أَسِيرَة الشَّيْطانِ
(١) فاتحةُ الشَّقاءِ
واحَسْرتا على «راما» وصاحِبَتِهِ (زَوْجَتِهِ) وَأَخِيهِ، فَكَأَنَّما انْتَهَتْ أَيَّامُ سَعادَتِهِمْ وَسَلامَتِهمْ بانْتِهاءِ فَصْلِ الشِّتاءِ، فَلمَّا حَلَّ الرَّبيعُ حَلَّتْ مَعَهُ الْكوارِثُ والْخُطُوبُ، فَقَدْ فَرَغَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ «رَڨانا»، بَعْدَ أَنْ تَمَّ لَهُ الظَّفَرُ بِأَعْدَائِه الَّذِينَ شَغَلُوهُ عَشْرَ سَنَواتٍ كامِلَةً في حُروبٍ طاحِنَةٍ. فَلَمَّا اسْتَتَبَّ لَهُ الْأَمْرُ ذَهَبَ لِزِيارَةِ أَخِيهِ الشَّيْطَانِ «مارِتْشي» مَلِكِ هذِهِ الْغابةِ، حَيْثُ تَعَوَّدَ أَنْ يَقْضِيَ فَصْلَ الرَّبِيعِ — مِنْ قَبْلُ — في كلِّ عامٍ. وثَمَّةَ رَأَىَ تِلْكَ الْأُسرةَ الْكَرِيمَةَ الهَانِئَةً؛ فاعْتَزِمَ أَنْ يُنَغِّصَ عَيْشَهُمْ، وَيُكَدِّرَ صَفْوَهُمْ، ويُفَرِّقَ شَمْلَهُمْ، ولكِنَّهُ خَشِيَ أَنْ تَصْرَعَهُ سِهامُ النَّاسِكِ الَّتي زَوَّدَهُمْ بها، ولمْ يَجْهَلِ الْخَطَرَ الَّذِي يَدْهَمُهُ إذا عَرَضَ لِمُناوَأَتِهِم عَلانِيَةً، فأَطالَ تَفْكِيرَهُ، وَأَحْكَمَ تَدْبِيرِهُ، حتَّى اهْتَدَى — آخِرَ الْأَمْرِ — إلى حِيلَةٍ بارِعَةٍ.
وكان أَوَّلَ ما خَطرَ بِبالِهِ أنْ يَتَرَصَّدَ لَهُمْ في مَكانٍ قرِيبٍ مِنْ وادِي «پَنْشڨاتي»؛ بِحَيْثُ لا تَقعُ أَعْيُنُهُمْ علَيْهِ، آمِلًا أنْ يَظْفَرَ بِهِمْ وَلَوْ مَرَّةً واحدَةً — عُزْلًا غَيْرَ مُدَجَّجِينَ بِأَسْلِحَتِهِمُ الْفَتَّاكَةِ.
(٢) أُمْنِيَّةُ الشَّيْطَان
وفي لَيْلَةٍ مِنْ لَيالِي الرَّبيعِ الأُولَى عَنَّتْ (خَطَرتْ) لِلشَّيطانِ فِكْرَةٌ خَبِيثَةٌ — وهُوَ يَرْقُبُ الْأُمَراءَ — فَامْتلَأَ قَلْبُهُ سُرُورًا، وقالَ لِنَفْسِهِ مُبْتَهِجًا مَحْبُورًا: «يا لَهُ مِنْ رَأْيٍ سَدِيدٍ! إِنَّ «سِيتا» أَجْمَلَ إِنْسانٍ في الدُّنْيا — هِيَ بِلا شَكٍّ أَعَزُّ على «راما» مِنْ نَفْسِهِ. وَلنْ أَسْتَطِيعَ تَنْغِيصِ عَيْشِهِ، وإِذْلالَ كِبْرِيائِه وأَنَفَتِهِ، إذا قَتَلْتُهُ. ولَكِنَّنِي إذا خَطِفْتُها مِنْهُ سَلَبْتُهُ أَثْمَنَ كَنْزٍ يَحْرِصُ عَلَيْهِ في حَياتِه.»
وكانَ الشَّيْطَانُ يَعْلَمُ أَنَّ بُلُوغَ هذهِ الْغايَةِ عَسِيرٌ — إِنْ لَمْ يَكُنْ مُحالًا — فَإِنَّ الْأَمِيرَيْنِ لا يَتْرُكانِ «سِيتا» لَحْظةً واحِدَةً، وَلا يَكُفَّانِ عَنْ حِراسَتِها لَيْلًا وَلا نَهارًا، فَكيْفَ السَّبِيلُ إِلى اخْتِطافِها؟
(٣) عِنْدَ «مارِتْشي»
فَكَّرَ الشَّيْطانُ في الاسْتِعانَةِ بِأَخِيهِ «مارِتْشي» سُلْطانِ الْغابَةِ، لِيُعاوِنَهُ على قَضاءِ مَأْرَبِه الْخَبِيثِ. وَاعْتَزَمَ الذَّهابَ إِلَيْهِ في حاضِرَةِ مُلْكِهِ، وهِيَ على مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ مِنْهُ، فَاسْتَقَلَّ مَرْكَبَتَهُ الذَّهَبِيَّةُ لِتَحْمِلَهُ إِلَيْها في أقْصَى الْغابَةِ. وكانَ يَجُرُّها جَحْشانِ مِنْ أظْرَفِ جُحُوشِ الجِنِّ، وأَسْرَعِهِنَّ جَرْيًا، وأوْفَرِهِنَّ نَشاطًا. لَهُما جِسْمَا وَحْشَيْنِ، ورَأْسَا عِفْرِيتَيْنِ، لَوْ رَأَيْتَهُما — أَيُّها الْقارِئُ الْعَزِيزُ — لَما تَمالَكْتَ مِنَ الضَّحِكِ. وَهُما يَطِيرانِ بالْمَرْكَبَةِ في الْجَوِّ، كما يَجْرِيانِ بِها عَلَى الْأَرْضِ، فَلا يَلْحَقُ بِهِما في طَيرَانِهِما، وَلا يُدْرِكُهما فِي جَرَيانِهِما، كائِنٌ كانَ، مِنْ طائِرِ وَحَيَوَان.
