ديانة شاعر
١
لم يكن طاغور في كل ما قاله عن الدين عالمًا متبحرًا ولا فيلسوفًا — على حدِّ تعبيره هو — فهو لم يلجأ إلى صحائف الأسفار يجني منها ثماره، كلَّا، ولا هو قد أعنت الفكر إعناتًا وكدَّ الذهن كدًّا يكشف عن العلم خلال مسالكه العسيرة، بل ركن شاعرُنا إلى مشاعره المباشرة في بساطتها ونضارتها؛ وذلك أن الإنسان إن يكن قد اتخذ سطح الأرض طعامه ومأواه، وإن يكن كذلك قد مدَّ من آفاق عيشه حتى لا ينحصر في لحظته الراهنة كما يفعل الحيوان الأعجم فوعى التاريخ في ذاكرته وعيًا زاده علمًا على علم وحكمة على حكمة، إلا أنه بالإضافة إلى هذا كلِّه قد اصطنع لنفسه ملاذًا آخر يسكن إليه كلما أراد تحقيقًا لذاته، ألا وهو طوية نفسه التي إذا ما لجأ الإنسان الفرد إليها، وجد فيها الإنسان الكليَّ كامنًا، فعرف نفسه فيه، وأدرك حقيقته في حقيقته.
واستمع إلى طاغور يقصُّ عليك عن نفسه كيف غاص إلى دخيلة نفسه فاستخرج دُرَّها، واستخلص من ذلك الدرِّ عقيدته الدينية التي لم يسمع فيها إلى مأثور ولا إلى تقليد منقول موروث. يقول: «وُلدت في أسرة كان أفرادها يصطنعون لأنفسهم عقيدة موحدة مؤسسة على فلسفة أسفار اليوبانشاد، ولست أدري كيف لبث عقلي أول الأمر في عزلة باردة عن ذلك التيار الجارف، فلم يتأثر قط بأية عقيدة دينية كائنة ما كانت، ولعلها فطرتي ومزاجها هي التي أبت عليَّ قبولَ التعاليم الدينية لا لشيء سوى أن الناس المحيطين بي يؤمنون بها، مهما يكن من احترامي لهؤلاء الناس، وهكذا نشأ عقلي نشأةً حُرَّة، لم يتقيد بقداسة كتاب ولا بما يرويه هذا الفريق أو ذلك من طوائف العابدين، وإنما اعتمد عقلي في عقيدته على مصدر واحد، هو لقانتي. فإذا قال لي قائل: وكيف نتبع رجلًا واحدًا في لقانته، ونترك ما قد أجمع عليه عددٌ كبير من الناس؟ كان جوابي هو أنني لم أزعم لنفسي حتى الوعظ للآخرين، وإنما اكتفيت بهداية نفسي بنفسي.
لا، بل لعلني كنت — عن غير وعي مني — أسير في الطريق نفسها التي سار فيها من قبلي أسلافي الأقدمون، وذلك أن أستلهم الطبيعة وحدها، فهذه السماء المدارية وما توحي به من أن وراءها شيئًا يجاوزها، وهذه السحب التي تتكاثف مثقلة بحملها الذي لم ينزل بعد إلى الأرض ماء، وهذه العواصف المباغتة التي تهبُّ صارخة خلال صفوف من أشجار الجوز الهندي، وهذه الوحشية القاسية التي يبثُّها قيظُ الظهيرة في الصيف الملتهب، وهذه الشمس التي تُشرق صامتة وراء غلالة من صباح الخريف الندي؛ كلُّ هذه وهذه وتلك قد ربطت أواصر الألفة بيني وبين الطبيعة فأوحت إليَّ بوحيها.
لقد عظمت نفسي أمام نفسي، وأخذتُ كلَّ يوم أسبح في تأملات عن ذلك الموجود اللامتناهي الذي وحَّد بين عقلي وبين ذلك العالم الخارجي بتيار من الخلق يشملنا جميعًا بأغواره، ولئن أصبحت اليوم لا أجد عسرًا في تبيُّن هذا الموجود على صورة ذات لا متناهية ائتلفت في رحابها الذوات العارفة وموضوعات المعرفة معًا، حتى لم تعُد ثمة فجوة بين العارف والمعروف، إلا أن هذه الفكرة قد كانت في بداية ظهورها لديَّ غامضة مبهمة. ألا إن ديانتي هي ديانة شاعر، فلا هي ديانة العابد المقتفي للسلف في طرائق عبادته، ولا هي ديانة الفقيه اللاهوتي الذي درس الأصول والفروع وتعمق الدرس. ديانتي هي ديانة شاعر، جاءتني خلال المسارب الخفية التي يأتيني خلالها الوحي بما أنظم من أناشيد، فلا فرق في النشأة وفي طريقة النمو بين حياتي الدينية وحياتي الشاعرية، والعجب أن تزدوج الحياتان في نفسي منذ الصغر على هذا النحو، ويبقى ازدواجُها سرًّا مكتومًا عني طوال هذه السنين.
فلما بلغت الثامنة عشرة، هبَّت على حياتي لأول مرة نسمة مفاجئة كنسمات الربيع، هي نسمة تجربة دينية مرت تاركة وراءها في نفسي رسالة عن الحقيقة الروحية؛ وذلك أني ذات صباح عندما وقفت أرقب الشمس تُرسل أول شعاعها من وراء الشجر، أحسستُ فجأةً كأنما انزاح من أمام بصري ضبابٌ قديم فزالت عني غشاوة، فانكشف لي ضوء الصبح عن إشعاع من نشوة انبثق من أعماق الوجود، فكأن الأشياء المألوفة قد ذهب عنها إلفُها وبدت خلقًا جديدًا، فلم تعُد الأشياء أمام عيني هي نفسها الأشياء، ولا الناس هم أنفسهم الناس الذين عرفتهم، بل بات لكل شيء ولكل إنسان مغزًى لم أكن من قبل أُدركه، ومعنًى لم أكن قبل ذاك أراه، وذلك هو تعريف الجمال؛ فالشيء جميل إذا رأيته جديدًا، تلك كانت تجربتي النفسية ذاك الصباح، وهي تجربة حملت معها إليَّ رسالة إنسانية كبرى، حين وسعت من آماد نفسي الفردية توسعةً بلغت بها إلى ما وراء الحدود الفردية الضيقة، وإلى حيث يلتقي الكلُّ في ذات كبرى تشملهم جميعًا.»
