كان لي قلب
القضية التي أكتب من أجلها الآن هي قضية الشعر الحديث كلِّه، وإن تكن ركيزة القول قصيدة بعينها لشاعر بعينه. أمَّا القصيدة فهي التي جعلتُ من عنوانها عنوانًا لهذا المقال، وأمَّا الشاعر فهو الأستاذ أحمد عبد المعطي حجازي في ديوانه «مدينة بلا قلب». والحق أن حيرتي في الرأي لتشتدُّ إذا كنت بإزاء حالة لا هي قد بلغت حدَّ الجودة الذي عنده تُكمُّ الأفواه الناقدة، ولا هي قد نزلت إلى ضعف يدعو إلى الترك والإهمال، ولكنها حالة وسطى، فيها القدرة الكامنة التي كانت لتلقى الإعجاب لو وجدت سبيلَها القويمة، وتلك هي حالة الشاعر الذي أتناول الآن إحدى قصائده بالعرض والتحليل.
الشاعر في قصيدته هذه لا يلتزم من موروث قواعد النظم إلا أهونها، لكي يكون بذلك شاعرًا حديثًا. وكما قلت في مناسبة سابقة عند الحديث عن شاعر آخر يأخذ بوجهة النظر نفسها. لا مجال هنا للجدل في هل يجوز ذلك أو لا يجوز؛ فعندي في ذلك كلام طويل عريض، ولا بد أن يكون عند هؤلاء المحدثين كذلك كلام طويل عريض، وإذن فلنترك هذا الجانب إلى فرصة أنسب، ولنأخذ القصيدة كما هي قائمة، فماذا نرى فيها مما نحب أن نراه؟ وماذا يغيب عنها مما نأسف لغيابه؟
في القصيدة صوتٌ واحد مسموع، هو صوت الشاعر نفسه يصف ويروي ويوجه الخطاب إلى غائبة لا تجيب. فها هنا شاب ريفي قضى في حضن قريته عشرين عامًا، كانت الأعوام الثلاثة الأخيرة منها هي عمر عشقه لفتاة لسنا ندري ما الذي حدث بينهما مما أثار غضبةَ العاشق، فهجر القرية إلى المدينة. وبعد عامين من هجرته كتب هذه القصيدة.
في القصيدة خمس لوحات: الأولى تصوِّر آخر ليالي اللقاء بين العاشقين، والثانية تصوِّر ساعة الهجرة عند الغروب، والثالثة تصوِّر الطريق إلى المدينة، والرابعة تصوِّره في المدينة وحيدًا بعد عامين قضاهما فيها، والخامسة والأخيرة حنين إلى لقاء بمعشوقته جديد. ووحدة القصيدة رغم تعدُّد صورها ظاهرة كما ترى، وذلك في حدِّ ذاته ركنٌ ركين في كل فنٍّ جيد.
-
(١)
أما الصورة الأولى — وهي أضعفها جميعًا — فصورة الغرفة التي قضى فيها العاشقان ليلة الوداع. يراها الشاعر بعد عامين فيجدها كما تركها، وهنا ضعفٌ في التكوين ظاهر، فلا تدل القصيدة أبدًا أنه عاد من غربته لينظر ويقارن، ومع ذلك فهو يروي لك عن تفصيلات الصورة التي وجدها ما زالت باقية على حالها منذ تركها؛ فعلى المِرآة غبار لعله تراكم خلال العامين، وما زالت على المخدع البالي روائحُ النوم. وأعجب من ذلك أن المصباح ما زال صغير النار كما كان، كأنها النار السحرية من سراج ساحر لم يكفِها عامان كاملان ليفرغ وقودها وتنطفئ، بل إن ثوب معشوقته ما زال هناك … قد كان يمكن لهذه التفصيلات أن تكون صورة لولا هذه المفارقات العجيبة التي امتلأت بها. فسيحدثك الشاعر بعد قليل أن ذلك هو عشُّه الذي دام له الغرام فيه ثلاث سنين، ومع ذلك تراه هنا يقول عن ذلك المساء إنه «مساء القبلة الأولى»، وها هو ذا يجد ثوب المعشوقة ما زال هناك كأنه يريد أن يضمن القول أن معشوقته قد تعرَّت عندئذٍ عن ثوبها، على حين أنه يذكر لنا أن هذا الثوب كان على صاحبته يردُّ انبثاقة نهدها المترع. فإذا فرضنا أنه ارتدته حينًا ثم خلعته، فكيف خرجت يا تُرى بغير ثوبها بحيث تركته عامين إلى أن يعود فيراه ملقًى هناك كما كان؟ وأهمُّ من ذلك كلِّه أن هذه المقطوعة الأولى من القصيدة تنتهي بك إلى وداع غاضب بغير مسوغ مذكور. ولعل الشاعر نفسه قد أحسَّ بهذا الافتعال، فاضطر إلى القول في المقطوعة نفسها أنه «لفق» الوجوم في صمته وفي صوته، ليقول لصاحبته: وداعًا، ثم يُقسم لنفسه بعدئذٍ أنه لم يكن صادقًا في ذلك كلِّه، بل كان يخدعها — أو يخدع نفسَه لا تدري — وإنما ذلك الوداع الذي جاء بغير مسوغ قد كان — فيما يقول الشاعر — أثرًا من رواية قرأها عن شاعر عاشق أذلَّته عشيقتُه فقال لها: وداعًا. وأراد صاحبنا أن يكون شاعرًا مثله ما دام يقف موقفًا شبيهًا من بعض وجوهه بموقفه، فقال هو الآخر لصاحبته: وداعًا.