وَلَمَّا بَلَغَ الشَّيْطَانُ أخاهُ وَجَدَهُ جالِسًا أَمامَ دارِهِ يَسْتَزِيدُ مِنَ الدَّرْسِ والْقِراءَةِ في فُنُونِ السِّحْرِ، فَصَاحَ فِيهِ قائِلًا: «تَحِيَّتِي إِلَيْكَ يا مارِتْشي» وَلَمَّا اسْتَقَرَّ بِهِ الْمُقامُ حَدَّثَهُ بِحَقِيقَةِ أَمْرِهِ، وَأَفْضَى إِلَيْهِ بمَطْوِىِّ سِرِّهِ.
(٤) حِوارُ الشَّيْطانَيْنِ
فَأَجابَهُ «مارِتْشي» مَذْعُورًا: «حَذارِ — يا أَخِي — أن تَعْمِدَ بالأَذَى إلى أَحَدٍ مِنْ هؤُلاءِ الأَناسِيِّ؛ فَإِنَّهُمْ — مِنْ إِيمانِهِمْ وحُسْنِ يَقِيْنِهِمْ — في أمانٍ مِن كَيْدِنا، مَعْشَرَ الشَّياطِينِ. وَقَدْ تَرَكْتُهُمْ — مُنْذُ حَلُّوا هذِهِ الْغابَةَ — دُونَ أَنْ أَمَسَّهُمْ بِسُوَءٍ؛ لِأَنَّ قَلْبِي يُحَدِّثُنِي أنَّ كُلَّ مَنْ يُحاوِلُ إِيذاءَهُمْ، إِنَّما يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِلْهَلاكِ، وأَنَّ هذا الْأَمِيرَ الْمُخْلِصَ لَمْ يُقْسَمْ لهُ الْمَجِيءُ — مُنْذُ سَنَواتٍ — إلى هذهِ الْغابَةِ، إِلَّا لِغَرَضٍ واحِدٍ: هُو تَشْتِيتُنا والْقَضاءُ عَلَيْنا أجْمَعِينَ، وتَخْلِيصُ الْأَناسِيِّ مِنْ كَيْدِ الأَبالِسَةِ وحَبائِلِ الشَّياطِينِ. وَقَدْ وَفَّقَهُ حَظُّهُ السَّعِيدُ إلى التَّعَرُّفِ بذلِكَ الْحَكِيمِ الرَّشِيدِ؛ فَزَوَّدَهُ بِأَفْتَكِ الأَسْلِحَةِ الَّتِي لا تُبْقِي على أَحَدٍ مِنْ أبْناءِ جِنْسِنا وَلا تَذَرُ، ولا تَنْفَعُ مَعَها شَجاعَةٌ ولا حَذَرٌ. والرَّأْيُ عِنْدِي أَن نُخْلِيَهُ وَشَأْنَهُ، وَأنْ نَبْتَعِدَ عَمَّا يُوجِبُ لَنا الْحَسْرَةَ والنَّدامَةَ، وَنَقْنَعَ مِنَ الْغَنِيمَةِ بالنَّجاةِ مِنْهُ والسَّلامِةِ. فَنَحْنُ — كما تَعْلَمُ — لا سُلْطانَ لَنا عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْأَناسِيِّ، إِلَّا عَلَى ضُعَفاءِ الْقُلُوبِ الهَيَّابِينَ، وَذَوِي الْعَزائِمِ الْخَائِرَةِ الْمُتَرَدِّدِينَ.»
فَأَجابهُ «رَڨانا»: «لَسْتُ أَجْهَلُ شَيْئًا مِمَّا تَقُولُ، وَلَمْ تَبْلُغْ بِي الْحَماقَةُ وخَطَلُ الرَّأْيِ أَنْ أُحَارِبَ ذلِكَ الشُّجاعَ الْباطِشَ الْغَلابَ. وَلكِنَّنِي فَكَّرْتُ فِي خُطَّةٍ — إِذا نَجَحَتْ — هانَتْ عَلَيْهِ الْحَياةُ، وَتَمَنَّى — مِنْ أَجْلِها — الْمَوْتَ، دُونَ أَنْ نَزُجَّ بِنَفْسَيْنا وأَعْوانِنا فِي مُحارَبَتِهِ.»
ثُمَّ أَفْضَى الشَّيْطانُ إلَى أَخيهِ بِخُطَّتهِ الْبارِعَةِ، الَّتي دَبَّرَها لِيَخْطَفَ «سِيتا» وَيَسْجُنَها فِي قَصْرِهِ الْفَخْمِ، فِي جَزِيرَةِ «لَنْكا» النَّائِيَةِ، وخَتَمَ كَلَامَهُ قائِلًا: «وَمَتَى حَلَّتْ «سِيتا» تِلْكَ الْجَزِيرَةَ اسْتَحالَ على صاحِبِها (زَوْجِها) أَنْ يَعْبُرَ الْبِحارَ الْمائِجَةَ الَّتي تَفْصِلُ جَزِيرَةَ «لَنْكا» عَنْ دُنْيا الآدَمِيينَ.»
(٥) وَعِيدُ «رَڨانا»
فَقالَ الشَّيْطانُ «مارِتْشي»: «لا أَزالُ عَلى رَأْيِي مُصِرًّا.»
