العقَّاد كما عرفتُه
تاريخ الفكر هو نفسه تاريخ المفكرين، فإذا قيل «تاريخ الفكر العربي في نصف القرن الأخير»، كان المراد صفوةً من أئمة، وكان العقَّاد بين هؤلاء الأئمة إمامًا.
لقد لقيتُ العقَّاد أول ما لقيته منذ خمسة وثلاثين عامًا أو نحوها، ولقيته آخرَ ما لقيته في آخر أسبوع من شهر يناير هذا العام (١٩٦٤م)، ولم نكن نعلم في هذا اللقاء الأخير، أنه قد بقيَ له في زمرة الأحياء أربعون يومًا. كان اللقاء الأوَّل أيام الطلب في المرحلة الجامعية، وكان العقَّاد عندئذٍ قد دنَا من عامه الأربعين، يملأ دنيا الثقافة بحضوره، فلا تُغضي عنه عينٌ ولا تستطيع، ولا تصمُّ من دونه أذنٌ وهيهات لها. فسواء أقبل عليه القارئون أم أدبروا، أيَّده الكاتبون أم عارضوا، فهو هناك يملأ عليهم دنياهم بحضوره ملءَ العين ملءَ الأذن. ولقد كانت عشرينيات هذا القرن في تاريخنا الفكري عشارًا من سنين، صخبت خلاله أرضُنا بجلبة المعارك الفكرية الحادة العنيفة، وكُنَّا نحن الطلاب عندئذٍ مشدودي الأبصار موزعي الأسماع بين أصوات القادة في تلك المعارك الدائرة، حتى جاء يوم قرأنا للعقَّاد فيه مقالة يقول فيها إن الكمال لا يتحقق له وجود إلا في الأذهان، وإن مهمة هذه الفكرة إذا ما ارتسمت في أذهان الناس صورتُها هي أن تهديَهم في طريق السير حتى لا يضلوا سواء السبيل، وهو قول ربما كان متأثرًا فيه بالفلسفات التطورية التي كانت — وما تزال — شائعة، مثل فلسفتَي هيجل وبرجسون، فكأنما جاء هذا القول منه مخيِّبًا لرجائنا، ونحن بعدُ شباب شاطح في سبحات الوهم، يختلط بين الفكرة وتطبيقها، ويحسب أن ما يدركه العقل من معاني التسامي قَمينٌ أن تُخرجَه الإرادة الثائرة الفائرة — بين ليلة ونهار — من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان، فقصدت يومئذٍ إلى العقَّاد في الجريدة التي كان يُحرِّر فيها، ولعلها كانت جريدةَ البلاغ، وكان اليوم يومًا ضاحيًا من فصل الشتاء، تُرى ماذا كان يضطرب في صدري عندئذٍ من خواطر ومن مشاعر؟ أذهبتُ حقًّا لأناقشه الحساب في فكرته تلك التي خيَّبت رجائي الحالم؟ أم اتخذتُ من تلك الفكرة ذريعة أقابل بها ذلك العملاق؟ دخلت بهوَ البناء وسألت عن الرجل أين يكون، فقصدتُ إلى غرفته، وإذا هي غرفة مفتوحة الباب، ليس فيها إلا منضدة بسيطة، فهي مسطح خشبي على قوائم، وإليها جلس العقَّاد على مقعد بسيط؛ جلس مديد الجذع مديد الساقين، ذراعاه مبسوطتان على المنضدة، ليس أمامه ورقة، ولا إلى جواره كتاب. الغرفة عارية الأرض عارية الجدران خِلْو من الأثاث. فها أنا ذا وأنا أتعثر بخطاي عند بابها لا أرى إلا هذا الرجل يجلس وحده. هذا — إذن — هو العقَّاد، أذِنَ لي بالدخول، وأمر لي بمقعد فجلست بجواره لأبدأ بتقديم نفسي، ثم لم ألبث أن عرضت عليه قضيتي في لفظ متلعثم النطق لكنه واضح المعنى. قلت: قرأنا مقالتك الأخيرة، أفيكون معناها أن ييأس الإنسان على مدى الدهر من بلوغ الكمال؟ فقال: وهل يتحقق الكمال لله نفسه إلا في الأبد، حتى تريده أنت أن يتحقق للإنسان في مسار الزمن؟ فلم يكد يُلقي على سمعي هذه الطلقة النارية، التي لم يكن لي بأمثالها عهد، حتى زاغ بصري في ذهول مما أسمع، فسألته في تمتمة: «كيف ذلك، وهل يجوز …؟» فقاطعني بحدة الغاضب — التي لازمته طوال السنين كلما أحسَّ معارضة لا يرتضيها — قاطعني بحدة الغاضب قائلًا: «ما هذا الذي هو عندك لا يجوز؟ إن الله لو تحقق له الكمال منذ الأزل، لاكتفى بذاته واستقر وما خلق الخلق الذي خلق، فكماله إنما يكون في آخر الأبد لا في أول الأزل، في نهاية الشوط لا في بدايته …» فتولتني لحظة صمت، صافحته بعدها وخرجت من عنده أشد يأسًا مني حين دخلت، لكن يأس الدخول كان صادرًا عن سطحية وسذاجة، وأمَّا يأس الخروج فكان حافزًا إياي على صحو ويقظة. ولقد يعود الباحث الشاك آخر الأمر إلى الإيمان بما كان قد شكَّ فيه بادئ ذي بدء، لكنها عندئذٍ تكون عودة اليقِظ الواعي، وهذا هو نفسه ما حدث لإمامنا الغزالي، وهو كذلك ما حدث لديكارت، ثم هو ما حدث آخر الأمر للعقاد.