تلك هي اللوحة الأولى من اللوحات الخمس التي منها تتألف القصيدة. تُرى هل بلغ الشاعر الشاب من عجز الإدراك كلَّ هذا المبلغ البعيد، فراح يلفق الأجزاء تلفيقًا لا يخدم به غرضًا معلومًا ولا يؤدي به معنًى مفهومًا؟
إنني أشعر بميلٍ إلى الإسراف في إنصافه؛ لأن الأجزاء التالية من القصيدة فيها من ملامح الشعر الجيد ما يستبعد معه أن يكون الشاعر في مقطوعته الأولى بكل هذا القصور والضعف. فأضيف من عندي مغزًى أعمق من هذا الغثِّ البادي على السطح، فأقول إنني سأجعل مفتاح القصيدة كلِّها هو قول الشاعر: «وقلت وداعًا، وأقسم لم أكن صادقًا، وكان خداعًا، ولكني قرأت رواية عن شاعر عاشق، أذلَّته عشيقتُه فقال: وداعًا.» سأجعل هذا القول مفتاحًا للقصيدة، وسيكون معناه البعيد عندي هو ألا أمل لبلد يبني حضارته وثقافته على منقول ينقله عن سواه نقلًا دون أن ينبع من جذوره الأصيلة ومن قلبه النابض، ولو فعل لكان مصيرُه مصيرَ هذا الشاعر الذي لفَّق لنفسه موقفَ شاعر آخر، فكان مصيره إلى قلق مستبد وإلى تشرُّد بشِع وإلى وحشة وتخبُّط وضلال، وإلى حنين شديد آخِرَ الأمر أن يعود إلى ماضيه العاطفي الذي كان زاخرًا بعصارة الحياة.
إذن فلنغضَّ النظر عن تفكك أجزاء الصورة الأولى، ولنخلع عليها هذا المعنى ليُكسبها عمقًا، تعمق به بقية مقطوعات القصيدة.
-
(٢)
صمَّم الشاعر إذن أن يهجر معشوقته لسبب مكذوب مفتعل؛ فهجر قريتَه كلَّها في اليوم التالي لأمسية ذلك اللقاء الأخير، وكان عمره عندئذٍ عشرين عامًا. وبنظرة الفنان راح يقتبس من قريته لمحات الوداع، فجاءت كلُّ لمحة منها صورة جميلة؛ فالمغرب الشفقي يحتضن القرية، وظلال النخيل تمتدُّ راقدة على مخادع غنية النقش والتلوين، وظلُّ المئذنة يتلوى على صفحة الترعة. والطبيعة كلُّها أسرة متحابة؛ فالزهر يعانق الزهر، والطير يغمغم للطير، وماشيةُ الحقل عائدة إلى مقارها داخل القرية … فبماذا أوحى إليه الزهر المتعانق والطير المغمغم والماشية العائدة؟ أوحت إليه هذه كلها بخصوبة النسل، وخصوبة النسل بدورها أعادت إلى ذهنه صورة معشوقته وقد ضمَّهما معًا عشٌّ واحد، لكن سرعان ما يتذكر «حكاية الأمس» كأن الأمس كانت له حكاية! ولعلها كانت له لكنه احتفظ بها في بطنه. تذكَّر «حكاية الأمس» فمضى قُدُمًا في طريق هجرته.