هكذا يروي طاغور عن نشأة ديانته — ديانة الشاعر — منبثقة من خبرته الشخصية الحية؛ إذ توحَّد في وعيه ما كانت تراه العين مفككًا، وأضاء ما كان يبدو معتمًا، فكانت تلك اللحظة في حياته شبيهة بلحظة في حياة رجل أخذ يتحسَّس طريقَه إلى داره في يوم يكتنفه الضبابُ حتى اسودَّت صفحتُه. وبينما هو يتحسَّس براحتَيه جدارًا هنا ومعْلَمًا من الطريق هناك، إذا به فجأةً يجد نفسه قبالةَ داره، ولم يكن يظن ذلك. وكذلك هي لحظة شبيهة بلحظة في حياة تلميذ ناشئ، يقرأ الكلمات التي أمامه على صفحة الكتاب متعثرًا، فيظل يتهجى هذه الكلمات وكأنها كائنات معزول بعضها عن بعض، وفجأة ترتبط هذه الأجزاء كلُّها في عقله برباط واحد من معنًى يضمُّها جميعًا، فها هنا تُشرق أمامه الصفحة بالمعنى بعد أن كانت تثقل على نفسه بعبء الركام المتناثر. نعم، هكذا كانت لحظة الإشراق الديني عند طاغور، حين أخذ ينظر إلى أجزاء الطبيعة في تفككها فلا يفهم لها معنًى، وفجأة ترتبط أجزاء الجملة الواحدة في بيت من الشعر، منغَّم بموسيقاه، موحَّد بمعناه.
رأى الشاعر هذه الوحدة في أجزاء الوجود وفي أفراد الناس رؤية مباشرة في مجرى خبرته، لم يقرأها في كتاب ولم ينقلها عن سلف؛ وإذن فقد كان شريكًا للموجود اللامتناهي في خلقها، ولهذه المشاركة في الخلق أبعد المعاني وأعمقها؛ لأنها تجعل عقل الإنسان وهو يُبدع، هو نفسه عقل الله وهو يخلق، فكأنما عقول الأفراد مراكز يتخذها الله لنفسه ليتمَّ ما يريد أن يتمَّه من خلق وإبداع، وبهذا تتلاقى عقول الأفراد في حقيقة كلية واحدة، فالله — عند طاغور — هو هذا «الإنسان» الشامل الذي يتمثل في أفراد الناس، وبهذا يدنو اللامتناهي من الكائنات البشرية المتناهية، أو قُل إن هذه الكائنات البشرية المتناهية تعلو إلى مستوى الموجود اللامتناهي، فالأمر على كلتا الحالين يؤدي إلى غاية واحدة، هي حبُّ الإنسان للإنسان؛ لأن الجميع تعبير عن حقيقة واحدة.
وحبُّ الإنسان للكون هو وسيلته إلى معرفة الحق، نعم إن للعالم جانبًا موضوعيًّا يستطاع تجريده ليكون موضوعًا لبحوث العلماء، ولكن شتان بين طريق وطريق وبين علم وعلم. وإذا شئت توضيحًا فتخيَّل والدًا طبيبًا يفحص ولده المريض، فها هنا ضربان من المعرفة يلتقيان عند الطبيب الوالد، فهو — من جهة — يعرف ولده معرفة الوالد، وهو — من جهة أخرى — يعرف مريضه الصغير معرفة الطبيب الفاحص، وهو مضطر في الحالة الثانية أن ينزع المريض عن علاقته الأبوية لينظر إليه من حيث هو ظاهرة مرضية لا شأنَ بقلب الوالد بها. إنه عندئذٍ ينظر إليه من حيث هو كائن عضويٌّ حيٌّ ذو أجهزة وأعضاء، تعمل على نحو معلوم، كما يعمل كلُّ كائن عضوي آخر من نوعه. إن الخاصية الفردية التي تميِّز هذا الكائن العضوي المعين من سائر أفراد نوعه لَتزولُ عندئذٍ من أمام عين الفاحص لكي يحيط علمًا بموضوع فحصه، وتلك هي حقائق العلم، فقارنها بنوع العلم الذي يعلم به الأب ابنه، والذي يجيء عن طريق القلب النابض والألفة الصميمة الحميمة، وهكذا قُلْ في معرفتين نعرف بهما العالم معرفة الشاعر الذي يصاحب ذلك العالم مصاحبة القلب للقلب، ومعرفة العالِم الذي ينظر إلى العالَم نظر العقل لما ليس منه، الأولى معرفة حب والثانية معرفة من بعيد، فليس من يُبرز حقيقة الشيء هو ذرَّاته التي ينحلُّ إليها، بل هو روابطه وصِلاته التي تربطه بما عداه في حقيقة شاملة.
وهنا قد يعترض رجل العلم بقوله إن من لا يميز بين الحي وغير الحي، وبين الإنسان وغير الإنسان، من كائنات هذه الدنيا، إنما يرتدُّ إلى عقلية البدائي التي اختلط عليها كلُّ شيء بكل شيء، فيجيب طاغور على مثل هذا الاعتراض بقوله: أفلا يجوز أن تكون عقلية البدائي ألصق بالحق من سواها؟ أفلا يجوز أن تكون نظرة البدائي إلى العالم هي من قبيل «العلم» الغريزي والمنطق الغريزي — إذا صحَّت تعبيرات كهذه — اللذين يريان أن الإنسانية لم تجد سبيلها إلى الواقع في صورة هؤلاء الأفراد، إلا لأن فكرتها على وفاق تامٍّ مع سائر الكون في دوافعه وفي إرادته؟ انظر مثلًا إلى أجزاء الكائن الحي الواحد تجدْها متباينة، فليس العظم من قبيل العضلات، ومع ذلك فهما يرتبطان في كائن عضوي واحد، ويعملان معًا في توافق تام وانسجام كامل، وإن شعورنا بالنشوة ليبلغ كماله إذا نحن نظرنا إلى أجزاء الوجود المتباينة في الظاهر على أنها بمثابة عظام هذا الكون الواحد وعضلاته، تعمل كلها معًا في كائن عضوي واحد، فدون أن نحاول طمس أوجه التباين والخلاف بين الظواهر، نستطيع أن ندرك خيط الوحدانية يسري فيها جميعًا، فنرضي العلم ونرضي النفس معًا. أما العلم فيرضى لأنه سينصرف إلى دراسة الجزئيات المختلفة، وأما النفس ورضاها فلأنها وحدها القادرة على أن تدرك — خلال واحدية الذات الداخلية — واحدية الكون جميعًا.