لقد كنت قبل ذلك اليوم أتابع العقَّاد كاتبًا، فأصبحت بعد ذلك اليوم ألاقيه إنسانًا. إنهم يقولون إن الأسلوب ينمُّ عن صاحبه، وإن هذا القول ليصدق على العقَّاد أكثر مما يصدق على أي كاتب آخر؛ فقد كانت طريقته في التفكير وفي الكتابة هي نفسها طريقته في الحياة، اللهم إلا جانبًا واحدًا رأيته يتمثل فيه إنسانًا ولا يتمثل فيه كاتبًا إلا بقدر ضئيل، وذلك هو جانب الفكاهة والمرح. اقرأ العقَّاد تجدْ في كتابته الصلابة والمتانة والجد، وهكذا كان العقَّاد إنسانًا؛ صلابة في الخلق، ومتانة في بناء الشخصية، وجدٌّ في تناول الأمور. اقرأه تجد أنفةً وشموخًا وارتفاعًا عن الصغائر، وكذلك كان العقَّاد إنسانًا؛ ترفَّع عن الرياء، فما رأيته مرة واحدة يتزلف إلى صاحب منصب أو جاه أو ثراء. إنه لا يمالئ قُرَّاءه، إنه يكتب لهم ما يحب هو أن يكتبه لا ما يحبون هم أن يقرءوا، إنه رجل إذا لم يكن له ما يريد أبى أن يريد ما يكون. هكذا كان العقَّاد الكاتب والعقَّاد الإنسان؛ عبارته تجيء مسبوكة اللفظ سبكًا لا يدَعُ فراغًا بين لفظة ولفظة؛ وذلك لأن شخصيته نفسها فيها صلابة الجرانيت الذي كان له — في صباه — مغدًى ومراحًا وهو في بلده أسوان.
إنني عندما انتقلت — في تلك السنين — من عالم المنفلوطي بنظراته وعبراته، وحافظ بليالي سطيحه وبؤسائه، وجبران بأجنحته المتكسرة؛ أقول عندما انتقلت عندئذٍ من ذلك العالم إلى عالم العقَّاد بمطالعاته، ومراجعاته، وساعاته بين الكتب، فقد انتقلت من ميوعة العواطف إلى صلابة العقل، من القلب الهش الرقيق إلى الرأس الصلب العنيد، فأحسست نضجًا فكريًّا ينمو معي ويزداد في خطوات سريعة، كلما قرأت للعقاد مقالًا أو قصيدة. وكنت — آنًا بعد آنٍ — كلما قرأت له شيئًا، أحاول لقاءه، كأنني أردت أن أطابق الصورة على أصلها، فإذا الأصل الحي والصورة المطبوعة على الورق شبيهان متطابقان. وما أزال أذكر هذا الخاطر يخطر لي عندئذٍ، وأنا أزوره بعد قراءتي لقصيدته العجيبة الفريدة في تاريخ الأدب العربي كلِّه، قصيدة «ترجمة شيطان»، أردت عندئذٍ أن أملأ البصر بصورة الرجل الذي كتب هذه القصيدة الطويلة يترجم فيها للشيطان فيوقفه موقف القدرة والعناد، لا كما فعل ملتون في فردوسه المفقود، ولا كما فعل أيُّ شاعر على طول التاريخ الأدبي من أوله إلى آخره. فها هنا زراية بالإنسان ليس بعدها زراية، وإعلاء وتمجيد للفن ليس وراءه إعلاء وتمجيد. ولماذا لا يزري بالإنسان وقد شنَّها على نفسه حربًا هوجاء في الحرب العالمية الأولى، التي ما كادت تبلغ خراب ختامها ويبابَه، حتى كتب العقَّاد هذه القصيدة كأنما هي لفحة من نار الحرب وغيمة من دخانها. وإنه لجدير هنا بالذكر أنه لم تمضِ بعد ذلك إلا سنوات قلائل حتى ظهرت في الإنجليزية أختٌ لها، تنتمي معها إلى أسرة من الشعر واحدة، وأعني بها قصيدة أليوت «الأرض اليباب».
