الأيام الحلوة
لم أكن أعلم بأنها أيام جميلة إلا بعد أن رحلت وغابت معالمها، لم يتبقَّ منها إلا قليل من ذكريات تأتي أشباحها لتُراوض خيالي، وتجعلني أقول: «ياه كانت أيام.»
ربما لو عادت لوجدتُها صعبة وتخلو من جمال، لكنها كانت آنذاك هي الجمالَ ذاتَه، أيام الطفولة وإن كنتُ لم أحيَ طفولتي مثل أقراني، فكانت طفولتي تُغلفها المسئوليةُ وجملةٌ أبدًا ما فارقَت مسامعي: «إنتي الكبيرة.»
وجدتُني أتذكر تلك الأيام، أتذكر جدتي والدكان ولمبة الجاز، أتذكر صوت الوبور وأستشعر دفئه وقت الشتاء، أتذكر صوت جدتي، وانشغال أمي بنا وكنا وقتها تسعة أبناء (ست بنات وثلاثة أولاد).
أتذكر اللعب في الحارة، وشتوية زمان، وبياع العرقسوس والمغربية والمدفع والأذان، ولوح الثلج وقت بيعه قبل المغرب لتجهيز العصير في رمضان، وينادي بياع العصير وينادي بياع الثلج، وتأتي روائح الطعام وما أشهاها من كل البيوت، زينة رمضان وقد عُلقت أشبه بعناقيد عنب في الحواري والشوارع، السوق وبياع الخضار، عم سعيد الجزار، دكان جدتي بالجزيرة، ريحة التراب وهو مختلط بريحة المطر، ويداي وقد تحولت للون الأزرق من شدة البرد، شواء الذرة على الفحم أمام دكان جدتي، قاعدة الجيران على المصطبة، ووالدتي وقد أشعلت لمبة الجاز وهي منتظرة عودة أبي في المساء حتى يقصَّ عليها عناءَ اليوم.