ما الجديد في الشعر الجديد؟
في هذه الحركة الدائرة رحاها اليوم بين «جديد» الشعر و«قديمه» كثيرًا ما أسائل نفسي — بحكم مزاجي الفلسفي الذي ينزع نحو التحليل — أسائل نفسي: تُرى هل تحمل هاتان اللفظتان معنًى واحدًا بعينه عند المعتركين جميعًا؟ ماذا عسى أن يكون معنى «جديد» أو «حديث» عند من ينادون بضرورة أن يكون الشعر «جديدًا»، وعند من يردون عليهم بأنه لا مناصَ لهذا «الجديد» من أن يلتزم أسس القديم الذي قد جرى به التقليد؟
إنني بهذه الكلمة القصيرة أحاول أن أوضح الأمر لنفسي، فإذا اشترك معي القارئ في النتائج التي أصِلُ إليها كان ذلك خيرًا، وإلا فلا حيلة لي في عناده إلا أن يردني بتوضيح من عنده أشد نصوعًا وأجلى ظهورًا. وأول ما يدور في خاطري في تحديد «الجديد» هو أن شعر العصر هو المتمثل في شعراء العصر، هذا بديهي؛ لأن الشعر ليس سحابة معلقة في الفضاء بغير شاعر من لحم ودم يرتكز على كتفيه؛ فالشعر الجديد في مصر اليوم — مثلًا — هو ما نراه في دواوين شعرائنا المعاصرين «جميعًا»، من يجري منهم على سنة العرف ومن يخرج على تلك السنة على حدٍّ سواء؛ لأن الفريقين معًا يؤلفان شعرَ عصرنا، ولو أخذنا «الجديد» بهذا المعنى الزمني الذي يقطع مجرى التاريخ مقطعًا أفقيًّا، لنظرنا إلى شعرائنا كافة على أنهم — بالتعاون — يعبِّرون عن روح العصر، فحتى أشدهم التزامًا للقديم، يعبِّر عن روح العصر؛ لأنه هو نفسه دليلٌ مجسد على أن آثار القديم ما زالت «جديدة»، شأنها في عصرها شأن كل «جديد» مستحدث ظهر لتوِّه ولم يكن بالأمس قائمًا، فها أنا ذا كائن عضوي ذو عينين وأذنين، وأُمسك بين أصابعي قلمًا من طراز معين وأكتب هذه الصفحات بأحرف عربية، هذا أنا، الآن، بكل هذه التفصيلات متشابكة، أفيجوز أن تتصارع هذه الأجزاء المتشابكة التي تكون حقيقتي «الآن»، فيقول القلم — مثلًا — للعينين: أين أنتما مني، فأنتما «قديمان» قِدمَ التطور البيولوجي الذي أنشأكما، أمَّا أنا «فجديد»، أخرجتني المصانع منذ لحظة قريبة! كلَّا لأن العينين قديمتان جديدتان معًا، لأنهما لا تزالان تؤديان المهمة نفسها فلا يمنع قِدمُهما أن تكونَا بنفس «الجدة» التي للقلم؛ لأنهما والقلم معًا خيوط من حقيقة راهنة، هي كتابة هذه الأسطر التي أكتبها الآن، كلَّا وليس بي حاجة أن أبتكر أحرفًا جديدة لكي أكون كاتبًا جديدًا؛ فالقديم هنا أيضًا هو قديم جديد معًا.
بهذا المعنى الأفقي يتساوى شعراؤنا «جدة» في التعبير عن عصرنا، فلا فرقَ بين «علي الجندي»، و«صلاح عبد الصبور»، و«محمود حسن إسماعيل»، و«صالح جودت»، لا فرق بينهم، فكلٌّ يعبر عن عصره حين يعبر عن نفسه؛ لأنه أحد أبناء العصر، سواء اشتد التزام القواعد التقليدية كما هي الحال مع «علي الجندي» أو خفَّ هذا الالتزام كما هي الحال مع «صلاح عبد الصبور»، أو وقف موقفًا وسطًا كما هي الحال مع «محمود حسن إسماعيل»، و«صالح جودت»، وليس الوسط هنا وسطًا في التزام قواعد الشكل، ولكنه وسطٌ في التزام الموضوع. وهناك من شعرائنا المعاصرين أيضًا من يقف موقفًا وسطًا في الشكل، فهو آنًا ملتزم وآنًا غير ملتزم.
