طبيعة الشعر وصلتها بالأخلاق
١
أريد أن أبدأ حديثي هذا بما سوف أنتهى إليه اختصارًا للطريق أمام من لا يصرُّون على قراءة، وهو أن الفنون — والشعر أحدها — لم تخلق لتخدم الأخلاق، إلا أن يجيء ذلك بطريق غير مباشر ولا مقصود.
والنقطة الأولى، التي أريد لها أن تكون الركيزة الأساسية في حديثي هذا لأنها لو ظفرت منَّا بالقبول، جاءت نتائجها تترى في جلاء، هي الفوارق بين القِيَم العليا الثلاث: قِيَم الحق والخير والجمال، فلئن جمع بينها أنها معايير نلجأ إليها طلبًا للهدى، فهي تعود فتتفرق — ليكون لكلٍّ منها مجالٌ خاص، فأما قيمة الحق فمجالها العلوم، أو ما يجري مجرى العلوم من شئون الحياة العملية، وأمَّا الخير فمجاله أفعال الإنسان الإرادية، وأمَّا الجمال فمجاله الفنون.
هي مجالات ثلاثة، وعليها قِيَم ثلاث، تلتقي كلها في الإنسان، لكنها من الاختلاف فيما بينها، بحيث إذا اختلط في أذهاننا حابلها بنابلها، خرجنا من الخليط بحياة مطموسة المعالم، لا العلم فيها علم، ولا الأخلاق أخلاق، ولا الفن فن.
قيمة الحق تتميز من أختَيها بأنه لا دخل للإنسان في اختيارها، فأمامه حقيقة واقعة، كالشجر والحجر والماء والأفلاك، ولقد أمدَّه الباحثون عن تلك الحقيقة الواقعة بأقوال يزعمون له أنها قوانين الأشياء، فما عليه — ليعرف أين الحق فيها وأين الباطل — إلا أن يقيسَ القول بالواقع، فلا حيلة له في الأمر؛ لأنه مفروض عليه.
وأمَّا الأختان الأخريان: قيمة الخير وقيمة الجمال، فمختلفتان عن ذلك لأنهما مأخوذتان لا من عالم الواقع كما يقع، بل هما مأخوذتان من عالم الإمكان. فمبادئ الأخلاق هي ما «يمكن» للفعل البشري أن يصعد إليه، وسواء استطاع ذلك بالفعل أم لم يستطع، فالمبادئ هناك أقامها الإنسان — أو أقيمت له — لتكون الهدف المنشود، وبدائع الفنون هي ما «يمكن» أن يلوذ به الإنسان من واقعٍ كريه، وكذلك هي ما يمكن أن يفسر لنا سلوك الإنسان.
لكن هاتين القيمتين، وإن تشابهتَا في التعلق بالمثل الأعلى، فهما تختلفان. فمهمة الأخلاق هي أن تقوِّم المعوجَّ من سلوكنا، ومهمة الفنون — ومنها الشعر — هي أن تفسر سلوكنا لا أن تقوِّمه.
لنأخذ فكرة من الأخلاق، وصورة من الشعر، كي نتبين الفارق بينهما. تقول لنا الأخلاق — مثلًا — بوجوب التعاون بين الناس، فيكون الهدف من قولها هذا هو أن نُصلح حياتنا العملية، بحيث نُدخل فيها التعاون إذا لم يكن قائمًا، ويعطينا الشعر صورة لرجل يُطلق عليه اسم هاملت، لا لكي نصحِّح شيئًا في حياتنا، بل لنفهم تلك الحياة كلما صادفنا بين الناس رجلًا شبيهًا بهاملت.
وعلى ضوء هذه التفرقة بين الأخلاق والشعر، إذا سئلنا: هل يؤثر الشعر في أخلاق الناس؟ أجبنا في ثقة: ليست هذه مهمته. فإن جاء تأثيرٌ كهذا، فإنما يجيء بطريق غير مباشر ولا مقصود.