وَطالَ الْحِوارُ بَيْنَ الأَخَوَيْنِ، فَلَجَأَ «رَڨانا» إِلى إِغْراء أَخيهِ ليُعاوِنَهُ؛ فَوَعَدَهُ بِأَنْ يَمْنَحَهُ نِصْفَ مُلْكِهِ في جَزِيرَةِ «لَنْكا» إذا ساعَدَهُ في إِنْجازِ خُطَّتِهِ، وتَحْقِيقِ رَغْبَتِهِ. ولكِنَّ «مارِتْشي» لَمْ يَتَحَوَّلْ عَنْ رَأْيِهِ قِيدَ أُنْمُلَةٍ (لَمْ يَتَزَحْزَحْ عَنْهُ مِقْدارَ رَأْسِ الإصْبَعِ). وطالَ الْجَدَلُ بَيْنَ الأخَوَيْنِ، وتَمَلَّكَ الْيَأْسُ «رَڨانا»؛ فَشَهَرَ سَيْفَهُ عَلى أخيهِ، مُتَوَعِّدًا إِيَّاهُ بالْقَتْلِ، إِذا أَصَرَّ عَلى عِنادِهِ.
فَلَمَّا رَأَى «مارِتْشي» أَنَّهُ يَسْتَعْجِلُ هَلاكَهُ — إذا خالَفَ أَخَاهُ — اضْطَرَّهُ الْخَوْفُ إلى الإِذْعانِ. ثُمَّ جَلَسا يَتَشاوَرانِ فِي الْخُطَّةِ الَّتِي يَسْلُكانِها. وتَمادَى (طالَ) بَيْنَهُما الْحَديثُ حَتَّى تَنَفَّسَ الصُّبْحُ؛ فامْتَطَيا (رَكِبا) مَرْكَبَةَ «رَڨانا»، وَقَدْ أَعَدَّا خُطَتَهُما الْخَبِيثَةَ أَحْكَمَ إعْدادٍ.
(٦) الْأُسْرَةُ السَّعيدَةُ
أَمَّا الْأُمَراءُ الْمَنْفِيُّونَ، فَقَدْ شَعَرُوا فِي ذلِكَ الْيَوْمِ بالسَّعادَةِ الْحَقِّ، ولَمْ يَدْرُوا ما يَخْبَؤُهُ لَهُمُ الْقَدَرُ مِنْ نُذُرِ الشَّرِّ، فاسْتَقْبَلُوا صَباحَ الرَّبِيعِ مُبْتَهِجِينَ بِجَمالِه، وأَنْجَزُوا أَعْمالَهُمْ قُبَيْلَ الظُّهْرِ. ثُمَّ خَرَجَ «لَكْشمانُ» لِيَلْتَمِسَ لِلأَمِيرَيْنِ فاكِهَةً طازِجَةً، وَجَلَسَ «راما» و«سِيتا» تَحْتَ شَجَرَةٍ فَيْنَانَةٍ، يَتَفيَّآنِ ظِلَّها، وَيُرَوِّحانِ عَنْ نَفْسَيْهِما تَحْتَها. وابْتَهَجَتْ «سِيتا» وتَمَلَّتْ الْوُرُودَ (أَطَالَتْ الاسْتِمْتاعَ مِنْها)، وامْتلَأتْ نَفْسُها حُبُورًا بِما يَكْتَنِفُها (بِمَا يُحِيْطُ بِها) مِنْ أَزْهارِ الرَّبِيعِ الْمُنَوَّرَةِ في كُلِّ مَكانٍ. وَجَلَسَ «راما» — إِلَى جِوارِها — يُفَكِّرُ في وَفائِها وإِخْلاصِها وشَجاعَتِها الَّتِي حَفَزَتْها (ساقَتْها ودَفَعَتْها) إِلى مُشارَكَتهِ في مَنْفاهُ، غَيْرَ مُبالِيَةٍ بِما تَتَعَرَّضُ لَهُ — في سَبِيلِه — مِنْ أَخْطارٍ وَأَهْوالٍ، وَيَوَدُّ لَوْ أُتِيحَتْ لهُ فُرْصَةٌ تُمَكِّنُهُ مِنْ مُكافَأَتِها عَلى ما أَسْلَفَتْ إِلَيْهِ مِنْ صَنِيعٍ (ما قَدَّمَتْ لَهُ مِنْ مَعْرُوفٍ).
(٧) الظَّبْيَةُ الصَّغِيرَةُ
وَإِنَّهُ لَغارِقٌ في تَأَمُّلَاتِهِ، مُسْتَسْلِمٌ لِتَفْكيرِهِ، إِذا بِصَيْحَةٍ فَرِحَةٍ تَنْبَعِثُ مِنْ فَمِ «سِيتا» وَهِيَ تُنَادِيهِ مَسْرُورَةً: «أَلَا تَرَى هذِهِ الظَّبْيَةَ الصَّغِيرَةَ الَّتِي تَقْفِزُ على مَدِّ الْبَصَرِ، وتجْرِي عَلَى مَرْمَى النَّظَرِ؟ ها هِيَ ذِي تَدْنُو مِنَّا، فما أجْملَها ظَبْيَةً، وما أَظْرَفَ شَعْرَها الَّذِي يَلْمَعُ كما يَلْمَعُ الذَّهَبُ الخَالِصُ، أَلا لَيْتَها لِي!»
فَسأَلَها «راما» باسِمًا: «وَماذا كُنْتِ بِها صانِعَةً؟»
فَأَجَابَتْهُ في لَهْفَةِ الْمَشْغُوفِ: «إِذَنْ لَجَعَلْتُها أَنَيسَةَ وَحْدَتِي، وَمَصْدَرَ سَلْوَتِي، واتَّخَذْتُها لَعِيبًا لِيَ في أَيَّامِ غُرْبَتِي، وَاحْتَفَظْتُ بِها بَعْدَ عَوْدَتِي، مَتَى قُسِمَ لِيَ الرُّجُوعُ إِلَى مَمْلَكَتِي؛ فكانَتْ أَجْمَلَ ما أَحْتَفِظُ بِهِ مِنْ ذِكْرَياتي طُولَ أَيَّامِ حَياتِي.»