قد يهزُّ اللاهوتي رأسه كما يهزُّ رأسه العالِمُ، قائلَيْن في استنكار: لكن هذه هي وحدة الكون التي يقول أنصارها بربوبية الوجود بما فيه كله! فدعْهما يقولَا ما يقولانه؛ لأن طاغور لا يريد أن يضحي بعقيدة يحسُّها في أعماق نفسه لأن اسمها هو كذا وكيت في كتب الأقدمين أو المحدثين، ويصرُّ على مذهبه قائلًا: «إنني إذا ما قلت عن نفسي إنني إنسان، فإنني أضمن هذه الكلمة فكرة عامة عن «الإنسان» الكلي الذي ما ينفك يتبدَّى في كل فرد من أفراد الناس على ما بين هؤلاء من أوجه الاختلاف، ألا إن هذا العالم بكل ما فيه من كائنات حية وغير حية، إنما هو تعبير عن ذات علية بلغت أقصى درجات الكمال التعبيري عندما عبرت عن نفسها في الإنسان، وذلك لأن الإنسان — باعتباره مخلوقًا — إنما يصور الله باعتباره خالقًا؛ لأن الإنسان نفسه يشارك في عملية الخلق، فلا عجب أن يكون بين الكائنات جميعًا أقرب شيء إلى الله، وأن يكون هو المخلوق الوحيد الذي يتحد بروحه مع روح الله، اتحادًا يمكنه من رؤية الواحدية التي تضمُّ الوجود كله برباط الكائن الواحد.»
ويستخدم طاغور تشبيهًا يكرره في أكثر من موضع، يقول فيه: «افرض أن غريبًا جاءنا من كوكب آخر، وتصادف أن سمع قرصًا من أقراص الحاكي يُرسل صوتًا بشريًّا، فماذا عساه أن يقول؟ إن كل ما يراه عندئذٍ هو القرص الدائر، وكل ما يسمعه هو الصوت البشري، أفيكون — إذن — على صواب إذا هو زعم أن ليس وراء هذه الظاهرة ما وراءها؟ أم تفوته الحقيقة إذ يفوته أن وراء القرص حقيقة إنسانية خفيت عن بصره، لكنَّ خفاءها ليس دليلًا على عدم وجودها؟ ولك أن تتصور ذلك الزائر الغريب إذا ما قابل فجأة الموسيقار الذي كان أنشأ تلك الموسيقى المعبأة في القرص، فعندئذٍ سيرى الحقَّ بلمحة واحدة، وسيعلم في يقين أن ذلك الظاهر مصدره هذا الإنسان …» وكذلك حال طاغور عندما قابل في وعيه منشئ الكون العظيم، ففهم به كلَّ ما كان يبدو أمام الحواس من ظواهر، باديها مفكَّك، ولبُّها متصل بروح منشئها.
والعلامة التي تميِّز إدراك الإنسان لروح الحق إدراكًا مباشرًا يصل إلى الصميم ولا يقف عند حدوده الخارجية، هي ما ينتاب الإنسان المدرك لحظة إدراكه من نشوة تغمره، وهي نشوة لا يحسُّها إذا اقتصر إدراكه على «معلومات» تأتيه عن «الشيء»، من الصنف الذي يمكن قياسُ أبعاده؛ لأن النشوة الروحانية «كيف»، وهذه المعلومات المقدرة بالأرقام «كم»، والكم لا يفسر الكيف. خذ زهرة وتعقَّب ما تحدثه فيك من جذل، فهل يفسر لك جذلك هذا أن تعلم الزهرة مركَّبة من كذا وكذا من الذرَّات التي سرعتها كذا وطبيعتها كيت؟ كلا! وهكذا قُل في الكون كلِّه؛ ففي الكون سرٌّ عجيبٌ لا ندري مصدره، من شأنه أن يشيعَ في أنفسنا المرح بالطبيعة، ولما كان هذا المرح لا يرتدُّ — كما قلنا — إلى مقادير وأبعاد تُقاس بالمسطرة وتوزن بالميزان، فلا بد أن يكون ثمَّة رسالة تحملها إلينا الطبيعة، لا عن طريق مادَّتها بل عن طريق لمسة «إنسانية» حملها إيَّاها روحٌ عظيم لتحملها إلى روح الفرد هنا وروح الفرد هناك، فهي لمسةٌ لا تقبل التحليل، لكنها تكابَد وتعانَى وتمارَس وتقع في الشعور، ومحالٌ علينا إقامة البرهان عليها، كما هو محال على الزائر الغريب من الكوكب الآخر أن يبرهن لزملائه على أن وراء قرص الحاكي الذي سمع غناءَه شخصًا كان بادئ ذي بدء هو مصدر هذا الغناء، فلئن جاز للموسيقار أن يخاطب قلب السامع مخاطبة مباشرة خلال آلة الحاكي ودون أن يظهر، فكذلك يخاطب الله قلبَ الإنسان مخاطبةً مباشرة خلال الطبيعة وهو خافٍ عن الأبصار.