٢
لفيلسوفنا أبي نصر الفارابي نظرية في طبيعة الشعر، يحقُّ لنا، بل يجب علينا — نحن الوارثين لهذا التراث العقلي العظيم — أن نفاخر بها أصحاب المذاهب النقدية المعاصرة، فقبل أن ترطن ألسنتنا بما قاله فلان أو علان من غير أهلنا، ينبغي أولًا أن نستمع إلى ما قاله ذوونا فيما نريد الحديث فيه، ثم نقارن به ونزيد عليه مما قاله الآخرون.
للفارابي — كما قلت — نظرية في طبيعة الشعر، جديرة منَّا بالنظر الفاحص لأنها تُلقي شعاعًا قويًّا من الضوء على علاقة الشعر بالأخلاق، وملخصُها هو أن للطريق بين الشعر في طرف، وسلوك الإنسان في طرف آخر، ثلاث مراحل:
فهنالك — أولًا — صورة يرسمها الشاعر، كما أن هناك — ثانيًا — خبرة ماضية مخزونة في الذاكرة، فإذا ما طالعنا الصورة التي رسمها الشاعر، استدعت من مخزون الذاكرة شيئًا من الخبرة الماضية، ذا علاقة بها، من تشابه أو تباين. وهنا تأتي المرحلة الثالثة، وهي أن نبني على تلك الخبرة المستدعاة من الذاكرة وقفة سلوكية إزاء العالم، وعلى ذلك فيمكن القول بأن الصورة الشعرية كانت هي المحرك لنا في توجيه سلوكنا، وإن يكن ذلك قد تم عرضًا وبلا قصد صريح.
ويبدو لي أن هذه النظرية الفارابية في طبيعة الشعر، تحلل الإشكال الذي ما انفك قائمًا بين النقَّاد، وهو: هل يخضع الفن لمبادئ الأخلاق؟ أو بعبارة أخرى تلوكها ألسنة نقَّادنا اليوم: أيكون الفنُّ هادفًا أم لا يكون؟ فلو كان الفارابي بيننا اليوم لأجاب: كلَّا، ليس الفن هادفًا بطبيعته، ولكن ذلك لا يمنع أن تأتيَ منه النتائج السلوكية التي نريدها، وذلك شبيه بقولنا: إن الريح قد دفعت شراع السفينة فحركتها، لكن الريح كانت لتظل هي الريح بكل مقوماتها، إن كانت هنالك سفينة تتحرك أو لم تكن.
إنه لا مناص لنا من التفرقة الفاصلة بين مجال الشعر من ناحية، ومجال الأخلاق من ناحية أخرى، فلكلٍّ من المجالين طبيعته ومعياره، وإن الشعر ليظل شعرًا، سواء أرضيت عنه مبادئ الأخلاق أم لم ترضَ، ما دام قد حقق لنا ما تقتضيه طبيعةُ فنِّه، فلا فرق عند الفن بين أن يصور الشاعر فضيلة أو أن يصور رذيلة، طالما هو قد أجاد الفن في كلتا الحالتين. إن دنيا الشعر ترحب بأبي نواس ترحيبها بزهير، وإن ملتن بفردوسه المفقود لَشاعرٌ في الجانب الإلهي من قصيدته كما هو شاعر في جانب تصويره للشيطان.
ومع ذلك فالنظرية الفارابية — كما أفهمها — تُريحنا من العناء، وتقف بنا موقفًا وسطًا؛ لأن مؤداها هو أن تصوير الشاعر يعقبه تغيُّرٌ في سلوك الإنسان. دون أن يكون ذلك التعاقب عن سببية حتمية. فالشعر يظل شعرًا بقيمته الفنية، حتى لو لم يعقبه تغيُّرٌ في السلوك، كمثل الريح وشراع السفينة، الذي قدمناه، فإذا قلنا إن الغاية الخلقية هي مدار البناء الفني، وجب أن نضيف إلى هذا القول بأن الشعر يبطل أن يكون شعرًا، إذا هو قدَّم لنا تلك الغاية الخلقية وعظًا مباشرًا، إذ لا بد — في نظرية الفارابي — من بناء الصورة الخيالية أولًا؛ وهي الصورة التي لا تراعي في بنائها إلا معايير الفن الشعري وحدها، ثم يترك الأمر لما تُوحيه الصورة المرسومة لمن يطالعها، فإذا كانت صورة محببة إلى نفسه، تقمَّصها وسلك على هداها، أو كانت صورة منفرة، عافها وكف عن مزج نفسه بها، وهكذا يحقق الفن الشعري ما يُراد له أن يحققه في مجال الأخلاق بطريق غير مباشر، ودون أن يفرط في شروط الفن الشعري وما يقتضيه.