-
(٣)
هجر الشاعر قريته خاوي الحقائب لا يملك لقمة اليوم. فكيف ينتقل إلى مهجره من المدينة إلا أن يُشفق عليه ملَّاح فيأخذه في مركبه: «ونمت المركب، وسبعة أبحر بيني وبين الدار، أواجه ليلي القاسي بلا حب، وأحسد من لهم أحباب، وأمضي في فراغ بارد مهجور، غريب في بلاد تأكل الغرباء.»
وبالمعنى الذي نريد أن نخلعه على القصيدة، فات الشاعر أصله القديم فتاهت به السبل، أو قُل إنه ترك ثقافته العريقة، حتى أصبح بينه وبينها سبعةُ أبحر، فكان جزاؤه أن يضرب ضالًّا في فراغ مهجور، غريبًا في بلاد لا ترحم الغريب.
-
(٤)
وننتقل إلى اللوحة الرابعة، اللوحة التي تصور هذا الضالَّ الغريب في مدينة المهجر، التي لا يربطه بها رابط. والحق أن الشاعر في هذا الجزء من قصيدته يتكلم بأعصابه المرتعشة الحية، ويعبِّر تعبيرًا صادقًا قويًّا، لا أقول عن نفسه فحسب، ولا عن بلده الذي قرع دار الغربة الثقافية (حسب تفسيري للقصيدة) فضاع قلبه فحسب، بل يُعبِّر عن روح العصر في العالم كلِّه، وهي روح الوحشة والقلق والفزع من المجهول، روح التائه بلا مأوًى: «وذات مساء، وعمرُ وداعِنا عامان، طرقتُ نوادي الأصحاب لم أعثر على صاحب! وعدتُ تدعني الأبواب والبواب والحاجب، يدحرجني امتدادُ طريق مقفر شاحب لآخر مقفر شاحب تقوم على يديه قصور، وكان الحائط العملاق يسحقني ويخنقني، وفي عيني سؤالٌ طاف يستجدي خيال صديق، تراب صديق. ويصرخ إنني وحدي، ويا مصباح! مثلك ساهر وحدي، وبعت صديقتي بوداع!»
-
(٥)
فماذا يتمنى هذا التائه الضال المحروم من عطف الصديق ومن حب الحبيب؟ ماذا يتمنى سوى أن يضرع إلى حبيبته أن تعود إليه، وقد تاب من خطيئته فلن ينسلخ عن أرومته إذا كُتِبت له العودة إلى حبيبته الضائعة: «ملاكي! طيري الغائب! تعالي، قد نجوع هنا. ولكنَّا هنا اثنان! ونعرَى في الشتاء هنا، ولكنَّا هنا اثنان! تعالي يا طعام العمر، ودفء العمر، تعالي لي.»
لكن لماذا يدعوها إلى المجيء إليه ولا يفكر هو في العودة إليها؟ إنني لو تتبعت شعاع الضوء الذي ألقيته على القصيدة لقلت: إن المنسلخ عن أرومته — برغم ما يعانيه من هذا الانسلاخ — فإنما يسير مع الحياة في تطورها، فهو طريقٌ لا رجعة فيه؛ إن الشاب يخرج من الطفل ولا يعود إليه، والكهل يخرج من الشاب ولا يعود إليه. تُرى هل يكون الأمر كذلك بالنسبة إلى بلد استدبر ثقافة قديمة ليستقبل ثقافة جديدة، فيتألم من النقلة لكنه لا يعود؟! وعندئذٍ تكون دعوته للماضي أن يجيء إليه دعوة حنين، لا دعوة إلى واقع مأمول.
أمَّا بعد، فوا خسارتاه! وا خسارة هذه الطاقة الشعرية أن تنسكب هكذا كما ينسكب السائل على الأرض فينداح، وتسيل أطرافه هنا وهناك، دون أن يجد القالب الذي يضمُّه بجدرانه، فيصونه إلى الأجيال الآتية ليقول الناس عندئذٍ: هناك كان شاعر شاب تكلَّم عن ذات نفسه فجاءت عباراته تعبيرًا عن قومه وعن عصره.