لكن لا، فهذا تفسير «للجديد» لا يُشفي غليلًا؛ لأنني أولُ من يحسُّ أنه يتغاضى عن جانب هامٍّ في معنى «الجدة»، فلا يكفي أن يكون الفرد المعين قائمًا بيننا، يتنفس هواءنا ويمشي على أرضنا، ويشاركنا الطعام والشراب، لكي نقول عنه إنه كأيِّ فرد آخر من حيث مشاركتُه لروح عصره، فكم من رجل يعيش معنا بظاهره، وباطنُه مع عصر آخر يختاره من العصور السوالف، فهذا يُعجبه العصر الجاهلي فيقف عنده بروحه، وذلك يعجبه عصر بني أمية أو عصر بني العباس فيرتد إليه بمثله العليا، وهلمَّ جرًّا، وإنما «العصري» بأوفى معاني الكلمة هو من شرِب القِيَم السائدة في عصره دون أيِّ عصر آخر، بحيث لو ارتدَّ بمعجزة إلى عصر سابق أو لاحق لأحسَّ بالغربة الشديدة التي يؤثر عليها العدم، كما حدث لأهل الكهف في مسرحية «توفيق الحكيم». والأمر بعد ذلك يحتاج إلى تحليل طويل عريض عميق يُظهر لنا العناصر التي منها يتألف العصر، بحيث يُتاح لنا أن نقول في اطمئنان وثقة إن هذا الشاعر قد تمثَّل هذه العناصر، ولم يتمثَّلْها ذلك الشاعر. فالأول هو وحده «الجديد»، وأمَّا الثاني فإمَّا أن يكون «قديمًا» أو يكون «مستقبليًّا» سابقًا لعصره! نعم؛ ففي أوروبا وأمريكا اليوم من لا يرضى لنفسه أن يكون «جديدًا» فقط، ينحصر وجهُ الاختلاف عنده في أنه مختلف عن الماضي، ويريد لنفسه أن يختلف عن الحاضر أيضًا، فيسبق عصرَه بأن يمدَّ بصره إلى مستقبل لم يظهر بعدُ في الوجود الواقع.
هذا هو المعنى الذي أحسب أنصار الجديد في المعركة القائمة يقصدون إليه، فهم يريدون أن يقولوا إن عناصر الحاضر — وقد تكون عناصر المستقبل المأمول أيضًا — تتمثل فيهم وحدهم، ولا تتمثل في سواهم. وإذن فسواهم تقليديون يحافظون على القديم، وأمَّا هم فنباتٌ جديد أنبتته تربةٌ جديدة. فماذا يا ترى هي تلك العناصر — على وجه الدقة — التي يراها الجدد متمثلة في شعرهم تمثيلًا يُجيز لهم أن يكونوا وحدهم جديرين أن يُنعتوا بالجدة والحداثة؟ أو فلنعكس السؤال ونقول: ماذا في شعرهم — وليس في شعر سواهم — مما يساير العناصر المميزة لعصرنا؟ فربما كانت هذه الصورة الثانية للسؤال أيسر تناولًا؛ لأننا عندئذٍ لا نبدأ بتحليل مميزات العصر، ثم ننقل العين إلى الشعر الجديد لنرى إن كانت تلك المميزات كائنةً فيه أو لم تكن، بل نبدأ بتحليل مميزات الشعر الجديد ثم ننقل العين إلى مميزات عصرنا؛ لنرى إن كانت تلك المميزات قد جاءت صدًى لهذه، وتحليلُ الشعر أيسرُ علينا — فيما أظن — من تحليل الحضارة المعاصرة كلها.