(٨) في أَثَرِ الظَّبْيَةِ
فَقالَ «راما»: «ما أَهْوَنَ ما تَطْلُبِينَ!» ثُمَّ أَسْرَعَ يَبْغِي اللِّحاقَ بالظَّبْيَةِ، وَلكِنْ سُرْعانَ ما اخْتَفَتْ بَيْنَ الْأَشْجارِ، فَصاحَتْ «سِيتا» مَحْزُونَةً لِفَواتِ الْفُرْصَةِ، ولكِنَّ الظَّبْيَةَ لَمْ تَلْبَثْ أَنْ ظَهَرَتْ لِلْعِيانِ — بَعْدَ اخْتِفائِها — وجَرَتْ مُوغِلَةً في الْغابَةِ، فَقالَ: «كُونِي عَلى ثقَةٍ أَنَّني سَأَقْتَنِصُ لكِ هذهِ الظَّبْيةَ، وأَنَّها لَنْ تُفْلِتَ مِنْ يَدِي!»
ثُمَّ نادَى أَخاهُ لِيَحْرُسَ الْأَمِيرَةَ، وأَوْصاهُ بِأَلَّا يُفارِقَها — لَحْظَةً واحِدَةً — لِأَيِّ داعٍ كانَ، فَوَعَدَهُ بِذلكَ، وجَلَسَ إِلى جِوارِ «سِيتا» يَنْتَظِرُ عَوْدَةَ أَخِيهِ. وجَرَى أَخُوهُ في أَثَرِ الظَّبْيَةِ حَامِلًا قَوْسَهُ وسِهامَهُ. ولكِنَّ الظَّبْيَةَ حَيَّرَتْهُ وَأَتْعَبَتْهُ، وغَرَّرَتْ بِه وخَدَعَتْهُ؛ دَنَتْ مِنْهُ فأَطْمَعَتْهُ، ثُمَّ اخْتَفَتْ عنْ ناظِرِهِ فَأَيْأَسَتْهُ، ثُمَّ تَبَدَّتْ — مَرَّةً أُخْرَى — فعاوَدَ سَعْيَهُ، وضَاعَفَ جَرْيَهُ.
وما زالَ يَتَجَدَّدُ أَمَلُهُ في اقْتِرَابِها، ويُعاوِدُهُ الْيَأْسُ مِنَ اللِّحَاقِ بِها، حَتَّى أَجْهَدَهُ الْحَرُّ، وأَتْعَبَهُ الْكَرُّ.
وكانَ كُلَّما دَبَّ الْيَأْسُ إلى قَلْبِهِ، فَحاوَل أَنْ يُثْنِيَهُ عَنْ عَزْمِه، قالَ في نَفْسِهِ: «هذهِ أَوَّلُ رَغْبَةٍ تَتَمنَّاها «سِيتا»، مُنْذُ حَلَلْنا هذهِ الغابةَ وتَخِذْناها وطَنًا لَنا. وَليسَ مِنَ الْمُرُوءَةِ أَنْ أُخَيِّبَ رَجاءَها مَتَى كانَ في قُدْرَتِي أَنْ أُحَقِّقَهُ.»
ولكِنَّ الظَّبْيَةَ تَمادَتْ في رَوغانِها؛ فَدَبَّ إِلى نَفْسِهِ الْقَلَقُ، وأَحَسَّ أَنَّ في الْأَمْرِ مَكيدَةً، دَبَّرَها بَعْضُ شياطينِ الْغابَةِ؛ لِإِبْعادِهِ عَنْ «سِيتا». ولكِنَّهُ اطْمَأَنَّ عَليْها؛ لِأَنَّ أَخاهُ يَرْعاها مِنْ كَيْدِ الْكائِدِينَ، ويَقِيها شُرُورَ الأَبالِسَةِ وحَبائِلَ الشَّياطينِ. وحِينَئِذٍ أَبْصَرَ الظَّبْيَةَ على قِيدِ خُطُواتٍ مِنْهُ، فَلَمَّا هَمَّ بالْقَبْضِ عَلَيْها نَفَرَتْ — على عادَتِها — مُبْتَعِدَةً عَنْهُ. فَقالَ في نَفْسِهِ: «إنَّ هذا الحَيَوانَ مُتْعِبٌ مُشاكِسٌ، ولَنْ يَصْلُحَ لِتَسْلِيَةِ «سِيتا» إِذا قَنَصْتُهُ. وَلَعَلَّ جِلْدَهُ الْبَرَّاقَ أَنْفَعُ لَها مِنْهُ وأَجْمَلُ!»
وَثَمَّةَ أَمْسَكَ بِقَوْسِهِ، وَأَطْلَقَ مِنْها سَهْمًا مَسْحُورًا، أصابَ الظَّبْيَةَ إِصابَةً قَاتِلَةً؛ فَهَوَتْ إِلَى الْأَرْضِ مُجَدَّلةً في دِمائِها.
وَاقْتَرَبَ مِنْها الْأَمِيرُ، وَقَدْ نَدِمَ عَلَى قَتْلِها، وَلكِنَّهُ لَمْ يَكَدْ يُدَانِيها (يَقْتَرِبُ مِنْهَا) حَتَّى رَأَى ما لَمْ يَخْطُرْ لَهُ على بالٍ.