٣
إن ألف باء العمل الفني، هي أن يستقطر الفنان من مادة فنِّه كلَّ قطرة فيها، فلكل فنٍّ مادته الخامة، للموسيقى الصوت، وللتصوير الضوء أي اللون، وللشعر اللفظ، وللنحت الحجر، ومهمة الفنان الأولى إزاء مادته الخامة أن يُخرج منها عبقريتها الدفينة فيها؛ فأول ما نطالب به الشاعر العربي هو أن يُظهر لنا عبقرية اللغة العربية وأن يُخرج إلى الآذان مكنون سرِّها، وإنه لهراء العابثين بمجدنا ذلك الذي نسمعه من بعض شعرائنا اليوم من دعاة العامية، أو من القائلين باستخدام الشعر وسيلة لغاية أسمى منه. فإذا كنت شاعرًا، فالأولوية هي للشعر ذاته، ثم تأتي بقية الأغراض عوارض طارئة على الجوهر.
مادة الشعر ألفاظ مما تستخدمه أنت وأستخدمه أنا في قضاء شئون حياتنا، لكن لكل لفظ جانبين، فلها الدلالة المنطقية التي نشير بها إلى الأشياء، ولها كذلك الغزارة النفسية، وعلى هذا الجانب النفسي يرتكز الشعر.
فليست كلمات اللغة بمقتصرة على كونها رموزًا كرموز الرياضة، بل هي إلى جانب هذا تُشبه الكائنات الحية في تطورها كلما امتدَّ بها زمنُ استعمالها؛ إذ تظلُّ اللفظة تزداد امتلاءً بأبعادها الوجدانية مع تنوع الظروف التي تتقلب فيها مع القلوب، وليست كلُّ ألفاظ اللغة في هذه الغزارة الوجدانية سواء، بل منها ما لا يجري مع تيار المشاعر إلا بأقل القليل، وعندئذٍ يكاد يقتصر على دلالته المنطقية وحدها، ولكن منها كذلك ما يعب عبًّا من تيار المشاعر حتى لتصبح اللفظة كنبضة القلب، ومن هذا النوع الغزير بأغوار الوجدانية ينسج الشاعر شعرَه.
الشعر هنا على نقيض العبارة العلمية، فلئن كان المثل الأعلى للعبارة العلمية هو أن تكون واحدية المعنى، لا يداخلها لبسٌ ولا غموض، ولا يتعدد تفسيرها عند القارئين، فإن المثل الأعلى للقول الشعري هو أن يحمل من المعاني ما لا حصر له إذا استطاع الشاعر ذلك، بحيث تتعدد زوايا الرؤية عند مختلف السامعين أو القارئين؛ وذلك لأن الشاعر إذ ينتقي لشعره أغزر الألفاظ قدرة على استثارة المشاعر، فإنما يسوق لنا في قوله الشعري ما يمكن أن تكون له استجابات مختلفة عند مختلف المنشدين؛ ولذلك فسؤالنا الأول عند تقدير القيمة الشعرية ليس هو: ماذا قال الشاعر؟ بل هو: كيف قال الشاعر ما قاله؟
ولكي ترى الفارق البعيد في الألفاظ بين دلالاتها المنطقية ومضموناتها الوجدانية، انظر إلى هذه الكلمات مثلًا: ماء، ظل، وطن، أم … انظر إليها من حيث هي أسماء تحدد معناها القواميس، ثم انظر إليها مثيرات للوجد والحب والألم والأمل، انظر إلى ما تُثيره كلمة ماء عند الظامئ، وكلمة ظل عند التائه في الصحراء، وكلمة وطن عند المجاهدين في سبيل الحرية لبلادهم، وكلمة أم عند كل إنسان.
