زعيمُ القرُود
(١) الْتِقاءُ الْأَخَوَيْنِ
ولَمَّا صَرَعَ الأميرُ «راما» سُلْطانَ الْغابَةِ، أَسْرَعَ يَسْتَحِثُّ (يَسْتَعْجِلُ) خُطاهُ، عائِدًا إلى مَغْناهُ. فَلمَّا بلَغَ مُنْتَصَفَ طَرِيقهِ صادَفَ أَخاهُ، فَهالَهُ منهُ ما رآهُ مِنْ تَجَهُّمِ مُحَيَّاهُ، وظُهورِ الْقَلَقِ والْحَيْرَةِ على سِيماهُ. وأَحَسَّ الأميرُ بِما هُوَ مُسْتَهْدِفٌ لَهُ مِنْ كَيْدِ الدَّهْرِ وأَذاهُ، وتَأَكَّد لَهُ — مِنْ عُبُوسِ مَرْآهُ — صِدْقُ ما كانَ يَحْذَرُهُ ويَخْشاهُ.
فابْتَدَرَهُ يَسأَلُهُ جَلِيَّةَ الْخَبَرِ مُتَلَهِّفًا، ويَسْتَوْضِحُهُ حقيقَةَ الْأَمْرِ مُتَخَوِّفًا: «كَيْفَ أَهْمَلْتَ نَصيحتي وَخالَفْتَها؟ وأَيْنَ الأمِيرَةُ؟ ولِماذا تَرَكْتَها؟»
فَأَنْشَأَ يَقُصُّ على أَخِيهِ قِصَّتَهُ، باسِطًا إِلَيْهِ مَعْذِرَتَهُ، مُلْتَمِسًا منْهُ مَغْفِرَتَهُ. ولكِنَّ «راما» قاطَعَهْ غاضِبًا صاخِبًا، وقال لَهُ لائِمًا عاتِبًا: «شَدَّ ما أخْطَأْتَ — يا أخي — في عَجَلَتِكَ، وأَسَأْتَ في فَعْلَتِكَ، فَهَلُمَّ نُسْرِعْ إِلَيْها، لَعَلَّنا نَعْثُرُ عَلَيْها؛ فَإِنَّ قَلْبِي يُحَدِّثُنِي بِأَنَّنا قادِمانِ على أَمْرٍ خَطِيرٍ، وشَرٍّ مُسْتَطِيرٍ!»
(٢) حُزْنُ الْأَميرِ
وبذَلَ الْأَميرانِ جُهْدَيْهِما، مُسْرِعَيْنِ في جَرْيِهِما، حَتَّى أَشْرَفا على مَغْناهُما في الْوادِي. وهَتَفا باسْمِها بِأَعْلى صَوْتِهِما، ثُمَّ أَعادا نِداءَهُما، وكَرَّرا دُعاءَهُما؛ فَضاعَتْ صَيْحاتُهُما سُدًى، ولَمْ يُجِبْ نِدَاءَهُما غَيْرُ رَجْعِ الصَّدَى.
فَزَادَتْ حَيْرَةُ «راما» وفَزَعُهُ، واشْتَدَّ ارْتِباكُهُ وجَزَعُهُ، وراحَ يَجْرِي باحِثًا بَيْنَ الْأَشْجارِ والْغُدْرانِ، مِنَقِّبًا في السُّهُولِ والْوِدْيانِ، مُتَفَقِّدًا إِيَّاها في كُلِّ مَكانٍ، دُونَ أَنْ يُسْعِدَهُ الْقَدَرُ، بالْعُثُورِ لَها على أَثَرٍ. فَنَفِدَ (فَرَغَ) صَبْرُهُ، وخَذَلهُ تَجَمُّلُهُ، وتَمَلَّكَتْهُ الْحَسْرَةُ فَكادَتْ تَقْتُلُهُ، فَقالَ لِأَخِيهِ، والْحَزْنُ مُلِحٌ عَلَيْهِ (لا يُمْهِلُهُ) والْأَسَى مُسْتَبِدٌّ بهِ؛ يُضِلُّهُ — عَنْ قَصْدِهِ — ويُذهِلُّهُ: «لَقَدْ سَرَقَها الشَّيْطانُ، وأَصْبَحَتْ في خَبَرِ كانَ!»
فَقالَ الْأَميرُ «لَكْشمانُ»: «ما أَظُنُّ ذاكَ، وما أراكَ إلَّا ظافِرًا بالأَمِيرَةِ هُنا أوْ هُناكَ! فَلا تَسْتَسْلِمْ لِلْأَحْزانِ، ولا تَتْرُكْ نَفْسَكَ نَهْبًا لِلْوَساوِسِ والْأَشْجانِ، فَلَعَلَّها رَقَدَتْ على حافَةِ الْغَدِيرِ، مُنْصِتَةً إِلى رَنِينِ الْخَرِيرِ؛ فاسْتَسْلَمَتْ لِمَنامِها، واشْتَغَلَتْ بِطَيِّبِ أحْلامِها. أوْ لَعَلَّها جَالِسَةٌ في مَكانٍ بَعِيدٍ أوْ قَرِيبٍ، مَشْغُولَةٌ بِتَأَمُّلاتِها في زَهْرِ «اللُّوتَسِ» الْعَجِيبِ؛ فَإِنَّهُ — إلى نَفْسِها — شائقٌ حَبِيبٌ. وطالَما أَلِفَتِ الْجُلُوسَ بَيْنَ الْأَزْهارِ، وفي ظِلالِ الْأَشْجارِ، حَيْثُ تَبْهَجُ لِغِناءِ الْأَطْيارِ الشَّجِيّةِ، وتَتَمَتَّعُ بِرائِحَةِ الْوُرُودِ الذَّكِيَّةِ. أوْ لَعَلَّها خَرَجَتْ تَبْحَثُ عَنْكَ في أرْجاءِ الْغابةِ، بَعْدَ أَنْ طالَ انْتِظارُها، وعِيلَ اصْطِبارُها، وأَضَجَرَها طُولُ غَيْبَتِكَ، وانْتِظارُ عَوْدَتِكَ!»
فَلمَّا سَمِعَ ذلِكَ عَاوَدَهُ شيْءٌ مِنَ الْأَمَلِ بَعْدَ الْيَأْسِ. واسْتَأْنَفَ البَحْثَ عَنْها معَ أَخِيهِ — مرَّةً أُخْرَى — في كلِّ ناحِيَةٍ، قاصِيَةٍ ودانِيَةً، حَتَّى جاءَ وَقْتُ الْعَتَمَةِ، ثُمَّ أَعْقَبَهُ أَوانُ الظُّلْمَةِ، فَلَمْ يَثْنِ ذَلِكَ منْ عَزْمِهما، عَنِ الْبَحْثِ طُولَ لَيْلِهِما، حَتَّى أَشْرَقَتْ شَمْسُ الْغَدِ، وارْتَفَعَ ضَوْءُها وامْتَدَّ، فَوَهَنَ الْعَزْمُ مِنْهُما، ودَبَّ الْيَأْسُ إِلَى نَفْسَيْهِما، وأيْقَنا — حِينَئِذٍ — باخْتِفائِها، واسْتِحالةِ لِقائِها، بَعْدَ أَنْ أَصْبَحَ سَعْيُهُما قَلِيلَ الْغَناءِ (بِلا فَائِدَةٍ)، وانْطَفَأَ مِنْ قَلْبَيْهِما نُورُ الرَّجاءِ.
(٣) مُناقَشَةُ الأَخَوَيْنِ
فارْتَمَى الْأَمِيرُ عَلَى الْأَرْضِ بِعَزِيمَةٍ خائِرَةٍ، ونَفْسٍ ثائِرَةٍ. وقالَ لِأَخِيه، وَالْحُزْنُ بِنارِهِ يَكْوِيهِ: «كَيْفَ تَرَكْتَها؟ ولماذا خالفْتَ نَصِيحَتِي وأَهْمَلْتَها؟ أَلا لا أَرَى وَجْهَكَ بَعْدَ الآنَ، وحَسْبُكَ ما جَلَبْتَهُ عَلَيَّ مِنْ فُنُونِ الشَّقاءِ والْأَحْزانِ، وضُروبِ الْبَلَاءِ والامْتِحانِ.»
فاقْتَرَبَ مِنْهُ الأَميرُ الصَّغِيرُ مُسْتَعْطِفًا، وقالَ لَهُ مُتَوَدِّدًا مُتَلَطِّفًا: «أناةً — يا أخِي — وصَبْرًا، فَلَيْسَ مِنَ الْحَزْمِ أن يَسْتَسْلِمَ الإنْسانُ لِلْيَأْسِ ما دَامَ حَيًّا، فَإِنَّ اليَأْسَ لا يَجْدُرُ بِغَيْرِ الْجُبَناءِ والْمُتَرَدِّدِينَ، ولا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدِبَّ إِلى قَلْبِ مِثْلِكَ مِنَ الصَّابِرِينَ الْمُجَرِّبِينَ. وَسنَظْفَرُ بِطِلْبَتِنا ولَوْ بَعْدَ حِينٍ، ولَنْ يَعُوقَنا ما نَلْقاهُ في طرِيقِنا مِنْ شَدائِدَ وَأَهْوالٍ، وأَعْباءٍ ثِقالٍ، عن بُلُوغِ ما نَصْبُو إِليْهِ من آمالٍ، فَإِنَّ الشَّجَاعةَ والْمُثَابَرَةَ — كما تَعْلَمُ — كَفِيلَانِ بالْوُصُولِ إلى غايَتِنا، والظَّفَرِ بِأُمْنِيَّتِنا، واسْتِرْجاعِ أمِيرَتِنا؛ ولوْ خَطِفَها الشَّيطانُ «رَڨانا» مَلِكُ الْعفَارِيتِ والْجِنِّ والتَّوابِعِ، وحاكِمُ الْمَرَدَةِ والْأَبَالِسَةِ والزَّوابِعِ.»
