الشعراء الشبان في الجيل الماضي
١
قابس النار من السماء — برومثيوس — تحكي عنه الأسطورة أنه قد عزَّ عليه أن يرى الآلهة في فيض من الضياء، وأن تظل الأرض في ديجور من حالك الظلام، ويظل الإنسان على سطحها المطمور يخبط خبط الأعمى، ليس أمامه نبراس يهديه، فهبط إليه برومثيوس بقبس النار من السماء، اختلسه من الآلهة اختلاسًا، فانقضت عليه جوارح الطير، تنهش كبده نهشًا، لكن برومثيوس — في سبيل رسالته — لا يبالي ما أصابه من عذاب، فحسبه أن قد هدى الإنسان بعد تعثُّر وضلال.
وما شعراؤنا الشبان في الجيل الماضي إلا كهذا القابس للنار من سمائها؛ إذ كانوا — مثله — أصحاب رسالة يريدون بها أن يُخرجوا القوم إلى نور من بعد ظلمة، عشاهم بها القدر الظلوم، واحتملوا في سبيل رسالتهم تلك كلَّ ما تعانيه النفس الحساسة المعذبة من آلام.
نعم كان شعراؤنا في الجيل الماضي أصحاب رسالة فيها من النبوة نفحة، وما كل شاعر صاحب رسالة مستقبلية بهذا المعنى، فمن الشعراء — بل من أعظم الشعراء — من يكشفون بشعرهم عن حقيقة النفس البشرية كما هي قائمة، ولا يجعلون من همِّهم أن يكونوا للناس رسلًا منذرين أو مبشرين، فتراهم يغوصون في أعماق هذه النفس البشرية ليُخرجوا كوامنها من الأغوار إلى وضَح النهار، وبذلك يفتحون أعيننا — مثلًا — على السر في غيرة الغيران، وفي لوعة الملهوف، وفي طيبة الطيب، وفي خبث الخبيث، فكأنما أمثال هؤلاء الشعراء ينشدون الحقيقة — حقيقة النفس — عن طريق الجمال.
لكن هنالك من الشعراء — ومن أعظم الشعراء أيضًا — من لا يكفيهم أن يكشفوا عن السر غطاءه، فيضطلعون بعبء النذير أو البشير؛ لذلك تراهم يثورون علانية على حاضرهم الكريه، ويستنهضون الهمم إلى المستقبل المأمول، وأمثال هؤلاء الشعراء من أصحاب الرسالات الهادية، هم الذين نُشبههم بقابس النار من السماء ليهدي بها الناس ها هنا على الأرض، وعندئذٍ يكون الشعر كما وصفه العقَّاد حين قال:
ومن الشعراء الذين هم أصحاب رسالات، شعراؤنا الشبان في الجيل الماضي، الشابي في تونس، والتيجاني في السودان، والهمشري في مصر، وإنما اخترناهم من بين شعراء الجيل الماضي، نماذج للإحساس الحاد الملتهب، الذي يتأثر بما حوله فيتألم بائسًا يائسًا، ثم يرنو ببصره إلى السماء فيرجو الخير مستبشرًا متفائلًا، ويظل هكذا بين يأسه ورجائه، عازفًا على قيثارة الشعر ألحانًا، فيها مرارة الحياة الثائرة، وكأنما القيثارة من دم ولحم، وكأنما اللحن من نار، فماذا نتوقع إلا أن تحترق الآلة وشيكًا بلحنها، وهذا هو ما كان، أمَّا أبو القاسم الشابي «من تونس»، فقد ولد سنة ١٩٠٦، ومات سنة ١٩٣٤، مات عليلًا عن خمسة وعشرين عامًا، وأمَّا التيجاني يوسف بشير «من السودان»، فقد وُلد سنة ١٩١٣، ومات سنة ١٩٣٧، مات كزميله الشابي عليلًا عن خمسة وعشرين عامًا، وأمَّا محمد عبد المعطي الهمشري «من مصر» فقد وُلد سنة ١٩٠٨، ومات سنة ١٩٣٨، مات إثر مرض — كزميلَيه الشابي والتيجاني — ولم يكن قد جاوز الثلاثين، وهكذا ترى الثلاثة الإخوة جميعًا، يلتقون في عصر واحد، ويحيط بهم من الأمة العربية — المثقلة عندئذٍ بقيودها — حاضر واحد، ويحترقون معًا عزفًا على قيثارهم، وكلهم لم يزل بعدُ في سن الشباب الباكر.