في قصيدة العقَّاد يقول الخالق لمخلوقه الشيطاني إذ يطوح به من السماء إلى الأرض: اذهب وكُن محنة الأبرياء، فأضللْ من الناس من تشاء، وستكون الجحيم مأواك ومأواه. فهوى الشيطان على الأرض صفر الراحتين، خاوي الزاد، فأين يمضي ورحاب الأرض واسعة. إن رسالته هي أن يبذر للشر بذوره، وليست الحيرة هي: أين يجد التربة صالحة لبذر هذه البذور؟ كلا، فلا حيرةَ في ذلك؛ لأن الأرض صالحة لبذوره أينما ألقاها، وإنما الحيرة هي: أي أصقاع الأرض يبدأ بها سيرته؟ وما هو إلا أن سخِر الشيطان من نفسه ومن رسالته التي هبط الأرض من أجلها، لمَا رآه من تفاهة الإنسان وضآلته، وسرعان ما فكر له في مكيدة سهلة ألقاها فأصابت، وما مكيدته تلك إلا أن يُوهم الناس بشيء من صُنعِهِ، يُطلق عليه اسم «الحق» ثم يقذف به فيهم ويأوي إلى الراحة، فما حاجته الآن إلى سعيٍ ونشاط؟ إن هذا «الحق» الخلَّاب سيكفيه مئونة التضليل الذي جاء من أجله. وصدقت فراسته، فمن أجل «الحق» الموهوم دبَّت الخصومةُ بين الأصدقاء، وبات «الحق» سلاحًا لكل من أراد سلاحًا. أيريد الخبيث أن يسترَ خبثه عن الناس؟ إذن فليسمِّه حقًّا. أيريد الضعيف أن يلتمس المعاذير لضعفه؟ إذن فليقل إنه ابتغاء وجه «الحق» قد زهد في الكفاح. أيريد المعتدي أن يسوغ اعتداءه حتى يُنزل سيفه على رقاب الناس بردًا وسلامًا؟ إذن فمن أجل «الحق» ما سلَّ الحسام. نعم إنه هو هذا «الحق» الذي جهل حقيقتَه الجاهلون، وراحوا ينشدونه فضلُّوا، وهو نفسه «الحق» الذي ابتغاه الحكماء، فلما استعصى عليهم حسبوه سرًّا تعالى أن يبلغه البشر. لله ما أعجبه من فخٍّ شيطاني فظيع! فهذا عبدٌ مستذل، يُقال له إن إذلاله هو «حق» لسيده، وهذا سيد مفترٍ طاغية يدَّعي أن قوته هذه مستمدة كلها من «الحق» الذي يؤيده. فإذا أزلت عن عينيك الغشاوة لترى هذا «الحق» وجهًا لوجه وعينًا لعين، فماذا ترى سوى طعامٍ يلهث في سبيله البطن الجائع، ومأوًى يلوذ به الخائف، وذهبٍ يخطف الأنظار ببريقه، فلو شبع الجائع وأمِن الخائف ومات صاحب الذهب، لاختفى من الوجود شيءٌ يسمونه «الحق» وما هو إلا تلك المطامع الحيوانية الدنيا.
إلى مثل هذا الجو الفكري العنيف الصارم عند العقَّاد، في نثره وفي شعره، خرجنا من ليونة العواطف ومن خلاء اللفظ إلا من رنين زائف، وهكذا أخذتُ أقرأ للكاتب مرة وألتقي بالإنسان مرة، وفي كل مرة كنتُ أجد الإنسان في أحاديثه هو نفسه الكاتب الناثر والشاعر الناظم، قوةً وصلابةً وعمقًا وارتفاعًا.
وسافرتُ إلى إنجلترا للدراسة إبَّان الحرب العالمية الثانية، فانقطعتُ عن العقَّاد بضع سنين، حتى حدث لي وأنا هناك أن طلبَتْ مني جامعة لندن أن أشارك في برنامج أعدَّته تحت عنوان «العالم العربي اليوم» — كان ذلك سنة ١٩٤٦م — وأرادت بهذا البرنامج أن تقدِّم صورة وافية عن العالم العربي لمن شاء أن يعلم العلم من مصادره. واختير لي موضوع الأدب العربي المعاصر كما يتمثل في رجل أختاره. فاخترتُ «العقَّاد الشاعر» لأنني رأيت في شعره خلاصةً للثورة العربية بشتى معانيها؛ ففيه ثورة فنية كبرى كما أن فيه ثورة فكرية جارفة. وقد حرصت على أن أقدم للسامعين ترجمة شعرية لمختارات من شعر العقَّاد، وفي مقدمة المختارات جزء من قصيدته الكبرى «ترجمة شيطان». وأحمد الله أن شقَّ هذا الشعر العربي المترجم طريقَه — بغير جلبة ولا عناء — إلى المجلات الأدبية في إنجلترا أولًا ثم في أمريكا، فكان شاهدًا لي ولمن شاء أن يشهد أننا مع العقَّاد بإزاء شاعر عظيم، يحتفظ بقيمته في الترجمة أمام أعين النقَّاد.