٢
إنه منذ اللحظة الأولى التي شعر فيها الإنسان بوجود نفسه، شعر كذلك بوجود سرٍّ روحاني يربط أطراف الكون، ويتبدَّى فيه هو نفسه باعتباره فردًا، وباعتباره أيضًا عضوًا في مجتمع، فهذه الصِّلات التي تصل الواحد من الناس ببقية الآحاد، إنما هي صلات تكاد من لطافتها تخفى. وليست قيمتها الحقيقية فيما تعود به من النفع على المرتبطين بها، بل إنها لتدل بذاتها على قيمة الحياة، وإلا فلماذا ترى هذا الإنسان الفرد أو ذاك يضحي بحياته الفردية من أجل بقاء تلك الصلة التي توحد الأفراد في جماعة إنسانية واحدة؟ أيكون لهذه التضحية تعليل سوى أن حقيقة «الإنسان الكلي» فوق حقائق الناس الأفراد؟ أيكون لها من تعليل سوى أن حقيقة الإنسانية فيها نفحة إلهية تستوجب من الفرد أن يضحي بما هو فرديٌّ فيه، ليبقى ما هو خالدٌ أزليٌّ أبديٌّ مطلق؟
إن ولاء الإنسان لهذا الروح الموحِّد ليجد التعبير عنه في الديانات التي تقع من الناس هنا وهناك موقع التقديس والعبادة، فإذا رأيت الناس يُطلقون أسماء دالة على آلهة، فاعلم أنهم إنما يطلقونها في حقيقة الأمر على ما يحسونه في أنفسهم من جوانب الاشتراك مع غيرهم في حقٍّ مطلق واحد، وذلك يفسر لنا لماذا كانت الآلهة أول الأمر آلهة قبليَّة؛ لأن القبيلة كانت هي الحد الأقصى من الاشتراك الجماعي بين الأفراد، فلما اتسع وعيُ الإنسان ليرى الإنسانية كلها أسرة واحدة، اتسعت كذلك فكرتُه عن الله حتى أصبح إلهه إلهًا واحدًا للعالمين أجمعين، وهكذا تجيء صورة الله في وحدانيته بحسب الرقعة التي يتسع في حدودها المجتمع الواحد.
فجوهر الدين هو محاولة الناس أن يعبروا عن تلك الخصائص فيهم التي من شأنها أن تربطهم «بالإنسان الخالد»، أي أنها تربطهم بما هو واحد مشترك، ولو كانت هذه الخصائص جزءًا من جبلَّة الإنسان الفطرية. تظهر كما تظهر سائر الغرائز الفطرية، لما كان للدين من داعٍ يوجبه، وهل نحن بحاجة إلى دين لنأكل ونشرب ونتنفس؟ كلَّا، ولكن وراء هذه الفطرة الظاهرة من تلقاء نفسها تيارات أعمق منها، وتسير في اتجاه مضاد لاتجاهها، وتلك هي التيارات التي تستهدف اتصال الفرد بالإنسانية المشتركة، وها هنا يأتي الدين وتأتي مهمتُه، ألا وهي أن يوفق بين هذا التضاد القائم بين فطرتين: فيعمل على إخضاع الطبيعة الحيوانية فينا لما يعد بحق حقيقة «الإنسان» الخالد، وبمقدار ما يقوى إيماننا بهذا الإنسان المشترك الخالد، تكون مهمة الدين ميسرة في نفوسنا، وإذا رأيت ناسًا يضحون بالجوانب الحيوية فيهم ابتغاء مرضاة الجانب الإنساني الخالد فيهم، فما ذاك إلا لأنهم وجدوا التوفيق بين الجانبين متعذرًا عليهم، مع إيمانهم بالجانب الخالد فلم يسعهم إلا أن يقضوا على جانب في سبيل آخر.
وإن صورة الإنسان الأعلى لترتسم في أذهاننا بمعونة الخيال، فهو إنسان أغزر جوهرًا من الإنسان الفرد، وهو يجاوز حدود الأفراد مجاوزة تظل تتسع آفاقُها حتى تشمل الكلَّ في واحد، وهنا نجد الناس الأفراد صنفين: فصنف لم يوهَب القدرة على رؤية أهداف الإنسان الأعلى؛ ولذلك تراه يقيم الحوائل في طريق سيره، وصنف آخر يجدُ بين نفسه وبين أهداف ذلك الإنسان الأعلى توافقًا وانسجامًا حتى لكأن بينهما اتفاقًا على الغاية وعلى طريق السير إليها، فتراهم إذ يعملون ليحققوا شخصياتهم، يحققون في الوقت نفسه إرادة الإنسان الأعلى، وعندئذٍ يجوز لنا أن نقول عن هؤلاء إن الروح الدينية فيهم قد ارتفعت إلى أعلى ذراها، وعندئذٍ كذلك ترى هؤلاء يغتبطون أشد الغبطة كلما ضحَّوا بصوالحهم الفردية من أجل الصالح العام؛ فهؤلاء هم الذين أحبوا الروح الأعظم حُبًّا ملأ قلوبَهم بحب الأفراد الذين تمثل فيهم ذلك الروح على اختلاف أوطانهم وأزمانهم.
قال الحكيم الصيني العظيم «لاوتسي»: «إن من يمُتْ دون أن يفنى هو صاحب الحياة الأبدية.» ومعنى ذلك أن الذي يموت فيه هو الفرد، لكنه يحيا بعد ذلك بحياة الإنسان الخالد، ولا تحسبنَّ أحدًا لا يسعى إلى المشاركة في هذه الحياة الخالدة، وإلا لما استطعنا أن نفسر المحاولات الكثيرة التي يحاول بها الأفراد جميعًا أن يتغلبوا على الفناء بما يحقق لهم الخلود، وكلما اشتدت محاولة الفرد في مسعاه نحو المشاركة في الحياة الخالدة، ازداد في أعيننا قيمة؛ لأننا نراه عندئذٍ لا يمثل شخصَه الفرديَّ بقدر ما يمثل شخص الإنسان الأعلى الكامن فيه، إنه عندئذٍ يمثل الإنسانية كلَّها في سعيه نحو العلم أو نحو الفن أو نحو تكامل الشخصية أو غير ذلك. ألست ترى الإنسان منذ أول تاريخه ساعيًا نحو ما يزيد من «قيمته» هذه، وغير مكتفٍ بما يعدُّ «نجاحًا» في الحياة العابرة من زيادة في القوة أو في الجاه أو في الثراء؟ لماذا نُعْلي من شأن العالِم على صاحب المال الذي لا علم له؟ لماذا نمجد الفنان الذي يعبر عن الروح الإنساني العام أكثر من تمجيدنا لصاحب النفوذ والسلطان؟ إننا نفعل ذلك لأننا في صميم قلوبنا نحسُّ أن العالِم والفنان يقتربان من «الإنسان الأعلى» فيزيدان قيمة، ولا عبرة لما يُصيبانه بعد ذلك في حياتهما المادية من نجاح أو إخفاق.