ولا نريد أن نتكلم كلامًا في الهواء، بل نريد أن نُجيب عن سؤالنا والدواوين بين أيدينا، فنضع — مثلًا — ديوان «صلاح عبد الصبور» وإلى جانبه ديوان محمود عماد أو ديوان محمود حسن إسماعيل، ثم نسأل: ماذا هناك وليس هنا؟ لو كان كلُّ الفرق بينهما هو فرقٌ في الخبرة الشعورية لما كان هذا الفرق مسوغًا أن يكون الأول جديدًا والثاني قديمًا؛ لأنه إذا لم يتفرَّد «كل» شاعر بخبرته الشعورية لما استحق أن يكون شاعرًا على الإطلاق. ودعْ عنك أن يوصف بكونه جديدًا أو قديمًا. نعم إن «نمطًا» معينًا من الخبرة يسود في عصر دون عصر؛ فقد يسود التفاؤل عصرًا والتشاؤم عصرًا آخر، أو قد يسود القلقُ النفسي عصرًا والطمأنينة عصرًا آخر، وربما قال القائلون إن الخبرة الشعورية في ديوان «عبد الصبور» أقربُ إلى «نمط» الخبرة العصرية من زميله، فهل هذا صحيح؟ ليقُل لي من شاء ما هي «القيم» الإنسانية الأساسية التي جسَّدها «عبد الصبور» في شعره وأفلتت من شعر «محمود حسن إسماعيل»؟ — رجائي من القارئ ألا يفهمني على أنني أهاجم هناك وأدافع هنا؛ لأنني أريد أن «أفهم» ولا أقصد إلى هجوم أو دفاع — أهي «الحرية» و«التحرر»؟ إذا كان ذلك كذلك فإني أزعم أن هذه القيمة الإنسانية طابعٌ يميِّز كلَّ آثارنا الأدبية المعاصرة شعرًا ونثرًا. فلقد تقاسمناها فيما بيننا، ولم ينفرد بها واحدٌ دون آخر. أهي «الثورة»؟ لكن الثورة في حدِّ ذاتها لا ترفع ثائرًا على القِيَم «الإنسانية» ليرتدَّ بنا إلى حيوان أعجم، وعندئذٍ يكون «الجديد» المزعوم هو أقدم قديم عرفه تاريخ الحياة على وجه الأرض. على كلِّ حال، إنني أصرِّح بأنني عاجز عن رؤية المميز «الشعوري» الذي من أجله كان الجديد المزعوم في الشعر جديدًا.
لكن الذي لا تخطئه العين هو الاختلاف في «الشكل» في «القالب» في «الإطار». فها هنا — إذن — يجب أن يكون النقاش. ﻓ «الجديد» يتميَّز بتخففه من الالتزام الشكلي، فهو إن حافظ على شيء من الوزن، فهو لا يريد أن يلتزم القافية، فمهما يقُل الشعراء الجدد ومهما يُقسموا بالله العظيم (كما أقسم صلاح عبد الصبور في إحدى مقالاته، بل إنه قد جعل هذا القسَم عنوانًا لمقاله)، أقول إنهم مهما أقسموا بالله العظيم أنهم ينظمون شعرًا «موزونًا»، فلا أظنهم ينكرون أن مدى التزامهم أقل من مدى التزام الشاعر الذي يحافظ على عمود الشعر الموروث.
وها هنا أقول إنه إذا كان هذا التخفف من العناية بالشكل هو السمة المميزة للشعر الجديد (لاحظ أن هذه جملة شرطية، فإذا أجاب منهم مجيب بأن هذا التخفف من العناية بالشكل ليس هو السمة المميزة للشعر الجديد، لم يعُد بيني وبينهم نقاش)، أقول إنه إذا كان هذا التخفف هو السمة المميزة، إذن فما يُسمَّى ﺑ «الجديد» هو محاولة أُريد بها أن تكون شعرًا لكنها لم تبلغ أن تحقق لنفسها ما أرادت. والفرق عندئذٍ لا يكون فرقًا بين شعر «جديد» وشعر «قديم»، بل يصبح الفرق فرقًا بين الشعر وما ليس بشعر على الإطلاق؛ لأن الذي يميِّز الفنَّ في شتى صنوفه هو «الشكل» الذي صُبَّ فيه موضوع ما. ولو انهار الشكل لم يعُد الفنُّ فنًّا، حتى وإن بقيَ الموضوع كلُّه بحذافيره لم ينقص شيئًا. هذه مسلمة يستحيل بغيرها أن نمضيَ في المناقشة خطوة واحدة، وليس الشعر بدعًا بين الفنون في هذا؛ فالموسيقى مادتها الصوت، لكنَّ هذا الصوت لا بد أن يُساقَ في ترتيب معلوم، والتصوير مادته الضوء (أي اللون)، لكن درجات الضوء لا بد أن توضع على اللوحة في ترتيب معلوم، والنحت مادته الحجر على اختلاف صنوفه، لكن هذا الحجر لا بد أن يُصاغ في شكل معلوم. والقصة مادتها أشخاص تتفاعل، لكن كلَّ شخص منها لا بد أن تُنظم أحداث حياته تنظيمًا يُخرِج الصورة واضحة، فهل نقول بدعًا إذا قلنا إن الشعر مادته اللفظ من حيث هو نغم (لأن اللفظ من حيث هو رمز دال فقط قد يكون مادة فن آخر غير الشعر) فلا بد أن يُساق هذا اللفظ سياقًا يحقق النغم المطلوب.