وسمع العقَّاد بالمحاضرة وبالترجمة، فما كدتُ أعود إلى مصر عام ١٩٤٧ حتى التقينا بدعوة من صديقه وصديقي المرحوم الدكتور شفيق العاصي — وكان عميدًا للدراسة الفلسفية في وزارة التربية والتعليم — التقينا في سهرة طويلة امتدت من ساعة الغروب إلى ما بعد منتصف الليل، وكانت تلك الجلسة فاصلًا بين عهدين في علاقتي بالعقَّاد؛ فقد كنت قبلها أتبع وأسمع، وأصبحت بعدها أصاحب وأعارض في وُدِّ الصديقين، ذلك أن اختلافات بعيدة المدى أخذت تُباعد بين رأيي ورأيه في كثير من مواضع الرأي. ففي تلك الأمسية الأولى دار الحديث من أول الجلسة إلى آخرها حول رأيه في الفلسفة التأملية ورأيي؛ لأنني كنت قد رسوت بمراكبي في خضمِّ الفلسفة على شاطئ ارتضيتُه مطمئنًّا وما أزال أرتضيه، وهو رأيٌ مؤدَّاه أن نرفض — من الوجهة العلمية العقلية — كلَّ عبارة تردُ في ألفاظها لا تُشير إلى مسمى في عالم الحس والتجربة. وإنه لمن حق الأدب والفن أن يحتضن أمثال هذه العبارة، وأمَّا العلم والعقل فلا شأن لهما بها. وأمَّا العقَّاد فقد كان بدَوره قد استقر إلى آخر يوم في حياته على رأي آخر، هو رأي الفلاسفة العقلانيين الذين يقبلون المفاهيم الذهنية حتى ولو لم يقابلها في عالم التجربة الحسية مسمى قريب إلى عين الإنسان ويده. جادلني جدالًا عنيفًا وجادلتُه، واستشهد بكل ما يستشهد به العقلانيون من حجج يستمدونها من التفكير الرياضي الذي يصدق في الأذهان بغير ما شاهد من تجربة الحواس، ورددتُ عليه بكل ما يردُّ به التجريبيون العلميون، الذين أصبحتُ منذ ذلك العهد واحدًا منهم، وانتهت الجلسة — كما تنتهي عادة جلسات المحاورات الفكرية — فلا أقنعني ولا أقنعته، لكننا ارتبطنا منذ تلك اللحظة بصداقة فكرية وثيقة العُرى.
ومضت بعد ذلك ثلاثة أشهر، فأخرجت كتابي «جنة العبيط»، وفيه مجموعة من مقالات أدبية، أراد لي الغرور العابث وقتئذٍ أن أزعم لها في مقدمة الكتاب أن هذا وحده — دون سواه — هو نموذج المقالة الأدبية، التي ليست بحثًا ولا تحليلًا ولا حجاجًا فيه هجوم أو دفاع، إنما هي مقالات أدبية بالمعنى الذي أراده أرباب هذا الطراز الأدبي، من أمثال مونتيني، وأديسون، وستيل. وأمَّا ما تجري به أقلام كتَّابنا — هكذا زعمت عندئذٍ — فهو أقرب إلى فصول تُكتب في مؤلفات ذوات موضوعات قد والأدب شيء آخر؛ لأن الكتابة إمَّا معبرة عن حالة نفسية، وإمَّا هي أي شيء تريده لها إلا أن تكون أدبًا. فكتب العقَّاد مقالة في مجلة الرسالة بعنوان «جهنم الحصيف»، يردُّ بها — أولًا — على هذا التعنت الذي لا تبرره شواهد التاريخ الأدبي، ويُشيد — ثانيًا — بالطابع الأدبي الذي وجده في كتابي، غير أنه اقترح أن يكون عنوانه «جهنم الحصيف» بدلًا من «جنة العبيط»، والمعنى المقصود واحد في الحالتين؛ لأنني تصورت الراضي عن حياتنا عندئذٍ عبيطًا يعيش في جنة موهومة، وأراد العقَّاد أن نتصور تلك الحياة جهنمًا للحصيف.
ومضت بعد ذلك سنتان أو ثلاث، وصدَر لي كتاب المنطق الوضعي، الذي أردت له أن يضع الأساس للمذهب الفلسفي الذي أخذتُ به، فلم يفوت العقَّاد هذه الفرصة، ليردَّ فيها على اتجاه فكري يعارضه، ونشر مقالًا يشيد فيه بالكتاب، من حيث هو، إشادةً ربما أسرف فيها فضلًا منه، لكنه عقَّب عليها بهجمة عنيفة ضد المذهب المعروض؛ لأنه مذهب يناقض وقفته الفلسفية مناقضة تامة؛ إذ العقَّاد عندئذٍ كان قد استقر قراره على ما يسمونه في الفلسفة بالمذهب العقلاني، الذي يريد أن يركن في بناء العلم على بداهة العقل، على حين أننا بمذهبنا نريد أن نردَّ العقل نفسه إلى شواهد الحس، فما يُحسُّ قبلناه في مجال العلوم، وما لا يُحسُّ أحلْناه على مجال آخر من المجالات الكثيرة التي يعتمد فيها الإنسان على وجدانه.