(٩) مَصْرَعُ «مارِتْشي»
فَقَدْ عادَتِ الظَّبْيَةُ — بَعْدَ أَنْ أَرْداها سَهْمُ الأمِير — إلى أَصْلِها؛ فَإِذا الشَّيْطانُ «مارِتْشي» وهُو يَحْتَضِرُ، ويُعانِي آلامَ الْمَوْتِ، وَقَدْ بَدَا جُرْحُهُ الْقاتِلُ في جَنْبِهِ. وكانَ قَدْ حَوَّلَ نَفْسَهَ — بِما أُوتِيه مِنْ فُنُونِ سِحْرِهِ — إِلَى صُورةِ ظَبْيَةٍ جَمِيلَةٍ، آمِلًا أَنْ يُغْرِيَ الْأَمِيرَيْنِ باقْتِفاءِ أَثَرِهِ، واتِّباعِ عَدْوِهِ (جَرْيِهِ)، لِيُبْعِدَهُما عَنْ «سِيتا»، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلى الْهَلاكِ غَضِبَ وَاشْتَدَّ حِقْدُهُ على قَاتِلِهِ، فَصَرَخَ مُحاكِيًا صَوْتَ «راما»؛ لِيُوهِمَ مَنْ يَسْمَعُهُ أَنَّ «راما» يصيحُ طالِبًا مِنْ أَخِيهِ الْغَوْثَ وَالنَّجْدَةَ. ثُمَّ فاضَتْ رُوحُهُ الخَبِيثَةُ ذاهبَةً إلَى الْجَحِيمِ.
(١٠) أثرُ الصَّيْحَةِ
وقَدْ حَدثَ ما تَوَقَّعَهُ «مارِتْشي» وهُوَ يَحْتَضِرُ، فَقَدْ دَوَّتْ في الْغابةِ عَوْلَتُهُ (صَرْخَتُهُ)، وتَرَدَّدَتْ — في جَنَباتِها — صَيْحَتُهُ، حَتَّى بَلَغَتْ وادِيَ «پنْشَڨاتي» حَيْثُ أَقَامَتْ «سِيتا» و«لَكْشمانُ» يَتَرَقَّبانِ عَوْدَةَ «راما»، فَلَمَّا سَمِعَتِ الأَمِيرةُ اسْتِغَاثَةَ «راما» نَظَرَتْ إلَى أَخِيهِ مُفَزَّعَةً، وصاحَتْ فِيهِ مُرَوَّعَةً: «إِنَّهُ «راما» يَدْهَمُهُ الْخَطَرُ؛ فَيَسْتَغِيثُ بكَ لِتُنْقِذَهُ.»
ولكِنَّ «لَكْشَمانَ» لَمْ تَجُزْ عَلَيْهِ حِيلَةُ الشَّيْطانِ، فَهَزَّ كَتِفَيْهِ، ونكَّسَ رَأْسَهُ، ثُمَّ قالَ مُتَأَلِّمًا: «كَلَّا، لا سَبِيلَ إِلى مُفارَقَتِكِ؛ فَقَدْ عاهَدْتُ أخِي على أنْ أَبْقَى إلى جانِبكِ حتَّى يَعُودَ.»
فَهَتفَتْ «سِيتا» باكِيةً مُوَلْوِلَةً، وصاحَتْ فِيهِ صارِخةً مُعْوِلَةً: «إِنَّ الأميرَ في خَطَرٍ، ولَيْسَ لِحَياتِي قِيمَةٌ بَعْدَ أَنْ يَمُوتَ، فالْبِدارَ إِلَيْهِ، وأَسْرِعْ إلى إِنْقاذِهِ قَبْلَ فَوَاتِ الْوَقْتِ!»
فأجابَها مُتَلَطِّفًا: «سَكِّنِي منْ خَوْفِكِ، ولا يَسْتَوْلِيَنَّ عَلَيكَ الْجَزَعُ؛ فَإِنَّ «راما» — غَلَّابَ الْفُرْسانِ، وقاهِرَ الشُّجْعانِ — لا يَرْهَبُ الْحِمامَ، ولا يَخافُ الْمَوْتَ الزُّؤَامَ، ولا يَهابُ كائِنًّا كانَ، ولا يَطْلُبُ النَّجْدَةَ منْ أَيِّ إِنْسانٍ. وفي جَعْبَتِهِ — مِنَ السِّهامِ — ما يَكْفِي لِإِبادَةِ كلِّ ما تَحْوِيهِ الدُّنْيا مِنْ مارِدٍ وجانٍّ، وعِفْرِيتٍ وشَيْطانٍ. ولَيْسَتْ هذِهِ الصَّرْخَةُ — الَّتِي سَمِعْتِها — إِلَّا صَرْخَةُ شَيْطانٍ رَجِيمٍ، يُحاوِلُ أنْ يُفَرِّقَ بَيْنَنا، وَيَأْمُلُ أَنَّ يَسْتَدْرِجَنِي لاتِّباعِ خُطُوَاتِهِ؛ لَعَلَّهُ يَظْفَرُ بِإِيذائِكِ.»
فاشْتَدَّ جَزَعُ «سِيتا» على زَوْجِها الأَميرِ، ولَمْ تَقْتَنِعْ بِما سَمِعَتْ، بَلْ حَسِبَتْ أخاهُ خائِفًا يَتَلَمَّسُ وسِيلَةً لِلْفِرَارِ مِنْ مُسَاعَدَتِهِ؛ فَصاحَتْ فِيهِ مُتَحَسِّرَةً، ودُموعُها مُتَحَدِّرَةٌ، وقالتْ وهي تَفْرُكُ يَدَيْها من الْحَنَقِ والْفَزَعِ، وَيَتَهَدَّجُ صَوْتُها مِنَ الْغَيْظِ والْجَزَعِ: «ما أَراكَ إِلَّا خائِفًا يَتَلَمَّسُ الْمَعاذِيرَ، لِيَنْجُوَ مِنَ اللَّوْمِ والتَّعْذِيرِ.»