كان الشعر عند هؤلاء جميعًا رسالة تتلقَّى من السماء وحيَها، وتنشر أمام الناس نورها، فانظر إلى الشابي في قصيدة «النبي المجهول» — وهو بهذا العنوان يصف نفسه — انظر إليه في هذه القصيدة كيف ينفعل بالدعوة الحارة يوجهها إلى قومه، ثم ييأس ويلوذ بحضن الطبيعة، ثم يعود مرة أخرى فينفعل بالدعوة الحارة يوجهها إلى قومه، وييأس ويلوذ بحضن الطبيعة مرة ثانية، وهكذا، فكأنه هنري ديفز ثورو يضيق بأحوال أمته، فيعيش في الغابة مستأنسًا بالوحش والطير. يقول الشابي في قصيدة النبي المجهول، وفي نفسه ثورة جامحة على أوضاع أمته:
هكذا عبَّر الشاعر بالمقطوعة الأولى من قصيدته عن ضيقه بشعبه الذي آل أمرُه إلى ما آل إليه من بؤس، حتى إذا ما ضمخ له الشاعر أكوابه وأترعها بخمرة نفسه، ثم قدَّمها إليه، أهرق الشعب ما في الكأس من رحيق، وداس عليها، فتألَّم الشاعر، ثم كفكف من شعوره، وعاد فنضد من أزاهير قلبه باقة مقدسة مطهرة، وقدَّمها إليه، لكن الشعب مرة أخرى مزَّق له ورودَه، وألبس الشاعر ثوب الحزن، وتوج رأسه بشوك الجبال، فماذا يفعل الشاعر إزاء هؤلاء الناس الذين أُصيبوا ببلادة الحس، سوى أن يلوذ بالطبيعة التي تفهمه ويفهمها؟
وهنا ينتقل الشاعر إلى المقطوعة الثانية من قصيدته، فيقول مستجيرًا من الناس بصدر الطبيعة:
لكن سرعان ما يعود إلى الشاعر رجاؤه في أمته، فهي إن تبلَّد حسُّها وتخلَّف ركبُها، فلم يكن لها في ذلك حيلة؛ لأنها — وإن تكن قوة جبارة — إلا أنها لم تجد من يأخذ بيدها إلى طريق الحياة:
لكن وا حسرتاه للشاعر، يردُّه الناس ويصمُّون عنه الآذان، بل يقولون إنه قد أُصيب بمسٍّ من جنون، فلطالما خاطب العواصف في الليل، ورافق الظلام إلى الغاب، وناجى الأموات ونادى الأرواح، ولطالما حدَّث الشياطين في الوادي، وغنَّى مع الرياح، ألا إنه لساحر، فابعدوه عن الهيكل، ولا تصيخوا إليه، فهو روح شريرة، كلها رجس ودنس.
وهنا ينتقل الشاعر إلى مقطوعة أخيرة من القصيدة، فيلوذ مرة أخيرة بالطبيعة؛ إذ لم يعُد يأمل أن يسمع له صوت في أمته:
هكذا وقف الشابي من قومه وقفة النبوة التي تشد أبصار الناس إلى أعلى عليين، حيث القيَم السامية الخالدة، لا يجعل من همِّه أن يستثير في الناس رغبات أبدانهم الشهوانية الجائعة، بل يودُّ لو طاروا معه بأجنحة الروح إلى مسالك النجوم.