هذا المثل الأعلى المنشود هو ما نطلق عليه كلمة «الروحاني» لنصفه بها على ما في هذه الكلمة من غموض، لكن الأمر أمر شعور نحسُّه، سواء وجدنا له الكلمة المبينة الواضحة أم لم نجدها. فهل من مرتاب في هذه الحقيقة الماثلة في نفس كل فرد من الناس، ألا وهي شعوره بإيمان أقوى في حالة الإنسان الروحاني منه في حالة الإنسان البدني؟ ألا إن الإنسان منذ فجر تاريخه قد أخذ يشعر بأن كلَّ ما هو جزئي محسوس عابر فانٍ، وبأن السعادة الدائمة محال أن تكون مرهونة بتلك العوابر الزوائل، وأنها لا بد أن تكون متوقفة على صلة بينه وبين سرٍّ غامض لكنه عظيم، يخفى وراء ستار العالم المشهود. وإن خلوده هو في دخوله ذلك العالم، فذلك أدنى إلى تحقيق سعادته من امتداد بقائه في عالم الواقع الجسدي.
إن جسد الإنسان ليتحقق وجوده كاملًا في دنيا الطبيعة المادية، حتى ليجوز أن نُسمِّيَ هذه الطبيعة جسدًا كبيرًا لذلك الإنسان. وإن متَع الإنسان، التي يحققها له إشباعه لحاجاته الجسدية المتلاحقة، لتستوفي أمدها في علاقة الجسد الصغير بالجسد الكبير — الإنسان بالطبيعة — لكن هنالك متعة أكبر من هذه المتع العابرة جميعًا، ألا وهي المتعة التي نستشعرها كلما حققنا مثلًا من مثلنا العليا تحقيقًا فيه الكمال أو القرب من الكمال، فعندئذٍ نحسُّ في بواطن أنفسنا أننا أكمل كيانًا وأتمُّ وجودًا، ومن ثَم اشتدَّ إيمان الإنسان بوجود كائن كامل تحققت فيه هذه الكمالات كلُّها، التي كلما حققنا نحن شيئًا منها شعرنا بالغبطة. وليختلف الناس في الأسماء التي يُطلقونها على هذا الكائن الكامل، ولكنه مثلٌ أعلى لا يستغني عنه إنسان، وعن طريقه يشعر الإنسان الفرد بالروابط التي تربطه بسائر الأفراد، ففيه يتمثل الجانب الخالد الباقي من كل فرد، وماذا تكون المدنية الإنسانية إذا لم تكن محاولة الأفراد أن يعبروا عن هذه الحقيقة الخالدة المتمثلة بين جوانحهم، يعبرون عنها في فنٍّ وأدب وعلم، فالمحصول الحاصل من هذه المحاولات نحو الوصول إلى حقيقة الحق، أعني الكشف عن حقيقة «الإنسان الأعلى» — أو الله — هو مدنية الإنسان، وليست مدنيته في مدى نجاحه في حياته يومًا بعد يوم.
ولذلك كانت أروع اللحظات التي يحقق فيها الإنسان ذاته، هي اللحظات التي يشارك فيها الروح — الإنساني العظيم — في الخلق، وتتفاوت هذه الروعة بتفاوت درجات الخلق هذه، فقد يصل فيها الإنسان المبدع حدًّا من الإبداع يقرب فيه من ذلك الروح الخالد، وشتان بين إنسان يقف موقفًا سلبيًّا يتلقَّى فيه ولا يضيف من عنده شيئًا، وفي هذا الصدد يروي طاغور عن خبرته أيام طفولته، فيقول: كنت أيام طفولتي أصنع لعبتي بنفسي، أصنعها من نوافل الأشياء وتوافهها، فأخلقها خلقًا من خيالي، وكان لِدَاتي يشاركونني سعادتي. بل إن سعادتي لم تكن لتكمل بغير مشاركتهم إياي في صناعة تلك اللعب. ثم حدث ذات يوم — ونحن في ذلك الفردوس من الطفولة المبدعة — أن جاءنا الإغراءُ من دنيا الراشدين حيث تُقام أسواق البيع والشراء؛ وذلك أن لعبة اشتريت لأحد رفقاء الطفولة من دكان إنجليزي، وكانت اللعبة بالغة حد الكمال، وكانت كبيرة وفيها محاكاة بارعة للنموذج الحي. فأخذ صاحبها الزهو بلعبته تلك، وانصرف عن مشاركته إيانا في صناعة لعبنا بأنفسنا، بل حرص على أن يُخفيَ لعبته تلك الثمينة عن أنظارنا، ليزداد تيهًا بملكيته لها وحده دون سواه، فأين رفقاؤه منه الآن وهو الظافر بالشيء النفيس وهم القانعون باللعب الرخيصة؟ وإنني لعلى يقين من أنه لو كان عندئذٍ قد استخدم اللغة السائدة بيننا اليوم، لقال عن نفسه إنه أرقى منَّا حضارة بمقدار ما بين لعبته ولعبنا من فارق بعيد من حيث كمالُ الصناعة هناك ونقصها هنا.