فَقال «راما» وَهُوَ يُغالِبُ يَأْسَهُ مُتَجَمِّلًا، وَيَكْتُمُ غَيْظَهُ مُتَحَمِّلًا: «وإِلى أيِّ مَكانٍ نَقْصِدُ، وَقَدْ سُدَّتْ دُونَ غايتنا الْأَبْوابُ، وَتَقَطَّعَتْ بِنا الْأَسْبابُ، وضاقَ عَلَيْنا فَسِيحُ الرِّحابِ؟»
فَقالَ أَخَوهُ: «صَوْبَ الْجَنُوبِ، يا أَخِي! فما أَكْثَرَ ما سَمِعْتُ أَنَّ مَدِينَةَ الْعَفَارِيتِ الَّتي يَحْكُمُها «رَڨانا» قَرِيبَةٌ دَانِيَةٌ، مِنْ تِلْكَ الْمِنْطَقَةِ النَّائِيَةِ. فَهَلُمَّ بِنا لَعَلَّنا نَظْفَرُ — مِنْ آثارِها — بِما يُهَوِّنُ الصِّعابَ عَلَيْنا، وَيَرْجِعُ الْأَمِيرَةَ (يُعِيدُها) إليْنا»
(٤) حَدِيثُ النَّسْرِ
وَسارَ الأَمِيرانِ في الاتِّجَاهِ الْجَنُوبيِّ زَمنًا يَسِيرًا. ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ «راما» أَنْ شَكَرَ أَخاهُ، بَعْدَ أَنْ ظَهر لهُ صَوابُ ما أبْداهُ، وَصِدْقُ ما اقْتَرَحَهُ وارْتَآهُ؛ فَقَدْ لَقِيا نَسْرًا عَظِيمَ الْجِسْمِ، هائِلَ الْحَجْمِ، يَسِيلُ دَمُهُ الْغَزِيرُ، مِنْ جُرْحِهِ الْكَبِيرِ، فَأَسْرَعا يَسْأَلانِه، وَعَنْ سِرِّهِ يَسْتَوْضِحانِه، فَرَفَع النَّسْرُ رَأْسَهُ، وَهُوَ يُغالِبُ يَأْسَهُ، وَحَيَّاهُما بِإِيماءَةً (إِشارَةٍ) قَصِيرَةٍ، وَهُوَ يَجُودُ بِأَنْفاسِه الْأَخِيرةِ. وَقالَ لَهُما وَهُوَ يُحْتَضَرُ، وَقَدْ أَشْرَفَ عَلَى الْخَطَرِ: «لَعَلَّكُما أَيُّها الْأَمِيرانِ، عَنْ أَمِيرَتِكُما تَبْحثانِ، وفِي أَثَرِها تَجِدَّانِ؟»
فَأَصْغَيا إِلَى بَيانِهِ، وَدَهِشا مِمَّا يَسْمعَانِهِ، وَقالا مُتَعَجِّبَيْنِ، وَمِنْ حَدِيثِهِ مُتَحَيِّرَيْنِ: «ما أَصْدَقَ ما حَكَيْتَ، وَأَعْجَبَ ما رَوَيْتَ، فَحَدِّثْنا بِما رَأَيْتَ. وَلا تَبْخَلْ عَلَيْنا بِما تَعْلَمُ مِنْ أَخْبارِها، لَعَلَّنا نُوَفَّقُ — بِهَدْيِكَ — إلى اقْتِفاءِ آثارِها.»
فَأَجابَهُما مُتَأَلِّمًا، وَلِلْقَدَرِ مُسْتَسْلِمًا: «لَقَدْ أُصِبْتُ بِهذا الْجُرْحِ وأنا أَذُودُ (أُدافِعُ) عَنْها وَأَحْمِيها، مِنْ كَيْدِ خاطِفيها. ولكِنَّ «رَڨانا» قَدِ ابْتَدرَني بِطَعْنَةٍ عاجِلَةٍ، مِنْ حَرْبَتِهِ الْقاتِلَةِ، ثُمَّ طارَ بِمَرْكبَتِهِ، وَفَرَّ بأَسِيرَتِهِ.»
فَسَأَلَهُ «راما»: «ومِنْ أيِّ طَرِيقٍ مَرَّ؟ وإِلى أيِّ ناحِيَةٍ فَرَّ؟»
فَعَجَزَ الطَّائِرُ عَنِ الْكلام، بَعْدَ أَنْ أَلَحَّ عَلَيْهِ السِّقامُ. وَحاوَلَ الْأَمِيرانِ عَبَثًا أَنْ يَقِفا نَزِيفَ الدَّمِ لِيُنْقِذاهُ مِنْ صَرْعَتِهِ، أَوْ يُنَعِشاهُ مِنْ عَثْرَتِهِ؛ فَلَمْ يَزِدْ حِينَئِذٍ عَلَى هَمْسَةٍ أَسَرَّها إِلَيْهِمْ، وهُو يُعانِي ضُروبًا مِنْ آلامِ الْمَوْتِ وسَكَراتِهِ، ويُقاسي أَلْوَانًا مِنْ شِدَّتِهِ وغَمَرَاتِهِ: «إلى الْجَنُوبِ … جَبَل «رِشْيامُوكا» … «سُجْرِيڨا» … مَلك «الڨانار» … مَعونَتَهُ!»
ثُمَّ كَفَّ عَن الْحَرَكَةِ وَاسْتَحالَ عَلَيْهِ الْكَلامُ، وانْتَظَمَتْ جِسْمَهُ الرِّعْشةُ، حَتَّى أَسْلَمتْهُ إلى الْحِمامِ (انْتَهَتْ بهِ إلى الْمَوْتِ).
(٥) جَبَلُ القرُودِ
فَلَمْ يَجدا وَسِيلَةً لِمُكافَأَةِ هذا النَّسْرِ الْكَرِيمِ، عَلَى صَنِيعِهِ الْعَظِيمِ، وَإِظْهارِ إِجْلالِهِما وإِكْبارِهِما، والتَّعْبِيرِ عَنْ ثنَائِهِما وشُكْرِهِما، إِلَّا أَنْ يَخُطَّا (يَشُقَّا) لهُ في أرْضِ الْغابةِ قَبْرًا، وإِنْ قَلَّ ذلِكَ لهُ جَزاءً وأجْرًا. ثُمَّ دَفَنا جُثَّتَهُ في تُرْبَتِهِ، عِرْفانًا لِنَبالَتِهِ، وتَقْدِيرًا لِشَجاعَتِهِ.
ثُمَّ جَدَّدا عَزْمَهُما، واسْتَأُنَفا — إلى الْجَبَلِ — سَيْرَهُما. وطالَتْ رِحْلَتُهما الشَّاقَّةُ في غابَةِ الشَّياطِينِ الْمُظْلِمَةِ أَيَّامًا عِدَّةً، يَحْدُوهُما ضَعِيفُ الْأَمَلِ، حَتَّى بَلَغا سَهْلًا واسِعًا يَلُوحُ في آخِرِهِ ذلِكَ الْجَبَلُ.
فَصاح الْأَمِيرُ الصَّغِيرُ فَرِحًا مَسْرُورًا، وَقالَ لِأَخِيهِ مُبْتَهِجًا مَحْبُورًا: «ها هُو ذا جَبَلُ «رِشْيامُوكا». أَلَيْسَ هذا بَشِيرًا باهْتِدائِنا، وإِيذانًا بالْفَوْزِ على أَعْدائِنا؟»
فَأَجابَهُ أَخُوهُ: «ما أَصْدَقَ أَنْبَاءَكَ، وأَصَحَّ آراءَكَ!»
(٦) سَفِيرُ الْمَلِكِ
ثُمَّ أَسْرَعا صَوْبَ الْجَبَلِ حتَّى بَلَغا سَفْحَهُ، وأرادا أَنْ يَرْتَقِياهُ لَعَلَّهُما يَلْقَيانِ «سُجْرِيڨا». وإِنَّهُما لَيَحْلُمانِ بِتَحْقِيقِ ذلِكَ الْأَمَلِ، إذا بِقِرْدٍ كَبِيرٍ ضَخْمِ الْجُثَّةِ، يَخْرُجُ عَلَيْهِما مِنْ إِحْدَى مَغاراتِ الْجَبَلِ، ثُمَّ يَعْتَرِضُ طَرِيقَهُما، ويَقُولُ لَهُما: «قِفا أيُّها الرَّجُلانِ، وخَبِّرانِي: ما بالُكُما تُسْرِعانِ؟ وفِيمَ أنْتُما قادِمانِ؟ وإلى أيِّ مَكانٍ تَقْصِدانِ؟ فَإِنِّي سَفِيرُ «سُجْرِيڨا» وَاسْمِي «هانُومانُ».» فَابتَهَجا بِلِقاءِ هذا السَّفِيرِ، وسُرَّا مِنَ الْقِرْدِ الْكَبِيرِ؛ فَقَدْ رَأْيا دَلائِلَ الشَّهامَةِ وسَماحَةِ النَّفْسِ بادِيَةً عَلَى سِيماهُ، بِرَغْمِ قُبْحِ مَنْظَرِهِ وخُشُونَةِ مَرْآهُ. فَتَوَدَّدَ الْأَميرُ إِلَيْهِ، وأَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَقَدِ ابْتَهَجَتْ نَفْسُهُ لِلُقْياهُ، وأَيْقَنَ أنَّهُ قَدْ ظَفِرَ بِما تَمَنَّاهُ. واعْتَزَمَ أَنْ يُفْضِيَ إِلَيْهِ بِقِصَّتِهِ، ويَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى إِنْجازِ خُطَّتِهِ.»
