الوسطية والتنظيم الحزبي
في كل مرة يبرز تيار وسطي في جماعة الإخوان، وهم الذين وقعَت عليهم أنواع الاعتقال والسجن والتعذيب، يتم فصله لتظل الجماعة على جناحها المحافظ، أي المتطرف. هكذا فُصل نائب المرشد العام لأنه عصى الجماعة بترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية، وكان حزب الحرية والعدالة قد رفض في البداية الترشُّح من حيث المبدأ. ثم أغراه المنصب فرشَّح أحدَ أعوانه المطيعين الذي كان أحد أعضاء مكتب الإرشاد. وقد أسس المنفصلون حزب «الوسط» تعبيرًا عن الباعث والنية؛ وهو يضم مجموعة من الشبان أيضًا الذين رفضوا سيطرة طرف يميني محافظ من الإخوان تحت رئاسة المرشد العام، الذي يقابل منصب «ولاية الفقيه» في إيران، وسيطرة الاتجاه اليميني المحافظ المتطرف والمطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية وإلغاء أي قانون يخالفها: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (المائدة: ٤٤).
وبدأ يتكون «الإسلام الوطني» أو «الإسلام الثوري» أو «اليسار الإسلامي» من مجموعة من الشبان الذين رفضوا سياسة مكتب الإرشاد المحافظ وانضموا إلى فريق من الأحزاب اليسارية. الحركة في بدايتها، ولكنها تكبر مع الأيام. وإذا كان التيار الإسلامي وتنظيمه الرئيسي تيارًا عالميًّا، فإن العالمية تقتضي الوسطية للتقريب بين التيارات الإقليمية. ومع ذلك يسيطر التيار اليميني المحافظ على التنظيمات الإقليمية لأنها تعيش في الظروف الاجتماعية والسياسية التي نشأ فيها تنظيم الإخوان في مصر، الاضطهاد والاعتقال والتعذيب نفسها.
ترجع المحافظة في جماعة الإخوان المسلمين إلى استلهام التراث الإسلامي المحافظ، وبخاصة في الكلام والفقه، أي في العقيدة والشريعة. وقاربَ الاضطهادُ بين التنظيمات الإقليمية؛ بحيث تقاربَت وتعاونت في السلم والحرب. وأقواها فاعلية مصر والأردن والجزائر وتونس والمغرب وليبيا، أي كل المغرب العربي، والكويت وسوريا. أما في العراق ولبنان واليمن فقد غلبت الطائفية على الحركة الإسلامية.
يدَّعي التيار السلفي أن الوسطية صلب الدين وجوهر الإسلام. وهو يفعل ذلك لتحييد الخصوم الذين يثورون عليه ويصفونه بالتطرف والعنف. فالتطرف اتهام. والعنف اتهام آخر. والاتهام قول جارح وليس قولًا شارخًا، ولا يحيل إلى واقع يمكن التحقق من القول فيه. تنقصه العلمية والواقعية. وهو اتهام يكشف عن رغبة في الاستبعاد والإقصاء ودفع الاتهام كما تفعل المحاماة. ولا يُرَدُّ الاتهام باتهام؛ لأنه مضغوط نفسيًّا تحت الواقع الاجتماعي. وينقصه حسن اللباقة، وحس البداهة ودفع الضرر، بمعنى التضحية إلى درجة الشهادة.
والسلفية على أنواع؛ فمنها سلفية جهادية تستهدف أنظمة الحكم المحلية، والسؤال هو: هل يجوز ممارسة العنف ضد الحاكم في الداخل أم أن هذا شقُّ صفِّ الأمة وسيلُ دمائها؟ أما الحاكم فلا يمارس العنف حرصًا على السلم الاجتماعي، ويفضل السلفيةَ الصوفيةَ التي تعبد الله في المساجد والزوايا، ويقيم المهرجانات الدينية في المناسبات والموالد مثل المولد النبوي، ونصف شعبان، وليلة القدر، ووقفة عرفات، وعيد الأضحى … إلخ. السلفية الجهادية واجب على الجميع أن يتبنَّاها في حالة العدوان على الأمة. أما السلفية الصوفية فهي اختيار شخصي، مندوب لا واجب، وهي انعزالية واتكال على الله وقبول لما قدَّر، وترك الخلق لخالقه. وهناك أيضًا سلفية نصية، مثل سلفية أحمد بن حنبل وابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ومحمد بن عبد الوهاب تلميذ الجميع الذي أصبح أحدَ روافد حركة الإصلاح الديني الحديث، وتعني: حَرْفية في التفسير في حين أنها عقليةُ النقد في نقد الوافد اليوناني، مع أنه كان بعيدَ التأثير؛ كما فعل ابن تيمية في كتابَيه: الرد على المنطقيِّين، ونقض المنطق.
ولم تتطور السلفية منذ نشأتها الأولى على يد أحمد بن حنبل إلى نشأتها الثانية عند ابن تيمية وابن القيم حتى نشأتها الثالثة عند محمد بن عبد الوهاب؛ وظلت أسيرةَ النص وحجة القول والاستشهاد ﺑ «قال الله وقال الرسول» دون إعمال للعقل في النقد الداخلي ودون تطوير لأساليب النقد الاجتماعي لعيوب الأمة وممارساتها وفهمها للدين. وهي ما زالت على حالها حتى الآن. لم تنشأ السلفية الجديدة لتطوير السلفية القديمة. وعادت الحركة الإصلاحية، الإسلام الثوري عند جمال الدين الأفغاني، والإسلام العقلاني عند محمد عبده إلى الإسلام السلفي عند رشيد رضا، خوفًا على الأمة من الضياع بعد سقوط الخلافة ونهاية الدولة العثمانية.