فليكن جزءٌ أساسي من شعر الشعراء ذا طابع اجتماعي. ولعل «أودن» هو أبرزُ من يمثِّل هذا الاتجاه، فنموذج الشاعر عندئذٍ لم يعُد هو المتعمقَ المتبحرَ المستعلي على عامة الناس، بل هو رجل الدنيا — كما يقولون — الذي يخالط الناس ويحسن الحديث ويَقوى على الضحك، هو الذي يقرأ الصحف اليومية مع الناس وتشغل بالَه شواغلُ الناس من سياسة واقتصاد، بل هو الذي يبسِّط الشعر تبسيطًا يصلح به أن يُذاع على الناس في الراديو وخلال أفلام السينما، هو الذي يوجِّه اهتمامه — على حدِّ تعبير أودن — إلى الإنسان الرأسي لا إلى الإنسان الأفقي، قاصدًا بالإنسان الرأسي أحياءَ الناس الذين يسعَون في الأرض، وبالأفقي أسلافهم من الموتى الراقدين في الأجداث. ولقد تسلَّطت على شعراء تلك الفترة فكرةُ أن يكونوا أصحاب شعر حديث، إلى الحدِّ الذي حدَا بهم أن يختاروا صور التشبيه والاستعارة من آلات الصناعة وغيرها مما يميِّز حضارة العصر. وإنه لمما يستحقُّ الذكر هنا أن تلك الجماعة من الشعراء إذ تعمَّدت أن يجيءَ مضمون الشعر اجتماعيًّا ومتمشِّيًا مع شواغل الحاضر، أصرَّت على أن تكون القوالب المستخدمة هي القوالب التقليدية كالسونيت والدوبيت.
لكن الحرب العالمية الثانية أعلنت سنة ١٩٣٩، وإذن فيا خيبة رجاء من بذل الجهد في إصلاح الجماهير. ألم يكن شعراء العشرينيات على حقٍّ في استعلائهم بالفن الشعري وصيانته من هذا الابتذال؟ لكن لماذا يكون الخيار منحصرًا في هذين الطرفين: فإمَّا تعمُّقُ الشاعر في الثقافة المكسوبة تعمُّقًا يمتصُّ عصارة نفسه، وإمَّا أن يفتح النوافذ على مصاريعها ليُسمِع عامة الناس؟ أليس هناك موقفٌ ثالث، وهو أن يُحدِّث الشاعر نفسَه لا حديث الكتب والمراجع، بل حديث المتغنِّي باللفظ كأنما اختار كلَّ حرف من كل كلمة في قصيدته ليترنَّم به؟ إن الجماعة البشرية إذا كانت قد رضيت لنفسها هذه الحروب الفاتكة، وهذه الضروب المختلفة من طغيان الحكم وافتئات الساسة، وهذه القنابل التي نزلت منها واحدةٌ على هيروشيما وأخرى على ناجازاكي، فسحقت الناس بمئات الألوف سحقًا في مثل اللمح بالبصر، أقول إن الجماعة البشرية إذا كانت هذه طبيعتها، فتبًّا لشاعر يُهدر فنَّه من أجلها، وليكن غناؤه لنفسه. تلك كانت الروحَ السائدة بين شعراء الأربعينيات، ويمثِّلهم ديلان توماس، الذي كأنه عاش من شعره في مقصورة من لفظ منغَّم، وكأنما ليس وراء هذا اللفظ عالمٌ فيه ناس وفيه أحداث.
وهكذا كان شعرُ العشرينيات خطابَ مثقَّف لمثقف، وشعر الثلاثينيات خطابَ رجل اجتماعي إلى المجتمع، وشعر الأربعينيات خطابَ منفعل بوجدانه إلى ذات نفسه. وإنه لتقسيم يُذكِّرني من بعض الوجوه بأطوارٍ ثلاثة مرَّ بها شعرُنا العربي الحديث، مع اختلافٍ في الترتيب الزمني؛ فشعرُ العشرينيات الغزير بثقافته يقابله عندنا شعر العقَّاد وشكري، وشعر الثلاثينيات الاجتماعي يقابله عندنا شعرُ شوقي وحافظ، وشعر الأربعينيات المنفعل بالوجدان الذاتي يقابله عندنا شعرُ جماعة أبولو. في كل خطوة من هذه الخطوات — عندهم وعندنا — جديد، لكنه لا يمحو القديم ولا يزيله، بل يُضاف إليه خلقًا جديدًا.