(٧) آثارُ الْأَمِيرَةِ
ولا تَسَلْ عَنْ فَرَحِ الْأَميرِ حِينَ أخْبَرَهُ «هانومانُ» أنَّهُ رَأَى مَرْكَبَةَ الشَّيْطانِ، سَرِيعَةَ الطَّيَرَانِ، مَيَمِّمَةً صَوْبَ الْمِنْطَقَةِ الْجَنُوبِيَّةِ، وهِيَ تُقِلُّ (تَحْمِلُ) أَمِيرةً فَتِيَّةً، وقَدْ ألْهَمها عَقْلُها الذَّكِيُّ، فَأَلْقَتْ بِوِشاحِها الذَّهَبِي، وعِقْدِها اللُّؤْلُئِيِّ.
وَما رَأَى الْأَميرُ الْوِشاحَ والْعِقْدَ، حتَّى غَلَبَهُ الْأَسَى (الْحُزْنُ) وهاجَهُ الْوَجْدُ؛ فَلَمْ يَسْتَطِعْ إِخْفاءَ زَفْرَتِهِ، ولَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُغالَبَةِ عَبْرَتِهِ (دَمْعَتِهِ)، فَحَزِنَ «هانومانُ» لِحُزْنِ صاحبِهِ الْجَدِيدِ، وقال لهُ: «لَعَلَّكَ جِئْتَ تَطْلُبُ الْمَعُونَةَ مِنْ «سُجْرِيڨا» موْلاي، فَهَلُمَّ معي مُتَتَبِّعًا سَيْرِي وخُطايَ.»
(٨) الْعَرْشُ المُغْتَصَبُ
وَسارَ بِهِما السَّفِيرُ مُيَمِّمًا (قاصِدًا) ظَهْرَ الْجَبَلِ حتَّى اعْتَلَياهُ، وما لَبِثا أَنْ بَلَغا قِمَّتَهُ وذُراهُ، وقَدْ أَخْبَرَهُما — في أَثْناءِ سَيْرِهِما — أَنَّ هذا الْجَبَلَ الشَّاهِقَ يَقْطُنُهُ فَصائِلُ لا يُحْصَى عَدَدُها مِنَ الْقُرُودِ الْكِبارِ، يُطْلَقُ عَلَيْها اسْمُ قَبائِل «الڨَانار». وقَدْ حَكَمَها «سُجْرِيڨا» زَمَنًا طَوِيلًا، ثُمَّ نازَعَهُ أَخُوهُ «بالي» وَشَنَّ عَليهِ غارَةً شَعْواءَ، وحَرْبًا هَوْجَاءِ، انْتَهَتْ بِهَزِيمَةِ «سُجْرِيڨا» هزِيمةً نَكْراءَ. ولَمَّا رَأَى نَفْسَهُ مُعَرَّضًا لِلتَّهْلُكَةِ فَرَّ هارِبًا مِنْ تِلْكَ الْمَمْلَكَةِ. واسْتَأْثَرَ الْغاصِبُ بِعَرْشِ «كِشْكِنْدَةَ»، وبَقِيَ «سُجْرِيڨا» — مُنْذُ سَنَواتٍ يُعانِي الْأَلَمَ والضّيقَ، بَعْدَ أَنْ حَلَّ جَبَلَ «رِشْيامُوكا» ذلِكَ الْمَنْفَى السَّحِيقَ. فَأَمَّا أعْوانُهُ وحاشِيَتُهُ فَقَدِ انْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ، وجَحَدُوا ما أَسْلَفَ لَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، ولَمْ يَبْقَ إلى جانبِهِ إلَّا بَعْضُ جُنودِهِ الأَوْفياءِ الْأَخْيارِ، وعلى رَأْسِهِمْ «هانومانُ» زعيمُ قَبائِلِ «الڨَانارٍ».
(٩) فِي الْمَنْفَى
ثُمَّ اسْتَأْنَفَ حَدِيثَهُ قائِلًا: «رُبَّما أتاحَ لَكَ الْقَدَرُ فُرْصَةً سَعِيدةً، تُمْكِنُكَ مِنْ مُساعَدَةِ مَلِيكِنا «سُجْرِيڨا» فِي رَدِّ عَرْشِهِ الْمَفْقُودِ، ومُلْكِهِ الْمَنْشُودِ، ما دُمْتَ مُتَنَبِّلًا، تَمْلِكَ ما تَمْلِكُ مِنْ أسْلِحَةِ النَّاسِكِ الْمَوْفُورَةِ، وسِهامِهِ الْمَسْحُورَةِ، فَإِذا تَمَّ لِمَوْلايَ — بِفَضْلِكَ — النَّصْرُ عَلَى غاصِبِ مُلْكِهِ، فَلَنْ يَتَرَدَّدَ في مُعاوَنَتِكَ، عَلَى هَزِيمَةِ خَصْمِكَ. فَإِنَّهُ وقَوْمَهُ، لَنَا ولِقَوْمِنا أعْدَاءٌ، وخُصُومٌ أَلِدَّاءُ، وكَراهِيَتُنا لهُمْ نامِيَةٌ، وأَحْقادُنا عَلَيْهِمْ باقيَةٌ حامِيَةٌ.»
وَلَمَّا بَلَغُوا قِمَّةَ الْجَبَلِ، وجَدُوا «سُجْرِيڨا» جالِسًا في مَنْفَاهُ، مُسْتَغْرِقًا في حُزْنِهِ مُسْتَسْلِمًا لِأَسَاهُ. ولَمْ يَسْتَمِعْ إلى حَدِيثِ «راما» حتَّى بَرَقَ الْأَملُ عَلَى مُحَيَّاهُ، فَقالَ مُخاطِبًا إِيَّاهُ: «ما دُمْتَ تَمْلِكُ عزِيمَتَكَ الْماضِيَةَ، وسِهامَكَ الْقاضِيَةَ، فَقَدْ زالَ عَهْدُ مِحْنَتِنا وَشَقَائِنا، وَضَمِنَّا الْفَوْزَ عَلَى أَعْدائِنا. وَقَدْ أَصْبَحَ نَجاحُنا — بَعْدَ قَلِيلٍ — مَأْمُولًا، وَنَصْرُنا — بِفَضْلِ تَعاوُنِنا — مَكْفُولًا. وَأَنا قَادِرٌ على مُناجَزَةِ الغَاصِبِ وَحْدِي، وَالتَّغَلُّبِ عَلَيْهِ بِجُهْدِي. وَإِنِّي لَعَلَى ثِقَةٍ مِنْ حُسْنِ الْمَصِيرِ، إِذا كَفَيْتَنِي مُحارَبَةَ جَيْشِهِ الكَبِيرِ.»
فَتَعاهَدا عَلَى ذلِكَ، وأَقْسَما لَيَظْفَرانِّ بهِ وَلَوْ خاضا الْمَهالِكَ، وَلَيُدْرِكانِّ ما أَراداهُ، وَيَبْلُغانِّ ما تَمَنَّياهُ.
(١٠) مَصْرَعُ الغاصِبِ
فَتَوَسَّلَ إِلَيْهِ «راما» أَلَّا يُضِيعَ شَيْئًا مِنَ الْوَقْتِ فِي الْأَسَفِ والْعَوِيلِ، وَأَنْ يُعِدَّ عُدَّتَهُ لِلرَّحيلِ. فَبَلَغُوا مَمْلَكَةَ «كِشْكِنْدةَ» بَعْدَ زَمَنٍ قَلِيلٍ.
وَكان الْغاصِبُ الْجَرِيءُ «بالي» قَدْ بَلَغَهُ بَعْضُ أَنْبائِهِمْ؛ فَأَسْرَعَ إلى لِقائِهِمْ، وأَعَدَّ لَهُمْ جَيْشًا لا يُحْصَى عَدَدُهُ مِنْ الْأَبْطالِ، مِمَّنْ لا يَخْشَوْنَ الرَّدَى وَلا يَهابُون الْقِتالَ. وَلَمْ يَرَ أَخاهُ حَتَّى هَجَمَ عَليْهِ غاضِبًا مِن جُرْأَتِهِ؛ فَلَقِيَهُ الآخَرُ دُونَ تَهَيُّبٍ لِقُوَّتِهِ، ولا خَوْفٍ مِنْ سَطْوَتِهِ. وَعَلَتِ الصَّيْحاتُ مُتَرَدِّدَةً، مُنْذِرةً بالْوَيْلِ مُتَوَعِّدَةً، مُنْبَعِثَةً مِنَ القرِدَيْنِ، مُؤْذِنَةً بالْهَلاكِ والْحَيْنِ.