ولكنَّ صاحبنا قد فاته شيءٌ هامٌّ وهو في غمرة نشوته — وإن يكن هذا المقام بدا لعينَيه تافهًا عندئذٍ — وذلك هو أن لعبته الكاملة في صنعها قد ضيَّعت عليه ما هو أهمُّ بكثير من اللعبة ذاتها، ألا وهو الكشف عن الطفل الكامل الذي ما ينفك مقيمًا في قلب الإنسان، أعني الكشف عن جوهر الطفل الكامن فيه. نعم إن لعبته المجلوبة له من خارج نفسه قد دلت على ثرائه، ولكنها لم تدلَّ على حقيقة نفسه؛ إذ هي لم تدلَّ على روحه المبدعة الخلَّاقة، ولم تكن مخرجًا تتنفس فيه روحُ النشوة التي ننتشي بها ونحن نُبدع لعبنا بوحي خيالنا. إن صاحبنا ذاك قد فقد كثيرًا حين فقد مشاركته لزملائه وانفرد بشيء لم يكن قطعةً من ذاته، ونعود فنقول إن المدنية إن هي إلا التعبير عن جوهر الإنسان، وليست هي في زيادة الملك واتساع السلطان، إن ما هو خارج أنفسنا يمكن بيعُه لسوانا، أما الذي يتحد مع كياننا اتحادًا يدمجه فيه، فلا سبيل إلى بيعه، وتلك هي الحالة التي نتمثل فيها الحق الخالد، ونحيا به في فردوس الكمال، والوصول إلى حالة كهذه هو ثمرة المدنية الإنسانية كلِّها.
ولقد أدرك الأنبياء جميعًا هذه الحقيقة في أنفسهم، واستشعروا حرية الروح في إدراكهم لما بين أفراد الناس من وشائج القربى الروحية، مما يدل على أن «الإنسان» كائن واحد على اختلاف الأفراد الذين يمثِّلونه، ومع ذلك فها هي ذي شعوب العالم تنظر إلى مواقعها الجغرافية المنفصل بعضها عن بعض بالبحر أو بالنهر أو بالجبل، فيزعم كلٌّ منها لنفسه حقيقةً قائمة بذاتها معزولة عن سواها. فلما أن اتجهت هذه الشعوب مدفوعة بفطرتها إلى ساحة الدين فوجدته ينادي بوحدة الإنسان مع أخيه الإنسان أيًّا ما كان الموطن من بقاع الأرض، رأيت تلك الشعوب عندئذٍ تتخذ لنفسها أحد طريقين: فإما أن تمسخ الحقيقة الدينية مسخًا يجعلها متفقةً مع القالب الشعوبي البدائي، أو أن تحبس الله وراء جدران المعابد وداخل صحائف الكتب المقدسة، ليكون هناك بمأمن من الشعوبية المتناحرة، وبهذا يخلو الميدان خارج تلك الكتب والمعابد للشيطان وعبادته، مهما تنوعت وتعددت الأسماء التي يُطلقها الناس على الشيطان هنا وهناك. وبهذا يقف الناس من الله موقف بعض الأمم من ملوكهم: يخلعون عليهم كلَّ علائم التشريف والتكريم على شرط أن يظلَّ الملك وراء جدران قصره لا يتدخل في مجرى الأمور، وعلة هذا الضلال في فهمنا لمعنى الله فهمًا حقيقيًّا هي أننا خنقنا في أنفسنا كلَّ شعور بإخاء الناس ووحدة الناس في كائن علوي واحد.
ولقد كادت الحواجز الجغرافية التي تفصل شعبًا عن شعب أن تزول في يومنا الحاضر، وإذن فلم يبقَ أمامنا إلا الحائل الثاني، وهو قصرنا فكرة الله على المعابد والكتب، فعلينا أن نُخرجَ هذه الفكرة الرائعة إلى النور، ونتركَها تسري في شئون الحياة الجارية، فهي فكرة مرادفة للوحدة الإنسانية، ومن شأن هذه الوحدة — لو وضحت في عقولنا — أن تُزيل كلَّ ما عساه أن ينشب بين الأفراد من دواعي القتال. إن من يسجن نفسه في حدود فرديته، لشبيه بحيوان يعيش في كهف مظلم آمنًا من عوادي العالم الخارجي، وإن الطبيعة في مثل هذه الحالة لتحد من حساسيته ومن ضرورات عيشه بما يتناسب مع بيئته المحدودة الضيقة التي قصر حياته عليها، لكن هبْ أن جدران الكهف قد تداعت فجأةً، وانكشف الحيوان الآمن لعوامل الطبيعة الخارجية، فماذا يصنع هذا المسكين إلا أحدَ أمرين: فإما الفناء، وإما مصالحة بيئته الجديدة؟
وهكذا قُل في هذه الشعوب التي حصَّنت أنفسها في أنانية فردية تعزلها عما عداها من أخواتها، فلقد زالت عنها جدرانُ حصونها تلك بزوال الحدود الجغرافية في ظروف الحياة الجديدة، فماذا عساها أن تصنع إلا أحد أمرين: فإما الفناء وإما مواءمة وجودها مع وجود الآخرين؟
إن شعوب العالم اليوم يواجه بعضها بعضًا مواجهة مادية ومواجهة عقلية معًا، لقد تحطَّمت دروعُ شعوبيتها التي كانت تحميها، وتعزلها بعضها عن بعض، ولا أمل في جبر تلك الدروع المصدعة، وإذن فلم يعُد لنا بدٌّ من قبول هذه الحقيقة والعمل في إطارها، ألا وهي أننا نعيش معًا في عالم واحد.