ولستُ أدري اليوم لماذا آثرتُ يومئذٍ ألا أردَّ عليه في الصحف، مقالة بمقالة، وفضلت أن يجريَ النقاش في جلسة خاصة بيني وبينه في منزله. ولم يَطُل نقاشنا هذه المرة؛ لأننا وجدنا أننا نبدي ونعيد ما سبق لنا أن تبادلناه في أمسية اللقاء الأولى، وظل على رأيه، وظللت.
وحدث سنة ١٩٥٦ أن أُنشئ المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب — ثم أُضيفت إليها بعد حين العلوم الاجتماعية — وعُيِّن العقَّاد عضوًا فيه، وجُعل مقررًا للجنة الشعر، التي كنتُ أحدَ أعضائها، ومنذ ذلك التاريخ اطَّرد لقاؤنا يوم الثلاثاء من كل أسبوع تقريبًا، وفي هذه اللقاءات الأسبوعية المتكررة عرفت العقَّاد الإنسانَ على حقيقته؛ فقد كان لقاؤنا قبل ذلك دائمًا على فكرة تناقش، وأمَّا الآن فقد أصبح اللقاء قطعة من الطبيعة الحية، فيها الجد وفيها المزاح، فيها القوة وفيها الضعف، فيها القسوة وفيها العطف، واختصارًا فقد رأيت الرجل رؤية تشهد منه السطح كما تشهد الأعماق.
رأيت العقَّاد الذي يذهلك بحضور بديهته وبشدة حافظته، فكأنما هو موسوعة منشورة بين يديه. نعم إن كل قارئ له ليدرك فيه هذا الأفق الواسع الملم الشامل، لكنَّ قرَّاءه قد يحسبون أنه حين يتنوع هكذا في معارفه فإنما يرجع في ذلك إلى المراجع الكثيرة في مكتبته الضخمة، ولا يعلمون أن له من الحافظة الأمينة المتأهبة ما يمدُّه بما شاء من معرفة في أي وقت شاء. ولو صدق هذا في شتى صنوف العلم مرة، فهو صادق ألف ألف مرة إذا ما كان الموضوع المُثار خاصًّا باللغة العربية وآدابها، فما هي اللفظة الواحدة التي لا يردُّها إلى أصولها، ولا يشقق لك مشتقَّاتها، ولا يضبط لك رسمها، ولا يعطيك ظلال معانيها عفو ساعته؟ وما هو بيت الشعر الواحد الذي تطلب نسبته الصحيحة ولا ينسبه لك على إثر سؤالك؟ أين هو الموقف الواحد الذي يعرض لنا، ونريد أن نعرف فيه هل الأمر الفلاني يجوز في اللغة أو لا يجوز، دون أن يكون للعقاد فيه الرأي الحاسم السريع؟
لقد كانت اللجنة تُجري مسابقات في الشعر كثيرة، وتُقيم له المهرجانات كلَّ عام، فكان لا بد لنا أن نراجع القصائد المقدمة لنختار أفضلها، وكثيرًا ما كانت هذه القراءة تتم أمام اللجنة مجتمعة، حتى نتبادل الرأي في حينه، فماذا أقول في يقظة السمع ودقة التتبع عند هذا الرجل العجيب؟ فلم يسأم مرة واحدة، حتى ولو كان الشعر المقروء مما يبعث على السأم؛ لأنه كان جادًّا صارمًا في كل عمل يتولاه، فإذا كان ها هنا ليقضي بين المتنافسين، فلتكن له يقظة القاضي النزيه. وكم ألف لفتة ذوقية أفدتها من الاستماع إلى تعليقاته على الشعر المعروض؛ لأنه لم يكن ليرضى لنا أن نرفض قصيدة إلا إذا قلنا لماذا نرفض؟ وفي إبداء الأسباب يتبين الناقد الذواقة الأصيل؛ إذ ما أهون على العابث أن يقول هذا حسن، أو هذا رديء، عاجزًا عن بيان العلة في حسن الحسن ورداءة الرديء. لكن العقَّاد يقبل ويرفض ثم يُبدي الأسباب، وليس من الناس من لا يعرف موقفه الصامد العنيد في لجنة الشعر من الشعر الحديث. وإني لأذكر كيف أُثير الموضوع في اللجنة بعد تكوينها بقليل، وذلك حين أرادت اللجنة أن تراجع ما قد نُشر من الشعر في الصحف، وأُذيع في الإذاعة في مناسبة العدوان على بورسعيد؛ لكي تكافئَ وتنوِّهَ بالمجيدين من الشعراء، فأخذنا نجمع الشعر المنشور كلَّه، وقسمنا أنفسنا أربع لجان فرعية ثنائية الأعضاء، لتدور الحصيلة المجموعة كلُّها على تلك اللجان، فتنظر فيها كلُّ لجنة مستقلة عن سائر أخواتها؛ فإذا اجتمع الرأي على حكم واحد، فبها، وإلا فاللجنة بكل أعضائها تنظر في مواضع الخلاف. والحق أني قد أفدت من هذا الموقف ومن أشباهه الكثيرة بعد ذلك فائدة عظمى تمسُّ نظرية تقدير الجمال الفني في الصميم؛ إذ كثيرًا ما يرد على الخاطر سؤال: هو: إذا كان الأمر أمرَ ذوق فردي صرف، فهل نأمل في اجتماع الناس على رأي واحد في موضوعات الفنون؟ فجاءت هذه التجارب العملية — بالنسبة إليَّ — حجة قاطعة على إمكان الاتفاق على الجيد وعلى الرديء في معظم الحالات، وأعود إلى تلك اللجان الثنائية التي ذكرتها، فأقول إنني أنا وزميلي الأستاذ علي أحمد باكثير، قد انتهينا إلى ترتيب تنازلي للقصائد، فجعلنا الأولى قصيدة من الشعر الحديث — لا أحسبني الآن حرًّا في إعلان اسم صاحبها — فلما جاءت ساعة مقارنة أحكام اللجان الفرعية بعضها مع بعض، وجدنا عجبًا؛ إذ وجدنا أن ترتيب الأسماء في قوائم اللجان كلها متطابق، إلا استثناءً واحدًا، هو الاسم الذي وضعناه نحن في رأس قائمتنا، ولو حُذف كانت كل قائمة ككل قائمة أخرى بغير اختلاف، لكن هذا الاختلاف العجيب في الرأي الذوقي، سرعان ما زالت عنَّا دهشتُه، ليدور النقاش حول أمر آخر أهم وأخطر، وهو: هل يقبل الشعر إذا تخلى الشاعر عن تقاليد هذا الفن الأدبي الموروثة على السنين، من وزن وقافية؟ ها هنا امتدَّ بنا النقاش ساعاتٍ طوالًا، وموقف العقَّاد من رفض هذا الشعر السائب صلبٌ لا يلين، وحجته أنه إذا كان لكل لعبة قواعدها التي لا تجوز بغيرها، أفلا يكون للفن قواعده؟ ثم ما عيب النثر الفني إذا ما ألحق هؤلاء الناثرون أنفسَهم به؟ وآخر ما وصلتْ إليه مناقشاتُنا من نتائج فيها التحوط والتسامح، هو أن نقرر أن معيار القبول والرفض إنما يكون الجودة وعدم الجودة الفنية دون أن نشترط شيئًا أكثر من ذلك، وقَبِل العقَّاد ذلك، لكنه ظل قرارًا لا يجد الحالة الواحدة التي نطبقه عليها، فكلما وردت إلى اللجنة قصيدة من الشعر الحديث، قررت اللجنة أن تُحال إلى لجنة النثر لعدم اختصاصها هي بالنظر فيها. ولقد اشتدت الحملات الصحفية على العقَّاد في موقفه هذا — ومن ورائه لجنة الشعر — لكنه لم يكن هو الرجل الذي يعبأ بمثل تلك الحملات القلمية؛ لأنه تعوَّدها حتى أصبحت جزءًا من حياته التي لم يكن يعيش بغيرها، ولقد بلغ من موقفه هذا في صدِّ موجة الشعر السائب — هكذا كان يسميه — ذروة التطرف، حين عُرضت على لجنة تحكيم شُكِّلت ذات عام للنظر فيمن يستحق نَيل جائزة الدولة في الشعر، كان هو مقررها وكنت أحدَ أعضائها، فنشأت مشكلة، هي أن ديوانًا تقدَّم بين غيره من دواوين، والديوان من الشعر الموزون المقفَّى، لكن صاحبه قدَّم للديوان بمقدمة يقول فيها إنه لم يعد ينظم على نهج التقليد، وأنه أول من لا يرضى عن قصائد هذا الديوان، ولو قال الشعر الآن لما قاله إلا في الصورة المستحدثة الحرة. وقد كان مستوى الشعر في ذلك الديوان مما قد يُرشحه للجائزة، لكن العقَّاد وقف كالسد المنيع، يقول إن النظر يكون إلى مقدمة الديوان وإلى شعره معًا، معارضًا لمن قال إن المسابقة هنا منصبة على الشعر وحده، وعبثًا حاول القائل أن يحمل اللجنة على الفصل بين نثر المقدمة وشعر القصائد، لأن العقَّاد لم يقبل أن تُجزَّأ الشخصية الواحدة هذه التجزئة المصطنعة، فالرجل شيء واحد، يُقبل كله ويُترك كله، ولا مساومة.