ووَقَفَ «راما» — بادئَ الأَمْرِ — مُتَرَقِّبًا أَنْ يَصْرَعَ «سُجْرِيڨا» خَصْمَهُ «بالي»، دُونَ حاجَةٍ إلى مُسَاعَدَتِهِ. ولكِنَّهُ لَمَّا رَأَى قُوَّةَ الْغاصِبِ، خَشِيَ سُوءَ الْعَوَاقِبِ.
وكان «راما» — كَما حَدَّثْتُكَ — نَبَّالًا ماهِرًا، بارِعًا في الرِّمايَةِ قادِرًا. فَسَدَّدَ إلى قَلْبِه سَهْمًا نافِذًا فَأَصْماهُ (أَهْلَكهُ وَأَرْداهُ)، وَأَفْقَدَهُ الْحَياةَ، وخَرَّ «بالي» صَرِيعَ بَغْيِهِ وأَذاهُ.
(١١) أَفْراحُ النَّصْرِ
وَنادَى الزَّعِيمُ «هانومانُ» جُيُوشَ «بالي» أَنْ يَعُودُوا إلى طاعَةِ مَلِيكِهِم «سُجْرِيڨا». وَكانوا جَمِيعًا يُحِبُّونَهُ، ولَمْ يَدِينُوا بِطاعَة «بالي» إِلَّا خَوْفًا مِنْ جَبَرُوتِهِ وَبَطْشِهِ. وَقَدْ فَرِحُوا بانْتِصَارِ مَلِيكِهِمُ الْأَوَّلِ، وَهَتَفُوا لهُ مُتَحَمِّسِينَ، وأَقْبَلُوا عَليْهِ مُهَنِّئِينَ.
وشَكَرَ الْمَلِكُ لِمُنْقِذِهِ «راما» وَكَرَّرَ لَهُ وَعْدَهُ بِأَنْ يُطْلِقَ جُيُوشَهُ في أَنْحاءِ الْبِلَادِ — مَتَى عادَ إلَى حاضِرَةِ مُلْكِهِ — لِيُوَاصِلُوا الْبَحْثَ عَنْ «سِيتا»، ويُنْزِلُوا بِخَصمِهِ الشَّيْطانِ، ما هُوَ جَدِيرٌ بهِ مِنَ الذِّلَّةِ والْهَوانِ، جَزاءَ ما أَسْلَفَ مِنْ بَغْيٍ وعُدْوَانٍ.
وَمَرَّتِ الْأَيَّامُ سِرَاعًا بَعْدَ أَنْ عادَ «سُجْرِيڨا» إلى حاضِرَةِ الْمُلْكِ، واسْتَتَبَّ لَهُ الْأَمْرُ، وَشَغَلَتْهُ أَفْرَاحُ النَّصْرِ عَنْ تَحْقِيقِ وَعْدِهِ، وَالْوَفاءِ بِعَهْدِهِ. وانْقَضَتِ الشُّهورُ مُسْرِعَةً، وهُوَ لا يُفِيقُ مِنْ سَكْرَةِ الانْتِصارِ، وَلا تَنْقَضِي وَلائِمُهُ لَيْلَ نَهارَ، غَيْرَ مُفَكِّرٍ في إِعْدادِ الْجَيْشِ الْكَبِيرِ، لِتَحْقِيقِ طِلْبَةِ الْأَمِيرِ.
(١٢) الْجُيُوشُ الْأَرْبَعَةُ
وَخَجِلَ «هانومانُ» — زَعيمُ الْقُرُودِ — مِنْ إِغْضاءِ مَوْلاهُ، وتَهاوُنِهِ في إِبلاغِ الْأَمِيرِ مُبْتَغاهُ، فَذَهَبَ إِلَيْهِ رَاجِيًا مُسْتَعْطِفًا، وَتَحَيَّنَ فُرْصَةً سانِحَةً لِتَذْكِيرِهِ بِوَعْدِهِ مُتَلَطِّفًا. وَما زالَ يَبْذُلُ جُهْدَ حِيلَتِهِ حَتَّى أجابَهُ «سُجْرِيڨا» إِلى رَغْبَتِهِ، وَأَمَرَ بِتَوْجِيهِ أَرْبَعَةٍ مِنَ الْجُيُوشِ، إلى جِهاتِ الْعالَمِ الْأَرْبَعِ؛ فاتَّجَهَ أَحَدُها إلى الشّمالِ، والثَّانِي إلى الْجَنُوبِ، والثَّالِثُ إلى الشَّرْقِ، والرَّابِعُ إلى الْغَرْبِ. وأمَرَهُمْ أنْ يَسِيرُوا في الْأَرْضِ، حَتَّى يَهْتَدُوا إلى الْبَلَدِ الَّذِي تَحُلُّ فِيهِ «سِيتا» و«رَڨانا».
وَمَرَّ على «راما» زَمنٌ طَويلٌ قَضاهُ على أَحَرِّ مِنَ الْجَمْرِ، مُتَرَقِّبًا عَوْدَةَ أُولئِكَ الْجُنُودِ بِفارِغِ الصَّبْرِ. ثُمَّ عادَتْ ثَلَاثَة مِنَ الْجُيُوشِ، ولَمْ يَبْقَ إِلَّا جَيْشُ الْجَنُوبِ يَقُودُهُ صَدِيقُهُ الْوَفيُّ «هانومانُ» الَّذِي لا يَجُودُ بِمِثْلِهِ الزَّمانُ. ومَرَّتْ عِدَّةُ أَشْهُر دُونَ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ ذلِكَ الْجَيْشِ نَفَرٌ، أوْ يَصِلَ مِنْهُ خَبَرٌ، فَتَوَقَّعَ أَهْلُ «كِشْكِنْدَةَ» أنْ يَكُونَ قَدْ لَحِقَ بِهِ شَرٌّ، أوْ أصابَ قائِدَهُ ضُرٌّ.
(١٣) جَيْشُ الْجَنُوبِ
وَلا أكْتُمُ — أيُّها الْقارِئُ الْعَزِيزُ — أن جَيْشَ الْجَنُوبِ — وعَلَى رَأْسِهِ «هانومانُ» — قَدْ تَعَرَّضَ لِأَخْطارِ عَظِيمَةٍ، وأهْوَالٍ جَسِيمَةٍ. وقَدْ كُتِبَتِ السَّلَامَةُ لِقائِدِهِ، بَعْدَ أَنِ اسْتَهْدَفَ لِلْهَلاكِ أكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ. ولكِنَّ عَزِيمَتَهُ الْماضِيَةَ لَمْ يَتَطَرَّقْ إِلَيْها الْوَهَنُ، ولَمْ تَزْدَدْ إِلَّا قُوَّةً على الْأَحْدَاثِ وَالْمِحَنِ، فَقَدْ أَقْسَمَ لَيَعُودَنَّ بِما يُدْخِلُ السُّرُورَ على قَلْبِ صاحِبِهِ مِنْ أخْبارِ «سِيتا». فَلَمْ يُبالِ شَيْئًا فِي سَبيلِ هذَا الْعَمَلِ، وَدَرْكِ ذلِك الأمَلِ.
وَأوْغَلَ بِجَيْشِهِ — صَوْبَ الْجَنُوبِ — بَيْنَ الْأَدْغالِ، مُتَنَقِّلًا مِنْها إلَى الْمَناقِعِ (جَمْع مُسْتَنْقَعٍ) والرِّحابِ، الْمُمْتَدَّةِ على شَاطِئِ الْبَحْرِ الْعُبابِ، وفَوْقَ السُّهُولِ والْهِضابِ، صاعِدًا التِّلالَ، مُرْتَقِيًا قِمَمَ الْجِبالِ.
(١٤) حَدِيثُ النَّسْرِ
وَما زالَ يُواصِلُ بَحْثَهُ بِهِمَّةٍ لا تَعْرِفُ الْكَلالَ، وعَزْمٍ لا يَدِبُّ إلَيهِ الْمَلَالُ، حَتَّى انْتهَى بِهِ الْمَطافُ إلَى رَأْسِ طَوْدٍ أَشَمَّ (جَبَلٍ عَظِيمٍ)، عالِي الْقِمَمِ، حَيْثُ الْتَقَى بِنَسْرٍ اسْمُهُ «سَمْپاتي» بَلَغَتْ بِهِ السِّنُّ حَدَّ الْهَرَمِ، وهُوَ كَبِيرُ الْحَجْمِ، عَظِيمُ الْجِسْمِ. وقَدْ عَرَفَ — مِنْ حَدِيثِهِ — أَنَّه أخُو «چاتايُو» الَّذِي لَقِيَ مَصْرَعَهُ في سَبيلِ حِمايَةِ الأميرَةِ. وكانَ هذا النَّسْرُ مَشْغُوفًا — مُنْذُ نَشْأَتهِ — بِغايةٍ لا سَبيلَ إلَى دَرْكِها، ولا أَمَلَ في الْفَوْزِ بِها؛ فَقَدْ وَطَّدَ الْعَزْمَ عَلَى أَنْ يَرُوضَ جَناحَيْهِ عَلَى مُحاوَلَةِ جَرِيئةً، لَمْ يُفَكِّرْ في مِثْلِها أَحَدٌ منْ قَبْلِه؛ تلكَ أَنْ يُواصِلَ سَعْيَهُ حَتَّى يَبْلُغَ الشَّمْسَ، وهيَ أَقْصى أَملِهِ. وَقدْ بَلَغَ — في طَيَرانِه — حَدًّا مِنَ الارْتِفاعِ لَمْ تَصِلْ إِلَيْهِ النُّسُورُ، في سَوابِقِ الْعُصُورِ. ثُمَّ خَذَلَتْهُ قُواهُ، فَهَوَى إلى ذِرْوَةِ الْجَبَلِ مِنْ شَاهِقِ عُلاهُ، فَهِيضَ (انْكَسَرَ) جَناحاهُ، وكادَ يَفْقِدُ الْحَياةَ. وهذا جَزاءُ مَنْ يُسْرِفُ في الآمالِ، ويَجْرِي وَراءَ الْمُحالِ.