ونترك الشابي لحظة لننصت إلى أخيه التيجاني، وهو يحس الضيق لما يكتنف عشيرته من ظلمة الليل الجهول، ويعمل على إيقاظها في قصيدته «اليقظة»، وسترى أن الشاعر السوداني لا يعطيك نفحات الطبيعة الطلقة المكشوفة الشفافة ذات العبير والنغم، كما هي الحال مع الشابي حين يفرُّ إلى الطبيعة ليأويَ إليها، بل يعطيك لونًا قاتمًا فيه كثافة الانطواء الحزين وعزلة المتصوفة الزاهدين، فانظر كيف يصف الظلام الذي يرجو الناس منه الخلاص:
أرأيت — إذن — أي هوَّة سحيقة رهيبة مخيفة يرى الشاعر من حوله، فلا حركة، ولا صوت، ولا نور، ولا يقظة، ولا حياة؟ فمعالم الوجود كلُّها قد طُمس بعضها في بعض، ولم يعُد فرق هناك بين جمال وقبح، وحركة وسكون، وحياة وموت، هذا هو العدم البشع المخيف الذي أحسَّه الشاعر من حوله، لكنه لم يُرد أن يختم القصيدة بغير إشراقة من الأمل يطرد بها هذا الظلام الشامل، فقال إن تلك الحالة قد لبثت:
فمن ذا الذي يا ترى قد أفاض الضياء، وأزال البدع، ومهَّد طريق السير إلى مراقي السماء؟ إنه الوحي يوحي به إلى الشعراء، الذين هم في رأي الشاعر من زمرة الأنبياء، أصحاب الرسالات السامية الهادية، يدركونها بقلوبهم، وينشرونها في الناس شعرًا، فاسمع ما يقوله التيجاني في قصيدة عنوانها «قلب الفيلسوف»، وهو يستخدم كلمة الفيلسوف ليعني بها الشاعر، ثم ليعني بها نفسه، فهو يقول عن رسول الحقيقة:
ثم يختم القصيدة بقوله:
ذلكما هما الشاعران: الشابي، والتيجاني. كلاهما يجعل من شعره رسالة علوية تقشع ظلمة الجهالة والرق بنور العلم والحرية. وأمَّا الهمشري فهو كذلك يجعل من شعره رسالة، لكنه يكاد يقصر رسالته هذه على الدعوة إلى حياة الريف بعد أن يصلح، بدل حياة المدينة الصخبة؛ فالريف — كما يقول — فيه الحياة كما براها الله سبحانه وصوَّرها، فيه الجمال الحق، والحب الطاهر، والإيمان الصادق، والقناعة الراضية.
ليس الهمشري كزميله مشبوب العاطفة متأجج الوجدان، ينظم شعره وكأنما هو ينظمه ومن حوله السعير يلفحه. كلا، بل هو هادئ العاطفة، ينظم وزمام وعيه في قبضته، فكأنه تعلم من وردزورث أن تجيء القصيدة من الذكرى المتخلفة بعد الانفعال، لا من الانفعال نفسه وهو مهتاج مشتعل؛ ولذلك تقرأ قصائد الهمشري في الريف، فتلمس الصدق — من فورك — في بساطة الجو الذي يشيعه فيها، حتى ليسهل اقتناعك بما يقول، فلو كان الشابي والتيجاني يطيران ليقبسَا نور الهداية من السماء، فالهمشري يمدُّ ذراعه على الأرض إلى جواره ليجد الهداية؛ فقد كان يكفيه أداء لرسالته أن يصور جمال الريف في كل أوضاعه، فهذه هي القرية عند «طلوع الفجر»:
وهذه هي القرية ساعة القيلولة في ظلال النخيل:
وهذه هي القرية في «مسارح الشفق» ساعة الغروب، ثم هذه هي القرية في المساء:
هذه هي القرية في الربيع، ثم القرية في سائر الفصول، وهذا هو الفراش الأصفر:
وتلك هي اليمامة:
وهذا هو شاطئ النيل عند الغروب، وتلك هي أشجار الليمون، وهكذا ترى لكل جانب من جوانب الريف عنده نغمة؛ فمصر عند الشاعر هي الريف بفتنته وبساطته وصدقه وبراءته، يرسمه مسحورًا بجماله، لا ليقف الأمر عند ساحر ومسحور، بل ليتخطى ذلك إلى دعوة يرجو لها أن تتحقق، وهي الدعوة إلى إصلاح الريف لتصلح الحياة.
