رأي في شعر البارودي
يستهلُّ المغفور له الدكتور محمد حسين هيكل مقدمته النقدية البارعة لديوان البارودي بقوله: «شعر البارودي حياته»، وعندي أن شعر البارودي لم يكن حياته — كما قال الدكتور هيكل — بقدر ما كان قراءته، فأنت تستطيع أن تحيا حياتك العملية في ناحية وأن تمضيَ في قراءتك ودراستك في ناحية أخرى، بحيث يسير الجانبان في خطَّين متوازيَين لا يلتقيان. وهكذا كان البارودي أو كاد، فهو إذا وصف أو تغزَّل أو أجرى الحكمة في شعره، فالأرجح عندي أنه كان في كل هذا يصدر — لا عن خبرته الذاتية الحيَّة — بل يصدر عن رنين اللفظ كما وعتْه أذنُه مما قرأ للأقدمين.
محور الشعر عند البارودي هو حاسة السمع، إليها ترتدُّ الكثرة الغالبة مما نظم، حتى الصور المرئية التي تكثر في ديوانه كثرة ملحوظة، مما جعل الدكتور هيكل يُشير في مقدمته للديوان إلى هذه الظاهرة بقوله: إن البارودي قد اعتمد في تصويره على حاسة النظر أكثر من اعتماده على سواها. أقول: إنه حتى في هذه الصور المرئية ظاهرًا، كان في الحقيقة يستند إلى محصوله السمعي أكثر مما يستند إلى رؤية العين، العماد عنده هو الحاسة، والحاسة عنده هي السمع، والمسموع عنده هم القدماء. ذلك هو البارودي في مصدره وفي منهجه، فقد قرأ وقرأ وسمع وسمع، وكانت له تلك الأذن الحسَّاسة المرهفة المطبوعة على التقاط الرنين الموسيقي فيما كان يقرأ أو يسمع، فجرى لسانُه بما قد جرى على نسق النماذج التي انطبعت في مسمعيه، وكأنه الخطاط ذو اليد الصناع، لا يخط الخط ابتداءً، بل يجري على «مشق» أمامه بقلم ثابت بين أصابعه، وحق له أن يقول:
في هذا الشطر الأخير — فلا بد لابن الأيك أن يترنما — إشارة نريد الوقوف عندها قليلًا قبل أن نستطرد في حديثنا عن تأثُّر البارودي بسمعه قبل بصره، وهي أن المحاكاة السمعية لرنين الشعر القديم، محاكاة صادرة عنده عن طبْع لا عن تكلُّف وتصنُّع، فهو العصفور يترنم كالعصفور، فلا شك أن شعر البارودي ينساب في يسرٍ كما ينساب الماء من ينبوعه، وينبثق في طلاقة كما تنبثق من الشمس أشعتُها ومن الزهر أريجُه، إنه — كما يقول عن نفسه — كابن الأيك يترنم بطبعه، وإن يكن يترنم على غرار ما ترنم سابقوه الأقدمون وفي هذا شموخه وسموقه بالنسبة إلى معاصريه، فكلاهما ينسجُ على منوال قائم، أمَّا هو فينسج بطبع موهوب، وأمَّا هم فيتعثرون كما يتعثر من يرغم طبعه على ما ليس منه. لم يكن البارودي كمعاصريه بحاجة إلى حفظ قواعد النحو والعروض والبديع لينظم على مقتضاها، فذلك من شأن أصحاب الصناعة. يقول الشيخ المرصفي عن البارودي في كتابه «الوسيلة الأدبية» إنه «لم يقرأ كتابًا في فنٍّ من فنون العربية، غير أنه لما بلغ سنَّ التعقل وجد من طبعه ميلًا إلى قراءة الشعر وعمله، فكان يستمع لبعض من له دراية وهو يقرأ بعض الدواوين، أو يقرأ بحضرته، حتى تصور في برهة يسيرة هيئات التراكيب العربية ومواقع المرفوعات منها والمنصوبات والمخفوضات حسبما تقتضيه المعاني. ثم استقل بقراءة دواوين الشعر ومشاهير الشعراء من العرب وغيرهم حتى حفظ الكثير منه دون كلفة. ثم جاء من صنعة الشعر باللائق …»
كان البارودي إذن يسمع ثم ينطق وفق ما قد سمع، وهو ينطق نطق السليقة المطبوعة التي لا تكلُّفَ فيها:
والمنهل المطروق هنا، والمنهج الوعر، هو منهل معاصريه ومنهجهم في الكلام.