وقَدْ أَفْضَى إلى «هانومانَ» أَنَّه رأَى — في أَثْناءِ تَحْلِيقِه — مَرْكَبَةَ «رڨانا» تَهْبِطُ جَزِيرةَ «لَنْكا» وفيها أَسِيرَةٌ غاضبَةٌ، ثائِرَةٌ صاخِبةٌ، لا يَشُكُّ في أَنَّها «سِيتا» الَّتي يَبْحَثُ عنْها. ولكِنَّهُ يَخْشَى أَنْ تَكُونَ فُرْصَةُ نَجاتِها قَدْ فُوِّتَتْ علَيْه، وأَفْلَتَتْ مِنْ يَدَيْهِ، فابْتَهَجَ «هانومانُ» بِما سَمِعَ، وقالَ لَهُ: «لَنْ تَضِيعَ الْفُرْصَةُ — يا سَيِّدِي — فَإِنِّي مُسْرِعٌ إلى إِنْقاذِها، وَمَعِي مِنْ جُيُوشِ «الْڨانار»، أَشْجَعُ الشُّجْعانِ، وقَدْ عَزَمْنا عَلَى غَزْوِ ذلِكَ الشَّيْطانِ.»
فَقالَ لَهُ «سَمْپاتي»: «إِنَّ الْبَحْرَ ذا الْأَمْوَاجِ الثَّائِرَةِ يَكْتَنِفُ جَزِيرَةَ «لَنْكا» مِنْ كُلِّ جهاتِها، ويُحِيطُ بِها منْ جَمِيعِ جَنَباتِها. وَلَيْسَ في قُدْرَةِ أَحَدٍ أَنْ يَبْلُغَها إلَّا ذلِكَ الشَّيْطانُ، وأَعْوانُهُ مِن الْعَفارِيتِ والْجانِّ.»
(١٥) عُبُورُ البحرِ
وَلَمْ يَكُفَّ هذا الْكلامُ مِنْ دَأْبِ «هانومانَ»، بَلْ ضاعَفَ هِمَّتَهُ، وَقَوَّى عَزْمَتَهُ. وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يَعُودَ إلى صاحِبِهِ «راما» لِيُخْبِرَهُ بِما انْتهَى إِلَيْهِ سَعْيُهُ، بَلْ عَزَمَ عَلَى زِيارةِ «لَنْكا» لِيَتَعَرَّفَ بِنَفْسِهِ خُطَطَ الْأَعْداءِ ويَزِنَ قُوَّتَهُمْ، وَيَتَكَشَّفَ الْمَكانَ الَّذِي سَجَنُوا فِيهِ أَسِيرَتَهُمْ، ويُدَبِّرَ — لإِطْلاقِ سَراحِها — خُطَّةً بارِعَةً، وطَرِيقَةً نَاجِعَةً.
فَأَمَرَ جَيْشَهُ بالْبَقاءِ — حَيْثُ هُوَ — رَيْثَما يَرْتادُ الطَّرِيقَ، وَيَضْمَنُ لَهُمُ الْفَوْزَ وَالتَّوْفِيقَ. وذَهبَ «هانومانُ» حَتَّى بَلَغَ شَاطِئَ الْبَحْرِ، فَأَيْقَنَ بِصِدقِ ما قالَهُ صَدِيقُهُ النَّسْرُ، ورأَى — مِنْ أَهْوالِهِ وَعَجائِبِهِ — بُعْدَ نَظَرِ صاحِبِهِ، فيما حَدَّثَ بِهِ.
وَعَرَفَ أَنَّهُ كانَ جادًّا حين حَذَّرَهُ أَنْ يُغَرِّرَ بِنَفْسِهِ في تِلكَ الشِّعابِ والْمَسَالِكِ، وَهِيَ مَمْلُوءَةٌ بالأَخْطارٍ وَالْمَهالِكِ؛ فَقَدْ لاحَتْ جَزِيرَةُ «لَنْكا» الْمَسْحُورَةُ عَلَى مَسافَةٍ بَعيدَةٍ في عُرْضِ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ بِها مِنْ جَمِيعِ نَوَاحِيها، فاسْتَحالَ بُلُوغُها عَلَى غَيْرِ أَهْلِيها. وَلكِنَّ الْعَزِيمَةَ الْوَثَّابةَ لا تَقِفُ عَقَبَةً دُونَ تَحْقِيقِ أمانِيها، وَلا يَعْتَرِضُها في سَبيِلِ أَهْدافِها شَيْءٌ يَعُوقُها أَوْ يَثْنِيها. وكانَ «هانومانُ» سَبَّاقَ الْخَطْوِ، بارِعًا في الْعَدْوِ، جَرِيءَ الْوَثَباتِ، سرِيعَ الْقَفَزاتِ، فَأَغْراهُ ذلِكَ بالتَّفكِيرِ في مُحَاولَةٍ خَطِيرةٍ، لَمْ يُفَكِّرْ في مِثْلِها — مِنْ أبْناء جِنْسِه — أَحَدٌ، فَقَدِ اعْتَزَمَ أَنْ يَظْفَرَ بِطِلْبَتِهِ، أوْ يَمُوتَ في سَبيلِ غايَتِهِ، وَقَرَّرَ أَنْ يَقْفِزَ مِنْ شاطِئِ الْبَحْرِ إلى شاطِئِ الْجَزِيرَةِ، غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بالأَمْوَاجِ الثَّائِرَةِ الْهائِجَةِ.
وَما أَبْرَمَ هذا الْعَزْمَ حتَّى ارْتَقَى — مِنْ فَوْرِهِ — ذِرْوَةَ صَخْرَةٍ ناتِئَةٍ، ثُمَّ قَفَزَ فِي الْهَواءِ قَفْزَةً عالِيَةً، عَبَرَ بِها إلى الجَزِيرَةِ النَّائِيَةِ.
(١٦) في جَزِيرَةِ «لَنْكا»
وَحِينَئِذٍ سُرِّيَ عَنْ نَفْسِهِ ما أَلَمَّ بِها مِنَ الضِّيقِ، بَعْدَ أَنْ لاحَتْ لَهُ بَشائِرُ التَّوْفِيقِ. وَقَدِ اشْتَدَّ عَجَبُهُ مِمَّا رَأَى في تِلْكَ الْجزِيرَةِ الْمَسْحُورَةِ، مِنْ رَوَائِعِ الْمَناظِرِ الطَّبِيعِيَّةِ الْكَثِيرَةِ الْمَوْفُورَة؛ مِمَّا تَخْلُبُ الْأَلْبابَ رُؤْيَتُهُ، وَتَبْهَرُ الْعُقُولَ فِتْنَتُهُ. وَقالَ في نَفْسِهِ: «إِنَّ مَواطِنَ الشَّرِّ مَصْحُوبَةٌ دائِمًا بالْمَناظِرِ اللَّطِيفَةِ، وَالْمَباهِجِ الظَّرِيفَةِ، لِتَجْتَذِبَ إِلَيْها النُّفُوسَ الضَّعِيفَةَ. كما أنَّ مَواطِنَ الْخَيْرِ مَحْفُوفَةٌ بالْمَكارِهِ والْعَقَباتِ؛ لِتُبْعِدَ عَنْها الْعَزائِمَ الْمُتَرَدِّداتِ، وَالْهِمَمَ الْفاتِرَاتِ.»
وَقَدْ رَأَى الْحَشائِشَ النَّاعِمَةَ — تَحْتَ أَقْدامهِ — مُرَصَّعَةً بالْأَزْهارِ. وَأَبْصَرَ — مِنْ حَوْلهِ — بَدَائِعَ النَّباتِ والْأَشْجارِ، مُحَمَّلَةً بِأَطْيَبِ الْفاكِهةِ وَأَلَذِّ الثِّمارِ. وَلاحَ — لِعَيْنَيْهِ — مَنْظرُ الْمَدِينَةِ الْبَهِيُّ وَسُورُها الذَّهَبِيُّ، وتَبَدَّتْ — لِناظِرَيْهِ — بُرُوجُها بِيضًا عاليَةً، مُخْتالةً زاهِيَةً، بِأَنْفَسِ اللَّآلئِ حالِيَةً، كأَنَّما بُنِيَتْ مِنَ الْأَحْجارِ الْكَرِيمَةِ، والدُّرَرِ الْيَتِيمَةِ. وهِيَ تُحِيطُ بِقَصْرِ الشَّيْطانِ «رَڨانا»، وقَدِ ارْتَفَعَتْ — مِنْ ذلِكَ الْقَصْرِ — جُدْرانُهُ الشَّاهِقَةُ، وحِيطانُهُ السَّامِقَةُ؛ فَلاحَتْ — وراءَ الْأَسْوارِ — مِنْ أَبْعَدِ مَدًى للنَّاظِرِينَ، فِتْنَةً لِلِرَّائِينَ، وجَمالًا لِلمُجْتَلِينَ (النَّاظِرِينَ).