ثم جاءت الخمسينيات من هذا القرن فشهدنا في الشعر الغربي — وأوشكتُ أن أضيف إليه الشعر العربي كذلك لولا أنه ليس جزءًا من موضوع هذا الحديث — شهدنا في الشعر الغربي شيئًا عجبًا؛ إذ شهدنا بين الشعراء إحساسًا عميقًا بقلَّة غناء الشعر في حياة الأفراد وحياة الجماعات على السواء؛ لقد أصبح الشاعر يتشكك في قيمة نفسه، فجعل قسطًا من شعره ينصرف إلى الشعر ذاته، أفيكون هذا القلق من الشعراء فرعًا عن قلق عام يملأ نفوس الناس أجمعين عن الحضارة الإنسانية كلِّها؟! إن شباب الشعراء في أمريكا وفي إنجلترا اليوم يحسُّون كما لو كانت المدينة عبئًا ثقيلًا لا يستحق أن تُبْهَظَ بحمله العواتق، إنها قيدٌ يغلُّ الأعناق، إنها بدل أن تساعد الطبيعة البشرية على التفتح والازدهار قد خنقتها خنقًا وطمستها في نظمها المعقدة طمسًا؛ أليست هي حضارةً انتهت بنا إلى العلم الذي هو عقل صرفٌ فأنسانا هذا العلمُ أن حقيقة الحياة في أعمق أعماقها هي أنها حياة غريزية لا عاقلة؟ إنها حياة أجدر أن تُعاش بالوجدان الفطري لا أن تُعرف بالمنطق الفكري؛ ولهذا كلِّه ترى هؤلاء الأدباء الشبَّان — ويسمون أنفسهم في أمريكا بالكواسر وفي إنجلترا بالشباب الغاضب — تراهم يتنكَّرون لتراث الحضارة بأجمعه، ومن ذلك التراث المرفوض قواعدُ الشعر نفسها، فمن ذا يعبأ كيف صاغ الأسلاف شعرَهم، فإلى الجحيم بهم وبشعرهم وبحضارتهم الفاسدة كلها، وإذا كان الشعراء لا يعرفون لفنِّهم كرامة، ولا يرون له نفعًا وقيمةً، فما أجدر أن يكون هذا هو رأي الناس فيهم، وإذن فلا غرابةَ أن زُحزِح الشاعر من مكان القيادة الذي احتلَّه في شتى مراحل التاريخ الماضي، زُحزِح إلى هامش الحياة وإلى نفاية المجتمع. هذا لا يمنع — بطبيعة الحال — قيام أفذاذ من أمثال روبرت فروست — شيخ الشعراء في أمريكا — الذي يكتب عن إقليمه الريفي كما يكتب الابن البار عن أمِّه الحنون أو الصديق عن صديقه الحميم، محترمًا فنَّه وقواعد فنِّه، قائلًا إن من يتنكَّر لها لهو كمن يريد أن يلعب التنس بغير شبكة تُقام في أرض الملعب.
وكانت الصيحة الجديدة في عالم النقد الأدبي بالنسبة إلى الشعر، هي ضرورة أن يُعاد النظر في طبيعته وفي مداه إعادة تبدأ من الجذور، فلماذا تكون كلمة «شعر» اسمًا لا ينصرف إلا على ما قد ألِفَه الناس من كلام منظوم موزون على الأوجه التي نعرفها؟ إن ذلك تضييقٌ للمعنى بغير موجب. ولو تشبثنا به كان لزامًا علينا أن نعترف بأن شعر هذا العصر الراهن أعجز من أن يحمل على عاتقه تبعة التعبير عن عصره المعقَّد المليء بالنوازع والاتجاهات، لكن أمامنا مخرجًا من الحرج، وهو أن نُدخل في دولة الشعر لونًا جديدًا هو القصة التي لا تكون قصة فحسب، بل تكون شعرًا كذلك، وخيرُ مثل لذلك قصص جيمس جويس وخصوصًا قصة فنجانز ويك. إن ملاحم عصرنا — هكذا يقول إدمند ولسن — التي توازي ملاحم هومر وفرجيل ودانتي هي قصص بعض كبار كُتَّابها من أمثال فلوبير. إن قصة فنجانز ويك قصيدة كبرى، وكذلك قال الشاعر أودن عن قصة يوليسيز إنها أدنى إلى أن تكون قصيدة منها إلى أن تكون قصة.
ويقول في ذلك الناقد المعاصر ستيفن سبندر: إن أملنا ليخيب حين ننظر إلى الحياة الواقعة في ناحية ثم إلى دواوين الشعراء في ناحية أخرى؛ لأننا عندئذٍ نرى كم هي فقيرة تلك الدواوين في مجاوبتها لخضمِّ الحياة؛ فقد اتسعت الحياة وعمقت حتى لم يعُد في وسع شاعر أن يمتصَّ رحيقها في خبرته الشعرية إذا هو قصر نفسه على قصائد الشعر في صورتها التقليدية، وإذن فلا بد من جديد يُضاف إلى رقعة الشعر، وهذا الجديد المطلوب في رأي هؤلاء النقَّاد هو أن يتسع معنى الشعر ليشمل هذا الضرب من القصة الذي ذكرناه، ولعلنا نُقرِّب الفكرة إلى أذهاننا لو قلنا إن مقامات الهمذاني والحريري — مثلًا — يمكن النظر إليها على أنها من قصائد الشعر بمعنًى جديد لهذه الكلمة أو لا. إن الفاعلية الأدبية في المقامات تنصبُّ على مستوى الوعي وفاعلية الشعر مفروض فيها أن تغوص إلى ما دون ذلك من أغوار اللاشعور.
هذا ما تأخذ به اليوم طائفةٌ من النقَّاد وهو على كل حال رأيٌ لم يستقرَّ بعد، ولعلنا نزداد فهمًا لهذه الوجهة من النظر لو تذكرنا لها نظيرًا في تاريخ الأدب العربي، وذلك حين اتسع معنى كلمة «أدب» في العصور المتأخرة عنه في العصر الجاهلي بحيث اندرجت في مقولته أشياءُ لم تكن من قبل تندرج فيها، بل لم تكن من قبل موجودة؛ كالسيرة، والرحلات، والقصص وغيرها. وعلى كل حال، فأحسب أن لو تحققت للشعر هذه التوسعة الجديدة الجريئة، لانفسح أمامه مجالُ القول انفساحًا، ربما أعاد إليه مرة أخرى مكان الريادة من دنيا الثقافة.