ولم يكن من قبيل المصادفات أن ترجم الهمشري قصيدة القرية المهجورة للشاعر الإنجليزي أولفر جولد سمث؛ لأنه أحسَّ هنا بما أحسه شاعرهم هناك تجاه الحياة الريفية التي أخذ الناس يهجرونها ويهملونها بسبب الحضارة المادية الجديدة.
٢
أصحاب رسالات — إذن — شعراء الشباب في جيلنا الماضي، يخاطبون بها الروح ولا يخاطبون الجسد. ومعنى ذلك عدة أشياء في آنٍ معًا؛ معناه أولًا أن يجيء شعرهم ابتداعيًّا لا اتباعيًّا (رومانسيًّا لا كلاسيًّا)؛ ذلك لأنه إذا ساد الحياة استقرارٌ ورضى، جاء الشعر بدوره مستقرًّا راضيًا؛ مستقرًّا على العرف راضيًا بالمألوف. وعندئذٍ يغلب أن ينصرف الشاعر إلى المبالغة في العناية باللفظ وصقله حتى ولو جاء ذلك على حساب المعنى، وكذلك يغلب أن يزيد الشاعر من القيود التي يفرضها على نفسه، يظهر براعته في التغلب عليها. وأمَّا إذا اهتزت قوائم المجتمع بثورة تزيل عنها استقرارها، وعن أنفس الناس رضاها بما هو قائم من حولهم برغم فساده، فها هنا يكون في الشعر ابتداع لا يجد من وقته فراغًا ينفقه في نقش الزخارف، فهو عندئذٍ كالسيل العرم يكتسح السدود حتى يبلغ مداه. ولما كان الفساد الحضري الباعث على الثورة إنما يكون عادةً في المدينة لا في الريف، كان من العلامات المميزة لشعراء الابتداع أن يلجئوا إلى الحقل والسهل والغابة والجبل، فرارًا من مجتمعات المدن المزخرفة المزركشة المتوهجة بضوء المصابيح، ولا عجب أن تجيء الحركات الابتداعية في الأدب في أعقاب الثورات، حتى إذا ما استقرت الحياة على وضع جديد، ساد الأدب اتباع يتفنن من بعد فن. وبديهي أن الذي يثور هو الإنسان لا الأشياء الجوامد، ومن هنا كان الشعر الابتداعي الثائر ذاتي الطابع دائمًا، فيتحدث الشاعر فيه عن نفسه أكثر مما يتحدث عن الأشياء، على حين أن الشاعر المستقر الراضي غالبًا ما يلتفت إلى الأشياء أكثر مما يلتفت إلى طوية نفسه.
وعلى ضوء هذا فانظر إلى الشعراء الثلاثة: الشابي والتيجاني والهمشري، تجدك في كل قصيدة من قصائدهم أمام سيول ورياح وعواصف، وغابات صنوبر وزهر وورد وطير وجداول ووديان. إنك لا تكاد تقع عندهم على قصيدة واحدة تذكرك بأنك مقيم في مدينة غاصة بسكانها، يتبادلون المدح والقدح والتهنئة والرثاء. كلَّا، فهذه كلُّها علامات الاتباعيين الذين قد انخرطوا في مجتمع رضي عنهم ورضوا عنه. ولست أجد في هذا الصدد ما أقوله خيرًا مما قاله الشابي نفسه في مقال له بعنوان «الأدب العربي في العصر الحاضر» — أي في عصره هو — إذ يقول: «في أطوار الانقلابات الكبرى، التي يريد فيها التاريخ أن يدور دورته المحتومة الخالدة، تأخذ نفسيات الشعوب — التي ستولد مرة ثانية — في التطور والتحرر والاستحالة، فتستيقظ أحلامها النائمة، وتتوهج أشواقها الخامدة، وتُصبح نفسها شعلة متأججة بنار الحنين، وينقسم قلبها الثائر إلى شطرين: شطر ملول متبرم بالحاضر وما فيه، وشطر مشوق طامح إلى المجهول وما فيه.» هذا ما يقوله الشابي، وأراه يصور أبلغ تصوير ما في شعر زميلَيه من نزعة ابتداعية أصيلة، قوامها هذان الشطران معًا؛ فشطر ملول متبرم بالحاضر وما فيه، وشطر مشوق طامح إلى المجهول وما فيه.