إن الدلالة المنطقية لِلَّفظة تجعل اللفظة رمزًا رياضيًّا لا حياةَ فيه، بل إن قوتها عندئذٍ هي في أن تخلوَ من الحياة حتى لا يفسدَ المعنى، وأمَّا في الدلالة النفسية فإن اللفظة تكون كالمنجم الذي يعطيك من مكنونه بقدر ما تحفر جوفه لتستخرج ما فيه. وأقول ذلك لتزداد وضوحًا بأن الشعر — كغيره من الفنون — يقف عند وسيلته لا يريد وراءها وراء، فإذا رأينا وراء تلك الوسيلة هدفًا فإنما جاء ذلك هدفًا غير مقصود.
ومن هذه النقطة ذاتها، انبثقت مناقشات، وما تزال تنبثق، وأغلب الرأي هو أنها سوف تظل، ما دامت في الدنيا فنون ينتجها ناسٌ ويتلقَّاها آخرون، وهي مناقشات مدارها هذا السؤال: أئذا كانت وسيلة الفن هي في الوقت نفسه هدفه الأول والأهم، بحيث إذا وجدنا له هدفًا آخر وراء تلك الوسيلة، عددناه هدفًا جانبيًّا لم يُقصَد لذاته، أفيكون الفن — إذن — منحصرًا في ذاته وبغير معنى؟ أيعزف الموسيقيُّ لنفسه، وينشد الشاعر الشعر لنفسه؟ فإذا كانت الفنون موجهة إلى الناس، فماذا يُراد لها أن تقول لهم؟ هل يُراد لها — مثلًا — أن تحمل لهم رسالة في السياسة أو في الأخلاق أو في حقيقة الكون والكائنات أو غير ذلك؟
وجوابي عن هذا السؤال — وهو سؤال ذو خطر بالغ فيما يشيع بيننا اليوم من حديث عن الفن الهادف وغير الهادف — أقول إن جوابي عن هذا السؤال الهام، قريب من وجهة النظر التي طرحها فيلسوفنا الفارابي عن الشعر، والتي أسلفتُ ذكرها، ولعلي لا أخطئ كثيرًا إذا قلت إنه كذلك جواب شبيه بما قاله الناقد المعاصر رتشاردز حين تعرَّض لطبيعة الشعر بصفة خاصة، والفن كله بصفة عامة، وهو أن الفن يعني ما يعنيه بالإيحاء لا بالتوجيه المباشر؛ فقد توحي إليك قصيدة الشعر بما توحي، في الأخلاق وفي غير الأخلاق، على أنها في الوقت نفسه، قد توحي لغيرك بمعنى آخر، دون أن يكون أحدكما حجةً على الآخر، ومن هنا يجيء للشعر ثراؤه في تنوع التأويل. وأمَّا إذا أردنا أن نعثر له على المعنى الواحد الوحيد قصد إليه الشاعر والذي لا يختلف في تحديده قارئان، فذلك أمر عسير، لسبب بسيط وهو أن ذلك المعنى الواحد الوحيد — إن وُجد — فهو في بطن الشاعر كما كانوا يقولون.
أُعيد القول مرة أخرى: إن وسيلة الشعر، والتي هي اللفظ، هي في الوقت نفسه هدفه الأوَّل والأهم. يقف الشاعر عند لفظه وقفةَ المصور عند ألوانه، والموسيقي عند أنغامه، والنحَّات عند قطعة المرمر أو الجرانيت، يسأل نفسه: كيف أستخرج من جوف هذا اللفظ عبقريته في جرس النغم وتلوين الصورة والقدرة على الإيحاء؟
ولنضرب هذا المثل توضيحًا لتغلغل الشاعر في حنايا لفظه، على وجهٍ غير مألوف لنا عند استعمال اللغة في شئون الحياة الجارية:
رُويَ أن الخنساء سمعت حسان بن ثابت يُنشد في عُكاظ قوله:
فقالت له الخنساء تنقده، وهي الشاعرة الخبيرة باللغة وسرها: ضعَّفت افتخارك وأنزرته في عدة مواضع.
