مدخل تأسيسي
الوسطية مفهومٌ ورَدَ عند فلاسفةٍ يونانيِّين وإسلاميِّين وغربيِّين في سياق تعريف أرسطو والفارابي للفضيلة بأنها «وسط بين طرفين»، أو في سياقِ حديثِ هيجل عن التوسط بوصفه محرك الجدل، حين ينتقل النقيض إلى النقيض عن طريق التوسط؛ بينما لا يتم الجدل قفزًا عند كيركجارد. في حين رفض آخرون، مثل برجسون في تعريف الفضيلة التوسط لصالح المباشر في الإدراك والمعرفة الحدسية المباشرة كما هو الحال عند الصوفية.
لا يوجد تطور طبيعي إذن من مستوى إلى مستوى عن طريق التوسط، بل بالقفز من مستوى إلى آخر عن طريق الانقطاع. وعلى الإنسان أن يختار أحد المستويات كي يعيش فيه وله، فيختار أحد الطرفين ويستبعد الآخر. في هذه الحالة لا توجد وسطية، بل يوجد إقصاءُ طرفٍ وإبقاءُ طرفٍ واحد طبقًا لمنطق الفرقة الناجية. فلا وسطَ بين الحق والباطل، بين الصواب والخطأ. وفي الأثر: «ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة. قيل: مَن هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي.» والكل إلى رسول الله منتسب.
ولا يحتاج البحث إلى مصادر أو مراجع أو دوائر معارف أو دراسات سابقة؛ فكل ذلك مفيد في المعرفة العامة التي لا تخرج من القلب ولا من القدرة على التنظير المباشر للواقع. هذا لا يعني نقصًا في الشروط الأكاديمية أو في التوثيق، بل إنه التوثيق الداخلي عن طريق اليقين النظري في تفسير النص، والعملي في تحليل الخبرات الحية.
وكثيرًا ما يكون التوثيق الخارجي غطاءً علميًّا لتبرير عدم المعرفة، والإيهام بوجود معرفة علمية بينما لا يوجد شيء. الفلاسفة النظَّار يعيشون ما يعيشه الدعاة عملًا. أما المفكرون فهم الذين يعيشون التجربة المعيشة كما يتأملون في الفكر النظري. وحدَهم المفكرون هم الذين يعيشون تجربتهم ويتأملونها؛ ويعانون التطرف الذي غالبًا ما يكون نتيجة الحدَّة في المواقف بغيةَ الظهور الإعلامي والولاء الأيديولوجي والمذهبي المسبق.