فلو سُئلنا هل كان هؤلاء الشعراء متشائمين أو متفائلين؟ أجبنا أنهم كانوا متشائمين متفائلين معًا؛ متشائمين تجاه الفساد والتخلف والعبودية التي كانت ضاربة في ربوع البلاد العربية كلها، ومتفائلين بما يرجونه من ثورة تثور لتتبدل الحال غير الحال. وقد تجد في القصيدة الواحدة عندهم ظلمةً ونورًا وضيقًا وفرجًا، ويأسًا ورجاءً، ونسوق هنا مثلًا واحدًا، قصيدة «الصوفي المعذب» للتيجاني، ففيها تمتد آفاق نفسه حتى تسع الكون كله، حتى يشهد الله في كل ذرة من ذرَّاته، وفجأة ينقبض وينطوي على نفس مهمومة محزونة بائسة يائسة، ففيها يقول:
وبعد أن يسبح الشاعر في هذا النور الإلهي الفياض بالرعاية والعناية التي تشمل الكون والكائنات، يقف الشاعر فجأة ليسأل:
٣
قلنا إن شعراءنا الثلاثة كانوا من أصحاب الرسالات السامية، وإن ذلك قد استتبع أن يجيء شعرهم ابتداعي الطابع، ونضيف الآن سمة أخرى كان لا بد أن تستتبعها ثورتهم على الحاضر الرابض من حولهم الجاثم بأوزاره فوق صدورهم، وتلك هي أن ينسج الشاعر آنًا بعد آنٍ عالمًا من محض خياله يعيش فيه، فلئن قيل — كما قال سانتيانا — إن الفن كلَّه فرار من واقع مرذول إلى ممكن مأمول، حتى إذا ما تحوَّل هذا الممكن إلى واقع، أصبح حقًّا ولم يعُد جمالًا، فيعود الفنان إلى فرار جديد من عالم الحقيقة الواقعة إلى عالم الممكن المتصور. أقول إنه إذا كان هذا هو طابع الفن كله على وجه الإجمال، فهو بغير شك طابع الفن في عهود الثورات، حيث يصبح التنكر للواقع البغيض أمرًا صريحًا، والتعلق بما يخلقه الخيال الخلاق نتيجة محتومة، وهذا ما نجده في شعر الشبان الثلاثة الثائرين، وحسبنا هنا مثلًا واحدًا نسوقه من شعر الهمشري قصيدته: «إلى جتا الفاتنة»، فها هنا يقيم الشاعر لنفسه عالمًا بأسره، لا علاقة بينه وبين عالم الواقع إلا اللغة التي يصور بها عالم أحلامه ذاك، فهو عالم مسحور بكل ما فيه من شجر وزهر وضياء وظلال ومن سكون وحركة، ويقظة ونعاس، فهو يخاطب حبيبته في ذلك العالم فيقول:
ومن هذا القبيل نفسه، الذي يخلق فيه الشاعر لنفسه عالمًا من بديع خياله، قصيدة كبرى للهمشري، عنوانها «شاطئ الأعراف»، وهي قد تُشبه في موضوعها رسالة الغفران للمعري، أو «الكوميديا الإلهية» لدانتي.