وما دمنا بصدد الحديث عن فطرة البارودي الشاعرة، التي ينبثق منها الكلام المنظوم المنضود ذو الجَرْس الموسيقي الجميل انبثاقًا سهلًا كأنما هو ظاهرة طبيعية تجري مجراها في غير عسر، كما يرف الطائر بجناحيه أو كما تسبح السمكة في الماء، فإنه مما يثير الإعجاب حقًّا في شعر هذا الشاعر المطبوع، أن الكلام في نظمه يجيء بترتيبه الطبيعي كما يريده النحو، فيندر جدًّا أن ترى عنده تقديمًا أو تأخيرًا أو تقصيرًا بسبب ضرورة شعرية، إنما يجري الكلام على سجيته وبترتيبه المألوف، فيضيف هذا إلى جماله جمال البساطة، دون أن تتأثر قوة اللفظ عنده بهذا الترتيب الطبيعي للكلمات. وإن ذلك ليذكرنا بما قاله عبد القادر الجرجاني في كتابَيه «أسرار البلاغة» و«دلائل الإعجاز» من أن موضع الجمال الأدبي كثيرًا ما يكون في أن تتبع الألفاظ ترتيب المعاني في العقل، وهذه المعاني إنما تلتزم في ترتيبها منطق العقل، فهو الذي يوجب للسابق أن يسبق وللاحق أن يلحق، فإذا وجب لمعنًى أن يكون أولًا في النفس وجب للفظ الدال عليه أن يكون مثله أولًا في النطق.
وإذا أردت الشواهد من شعر البارودي على انطلاق كلامه المنظوم على الترتيب النحوي بغير حاجة منه إلى تقديم وتأخير، فلا حاجة بك إلى بحث طويل، بل افتح ديوانه حيثما اتفق، كما أفتحه أنا الآن على صفحة ٦٢ من الجزء الأول فاقرأ:
هكذا يكتب البارودي شعره وكأنه يتكلم، ولا عجب، فهو نفسه يصف الشعر الجيد فيقول: إن «خير الكلام ما ائتلفت ألفاظه، وائتلفت معانيه، وكان قريب المأخذ، بعيد المرمى، سليمًا من وصمة التكلف، بريئًا من عشوة التعسف، غنيًّا عن مراجعة الفكرة، فهذه صفة الشعر الجيد.»
•••
وأعود الآن إلى فكرتي الرئيسية التي أزعم بها أن شعر البارودي هو قراءته، وأن محور الفطرة فيه هو أذنه الحساسة لجرس الكلام، فهو حتى إذ يصف مشهدًا مرئيًّا تراه يسوق اللفظ لحلاوة نغمه ولو جاء ذلك على حساب تماسُكِ الصورة ووحدتها، وهاكم أمثلة توضح ما أريد.
ففي صورة واحدة يجعل الرياح شمالية ويجعلها شرقية، ويربط بين الريح الشرقية وسقوط المطر مع أن ذلك لا يقع، ثم هو يجمع بين الجلوس في الفضاء المكشوف على شراب، والمطر الهامي، وهكذا، إذ يقول:
فيستحيل أن يكون البارودي هنا مستندًا إلى خبرة مباشرة؛ لأن اجتماع العناصر في هذه الصورة مُحال كما قلنا. ولكن ماذا عليه؟ إنه يستريح إلى هذه الألفاظ موضوعًا بعضها إلى جانب بعض لموسيقاها في أذنه.
تُرى هل كان البارودي حين يصف روضة المقياس في شعره — وقد أكثر جدًّا من وصفها مما يدل على صلتها الوثيقة بحياته الخاصة — أقول: هل كان في وصفه لروضة المقياس، وهي لصيقة بنفسه، يصدر في الوصف عن رؤية العين أو كان يغلبه رنين اللفظ؟ بعبارة أخرى هل كانت الصورة التي يُنشئها صورة مرئية أو صورة سمعية؟ إنني أميل إلى الظن بأن السمع عنده غالب على النظر، وقراءته أسبق إلى قلمه من خبرة حياته، وإلا لما دعا لروضة المقياس — الحبيبة إلى قلبه — بقوله:
فهذه دعوات مفهومة على لسانِ عربيٍّ يعيش في الصحراء، لكنها غير مألوفة على لسان المصري، إذا كان هذا المصري متأثرًا بالحياة من حوله، هذا إلى أن الصَّبا (وهي رياح شرقية) يستحيل أن تحوك بخيط المزن حلة للأباطح في مصر؛ لأن الرياح الشرقية عندنا جافة لا تحمل السحاب ولا تنزل المطر، وليس الرُّبا مما يرى الرائي في روضة المقياس، لكن البارودي لا يستهدف شيئًا من هذا، وإنما هدفه فخامة اللفظ وروعة الموسيقى بحيث يجيء البناء كلُّه على نحو ما كان يبني الأولون من ناحيته السمعية.