(١٧) في ظَلامِ اللَّيْلِ
فَقالَ «هانومانُ» في نَفْسِهِ: «ما أَشُكُّ في أَنَّ الأَمِيرَةَ مُسْتَخْفِيَة في هذهِ الْمَدِينَةِ؛ فَلَأَصْبِرَنَّ مُدَّةً يَسِيرَةً، حَتَّى يَنْقَضِيَ النَّهارُ، ويَسْتَخْفِيَ نُورُهُ عَنِ الْأَبْصارِ.»
ثُمَّ صَبَرَ خَارِجَ الْمَدِينَةِ — حَتَّى يَجِنَّ اللَّيْلُ — ودَبَّرَ خُطَّةً مُحْكَمَةً، فَحَوَّلَ نَفْسَهُ قِرْدًا صَغِيرًا، بِما أُوتِيَ مِنْ فُنُونِ سَحْرِهِ وبَرَاعَتِهِ؛ حَتَّى لا يَسْتَرْعِيَ الْأَنْظارَ بِضَخامَتِهِ. ثُمَّ تَسَلَّقَ أَسْوارَها الذَّهَبِيَّةَ، وقَدْ بَذلَ جَهْدَهُ في الاسْتِخْفاءِ عَنِ الْعِيانِ، مُتَسَلِّلًا بَيْنَ الْجُدْرانِ.
(١٨) في الْقَصْرِ الشَّيْطانِيِّ
ورأى الشَّوَارِعَ فِيها رَحْبَةً، يَخْفُرُها حُرَّاسٌ مِنَ الْمَرَدَةِ والعَفارِيتِ. ولكِنَّهُمْ لَمْ يُبْصِرُوهُ لِصِغَرِ حَجْمِهِ، وضآلَةِ جِسْمِهِ. فَأَسْرَعَ إلى أَبْوابِ الْقَصْرِ الشَّيْطانِي الْكَبِيرِ، وبَحَثَ في جميعِ أنْحائِهِ وأَرْجائِهِ، وَحُجُراتِهِ ومَخادِعِهِ وأَبْهائِهِ، وفَتَّشَ أَثاثَهُ وفُرُشَهُ، وأَطالَ الْبَحْثَ والنَّظَرَ، دُونَ أَنْ يَعْثُرَ لِلْأَمِيرَةِ عَلَى أَثَرِ.
وقَدْ أَدْهَشَتْهُ رَوَائِعُ الصَّنْعَةِ ونَفائِسُ الْفَنِّ الْمُبْدَعَةُ، وفَتَنَهُ ما رآهُ، في كلِّ مَكانٍ حَلَّ بهِ واجْتَلاهُ. وكانَ مِنْ أَعْجَب ما أَعْجَبَهُ مِنْ تِلكَ التُّحَفِ الذَّهَبِيَّةِ، الْمُرَصَّعَةِ بِكَرائِمِ الْأَحْجارِ اللُّؤْلُؤِيَّةِ — مِمَّا غَصَّ بِهِ الْقَصَرُ (ازْدَحَمَ) — تِلْكَ الأَرِيكَةُ الْبَلُّورِيةُ الَّتي رَقَدَ عَلَيْها الشَّيْطَانُ «رَڨانا». وكانَ حِينَئِذٍ — مُسْتَغْرِقًا في سُباتٍ (نَوْمٍ) عَمِيقٍ، فَتَأَمَّلَ «هانومانُ» في وَجْهِ ذلِكَ الإِبْليِسِ، وأرادَ أَنْ يَبْتَدِرَهُ بِضَرْبَةٍ قاصِمَةٍ، وطَعْنَةٍ حاسِمَةٍ، تَصْرَعُهُ وتُجَدِّلُهُ، وتُرِيحُ الْعالَمَ مِنْ أذاهُ وتَقْتُلُهُ. ولكِنَّهُ رَأَىَ مِنْ الْحِكْمَةِ أَنْ يَبْدَأَ بِإِنْقاذِ الأَسِيرَةِ، وتَخْلِيصِ الأَمِيرَةِ، قَبْلَ أَنْ يَلْجَأَ إلى الْقُوَّةِ، ويُصاوِلَ عَدُوَّهُ، فَسارَ مُتَرَفِّقًا حَتَّى بَلَغَ دُورَ النِّساءِ الْجِنّيَّاتِ، وتَأَمَّلَ وُجُوهَهُنَّ الْقَبِيحاتِ. وكنَّ — حِينَئِذٍ — مُسْتَسْلِمَاتٍ لِلْكَرَى (مُسْتَغْرِقاتٍ في النَّوْمِ)، فَرَآهُنَّ دَمِيماتِ الصُّوَرِ، قَبِيحاتِ الْوُجُوهِ؛ فَأَيْقَنَ — بَعْدَما رَآهُ مِنْ دَمامَةِ وُجُوهِهِنَّ — أَنَّ الأَمِيرَةَ لَيْسَتْ إِحْداهُنَّ.
وما زالَ يُواصِلُ الْبَحْثَ في أَنْحاءِ الْقَصْرِ الشَّيْطانِيّ كُلِّهِ، حَتَّى لَمْ يَدَعْ مكانًا فِيهِ إِلَّا رَآهُ، دُونَ أَنْ يُكْتَبَ لهُ النّجاحُ في مَسْعَاهُ.
(١٩) السُّرادقُ الأَبْيَضُ
فَخَرَجَ إلى ضَوْءِ القَمَرِ مَرَّةً أُخْرَى، وقَدِ اعْتَزَمَ أَنْ يُفَتِّشَ صُرُوحَ الْمَدِينَةِ (قُصُورَها)، وبُيُوتَها وَدُورَها، باذِلًا جَهْدَ حِيلَتِهِ، لَعَلَّهُ يَهْتَدِي إلى طِلْبَتِهِ.
وأَرْهَفَ سَمْعَيهِ (أُذُنَيْهِ) وأَدارَ ناظِرَيْهِ، فَرَأى سُرادِقًا صَغِيرًا يَلُوحُ لِعَيْنَيْهِ، وهُوَ يَكادُ — لِصِغَرِهِ — يَخْتَفِي عَنِ الأَبْصارِ، لِما يَكْتَنِفُهُ مِنْ الأَشْجارِ. وقَدْ ظَهَرَ فَجْأَةً حِيالَهُ، فَجَدَّدَ آمالَهُ، مُتَبَدِّيًا كأَنَّهُ نُقْطَةٌ بَيْضاءُ في رُقْعَةٍ سَوْداءَ.
فَأَسْرَعَ إِلَيْهِ حَتَّى داناهُ، وتَلَطَّفَ في سَعْيِهِ لِيَضْمَنَ الْفَوْزَ في مَسْعاهُ، حَتَّى إِذا جاسَ خِلَالَهُ رَأَى فِيهِ ما أَدْهَشَهُ وهالَهُ، وأَبْصَرَ فَتاةً رائِعَةَ الْجَمالِ، نادِرَةَ الْمِثالِ؛ فَأَيْقَنَ أَنَّها الأَمِيرَةُ، الَّتِي أَخَذَها الشَّيْطانُ أَسِيرَةً.
فاسْتَوْلى عَلَيْهِ الْمَرَحُ والْحُبُورُ، وكاد يَصْرُخُ مِنْ فَرْطِ السُّرُورِ. ولكِنَّهُ جاهَدَ نَفْسَهُ حَتَّى لا يَطْغَى عَلَيْهِ الْفَرَحُ فَيَعُوقَهُ عَنِ النَّجاحِ، وَيَفْتَضِحَ أَمْرُهُ لِأَعْدائِهِ شَرَّ افْتِضاحِ. وقَدْ أَبْصَرَها راقِدَةً يُحِيطُ بِها حارِساتٌ مِنَ العِفْرِيتاتِ، فَاسْتَمَعَ إلى أَنَّاتِها الْخافِتَةِ الْهامِسَةِ، وأَدْرَكَ ما تُعَانِيهِ تِلْكَ الأَسِيرَةُ التَّاعِسَةُ. وخَشِيَ أَنْ يُنادِيهَا باسْمِها، فَتَسْتَيْقِظَ — مَذْعُورَةً — من نوْمِها، ورُبَّما هَبَّتْ صارِخَةً مِنْ سُباتِها، فَنَبَّهَتْ حارِساتِها.
فاسْتَعانَ بالصَّبْرِ ولاذَ بالصُّماتِ (الْتَجَأَ إلى السُّكاتِ)، حَتَّى لا تَقَعَ عَلَيْهِ أَعْيُنُ الْجِنِّيَّات. وتَرَقَّبَ فُرْصَةً تُمَكِّنُهُ مِنَ الْكَلامِ، وتُبْلِغُهُ الْمَرامَ.