٤
كان شعراؤنا الثلاثة من أصحاب الشعر الجديد، ولكن بأي معنًى؟ لا بمعنى التخريب والتحطيم وإشاعة الفوضى، بل بالمعنى الوحيد الذي يجوز قبوله في كل فنٍّ جديد، وهو المعنى الوحيد الذي تجري على سننه الطبيعة في خلقها لكل جديد، وإن شئت فانظر إليها كل ربيع ماذا تصنع وهي تنبت الزهر اليانع من تراب الأرض، فهي لا تتنكر لعناصر التربة القائمة وإلا لما أنبتت زهرًا، إنما هي تؤلف من تلك العناصر نفسها تأليفًا جديدًا، وإني لأعجب أن تكون الحقيقة ناصعة في الأعين صارخة في الآذان ثم لا يراها ولا يسمعها — لا أقول من لا يستطيع رؤيتها وسمعها — بل من لا يريد لها سمعًا ورؤية، وإلا فكيف جاز لناقد منَّا معاصر، أن يكتب ذات يوم تحت عنوان «حطموا عمود الشعر»، فيقول ما نصه إن الشعر العربي قد مات، وإن من يشك في هذه الحقيقة — أي والله هكذا أسماها حقيقة — فليقرأ جبران وناجي وأمثالهما. ثم يقول: أمَّا شعائر الدفن فقد قام بها أبو القاسم الشابي ضمن آخرين … هكذا يقول الناقد الذي لا يريد أن يرى ويسمع، ولو أراد لقرأ الشابي نفسه في معنى التجديد كما يراه؛ إذ يقول بالحرف الواحد:
ولكن هناك نزعة غريبة يدين بها بعض الناس، ممن يحملون التجديد على غير محمله، ويفهمونه على غير المراد منه، فهم يحسبون التجديد أن يأتيَ الشاعر في أسلوبه ومعناه بما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأن يخلق آثاره من عدم، ويأتي بها غير مسبوقة بصورة أو مثال، وهي فكرة غريبة لا نفهم كيف يستطيع اعتقادَها فريقٌ من الناس، ولكننا نسوق إليهم هاته الكلمة الصغيرة: إن الحياة نفسها ليست إلا حرية ترسف في القيود، وسلسلة يتصل فيها الطريف بالتليد …
وهكذا يمضي الشابي في عبارته مؤكدًا أن الجديد في الفن وفي الحياة معًا لا بد أن يقيم أركانه على موروث، فقارن هذا الذي يقوله الشابي بما يحكيه ناقدُنا من أن الشعر العربي قد مات، وأن الشابي قد كان من بين مَن قاموا بشعائر دفنه.
ألا إن الشاعر العظيم — كما يقول الشابي أيضًا — لهو الذي يوفق في فنِّه إلى المعادلة بين نسب العاطفة والفكر والخيال والأسلوب والوزن بحيث يحصل بينها التجاوب الموسيقي الذي ينسجم في القصيد انسجام النور والعطر والماء والهواء في الزهرة الجميلة اليانعة.
٥
وهكذا كان شعراؤنا الثلاثة في الجيل الماضي؛ فنفوس ثائرة بوجدانها الملتهب، ووطنية صادقة تهتدي بمثالية إنسانية رفيعة، وروح مشبوبة بالإيمان بالحياة وبالحرية وبالجمال، وخيال مجنح يطير إلى عالم الأحلام، وقلوب معذبة لشقوة أقوامها، فتنطلق بألحان حزينة شاكية، لكن إرادة الحياة لأنفسهم ولأقوامهم تسري في دمائهم فتشد من عزائمهم، وقد جعل الشابي إرادة الحياة عنوانًا وموضوعًا لقصيدة من أروع قصائده، يوازي فيها بين إرادة الحياة في الإنسان وإرادة الحياة في الطبيعة، فكما أن الطبيعة لا بد لها بعد كل شتاء من ربيع، فكذلك الإنسان لا بد له بعد كلِّ عسر وضيق من يُسر وازدهار، وهو يستهل هذه القصيدة العظيمة بقوله:
وإنَّا لنقول للشعراء الثلاثة في تقدير وفي عرفان بالجميل لدعوتهم إيانا إلى حياة حرة كريمة: لقد أراد الشعب العربي لنفسه الحياة، ولقد استجاب له القدَر، ولقد انجلى الليل أو كاد، ولقد انكسر القيد، فلهم من الله عنَّا جزاء المجاهدين.