همُّ المستقبل
نادرًا ما يتطلع المثقف العربي إلى همِّ المستقبل كما يحمل همَّ الماضي إلى درجة طغيانه على الحاضر والمستقبل. ويعتمد همُّ المستقبل على التمني والرغبات أكثر منه على التحليلات الإحصائية والدراسات الميدانية. أما إذا فكرت الثقافة الشعبية في المستقبل فهي تقذف به إلى ما بعد الموت: مسيحُ آخِر الزمان الذي يقتل المسيح الدجال حين يعمُّ الفساد ولا يبقى مؤمن واحد على وجه الأرض. وهذا نوع من ميتافيزيقيا الأمل الذي يوجد في كل الأديان السابقة، اليهودية والمسيحية؛ عذاب القبر ونعيمه، وحساب الملكَين، والبعث، والثواب والعقاب والجنة والنار، نتيجة الثقافة الدينية الشعبية التي تخلط الحقائق بالأوهام على مستوى النظر، والعجز المطلق بالتمنيات بلا حدود على مستوى العمل. أما المستقبل في الدنيا فبيدِ الله، لا يعلمه إلا هو. فالماضي انتهى بفعل القدر، والحاضر بيد الله، والمستقبل أيضًا لا يملك الإنسان منه شيئًا. وأحيانًا يكون المستقبل عند الآخرين، عند الغربيِّين مثلًا؛ يُحسدون على ما حصلوا عليه من مناخ وبيئة، وعلم وفن، وكأن الله خلق البيئة ولم يتركها لهم لتكييفها والعناية بها واستثمارها.
مستقبل الوسطية في الثقافة العربية الإسلامية لا ينفصل عن مستقبل الثقافة العربية الإسلامية ككل. فالوسطية جزءٌ من كلٍّ. والتحدي هو كيفية إطلاق الثقافة العربية الإسلامية من عقالها حتى تنطلق إلى الأمام، ليس قفزًا على الحاضر بل مرورًا به. فالمستقبل مرهون بالحاضر، والثقافة الحاضرة مرهونة بتحررها من ماضيها الذي ما زال طاغيًا فوقها. كيف يمكن تغيير محور الثقافة من المحور الرأسي إلى المحور الأفقي حتى تستطيع اكتشاف المستقبل، أو بالأحرى مفهوم التقدم الذي يشمل الماضي والحاضر والمستقبل؟