وأشدُّ صلابةً من موقفه تجاه الشعر الحديث، موقفه من الفن الحديث، فقد شرفتُ بزمالته كذلك في لجنة أُقيمت لتفرغ من رأته جديرًا بالتفرغ من أدباء وفنانين، حتى يُخلى بين هؤلاء المتفرغين وممارسة أدبهم أو فنِّهم، وإن الدولة لتُجزل العطاء لهم — بناءً على توصية لجنة التفرغ هذه — حتى لا يشغلهم من شواغل الحياة المادية شاغل، وقد شاءت المصادفة أن يكون كل رجال الفن، الذين طلبوا منحة التفرغ، من الآخذين باتجاهات الفن الحديث، ثم شاءت المصادفة أيضًا أن تكون الأغلبية الغالبة من أعضاء اللجنة المناصرين لتلك الاتجاهات، وها هنا كذلك وقف العقَّاد وقفات من حديد، لكنها لم تجدْ في هذا الميدان جدواها في ميدان الشعر؛ لأن الأعضاء في لجنة الشعر هم ممن يُصرون على الشعر التقليدي، وأمَّا الأعضاء في لجنة التفرغ فمن أنصار الفن الحديث. ومن طريف ما حدث ونحن مجتمعون لتجديد منحة التفرغ لمثَّالٍ، وقد أخذنا نستعرض ما أنتجه ذلك المثَّال خلال عام المنحة الماضية — وهو في الحق مثَّال موهوب — فكانت القطع المنحوتة كلها قد نُحتت وفق مدارس الفن الحديثة التي تُعنى بالكتلة لا بالتفاصيل، ومن بين القطع المعروضة تمثال لقطٍّ، جاء على صورة أسطوانة طويلة هي البدن، وكرة عند أحد طرفَيها هي الرأس، والأرجل وذيل على صورة الأسطوانة كذلك، لكن هذا النحت الكتلي قد أخرج قطعة فنية ممتازة، فشنَّ العقَّاد حملة أقوى ما تكون الحملة المسلحة بالحجج، وكان مما قاله ساخرًا: هاتوا فأرًا أمام هذا التمثال، فإن جرى هاربًا على ظنٍّ منه أنه أمام قط، وافقت على تفرغ الفنان. وأمَّا عن المصورين الذين أرادوا تجديدًا لمنحة التفرغ وكلهم ذوو فنٍّ حديث، فقد راح يعارض ويمانع بألذع ما يستطيعه من تهكُّم، فيقول: إن في مستطاعي أن أرسم مثل هذه اللوحات، ففيم يكون هؤلاء الناس من رجال الفن؟ لا بل راح يعيد القصة المعروفة من أن عدوًّا للفن الحديث، قد ملأ ذيل حمار بالألوان وأطلق الحمار ليخطوَ كما اتفق فيحرك ذيله على اللوحة، فيلونها بخليط من اللون كما يفعل رجال الفن التجريدي، ثم بلغت بالرجل روح الفكاهة أن يعرض تلك الصورة في معرض الفن الحديث. لا، لم يألُ العقَّاد جهدًا في مقاومة هذه الموجات، وكان مما يحتجُّ به دائمًا أنه في هذه اللجان يشعر أنه يمثِّل الدولة، فلو كان الفنان ينفق على نفسه لتركناه حُرًّا، لكن هل يجوز أن تنفق الدولة على فنٍّ لم يقُل فيه التاريخ كلمته بعدُ؟ ألا يجوز أن يختفيَ بعد حين — وسيختفي حتمًا كما كان يقول — وإذن تكون الدولة قد أنفقت مالها وتشجيعها على نزوات؟
ولا بد لي في هذا الموضع من سياق الحديث أن أقول إنني — كما خالفت العقَّاد في المذهب الفلسفي — قد خالفته كذلك في وقفته من الشعر الحديث، ومن الفن الحديث معًا؛ لأنه تطرَّف في رفضهما، على حين أني لا أرفضهما على إطلاق ولا أقبلهما على إطلاق، وكنت من القليلين الذين يحاجونه؛ لأن العقَّاد لم يكن يصبر طويلًا على المحاجة، لكني كنت أشعر أنه — رحمه الله — يُطيل الصبر معي ليقينه في صدق طويتي وسلامة مقصدي؛ لأنه حين كان يضيق بالمحاجة فما ذاك إلا لإحساسه بأن في الموقف شيئًا من سوء القصد أو من عدم التكافؤ؛ إذ المناقش عادةً أحد اثنين، فهو إمَّا جامعي يفاخره بجامعيته، أو شاب يريد الصعود على كتفَيه. ولطالما أكرمني بعبارات الإهداء كلما أهدى إليَّ كتابًا من كتبه؛ من ذلك ما خاطبني به في تقديم كتابه «ديوان من دواوين»، وهو قوله: إلى فيلسوف الأدباء، وأديب الفلاسفة.