قال: كيف؟
قالت: قلت «لنا الجفنات»، والجفنات ما دون العشر، فقلَّلت العدد، ولو قلت «الجفان» لكان أكثر، وقلت «الغر» والغرة هي البياض في الجبهة، ولو قلت «البيض» لكان أكثر اتساعًا، وقلت «يلمعن»، واللمع شيء يأتي بعد الشيء، ولو قلت «يشرقن» لكان أكثر؛ لأن الإشراق أدوم في اللمعان، وقلت «بالضحى» ولو قلت «بالعشية» لكان أبلغ في المديح؛ لأن الضيف بالليل أكثر طروقًا، وقلت «أسيافنا» والأسياف دون العشرة، ولو قلت «سيوفنا» لكان أكثر، وقلت «يقطرن» فدللت على قلة القتال، ولو قلت «يجرين» لكان أكثر لانصبابِ الدم، وقلت «دمًا» و«الدماء» أكثر من الدم.
ومن نقد الخنساء الشاعرة لحسان بن ثابت ترى كيف يغوص الشاعر في جوف اللفظة، ولا يكتفي بظاهر دلالتها، أو بمجرد كونها تُشير إلى مسميات بعينها؛ وذلك لأن الشاعر يريد لكل لفظة في شعره أن تجيءَ مترعة بمعناها وفحواها. إنه يستخدم اللفظة على نحوٍ فريد، لا يشبهه أيُّ ضرب من ضروب استخدامها الأخرى، إنه يريد من اللفظة أن توحي وأن تستثير عند السامع حلوَ ذكرياته أو مرَّها.
لقد قيل كلام كثير عن المترادفات في اللغة، إن اللفظتين المترادفتين في المعنى — عند المتكلم من عامة الناس — تُغني إحداهما عن الأخرى لأنها تساويها، فقُل عن رجل إنه أبي أو إنه والدي، فالأمر سيان، أو قُل عن حيوان إنه الليث أو إنه الأسد، فقد دللت عليه بأي اللفظتين. لكن الأمر مختلف عند الشاعر الذي يحس باللفظ إحساسًا آخر أغنى وأغزر؛ إذ اللفظتان المترادفتان عنده تتقاربان تقارب الشقيقتين في أسرة واحدة، لكنهما لا تتطابقان، فتراه ينتقي منهما ويختار.
تلك هي طبيعة الشعر أو قُل إنها طبيعة الفن على إطلاقه، وأعني الاهتمام بوسيلة الأداء لأنها إلى جانب كونها وسيلة فهي في الوقت نفسه الغاية الأولى، فمن الإجحاف بالشعر أن نطالبَه بالخروج عن نفسه وبالتنكُّر لطبيعته، فيخدم شيئًا آخر سواه. أخلاقًا أو غير أخلاق، لكن لا خوف على هذا الشيء الآخر، فسيُخدم بما يحقق رغباتنا في ذلك سيُخدم بالطريقة التي تُرضي الفن، ألا وهي طريقة الإثارة والإيحاء.
إن الشاعر إذا سها عن فنِّه لحظة — وقد يسهو — فوقف منَّا موقف الواعظ المرشد، فإنه في هذه اللحظة عينها ينفي عن نفسه أن يكون شاعرًا، فأفضل ما يكون الشاعر معلمًا أخلاقيًّا حين لا يحاول أن يعلم. ولقد يكون عند الشاعر شيء من حكمة الحياة يريد أن يعلمنا إياها، بل هو أحق الناس بجمع الحكمة من تضاعيف الحياة؛ لأن رجلًا أرهفت حواسه بمثل ما أرهفت حواس الشاعر تكون حكمة الحياة أقرب إلى أطراف أنامله منها إلى سواه. ولكن من أدراك أن الحكمة التي يستقطرها الشاعر من حقائق الحياة يتحتم أن تجيءَ خادمةً للأخلاق كما نريدها؟ أفلا يجوز أن تكون رؤية الشاعر للنفس البشرية أن الظلم شيمتها، وأنها إذا عفَّت عن الظلم فلعلة خافية؟ أو أن تكون رؤيته لطبائع الناس هي أنهم منافقون يقولون لمن يُلقي الخير ما يشتهي وأن يكون قولهم كذبًا، ويديرون ظهورهم لمن أخطأ النجاح والتوفيق؟
ومهما يكن من أمر فليكن واضحًا أن تجميع الحكمة على هذا النحو ليس هو الشعر لأنها ضرب من التعميم، والتعميم في الأحكام عمل عقلي، لا شأن للذوق الشعري فيه اللهم إلا أن يكون جانب الفن منه هو طريقة الصياغة. الشعر في أخص خصائصه يقف عند الجزئيات المفردة، من سلوك أو مرئيات أو غير ذلك مما يجيء إدراكه محددًا بحدود المكان والزمان. فإذا رأيت أحكامًا عامةً تردُ في سياق الشعر، فاعلم أنها إنما جاءت لا لتكون شعرًا بذاتها، بل جاءت لتكمل صورة جزئية فردية فريدة أراد أن يصورها الشاعر كأن تجيء — مثلًا — على لسان إحدى الشخصيات في مسرحية شعرية أنك إذا كنت حكيمًا فلست بشاعر، وإن كنت شاعرًا فلست بحكيم، ولم تفُت هذه التفرقة بين الحكمة والشعر أسلافنا، فقال بعض نقاد العرب الأقدمين: المتنبي والمعري حكيمان، والشاعر هو البحتري.