ثم انظر إلى هذه الصورة الرائعة التي يصف بها جماعة النخل، حتى ليُخيَّلُ إليك من دقة الصورة أنه لا بد واصف ما ترى عيناه، لكنه يزلُّ زلَّة تكشفه؛ إذ يجعل الثمار آخذة في الاحمرار وهو شيء لا يكون إلا صيفًا، مع أن الصورة مرسومة في أيام الربيع، لكن الجرس البديع الرائع هو الذي يملك عليه السمع، فيمضي في القول أيًّا ما كان الواقع الذي يحسُّه:
ولماذا نطالب البارودي بما لم يقُل إنه فاعله؟ لماذا نبحث عن الأساس الأول في شعره وقد كفانا مئونة البحث بعبارة مختصرة يصف فيها رأيه في الشعر كيف يكون، بل كيف يتمُّ خلقه وتكوينه؟ وهي عبارة أراها مفتاحًا لكل مستغلق في هذا الباب؛ إذ يقول: «إن الشعر لمعة خيالية يتألق وميضُها في سماوة الفكر، فتنبعث أشعتُها إلى صحيفة القلب، فيفيض القلب بلألائها نورًا يتصل خيطه بأسَلَة اللسان.»
فخطوات الخَلْق الشعري عنده هي: فكر، فقلب، فلسان — وهي خطوات لو وصفناها بلغة علم النفس لقلنا: إنها إدراك، فوِجدان، فنزوع. فإذا أخذنا الرجل بنص عبارته — وأولى لنا أن نفعل — رأينا أن نقطة البدء عنده إذا ما همَّ بنظم قصيدة من شعره أن ترتسم في ذهنه صورة، إنه لا يقول إنه يبدأ بما يرى مباشرة ولا بما يسمع مباشرة، بل يبدأ بصورة يتكامل بناؤها في ذهنه أولًا، وسيان بعد ذلك أن تكون الصورة مطابقة لمرئي أو لمسموع أو غير مطابقة، وسواء عنده أكانت أجزاء الصورة متسقة على نحو ما تتسق الأجزاء في الواقع الخارجي أم غير متسقة، فلا ضيرَ أن يجعل رياح الخريف شرقية، وأن تتلون ثمار النخيل في الربيع، وأن تكون روضة المقياس مزيجًا من رُبا وأباطح، وأن يكون النيل صافيًا رائعًا في شهر الفيضان، لا ضير عنده ولا بأس في شيء من هذا كلِّه، لأنه يبدأ بشوطه ببناء صورة في ذهنه، يخلقها خلقًا من عنده، طابقت وقائع العالم أم لم تطابق، ولما كان مورده الأساسي هو المقروء من شعر الأقدمين، كانت أجزاء الصورة التي يبنيها — في الأعم الأغلب — مأخوذة من العناصر التي وردت في ذلك الشعر، حتى لو لم تقع له العناصر في خبرته الحية الواقعة.
لكن هذه الصورة الذهنية التي يبدأ شوطه الفني ببنائها، لا تقتصر على مجرد الإدراك العقلي الجاف لإطارها وفحواها، كما يرسم المهندس مثلًا تصميمًا لمنزل، فيخطط غُرفَه وأبهاءه، تخطيطًا موضوعيًّا على مقتضى الأمر الواقع، لكن مرحلة ثانية — هي التي يقول عنها البارودي: إنها مرحلة القلب — تتولاها بشحنة عاطفية، بحيث تصبح الصورة المرسومة وكأنما هي مظهر لحبِّه أو نفوره، إنه لا يرسم الصورة ثم يقف منها على الحياد كما يفعل الشاهد في المحكمة مثلًا، بل يحورها هنا ويغيرها هناك، يضع لها هنا أو هناك لفظة ترنُّ على وتر مدبر مقصود، كأنما هو رسام وقف أمام لوحته يميل برأسه يمنة ويسرة ليرى أين يضيف خطًّا وأين يحذف خطًّا، أين يضيف لونًا وأين يغير لونًا، لتعمق الصورة في وقعها على نفسه ونفس رائيها.