فَتأَلَّمَ الْأَمِيرُ حِينَ سَمِعَ هذهِ التُّهْمَةَ، وقال لِلأَمِيرَةِ مُتأَسِّفًا: «فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ — يا أُخْتاه — وإنْ كانَ قَلْبِي يُحَدِّثُني بأَنَّ في تَرْكِي إِيَّاكِ ضَرَرًا كبيرًا، وشَرًّا مُسْتَطِيرًا، ونَكَباتٍ تَتْلُوها نَكَباتٌ، وحَسَراتٍ تَتْبَعُها حسراتٌ. ولكنِّي أَتَوَسَّلُ إِلَيْكِ أَلَّا تَتْرُكي هذا الْمَأْوَى لأَيِّ سَبَبٍ؛ جَلَّ أَوْ حَقُرَ.»
ثُمَّ أَسْرَعَ مُيَمِّمًا (قاصدًا) الْمَكانَ الْمَجْهُولَ الَّذِي خُيِّلَ إِلَيهِ أَنَّ الصَّيْحَةَ قَدِ انْبَعَثَتْ مِنْهُ.
(١١) الضَّيْفُ الْهَرِمُ
وشَعَرَتْ «سِيتا» — بَعْدَ ذَهابهِ — بِمَزِيجٍ مِنَ السُّرُورِ والْخَوْفِ؛ فَقَدْ فَرِحَتْ لِإِسْراعِ الأَميرِ إلَى نَجْدَةِ أَخِيهِ. أَمَّا خَوْفُها فَلَمْ يَكُنْ مَصْدَرُهُ جَزَعَها مِنْ بَقائِها وحِيدَةً، بَلْ حَذَرًا عَلَى صاحِبها (زَوْجِها) أَنْ يُصابَ بِسُوءٍ، قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ نَجْدَةُ أَخِيهِ.
وجَلَسَتْ مَحْزُونَةً تَلُومُ نَفْسَها عَلَى تلْكَ الرَّغْبةِ الطَّائِشَةِ الَّتي حَبَّبَتْ إِلَيْها أَنْ تُغْرِيَ زَوْجَها بِصَيْدِ الظَّبْيَةِ النَّافرَةِ فَتُعَرِّضَ حَياتَهُ لِلْهَلاكِ. ومَرَّتْ عَلَيْها اللَّحَظاتُ بَطِيئَةً كَأَنَّها ساعاتٌ، وَهِيَ مُضْطَجِعَةٌ بِجِوارِ دارِها تَرْقُبُ كلَّ حَركَةٍ بَيْنَ الشَّجَرِ، وتُصْغِي بانْتباهٍ وحَذَرٍ، لَعَلَّها تَسْمَعُ وَقْعَ أَقْدامِ الأَميرَيْنِ.
وإِنَّها لَكَذلِك، إِذْ طَرَقَ سَمْعَها وَقْعُ أقْدامٍ تَقْتَرِبُ منها بَيْنَ الأشْجارِ؛ فَقَفَزَتْ لِتَرَى زَوْجَها الْقَادِمَ. ولكِنَّها شَعَرَتْ بِخَيبَةِ أَمَلِها حِينَ رَأَتْ أَمامَها — بَدَلًا مِنَ الأَمِيرَينِ — ناسِكًا هَرِمًا ضَعِيفًا، قَدِ انْحَنَى ظَهْرُهُ، وتَقَوَّسَتْ قامَتُهُ، وتَقَارَبَتْ خُطْوَتُهُ، واضْطَرَبَتْ مِشْيَتُهُ.
فَلَمَّا اقْتَرَبَ منْها حَيَّاها، فَرَدَّتْ عَلَيهِ تَحِيَّتَهُ في لُطْفٍ وأَدَبٍ. ولكِنَّها شَعَرَتْ بانْقِباضٍ حينَ سَمِعَتْهُ يَقُولُ: «أَتَأْذَنينَ لِي — يا سَيِّدَتِي — أَنْ أَسْتَرِيحَ قَلِيلًا في هذهِ البُقْعَةِ الْجَمِيلَةِ؛ فَإِنَّ جِسْمِي مُتْعَبٌ، وقَدَمَيَّ مُوجَعتانِ؟»
فَقالَتْ لَهُ مُتَرَفِّقَةً بِهِ: «سأُحْضِرُ لكَ ماءً لِقَدمَيك، وفاكِهَةً تُنْعِشُ بِها نَفْسَك.»
فَشَكَرَ لَها الشَّيْخُ الْهَرِمُ، وقالَ وهُو يُطِيلُ النَّظَرَ إِلَيْها: «مَنْ تَكُونِينَ أَيَّتُها الْفَتاةُ؟ وكَيْفَ حَلَلْتِ هذهِ الْغابةَ الْمُقْفِرَةَ، مَعَ أَنَّ مِثْلَكِ جَدِيرٌ بِسُكْنَى الْقُصُورِ؟»
فَدَهِشَتْ مِنْ جُرْأَةِ هذا النَّاسِكِ، ولكِنَّها أَخْفَتْ دَهْشَتَها عَنْهُ ثُمَّ حَدَّثَتْهُ بِحَدِيثِها كُلِّهِ.