٤
إن من أعمق الكتب التي شهدها مجال النقد الفني، كتاب «لاوكون» للشاعر الناقد الألماني «لِسِنْج»؛ فلقد فصَّل القول في بيان التفرقة بين الفنون موضحًا كيف أن لكل فنٍّ مجالَه الخاص لا تظهر عبقريتُه إلا فيه. فإذا كانت هذه التفرقة واجبة بين فنٍّ وفن، مع أن الفنون أبناء أسرة واحدة، فالتفرقة أوجب بين الفن من جهة وما ليس بفنٍّ من جهة أخرى. فلو أراد فنُّ الشعر أن يكون رسالة أخلاقية ضاع منَّا الفنُّ والأخلاق معًا.
وعندما أراد لسنج أن يحدد مجال الشعر قال إنه الفعل، سواء كان ذلك الفعل فعلًا لكائن حي أم كان فعلًا لكائن من كائنات الطبيعة من غير الأحياء. ولما كان الفعل في طبيعته سيرة من أحداث تتعاقب على فترة من زمن، كان الحدث الزمني هو لبُّ الشعر وصميمه، فليس من مجال الشعر أن يصف شيئًا ثابتًا في مكان؛ لأن ذلك من شأن التصوير، وإنما الحركة هي مجال الشعر وحركة الحياة بصفة خاصة؛ ولذلك فلا عجب أنه إذا كان من شأن التصوير والنحت أن يجمدَا موضوعاتهما لتسكن فيها الحركة عند لقطة ثابتة، فإن من شأن الشعر أن يحرك موضوعه حتى لو بدا في ظاهره شيئًا ساكنًا. ومن هنا نرى الشاعر يتحدث إلى الأشياء وكأنها في وجدانه كائنات حية يحدِّث الجبل والبحر والسحاب والهواء، كما يحدِّث ناقته وجواده، فضلًا عن حديثه مع الأناسي من الموتى أو من الأحياء؛ فالكون كلُّه في وجدان الشاعر مفعمٌ بالحياة لأنه متدفق بالحركة، ولولا الشعر — كما يقول العقَّاد — لظلت الطبيعة خرساء كما تحب أن تراها النظرة العلمية. يقول:
فلئن كانت النظرة العلمية تجعل الإنسان جزءًا من الطبيعة، تجعله ظاهرة من ظواهرها، فإن الشعر يجعل الطبيعة جزءًا من الإنسان، تحيا بحياته، وتنشط بفاعليته، ليس فيها عنده شيء موات.
يقول لنا الشاعر بشعره: هذه هي الحياة وهذا هو نبضها كما أحسُّه، وإن لم يستطع أن يحسَّه معي سائرُ البشر أجمعين، فماذا يقول الأخلاقي؟ إنه يقدم لنا المبادئ المطلقة الثابتة ليقول لنا: هذا هو ما ينبغي أن تكون عليه الحياة البشرية، والفرق بين ما هو كائن في تصور الشاعر، وما ينبغي أن يكون، هو الفرق بين الشعر والأخلاق.