٣
إن للإنسان ثلاث حيوات في حياة، ولكل من الحيوات الثلاث عللها التي تسقمها، ولكلٍّ منها كذلك علاجها الذي يشفيها. أما الحياة الأولى فحياة الجسد التي لا تكون على أتمها إلا إذا اتسق هذا الجسدُ مع سائر أجساد الدنيا الطبيعية المحيطة به؛ فالعين يقابلها الضوء، والأذن يقابلها الصوت، والمعدة يقابلها الطعام وهكذا، فجانب أو جوانب من الجسم الإنساني تتصل بجانب أو جوانب من الطبيعة الخارجية، فإن جاءت الصلة بينهما ميسرة فخير، وإلا كان الجسم معلولًا يريد البُرءَ من علَّته لتستقيم صلاتُه ببيئته مرة أخرى. وأما الحياة الثانية فحياة العقل، فثمة معقولات كقوانين العلم مثلًا، ويُراد لعقل الإنسان فهمها وقبولها، فإن فعل كانت حياته العقلية سوية سليمة، وإلا فالإنسان عندئذٍ يوصف بالبلادة والغباء والجهل، وأما الحياة الثالثة فحياة الروح التي تتناول علاقة الشخصية الفردية بشخصية الإنسان العامة، فإلى أيِّ حدٍّ تتسق نوازع الفرد الواحد وعواطفه وأهدافه مع نوازع الإنسانية وعواطفها وأهدافها، اللهم إن كان الجانبان على اتفاق، فحياة الروح عندئذٍ تكون معافاة سليمة، وأمَّا إن كانَا على تباين واختلاف، فحياة الروح إذن مصابة عليلة تحتاج إلى التطبيب والمعالجة لتُشفى. وفي هذه الحيوات الثلاث جميعًا نستطيع أن نتبيَّن العلاقة بين الفرد الواحد والكل الذي يحتويه ونستطيع نتيجة لذلك أن نتبيَّن معنى الحرية في وجوهها المختلفة: فحرية الجسم مرهونة بعلاقته بالطبيعة المادية، وحرية العقل مرهونة بعلاقته بعالم المعقولات، وأما حرية الروح فمرهونة بعلاقتها بعالم الروح.
وفي الحديث عن حرية الروح، لا بد لنا من التفرقة بين «النفس» و«الروح»؛ فالنفس هي المنوط بها مناشط الإنسان الخاصة بطبيعته الفردية المحدودة الروح، فهي التي نجاوز بها حدودنا الفردية لنواجه الحقيقة الكلية، أعني «الإنسان الأسمى». ولئن كانت «النفس» تجد سعادتها في تقدير الفرد لذاته بغض النظر عما عداه وعمن عداه، فإن سعادة الروح هي في إنكار تلك الذات الفردية من أجل توفيق ذات أسمى وأشمل، على أن إنكار الذات الفردية هنا لا يعني — من وجهة نظر طاغور — سحقها ووأدها، بل يعني توجيهها نحو تحقيق ما يُراد تحقيقه، وهو أن يلتمس الفرد طريقه إلى الاتحاد مع المثل الأعلى الذي يضمُّ في ذاته ضروبَ الكمال كلها، أي أن يسعى الفرد نحو حياة توفِّق بينه وبين الإنسان اللامتناهي الخالد، فمن وجد ذاته محققة في «الكل» تكشَّف له الله الحق الذي كان خبيثًا في نفسه عندما كان معزولًا في فردية تباعد بينه وبين الآخرين.
وفي عالم الفن خيرُ مثال نسوقه للحرية التي تستشعرها النفس إذا ما تحررت من فرديتها الضيقة، فانظر إلى النشوة الفرحى التي تملؤك إذا ما نظرت إلى شيء لا من حيث هو يخدم غرضًا من أغراضك، بل من أجل ذاته، فعندئذٍ لا يقيِّدك الصالح الفرديُّ الشخصي الضيق، بل تنفك عنك هذه القيود، وتحسُّ أنك قد علوت عن ذاتك ونظرت نظرةً تنفذ إلى حقيقة الأشياء في ذواتها، تلك هي النظرة الفنية للأشياء وللعالم، وكذلك هي النظرة الروحية. ففي النظرة الروحية تتحلل «الروح» من أغلال «النفس» أو الذات الفردية، وتُصبح قادرة على التمتع بالأشياء تمتُّعًا لا شأن له أبدًا بتحقيق مصالح اللحظة الراهنة والظروف العابرة، بل هو تمتُّع منزَّه عن الغرض؛ ولذلك فهو نفسه التمتع الذي يُصاحب الإبداع الفني، كما يصاحب النظرة الفنية إلى هذا الإبداع.
إنك لتسمع الهندي الساذج يُردِّد في صلاته هذه العبارة: «ما خطيئتي التي من أجلها أضطرُّ إلى البقاء في جبِّ هذا العالم — عالم الظواهر؟» وفي هذه العبارة تكمن روحُ الهند ودينها وفلسفتها جميعًا، وفيها كذلك تعبيرٌ عما يريده طاغور، فلأن يحصر الإنسان نفسه في حدود نفسه، فذلك معناه أنه قد ألقى بنفسه في سجن فردي ينعزل فيه عن «الحق» الأعلى، ولو بقيَ في سجنه ذاك ألف ألف سنة، يتناول الأشياء من هوامشها، وحواشيها، وتدفعه موجةٌ من اللذة هنا وموجة من الألم هناك، فلن يبلغ من الحياة لبَّها وصميمها ومعناها. إن الهنود السذج الذين تسمعهم يرتِّلون في صلواتهم تلك العبارة التي أسلفناها: «ما خطيئتي التي من أجلها أضطر إلى البقاء في جبِّ هذا العالم، عالم الظواهر؟» قد لا يفهمون معناها، وقد لا يستطيعون التعبير الصريح عن فحواها إذا ما سُئلوا ماذا تريدون بهذا الدعاء، فذلك بعيدٌ عن إدراك سائق العربة الذي يترنم بتلك العبارة وهو في طريقه إلى السوق، وهو بعيد عن إدراك السمَّاك الذي يُتمتم بها وهو يعدُّ خيوط شباكه. لكن هل من شك في أن هذا وذاك وغيرهما يحسُّون في أعماقهم أصداء من معنى هي التي عرف مبدع هذه العبارة الأول كيف يصوغها في لفظ صريح مفهوم؟ هل من شكٍّ في أن أمثال هؤلاء السذج يحسُّون في أعماقهم أن علة الشقاء كلِّه في هذه الحياة الدنيا ليست هي في العوز المادي، ليست هي في نقص مقعد أو منضدة أو ثوب أو زينة، بقدر ما هي في انبهام هذه الحياة التي نحياها، ولو تبيَّن الإنسان هدف حياته الأسمى لاطمأنَّ واستراح ضميره. وانظر كم من أعلام الرجال قد استبد بهم القلق مع وفرة المال وسطوة الجاه، حتى لقد خلَّفوا وراءهم ما عندهم من مال وجاه، وراحوا يبحثون عن ذلك الهدف المجهول، وإذا قلنا ذلك فقد قلنا إنهم راحوا يبحثون عن حرية الروح التي يتحلَّلون فيها من قيود نفس كانت تغلُّهم بقيودها … وإنما تتحقق تلك الحرية المنشودة بتحطيم الحواجز الفردية والانطلاق في عالم «الحق» الذي لا تفرقةَ فيه بين فرد وفرد؛ لأنهم جميعًا أجزاء من كل واحد، وعندئذٍ لا تجدُ قِيَم الرجال قد تفاوتت بحسب ثرائهم أو نوع العمل الذي يؤدُّونه أو الأسرة التي انحدروا منها، كأنهم السلع رصَّها التاجر على رفوفه حسب أثمانها، بل تجد القِيَم روحية صرفًا، يكون الكل عندها سواء.