وأرادت الإذاعة ذات يوم أن تسجِّل ندوة أدبية تقوم في داره، بحيث تتكون منها لدى السامعين صورة عن منزل العقَّاد، وصورة عن حياته اليومية، وعن أدبه وفكره، وطلب إليه أن يختار من يناقشهم ويناقشونه، فاختارني بين من اختار، وكانت خطة الإذاعة المدبرة، هي أن يسأل كلٌّ منَّا العقَّاد سؤالًا أو سؤالين عن جانب من جوانب إنتاجه، كما يوجه الحاضرون أسئلة لنا نحن عن العقَّاد فنجيب، وبعد أن طُفنا مع العقَّاد في غرفات داره غرفة غرفة ننقل عنها صورة سمعية بما نديره حولها من حوار، ولا حاجة بي هنا إلى القول بأنها دارٌ متواضعة في مصر الجديدة، تتألف من شقتين متقابلتين، إحداهما خُصصت للكتب، فلا زخرفَ في أثاث ولا طنافس ولا رياش، بل كلُّها قطعٌ غاية في البساطة. أقول إننا بعد أن طُفنا في غرفات داره، ثم تحلقْنا حول آلة التسجيل في غرفة الجلوس، سألني أحدُ الحاضرين سؤالًا عن شعر العقَّاد: أليس هو أميل إلى الفلسفة كشعر أبي العلاء؟ وسألت العقَّاد سؤالًا عن أدبه: لماذا — إذا استثنينا شعره وقصة سارة — لماذا جاء كله خلوًا من الطابع الذاتي مع أن هذا الطابع الذاتي قد يكون عند كثيرين هو علامة الأدب؟ فأجابني بأنه لو كان أدبه خلوًا من النظرة الذاتية والتعبير الشخصي كما أقول، لكان مثل معادلات الرياضة لا تُثير الخصومات، لكنه ما كتب شيئًا إلا وهبَّ الخصوم يهاجمونه، ولا يكون ذلك إلا لأنه ذاتي فردي شخصي، يتمثل العقَّاد فيه. وأمَّا السؤال الذي وجَّهه إليَّ أحدُ الحاضرين عن شعر العقَّاد أفلسفة هو أم شعر؟ فقد أجبته شارحًا له الفرق بين الفلسفة والشعر، مبيِّنًا شاعرية العقَّاد في شعره أين تكون. وأذكر أن المستشرق المجري عبد الكريم جرمانوس كان حاضرًا في الندوة، وورد ذكرُ ابن الرومي، وكيف أنه كان شؤمًا على نفسه وشؤمًا على كل من اشتغل به، ومنهم الدكتور جرمانوس نفسه، وكذلك كان منهم العقَّاد لأنه — فيما أظن — سُجن عقب فراغه من كتابه عن ابن الرومي، لكن العقَّاد يتحدى خرافة التشاؤم، فهو يسكن منزلًا رقمه ١٣، وإذا كان ذلك من فعل المصادفة، فقد تعمَّد أن يضع على مكتبه تمثال بومة ليتحدَّى بها القدر.
الحق أن العقَّاد في بساطة أفعاله وفي سرعة انفعاله، كان — كما قال هو نفسه عن ابن الرومي — في طفولة خالدة؛ فلقد كان جياشَ الإحساس في شبابه وفي هَرمه على السواء، يحب الحياة إلى درجة تدنو من العبادة، فإذا كان من الناس من يحب الحياة كأنه مسوق إلى حبِّها بدفعة الغريزة وحدها، أو كان منهم من يحبُّها كأنه مأجور على ذلك يفعله وهو ناقم، فقد كان العقَّاد يحب حياته كما يحب العاشق معشوقته، لا يفرق في حبِّه لها بين حالات رضاها أو سخطها، إقبالها أو إدبارها؛ ولذلك فقد كان حريصًا أشدَّ الحرص على العناية بها حتى لا يؤذيَها بلفحة هواء أو شهوة طعام أو شراب، أليست الحياة ذخرًا وحارس الذخر في خطر؟ — كما يقول في إحدى قصائده — فكان يُدثِّر نفسه في الشتاء، لا يرفع تلفيعة الصوف عن عنقه، ولا يخلع الغطاء عن رأسه إلا نادرًا؛ فطاقية في داره وطربوش خارج الدار، ويلبس الصدار حتى في قيظ الصيف، ويكاد لا يأكل لقمة طعام أو يشرب جرعة شراب خارج منزله.
كان آخرَ ما رأيته منه — رحمه الله — اجتماعٌ للجنة المشرفة على سلسلة تراث الإنسانية، وكنَّا عضوَين بها؛ فقد كانت آخر جلساتها في أواخر يناير الماضي (١٩٦٤م)، وعندئذٍ فقط علِم مني أنني ذاهب إلى بيروت لأقضيَ بجامعتها العربية حينًا، وقبيل سفري بساعات قلائل — وكان ذلك في أول فبراير ١٩٦٤م — حدثني بالتليفون ليطلب مني أن أبعث إليه من بيروت بكتاب الغزالي «تهافت الفلاسفة»، وكتاب ابن رشد — إن وجدته — «تهافت التهافت»؛ لأنه يبحث عنهما في مكتبته فلا يجدهما، وهو مشتغل بإعداد كتاب عن الإمام الغزالي، ولعله هو الكتاب الذي كان بين يديه حين وافاه الأجل.
لئن كانت الدولة قد كرَّمت مفكرها وأديبها العقَّاد مرتين بمنحه الجائزة الكبرى للآداب والفنون، ثم لئن كرمناه نحن تلاميذَه وأصدقاءه عند بلوغه السبعين بكتاب تذكاري شاركنا جميعًا في إخراجه، فإنني لعلى يقين من أن تكريمه سيزيد بزيادة قُرَّائه على مر السنين؛ لأنه قد دخل بأدبه وفكره سجل الخالدين.