(١٢) حِوارُ الشَّيْطانِ
ولَمَّا بَلَغَتْ قِصَّتَها مَعَ الظَّبْيَةِ ضَحِكَ الشَّيْخُ. ثُمَّ وَقَفَ أَمامَها، وَقَدِ اعْتَدَلَتْ قَامَتُه بعْدَ انْحِنائِها، واسْتَقامَ ظَهْرُهُ بعْدَ تَقَوُّسهِ، وتَطَلَّقَ وَجْهُه بَعْدَ تَعَبُّسِهِ، وتَحَوَّلَ الشَّيْخُ الهَرِمُ، فَأَصْبَحَ شَابًّا قَوِيًّا. وتَبَدَّلَتْ ثِيابُ الزَّاهِدِ فَصارتْ ثِيابًا مُلُوكِيَّةً فاخِرَةً، وتَجَلَّى أَمامَها «رَڨانا» على حَقِيقَتهِ، فَعَرفَتْ — حينَئِذٍ — جَلِيَّةَ أَمْرِهِ. واقْتَرَبَ منْها مُتَوَدِّدًا مُتَحَبِّبًا، وقالَ لَها مُسْتَعْطِفًا مُرَغِّبًا: «إِنَّني «رَڨانا» مَلكُ جَزِيرَةِ «لَنْكا»، أَجْمَلِ جَزِيرَةٍ في عالَمِكُمُ الإِنْسيِّ، وَعالَمِنا الْجِنِي. وقَدْ جِئْتُ أَدْعُوكِ لِزِيارَةِ قَصْرِي الْمُلوكِيِّ حَيْثُ تَقْضِينَ أَسْعَدَ أَيَّامِ حَياتِكِ، مَلِكَةً على عَفارِيتِ الدُّنْيا وَشياطينِ الْعالَم، تَنْهَيْنَ فِيهِمْ وتَأْمُرِينِ.»
فَصاحتْ فيهِ دونَ أنْ يتَطَرَّقَ الْفَزَعُ إلَى نَفْسِها: «أَلا تَعْلمُ أَنّني زَوْجُ «راما» قاهِر الشُّجْعانِ، وسَيِّدِ الْفُرْسان؟»
فقالَ لَها الشَّيطانُ: «كُوني على ثِقَةٍ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ إلى غَيْرِ عَوْدَةٍ؛ فَقَدْ قَتَلَهُ أَخي «مارِتْشِي» الَّذي لاحَ لِأَعْيُنِكُمْ — في صُورَةِ ظَبْيَةٍ — لِيُبْعِدَ «راما». وقد نَجَحَتْ حيلَتُه، وظَفِرَ بِإِهْلاكِهِ.»
(١٣) في فَضاءِ الْجَوّ
فَوَقَفَتْ «سِيتا» حائِرَةً مُضْطَرِبةً، بَيْنَ مُصَدِّقةٍ ومُكَذِّبَةٍ. وحَدَّقَتْ فِيهِ، فَقرَأتْ على سيماهُ آياتِ الْخِسَّةِ والشَّماتَةِ، فقالَتْ لَهُ فِي كِبْرِياءَ وثِقَةٍ: «إذا كانَ الْأَمِيرُ قَدْ قُتِلَ، فإِنِّي باقيةٌ على الْوَفاءِ لَهُ، مُخْلِصَةٌ — لِعَهْدِهِ — ما حَيِيتُ. وَلَنْ يَخِفَّ أَلَمي لهُ وحُزْني عَليْهِ حَتَّى أَمُوتَ.»
فقال الشَّيطانُ: «لَنْ أعُودَ بِغَيْرِكِ!» ثُمَّ نادَى مَرْكَبَتُه الْمُلوكِيَّةَ، فَحَضَرَتْ.
وحاوَلَتْ «سِيتا» أنْ تُثْنِيَهُ (تَرْجِعَهُ) عَنْ عَزْمِه — بكُلِّ وسيلةٍ وحِيلةٍ — فَلَمْ تَجِدْ مِنْهُ سَمِيعًا. ودفَعها إلى مَرْكَبَتِهِ، وما كادَ، حتَّى حَلَّقَتْ بِهما في الجوِّ.
فَقالَتْ «سِيتا» هازِئةً: «لَقَدْ خَطِفْتَنِي، وحَسِبْتَ أنَّكَ قَدْ ظَفِرْتَ بي وَغَلَبْتَني. وَلكِنَّ الْأَيَّامَ كَفيلَةٌ أَنْ تُقْنِعَكَ بِأَنَّني سَأَظَلُّ حافِظَةً لِعهْدِي، بَرَّةً بِوَعْدي، حتى أمُوتَ.»
فكانَ جَوابُ الشَّيطانِ على ذلِك أنِ اسْتَحِثَّ جَحْشَيْهِ لِيُسْرِعا في طَيرانِهِما في أَعْلى طَبَقاتِ الْجَوِّ.
(١٤) مَلِكُ النُّسورِ
وإِنَّما جَنَحَ إلَى ذلِكَ، لِأَنَّهُ رأى شَبَحًا هائِلًا يُلاحِقُه في خُطوَتِهِ، ويَقْتَرِبُ مِنْ مَرْكَبَتِهِ، فَخَشِيَ أَنْ يكُونَ أَحَدُ أَعْدائه يَجِدُّ في أَثَرِه. ولمْ يَلْبَثْ أَنْ تَأَكَّدَ لَهُ صِدْقُ ما حَسِبَهُ، إِذْ رَأَى «چاتايُو» مَلِكَ النُّسورِ — وهُمْ أعْداءٌ لِجِنْسِهِ أَلِدَّاءُ، مُنْذُ قَدِيمِ الزَّمانِ — وسمِعَهُ يَصْرُخُ فِيهِ قائِلًا: «مكانَكَ — أيُّها الشَّيْطانُ — وخبِّرْنِي: إلَى أَيْنَ تَقْصِدُ؟ ولِماذا تَحْمِلَ هذِه الْأَسِيرَةَ التَّاعِسةَ؟»
فَصاحَتْ «سِيتا» مُسْتَنْجِدةً: «الْغَوْثَ يا سَيِّدَ النُّسُورِ، النَّجْدةَ يا مَلِكَ الطُّيُورِ! أَدْرِكِ الأَميرةَ «سِيتا» زَوْجَةَ «راما» الأميرِ العظيم، وخَلِّصْها من كَيْدِ هذا الباغِي الأثيمِ.»
فصاح النَّسْرُ: «أَطْلِقْ سَراحَ هذه الْمِسْكينةِ.»