ولا تحسبن الصعود إلى هذه الحرية الروحية وقفًا على أحد؛ فقد تُصادف من سواد الناس نوتيًّا في قاربه الصغير، أو سمَّاكًا أو راعيًا فقيرًا، قد عرف كيف يتحرَّر من قيود النفس الجزئية إلى حيث الروح في عالمها الطلق الفسيح. فكم في الهند — كما يقول طاغور — من ريفي ساذج يعلم حقَّ العلم أن حامل صولجان الملك ليس إلا عبدًا رقيقًا زخرفوه بصنوف شتى من الزخارف، وهو عبد رقيق لأنه مغلول إلى كرسي سلطانه بأغلظ القيود، ويعلم حقَّ العلم أن صاحب الملايين ليس إلا أسيرًا حبيسًا في قفص قضبانه من ذهب، أما هو — أي الريفي الساذج — فحرٌّ طليق في عالم الضوء. ألا ترى إلى الإنسان كيف يتحسس في الظلام، وقد يقبض على أشياء حاسبًا أنها بُغيته، حتى إذا جاء الضياء، أرخى قبضته عما كانت قد أمسكت؛ لأنه وجد أنه إنما أمسك بما لم يرد؟ فهكذا حال الإنسان في دنيا المصالح الفردية. يشدِّد قبضته على أشياء — كالمال والجاه — ولو جاءَه الهدى لعلم أنه قد قبض على ريح، وإنما الحرية الحقة هي في التحرر من انحصار النفس في حدود ذاتها ومن عزل الأشياء بعضها عن بعض، فهذا لك وتلك لي، وليس هذا الضرب من الحرية بمقتصر على جانبه السلبي، بل إنه ليستتبع جانبًا إيجابيًّا، عندما يأخذ المرء شعور بتحقيق ذاته في اتحاده الروحي مع «الحق» الشامل الكامل، الذي هو روح العالم بأسره، والذي هو الإنسانية بأسرها مجتمعة في واحد.
ألا ما أكثر أولئك الذين تسمعهم يقولون: «إن وجودنا في هذه الدنيا شرٌّ كله»، وما ذلك إلا لأننا قد عمينا عن جانب هو الذي يخلع عن وجودنا صفة «الحق». إن الطائر إذا ما حاول التحليق بجناح واحد من جناحَيه أنزلت به الريح الأذى، وهبطت به إلى الأرض من عليائه، وهكذا قُل في أنصاف الحقائق كلها، فهي حقائق مهشمة محطمة، وهي تؤذي لأنها توحي بشيء ثم لا تفي به؛ فالموت لا يؤلمنا ولكن المرض يؤلم؛ لأن المرض لا ينفك يُذكِّرنا بالصحة، ثم يُمسكها عنَّا، وكذلك الحياة في عالم مشطور تكون شرًّا لأنها تبدو وكأنما هي كاملة، مع أنها بالبداهة مرحلة واحدة من مراحل الشوط، فهي تقدِّم لنا الكأس ولكنها لا تملؤها بالرحيق، فسرُّ المآسي كلها هو في أن نأخذ الحق من جانب دون جانب، ونقطع من الدورة جزءًا دون جزء، ودورة الحياة لا تكتمل إلا إذا انتهى الفرد بفرديته إلى ما هو عام، وعندئذٍ يبلغ مدارك الحرية الصحيحة.
أيُّهذا الإنسان القاسي ذو الحاجة العاجلة، أفحتمٌ عليك أن تحرق بالنار عقلًا ما يزال برعمًا في كمه؟ إنك بهذا ستشققه قطعًا قطعًا، وستُفسد أريجه بقلقك هذا الذي تعوزه الأناة. أفلا ترى مولاي — وهو الهادي الأعظم — يستغرق عصورًا ليُتقن صنع الزهرة، ومحالٌ عليه أن يشتعل بلهيب العجلة المتسرعة؟ لكنك ذو جشع فظيع، فلا تجد سبيلًا تركن إليه إلا القوة المغتصبة، فأيُّ أمل ترجو أيُّهذا الإنسان ذو الحاجة العاجلة؟
إن هذا الشاعر الريفي لعلى يقين بأن الحرية لا تُغتصب من خارج النفس اغتصابًا، وأنه لا سبيل إلى بلوغها إلا بطرق داخلية فينا، نتجرد فيها عن ذواتنا الفردية لنتحد مع الحق؛ فالعبودية بكل صورها إنما تنبع من باطن النفس ولا تُفرَض علينا من الدنيا الخارجية، فأنت عبد إذا ما أعتم شعورك، فلا وعيَ فيه ولا ضياء، وأنت عبدٌ إذا ما ضاق أفقُ المنظور أمام عينيك، وأنت عبد إذا ما قوَّمت الأشياء تقويمًا خاطئًا، فأعليت ما هو في ذاته دنيٌّ، وأدنيت ما هو في ذاته رفيع.