ويستحيل علينا أن نقول عن قصيدة إنها قد حقَّقت شكلًا ما في ترتيب كلماتها، إلا إذا كان في وسعنا أن نستخرج «قاعدة» يمكن وصفُها للآخرين بحيث إذا أراد واحد من هؤلاء الآخرين أن يسير على «القاعدة» نفسها استطاع ذلك، فهل يستطيع شاعرٌ من أصحاب الشعر الجديد أن يدلَّنا على «القاعدة» النظرية في أية قصيدة من قصائده؟ يقولون أحيانًا إن القاعدة الجديدة هي جعل الوحدة الوزنية هي التفعيلة الواحدة، وبهذا يكون السطر أو القصيدة تكرارًا لهذه التفعيلة، لكن أليس في الأوزان التقليدية ما يكرِّر التفعيلة الواحدة؟ نعم فيها ذلك، ثم يُضاف إلى ذلك أوزان أخرى. فهل نُسمِّي الاكتفاء ﺑ «بعض» ما هو قائم فعلًا تجديدًا؟ إن تنوع الأوزان إنما جاء ليقابل تنوعًا في الحالات النفسية، ولو كان الشاعر دائمًا على حالة نفسية واحدة لما تعددت الأنغام والأوزان التي يريدها الشاعر، فافرضْ أن عدد حالاتي النفسية هو عشرون، أعددتُ لكل حالة منها وزنًا يناسبها، أتكون أنت مجددًا إذا قلت لي: لا بل إن عندي حالة واحدة فقط هي التي تعاودني، ولذلك سأكتفي من أبحرك هذه العشرين ببحر واحد؟ إنه لو كان هذا تجديدًا، لكان الفقير الذي يكفيه جزءٌ يسير من ثروة الغني مجددًا؛ لأنه اكتفى بالبعض دون الكل.
لو كان الشكل قليلَ القيمة إلى كل هذا الحد لما خسر الشعرُ شيئًا حين يُترجَم من لغة إلى لغة أخرى، أو حين تُنثر قصيدة إلى نفس اللغة التي نظمت فيها؛ لأن ما يخسره الشعر بالترجمة أو بالنثر هو هذا وحده، هو الشكل، ولست أدري ماذا يكون الشكل إن لم يكن ترتيب الكلمات على نسق معلوم بحيث يحقق نغمًا. فإذا احتاج هذا النغم إلى رابطة تربطه في أجزاء القصيدة لجأتُ إلى القافية واخترتُ لهذه القافية نفسها ترتيبًا يحقق لي ما أردته منها، وهو ربط الوحدة النغمية في القصيدة.
وإذا اتفقنا على أن الشكل أمرٌ حيوي في الشعر — بل وفي كلِّ فنٍّ آخر — بقيَ أن أقول كلمة أخيرة، وهي أن مراعاة الشكل تقتضي أن أختار له مادة ذات صلابة وعناد، حتى يكون ﻟ «الصياغة» معنًى ومغزًى. لماذا ينحت المثَّال تمثاله من المرمر أو الجرانيت ولا ينحته من الطين أو من الخزف؟ الجواب هو أنه بمقدار صلابة المادة التي يتناولها الفنان تكون مهارته الفنية في تطويعها والإمساك بزمامها، عظمة الشعر الجاهلي هي في صلابة مادته، وحتى حين يبدو اللفظ منسابًا في سلاسة، فالبراعة تكون في سيطرة الشاعر على مادة منزلقة رواغة؛ فسيطرة الفنان على مادة فنِّه — إذ هو يصوغ تلك المادة في شكلها الذي اختاره لها — شرطٌ جوهري لا أرى منه بُدًّا. وقد يُقال بعد ذلك — دون أن يتغير الشرط — إن براعة الفنان هي في أن يُخفيَ جهده المبذول في فرض تلك السيطرة على مادته المشكلة، فهل يدَّعي شاعر من «الجدد» أن في مادته اللفظية مثل هذا العناد الذي يقتضيه المغالبة والتغلب؟ كلَّا، فالبناء من قش، فقل ما شئت في محتواه، لكن تهافت البناء يقضي بحرمانه من الدخول في دولة الفن الخالد.