كلُّ ذلك واللسان لم ينطق بعدُ، حتى إذا ما تكاملت الصورة بناءً ولونًا، إذا ما تكاملت لحمًا ودمًا، إذا ما تكاملت فكرًا وقلبًا، أو عقلًا وعاطفةً، جرى بها اللسان ألفاظًا منضودة منظومة، هي القصيدة من قصائده، وإن للبارودي من هذه الصور لروائع وآيات، أسوق لك منها صورتين أو ثلاثًا:
فهذه صورة صيد دعا إليه أصدقاءَه في مطلع الصبح فجاءوا إليه مسرعين بخَيلهم وكلابهم:
هذه صورة للصيد متكاملة البناء، ولو اقتصر البارودي على العناصر الهيكلية التي تُكوِّن إطار الحوادث، لاقتصر الأمر على صورة عقلية، لكنها أصبحت شعرًا حين أضاف إلى العقل قلبًا وإلى الهيكل العظمى وجدانًا، لو قال مثلًا: وفتيان لهو قد دعوت إلى مربع يجري النسيم خلاله، وكان الندى عندئذٍ يتصبب، فلبوا دعوتي سراعًا بخيلٍ بيض تجرى وراءها كلابهم السلوقية التي يقف الواحد منها إزاء الصيد وهو محمر العين فاغر الفم، لو قال البارودي هذا لكملت الصورة عند التصور العقلي، لكن مرحلة أخرى كان لا بد منها عنده، هي مرحلة النفثة الوجدانية، فالنسيم الذي يجري خلال مربع الصيد يجري «بنشر الخُزامى»، والصحاب حين وافوه في الموعد المضروب، إنما وافوا «كما وافى على الماء ربرب»، والخيل البيض كانت «كآرام الصريم» (أي الظباء البيض على الرملة المنقطعة) … وهكذا إلى آخر هذه اللمسات التي جعلت من هيكل الحوادث صورة حية مترعة بالشعور.
وهذه صورة أخرى لأباريق الشراب وحولها الكئوس:
فليست العبرة هنا بعناصر الصورة كما تراها العين، بل بهذه الإضافات التي يضيفها الشاعر ليستثير بها وجدانًا من نوع خاص، هو هذا الحنان الدافئ العاطف، فلعل مجلس الشراب حين تمثله في ذهنه كان هامسًا خافتًا على نحو ما يقتضيه اجتماع العاشقين.
ثم انظر إلى هذه الصورة التي يصور بها ميدان القتال في الحرب بين تركيا وروسيا وقد اشترك فيها البارودي، هي صورة تطالعها فتكاد ترتعد خوفًا حين تحس ظلمة الليل قد أطبقت على تيهٍ من الأرض، وليس في أطباق الجو إلا العواصف تزأر وإلا السحاب يلفُّ السماء، وسيول المطر دافقة على الأرض، وقد اعتصمت كواسر الطير بقنن الجبل وكمنت الذئاب في جوف الوادي:
ويستطرد الشاعر فيصور القتال وقد اضطربت به أرض المعركة:
وإذا كان الشعر التصويري يختلف عن لوحات الرسام بما فيه من فعل وحركة، فإني لأرى الفعل والحركة في هذه الصورة البارودية وفي غيرها قد بلغَا حدَّ الكمال.
•••
والفعل والحركة هما من أبرز ما يميز الشعر دون سائر الفنون، فلئن كانت لوحة الرسام أو التمثال، يشغل حيِّزًا من مكان، وتكفيه النظرة الواحدة في اللحظة الواحدة لتلمَّ بأطرافه كلها، فالشعر — كالموسيقى — يملأ فترة من زمن، فلا بد من امتداد زمني، طال أو قصر، لقراءة القصيدة من الشعر؛ ولذلك كان أنسب ما يناسب الشعر هو ما يمتدُّ على فترة من زمن، أعني حركةً وفعلًا تتطور أجزاؤه بحيث يستلزم طولًا زمنيًّا لتمامه، إن عبقرية التصوير وعبقرية النحت هما في تجميد لحظة معينة في مكان ثابت، وأمَّا عبقرية الشعر ففي إبراز الفاعلية والنشاط الحركي الذي ينساب على سلسلة من لحظات متعاقبات:
ويكاد يستحيل أن تجد للبارودي قصيدة تخلو من الحركة أو الإيحاء بها، وها أنا ذا أفتح الديوان اتفاقًا، فأقرأ:
واقرأ هذا البيت من قصيدة في مجلس شراب:
في محيط من الركاكة انطلق هذا الصوت العربي المبين، انطلق إبَّان الثورة العُرابية وبعدها، فكان بمثابة ثورة كبرى جاءت في غضون ثورة صغرى، فلئن كانت الثورة العُرابية ثورة قومية وطنية، فقد جاءت لفتة البارودي إلى مجد آبائه وأجداده ثورة عربية شاملة، ولقد أصيبت الثورة الصغرى بنكسة، وأمَّا هذه الدعوة العربية فقد ضربت بجذورها ونمت وترعرعت وارتفع فرعها إلى السماء؛ إذ استجاب لها شاعرٌ بعد شاعر، وداعية بعد داعية، حتى أصبحنا وفاتحة دستورنا أننا جزء من أمة عربية، عقدت عزيمتها بعون الله على أن يكون طارفها استئنافًا لتليدها، بدأت الثورة عُرابية فجعلها شاعرنا البارودي ثورة عربية، تلك هي رسالة العروبة في شعر البارودي، كأنما كان البارودي وحده حزبًا بأكمله، وكأنما كان شعره روحًا ينفخ في جسد عملاق فتر ووهن على مرِّ الزمن، فاستيقظ هذه اليقظة الواعية التي نحياها اليوم بفضله وفضل تابعيه.