٥
الأخلاق تأمر، والشعر يفسر، بماذا يأمرنا شعر المتنبي أو شعر أبي العلاء، مع أنهما الشاعران اللذان وصفهما القدماء بأنهما حكيمان، وبين الحكمة ومبادئ الأخلاق وشيجة قربى، بماذا يأمرنا شعرُهما؟ إنه لا يأمرنا بشيء، ولكنه يزيدنا فهمًا لطبائع البشر.
الشعر كاشف عما استتر من لواعج النفس وخلجاتها، لا يفرق في ذلك بين خير وشر، إنه يكشف الغطاء عما لا تراه العين العابرة من طبائع الناس، وإنه لمن عجب أن هذا الإنسان في وسعه أن يعلوَ إلى أسمى مدار الفضيلة، كما في وسعه كذلك أن يسفل إلى أحط مهاوي الرذيلة، ومهمة الشعر أن يغوص إلى الأعماق الخبيثة ليرى الرواسب على القاع، فيُخرجها من حالة اللاشعور المبهم الغامض، إلى حالة التصوير الواضح، ليرى الإنسان نفسه كما هي. إن الشاعر إذ يصور لك فردًا معيَّنًا، أو حالة شعورية خاصة، من حبٍّ أو كراهية أو غضب أو رضى، فهو يقدم لك العام في الخاص، وهذا هو موضع الإعجاز في جيد الشعر؛ إذ هو يقدم لك حالة مفردة، ولكنها في الوقت نفسه تصلح أن تكون نموذجًا تفسر به سائر الحالات.
الأخلاق تنهانا عن الرذيلة وتحضُّنا على الفضيلة، أما الشعر فيفتح أعيننا على منابع الرذيلة والفضيلة معًا. فإذا كان عملنا بهذه الينابيع يقوِّم سلوكنا من تلقاء نفسه بلا وعظ صريح، كان ذلك هو الجانب الأخلاقي من الشعر.
الشعر محايد، يصوِّر لك العبقريَّ والأبله على حدٍّ سواء، فهو كالشمس تُشرق على الكائنات بغير تمييز. وإنه لخطأ شائع بيننا أن يُقال عن الشعر إنه تعبير عن نفس صاحبه، لكن هذا التعريف الضيق قد ينطبق على قلة قليلة من الشعر الغنائي، أما الشعر من الضروب الأخرى فلا شأن له بنفس صاحبه، لأن نفس الشاعر من حيث هو فردٌ واحد، ليس لها كلُّ هذه الخطورة في حياة الناس، وأقرب إلى الصواب أن نقولَ إن الشاعر بعبقرية الفن في فطرته يُعطينا من نفسه الحالة الخاصة، فإذا هي تصوير للإنسان من حيث هو نوع بشري متجانس الأفراد.
وإذا كان الشاعر يعبِّر عن نفسه هو، فكيف أمكن للشاعر المسرحي — مثلًا — أن يسوق في مسرحية واحدة حشدًا من الأنفس المتباينة، فأي هذه الأنفس تكون نفس الشاعر؟ في أي الأشخاص الذين صوَّرهم شيكسبير يعبِّر الشاعر عن ذاته؟ أهو ترويلس العاطفي الساذج (في مسرحية ترويلس وكرسيدا) أم هو هكتور الفارس النبيل؟ أهو يوليسيز ذو الفكر الناصع، أم هو كاسندرا التي ترى العالم قاسيًا لا رحمة فيه؟ إن الشاعر يقدم هؤلاء وغير هؤلاء لا يقول عن أحد منهم إنه أخطأ أو أصاب؛ وذلك لأنه لم يكتب ليدعوَ إلى شيء بعينه، وإنما كتب ليكون شاعرًا.
هن أخوات ثلاث: العلوم والفنون ودنيا السلوك؛ العلوم قانونها الحق، والفنون قانونها الجمال، ودنيا السلوك قانونها الخير، وعلى رءوسهن تقوم الحضارة، كما يقوم المثلث على أضلعه الثلاثة، تلتقي الأضلاع عند الرءوس، لكن واحدًا منها لا يلغي واحدًا.