فأجابه الشَّيطانُ مُسْتَهْزِئًا: «عُدْ مِنْ حَيْثُ أَتَيْتَ، وافْسَحْ لي طرِيقِي، ولا تَدْخُلْ فِيما لا يَعنِيكَ. اذْهَبْ وإِلَّا قَتَلْتُكَ أَيُّها الغَبِيُّ الْجَرِيءُ.»
فَهَجَمَ النَّسْرُ يُحاوِلُ أَنْ يَفْتِكَ به، وَانْقَضَّ عليه بكلِّ ما وهَبه اللَّه مِن قُوَّةٍ، فأَسْرَعَ الشَّيْطانُ إِليه، فطَعَنَهُ في جَنْبِه بِخِنْجَرِهِ طَعْنَةً قاتِلَةً، فَصاحَ النَّسْرُ، وهُوَ يُعانِي سَكَراتِ الْمَوْتِ: «مَعْذِرَةً أَيَّتُها الْأَمِيرَةُ، فَقدْ عَجَزْتُ عَنْ مُساعَدتِكِ. ولَسْتُ أَمْلِكُ الآنَ شَيْئًا غَيْرَ الدَّعَواتِ الصَّالِحاتِ.» ثُمَّ هَوَى إلى الأرْضِ مِنْ ذلِكَ الْعُلُوِّ الشَّاهِقِ، وَهُوَ يَئِنُّ مِنْ فَرْطِ الْأَلَمِ والْيَأْسِ، وقَدْ سَخِرَ بِهِ عَدُوهُ، وضَحِكَ مِنَ النَّسْرِ الْمَقْهُورِ، ضحكةَ الظَّافِرِ الْمَنْصُورِ.
(١٥) عَلَى جَبَل الْقُرُودِ
واسْتَأْنَفَ الْجَحْشان طَيَرَانَهُما، وَراحا يَنهْبَانِ الْجَوَّ نَهْبًا، وَيَطْوِيانِ الْفَضَاءَ طَيًّا، وهُما قاصِدانِ إلى جزِيرَةِ «لَنْكا»، حتَّى اجْتازا غابةَ الشَّياطِينِ كلَّها؛ أَشْجارَها وغُدْرانَها، هَضَباتِها ووِدْيانَها. وما زالا يَجِدَّانِ في طيرَانِهما حتَّى بلغا جَبَلَ الْقُرُودِ، ثُمَّ وَقَفَتِ الْمَرْكَبَةُ لَحْظَةً، فَرَأَتْ «سِيتا» مَخْلُوقاتٍ تُشْبِهُ الْقُرُودَ الْكَبِيرَةَ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَتْ سَيْرَها دَفْعَةً فُجائِيَّةً أَطارَتْ عَنِ الأميرَةِ وِشاحَها وعِقْدَها، وأَلْقَتْ بِهما إلى ساكِنِي ذلِكَ الْجَبَلِ.
(١٦) بَيْنَ الْيَأْسِ والأَمَلِ
فقالَتْ في نَفْسِها مُتَأَسِّيَةً: «لَعَلَّ في سُقُوطِ الْوِشاحِ والْعِقْدِ بَشِيرًا بالْفَرَجِ، وإيذانًا بِزوالِ الْحَرَجِ؛ فَقَدْ يَأْتِي «راما» إلى هذا الْجَبَلِ، — إِذا رُزِقَ الْحَياةَ وكُتِبَ لَهُ التَّوْفيقُ في الْبَحْثَ عنِّي — فَتُعْطِيهِ الْقُرودُ وِشاحي وعِقْدِي، ثُمَّ تُخْبِرُهُ بالْمَكانِ الَّذِي اتَّجَهْتُ إِليْهِ.»
وظَلَّتِ الْمَرْكَبَةُ مُسْرِعَةً فِي طَيرانِها فَوْقَ الْمُدُنِ والْقُرَى، حتَّى اقْتَرَبَتْ مِنْ شاطِئِ الْبَحْرِ. ثُمَّ طارَتْ فَوْقَ أَمْواجِهِ الثَّائِرَةِ الْمائِجَةِ، حتَّى بَلَغَت جَزِيرَةَ «لَنْكا»، حيْثُ كَتَبَ الْقَدَرُ عَلَى «سِيتا» أَنْ تَقْضِيَ سَنواتِ الْأَسْرِ، وتُعانِيَ مِنْ آلامِ الفِرَاقِ ما تُعاني، وتُضْجِرَها الْوَحْدَةُ فَتَعُدَّ الدَّقائِقَ والثَّوانِي. ولَمْ يَكُنْ لِيُهَوِّنَ عَليْها غُمَّتَها، وِيُنْسِيَها كُرْبَتَها، إِلَّا قَبَسٌ — مِنَ الْأَمَلِ — ضَئِيلٌ، كانَ يَلُوحُ لَها في خَطْبِها الْجَلِيلِ، فَيُطْمِعُها في الْخَلَاصِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وِيُنْسِيها ما تُعانِيهِ مِنْ أَلَمِ الْحَسْرَةِ، وما تُكابِدُهُ مِنْ حَياةٍ مُرَّةٍ.
وما أتْعَسَ الْإِنسانَ، لَوْلا أملٌ رَجَّاهُ، فَقرَّبَ لَهْ الْبَعِيدَ وأدْناهُ، وهَوَّنَ عَلَيْهِ ما يَعْتَرِضُهُ ويَلْقاه، وأَمَّنَهُ ما يَخَافُهُ ويَخْشاه، وأَطْلَعَ لَهُ نَجْمُهُ ضَوْءَ سَناه، فَأَسْعَدهُ — في ظُلُماتِ يَأْسِهِ — وأَرْشَدهُ وهَداه، ويَسَّرَ لَهُ طَرِيقَهُ وَسَدَّدَ خُطاه. ولَوْلا الأَملُ لَوْلاه، لَقتَلهُ حُزْنُهُ وأَرْداهُ، وضَيَّقَ عَليْهِ يَأْسُه سُبُلَ الْحياةِ.