(٢٠) في الصَّباحِ الباكِرِ
وَبَدَتْ تَباشِيرُ الصَّباحِ وَلاحَ الْفَجْرُ، ثُمَّ أَشْرَقَتْ فانْبَعَثَتِ الأَبْواقُ تُدَوِّي أَصْواتُها في جَنَباتِ الْقَصْرِ. وسَمِعَ وَقْعَ أَقْدامِ «رَڨانا» — وهُوَ قادِمٌ إلى السُّرادقِ — وَأَبْصَرَهُ وَهُوَ يَدْنُو من الأَمِيرةِ، وَيُحاوِرُها مُسْتَعْطِفًا يُلْقِي إِلَيْها مَعاذِيرَهُ: «لَقَدْ رَجَوْتُكِ — وَما زِلْتُ أَرْجُوكِ إلَى الْيَوْمِ — أَنْ تَنْسَيْ «راما» وَتَقْبَلِي رَجائِي راضِيَةً مَشْكُورَةً؛ لِتُصْبِحِي مَلِكَة عَلَى عَرْشِ هذِهِ الْجَزِيرَةِ، وهِيَ — كما رَأَيْتِها — عَرُوسُ بِلادِ الدُّنْيا. وقد جِئْتُ إِلَيْكِ — عَلى عادَتِي فِي كُلِّ صَباحٍ — أُسائِلُكِ: بِماذا أَنْتِ قاضِيَةٌ؟ أَغاضِبَةٌ عَلَيَّ أَمْ راضِيَةٌ؟»
فَأجابَتْهُ قائِلَةً: «الْمَوْتُ أَحَبُّ إلى نَفْسِ الْحُرِّ الْكَرِيمِ، مِمَّا تَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ غَدْرٍ ذَمِيمِ، فاذْهَبْ عَنِّي أَيُّها الشَّيْطانُ الرَّجِيمُ!»
•••
فَحاولَ أَنْ يَتَرَضَّاها، وَيَسْتَجْلِبَ صَفْحَها عَنْهُ ورِضاها. وَطالَ بَيْنَهُما الْحِوارُ، فَلَمْ يَجِدْ مِنْها غَيْرَ الْعِنادِ والإِصْرارِ، فخرَجَ مِنَ السُّرادِقِ غاضِبًا، وَقالَ يَتَوَعَّدُها لاعِنًا صاخِبًا: «ما دُمْتِ تَأْبَيْنَ إِلَّا تَمادِيًا في غُرُورِكِ وَضَلالِكِ، فَلا بُدَّ مِنْ إِرْغامِ أَنْفِكِ وَإِذْلالِكِ.»
(٢١) مُفاجَأَةٌ سارَّةٌ
وَلَمْ يُفارِقْها الشَّيْطانُ، حَتَّى سَنَحَتِ الْفُرْصَةُ لِلزَّعِيمِ «هانومانَ»؛ فَأَسَرَّ إلى الأَمِيرةِ باسْمِ «راما»، وبَلَّغَها عَنْهُ تَحِيَّةً وَسَلامًا، وَشَوْقًا وَهُيامًا، وَأَفْضَى إِلَيْها بِما قالَهُ في هَمْسٍ خَفِيٍ، وَبَيانٍ جَلِيٍّ.
فَانْتَفَضَتِ الأَمِيرةُ مَدْهُوشَةً مِمَّا سَمِعَتْ، وَتَلَفَّتَتْ حَوْلها وَنَظَرَتْ، فَلَمْ تَرَ إِلَّا قِرْدًا صغِيرًا أمامَها؛ فَأَيْقَنتْ أَنَّها كانَتْ تُناجِي أَحْلامَها.
فَهَمَسَ باسْمِهِ — مَرَّةً أُخْرَى — في صَوْتٍ خَفِيٍّ، وأَظْهَرَ لَها خاتَمَهُ الذَّهَبِيَّ، وَقَدْ نُقِشَ فِيهِ اسْمُهُ، وَطُبِعَ عَلَيْهِ رَسْمُهُ، فَكادَ يُغْمَى عَلَيْها مِنْ فَرْطِ الدَّهْشةِ والسُّرورِ، والْبَهْجَةِ والْحُبُورِ. ولكِنَّ «هانومانَ» تَوَسَّلَ إِلَيْها يَرْجُوها، وإلى طَرِيقِ الْحَزْمِ يَدْعُوها، أَنْ تَعْتَصِمَ بِشَجاعَتِها وَصَبْرِها، حَتَّى تُخْفِيَ — عَنْ حارِساتِها — حَقيقةَ أَمْرِها، وَإِلَّا حَبِطَتْ (بَطَلَتْ) خُطَّتُه، وانْكَشَفَتْ حِيلَتُهُ. فَتَمالَكَتِ الأَمِيرةُ، وَبَذَلَتْ غايَةَ جُهْدِها، في كِتْمانِ وَجْدِها، وَأَفْلَحَتْ في التَّغَلُّبِ عَلَى دَهَشِها، ثُمَّ ما لَبِثَتْ أَنِ اسْتعادَتْ رَبَاطَةَ جَأَشِها. وَلَقَدْ فَطِنَتِ الْحارِساتُ إلى وُجُودِ ذلِكَ الْقِرْدِ الصَّغِيرِ، ولكِنَّهُنَّ لَمْ يَحْسَبْنَ — حينئذٍ — أنَّ أمْرَهُ جَلِيلٌ خَطِيرٌ.
وَانْتَهَزَ «هانومانُ» فُرْصَةً سانِحَةً؛ فَأَفْضَى إلى الأَمِيرةِ (أَخبَرَها) أَنَّهُ عائِدٌ إِليْها بَعْدَ زَمَنٍ قَلِيلٍ، لِيُعِيدَها إلى حُرِّيَّتِها بَعْدَ ما كابَدَتْهُ في ذلِكَ الْأُسْرِ الطَّوِيلِ، فَقالَتْ لهُ تُحَذِّرُهُ، وبِرَأْيِها تُبَصِّرُهُ: «لا تَتَهاوَنْ في إِحْضارِ جَيْشٍ عَظِيمٍ، لِقَهْرِ ذلِكَ الإِبْليسِ الرَّجيمِ، وإِلَّا كُتِبَتْ عَلْينا الْهَزِيمَةُ والْخِذْلانُ، وظَفِرَ بِنا ذلِكَ الشَّيْطانُ.»
فقالَ «هانومانُ»: «اطْمَئِنِّي بالًا، واسْعَدِي حالًا؛ فَإِنَّ الْفَوْزَ مِنَّا مَكْفُولٌ قَرِيبٌ، وَلِكُلِّ مُجْتَهِدٍ — مِنْ سَعْيهِ — نَصيبٌ.»
(٢٢) ثَوْرَةٌ مُفاجِئَةٌ
وَثَمَّ وَدَّعَها وقَدِ اعْتَزَمَ أَنْ يَرْحَلَ عَنْ مَدِينَةِ الشَّيْطانِ، ثُمَّ يَعُودَ إِلَيْها بِما لَدَيْهِ مِنْ أَنْصارٍ وأعْوانٍ، بَعْدَ أَنْ يُحْكِمَ خُطَّتَهُ، وَيُكْمِلَ قُوَّتَهُ. ولكِنَّهُ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَرَّ بهِ خَاطِرٌ جَدِيدٌ، أَذْكَرَهُ بِما لَقِيَتْهُ الْأَمِيرَةُ في ذلِكَ الْمَنْفَى الْبَعِيدِ، مِنْ فُنُونِ الشَّقاءِ والتَّشْرِيدِ، وَضُرُوبِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، فامْتَلَأَتْ نَفْسُهُ حِقْدًا عَلَى أَعْدائِهِ، وَأذْهَلَهُ عَظِيمُ إِخْلاصِهِ وَوَفَائِه، وَصادِقُ حُبِّهِ — لِصاحِبِهِ — وَوَلائِه؛ فَنَسِيَ كلَّ شَيْءٍ غَيْرَ الانْتِقامِ مِنَ الشَّيْطانِ وَإذْلالِ كِبْرِيائهِ، فَرَجَعَ إلَى حَجْمِهِ الطَّبِيعِي الْأَوَّلِ دُونَ أَنْ يَتَبَصَّرَ في الْعاقبَةِ، وانْدَفَعَتْ نَفْسُهُ ثائِرَةً غاضِبَةً؛ فاقْتَلَعَ الشَّجَرَ والصَّخْرَ، وَقَذَفَ بِها عَلَى ذلِكَ الْقَصْرِ؛ فَأَسْرَعَتْ إلَيْهِ الْعَفارتَةُ واكْتَنَفَتْهُ زَرافاتٍ (أَحاطَتْ بِهِ جماعاتٍ). وَحِينَئِذٍ أَدْرَكَ ما جَرَّهُ إِلَيْهِ فَرْطُ تَهَوُّرِهِ، وَقِلَّةُ احْتِياطِهِ وَتَبَصُّرِهِ، وعَرَفَ خَطَأَهُ في الإِقْدامِ عَلَى عَدُوِّه قَبْلَ أَنْ يُهَيِّئَ لِلْأَمْرِ عُدَّتَهُ، وَيُعِدَّ لِلنَّصْرِ خُطَّتَهُ.
وَلَمْ يَسْتَطِعِ النُّكُوصَ عَلَى عَقِبَيْهِ بَعْدَ أَنِ افْتَضَحَ — لِأَعْدَائِهِ — أَمْرُهُ، وَذاعَ لَهُمْ سِرُّهُ؛ فاقْتَلَعَ مِنَ الْقَصْرِ عَمُودًا مِنَ الرُّخامِ مُقْتَحِمًا بِهِ ذلِكَ الزِّحامَ لِيَدْفَعَ كَيْدَهُمْ، وَيُفَرِّقَ شَمْلَهُمْ.
ثُمَّ قَفَزَ إلى سَقْفِ الْقَصْر وَلَوَّحَ بِهِ صائِحًا مُهَدِّدًا، مُنْذِرًا مُتَوَعِّدًا: «عاشَ الأَمِيرُ «راما» سَيِّدُ الشُّجْعانِ، وهازِمُ الْفُرْسانِ، وَخَسِئْتُمْ يا أَنْذَالَ الْعَفارِيتِ وحُثالَةَ الْجانِّ، وَحانَ مَصْرَعُ شَيْطانِكُمُ الْجَبانِ، عَلَى يَدَيْ «راما» و«هانومان».»
ثُمَّ قفَزَ — في الْهَوَاءِ — قَفْرَةً عاجِلَةً، بِسُرْعَةٍ هائِلَةٍ، وَهُوَ على ثِقَةٍ مِنْ أَنَّهُ بالِغٌ بقَفْزَتِهِ النَّجَاةَ، ومُفْلِتٌ بِوَثْبَتِه مِنْ كَيْدِ عِداه.
ولَقَدْ صَحَّ ظَنُّهُ وتَقْدِيرُهُ، وصَدَقَ رَأْيُهُ وتَدْبيرُهُ، لَوْ أَخْطَأَهُ السَّهْمُ الَّذِي صَوَّبَهُ إِلَيْهِ عِفْرِيتٌ خَبِيثٌ مِنْ أَعْدائِهِ؛ فَهَوَى بِهِ مِنْ سَماء عَلْيائِهِ، فاجْتَمَعَ حَوْلَهُ عَفارِيتُ الْجزِيرَةِ ناقِمينَ، وصاحُوا بهِ مُتَوَعِّدِينَ شامِتينَ.
(٢٣) عِقَابُ الثَّائِرِ
وكانَ جُرْحُهُ خَفِيفًا، ولكِنَّهُ — عَلَى ذلِكَ — عَوَّقَهُ عَنْ بُلُوغِ أَمانِيهِ، وأَسْلَمهُ إلى أَعْدائهِ ومُحاربيهِ. فَأَوْثَقُوهُ بالْحِبالِ، وقَيَّدُوهُ في الأغْلالِ، ثُمَّ جاءُوا بِه إلى شَيْطانِهِمْ؛ لِيَحْكُمَ فِيهِ بِما يَراهُ، وَفْقَ نَزَعاتِهِ وهَواهُ، فَأَمَرَهُمُ الشَّيْطانُ أَنْ يُحْرِقُوا بالنَّارِ جِسْمَ الْعَدُوِّ الْهاجِمِ — جُزْءًا بَعْدَ جُزْءٍ — حتَّى لا يَمُوتَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَلْقَى ما بِهِ مِنْ نِقْمَةٍ وتَنْكِيلٍ، وتَعْذِيبٍ طَوِيلٍ. فَأَسْرَعُوا إلى لَفائِفَ كَبِيرَةٍ مِنَ الْقُطْنِ فَأَحْضَرُوها، بَعْدَ أَنْ غْمَسُوها في الزَّيْتِ وَأَدارُوها عَلَى ذَيْلِ الزَّعِيمِ وَرَبَطُوها. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ الشَّيْطان فَأَشْعَلَ فِي ذَيْلِهِ النَّارَ.
فَلَمَّا شَعَرَ بِحَرَارَتِها، وَأَحَسَّ وَطْأَةَ شِدَّتِها، أَيْقَنَ أَنهَّا مُنْتَقِلَة مِنْ ذَيْلِهِ إلى جِسْمِهِ، وَعَرَفَ أَنهُ — لا مَحَالَةَ — هالكٌ فَنَدِمَ عَلَى تَعَجُّلِهِ في الإِقْدامِ قَبْلَ أَنْ يُطِيلَ أَناتَهُ (حِلْمَهُ وصَبْرَهُ) ويَتَعَرَّفَ طَرِيقَهُ وغايَتَهُ، وَأَيْقَنَ أَنَّ تَسَرُّعَهُ قَدْ أَفْقَدَهُ فُرْصَةً لِتَخْلِيصِ الْأَمِيرَةِ الْمَنْفِيَّةِ.
(٢٤) انْتِقَام الثَّائِر
على أَنْ الْكَرِيمَ الصَّادِقَ الْوَفَاءِ، إِذَا فَقَدَ أَنْصَارَهِ في الْأَرْضِ لَمْ يَعْدَمْ نَصِيرًا لَهُ مِنْ عالَمِ السَّماء، فَقَدِ اجْتَمَعَتِ السُّحُبُ وأَنْزَلَتْ ماءَها فَأَخْمَدَتِ اللَّهَبَ، ويَسَّرَتْ لَهُ سُبُلَ الْهَرَبِ، بَعْدَ أنْ أَحْرَقَتِ النَّارُ حِبالَهُ، وفَكَّتْ عَنْهُ أَغْلَالَهُ.
ثُمَّ كَفَّ الْمَطَرُ فَجْأَةً بَعْدَ أَنْ هَمَى، وَبَرَدَ جِسْمُهُ شَيْئًا، واطْمأَنَّتْ بَعْدَ ذلِكَ نَفْسُهُ، ولَمْ يَبْقَ مُشْتَعِلًا — مِنْ ذَيْلِهِ — إِلَّا رَأْسُهُ.
فَأسْرَعَ يَعْدُو جَرِيئًا مِقدامًا، مُحَرِّكًا ذَنَبَهُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً وخَلْفًا وأَمامًا؛ لِيُشْعِلَ النَّارَ في كُلِّ ما يَلْقاهُ، وَيُدَمِّرَ الْقَصْرَ بِما حَواهُ.
واسْتَوْلَتْ عَلَى العَفارِتَةِ، حَيْرَةٌ مُباغِتَةٌ، وتَمَلَّكَتْهُمْ هَبَّةٌ مِنَ الذُّعْرِ عاصِفَةٌ، ورَهْبَةٌ مِنَ الرُّعْبِ جارِفَةٌ، بَعْدَ أَنْ مَرَّتْ بِهِمْ تِلْكَ الْأَحْدَاثُ الْقاصِفَةُ، في مِثْلِ لَمْحَةِ الْبَرْقِ الْخاطِفَةِ. ورَأَوُا النَّارَ تَشْتَعِلُ في ذلِكَ الْقَصْرِ الكَبِيرِ، وَما جاوَرَهُ مِنَ الدُّوَرِ، فَتَمَلَّكَهُمُ الذُّعْرُ وَالْهَلَعُ، وشَمِلَهُمُ الرُّعْبُ والْفَزَعُ، وعَاقَهُمْ عَنِ اللِّحاقِ بِعَدُوِّهِمْ ما غَمَرَهُمْ مِنَ الْحَرَجِ والضّيقِ، وما بَهَرَ أَعْيُنَهُمْ مِنْ مَنْظَرِ الْحَرِيقِ.
(٢٥) عَلَى الشَّاطئِ
وأَسْرَعَ «هانومانُ» إِلى شَاطِئِ الْبَحْرِ فَأَطْفَأَ ذَيْلَهُ الْمُشْتَعِلَ في أَمْواجِه الصَّاخِبَةِ، مُعْتَزِمًا أَنْ يَبْلُغَ الشَّاطِئَ الآخَرَ بِقَفْزَةٍ واثِبَةٍ. ثُمَّ رَدَّهُ عَنْ عَزْمهِ خَوْفُهُ عَلى الأَميرةِ أَن تَبْلُغَ النَّارُ مَأْواها، وَرَغْبَتُهُ في أَنْ يُجَنِّبَها خَطَرَها وأَذَاها، فَأَسْرَعَ إلى سُرَادِقِها فَرَآها بِعِيدِةً عَنْ مَنْطَقَةِ اللَّهَبِ، آمِنَةً مِنَ الضُّرِّ والْعَطَبِ. فَعادَ يُؤَسِّيها (يُصَبِّرُها ويُعَزِّيها) مُتَوَدِّدًا إِلَيْها، ثُمَّ وَدَّعَها بَعْدَ أَنِ اطْمَأَنَّ عَلَيْها، وَرَجَعَ عَلَى الْفَوْرِ، إلى الْبَحْرِ. وما لَبِثَ أَنْ كانَ عَلى الشَّاطِئِ الآخَرِ، في لَمْحَةِ خاطِرٍ، بِوَثْبَةٍ عاجِلَةٍ، وقَفْزَةٍ طائِلَةٍ؛ فَبَلَغَهُ سالِمًا، وَرَجَعَ أَدْراجَهُ (عادَ في الطَّرِيقِ الَّذِي جاءَ مِنْهُ) غَانِمًا، قاصِدًا إلى صَفِيهِ مُيَمِّمًا، لِيُحَدِّثَهُ بِما لَقِيَهُ — في طَرِيقِهِ — مِنْ فَوادِحِ الأخْطارِ، وما أَعَدَّهُ لَهُ مِنْ بَدَائِعِ الْأَنباءِ والْأَخْبَارِ، وَعَجائِب الْأحادِيثِ والْأَسْمارِ.