الوسطية والتعددية الفكرية
لا يمكن الوصول إلى الوسطية إلا بالتعددية الفكرية التي تقضي على أحادية الطرف والتطرف، والتشدد في التمسك بالرأي الواحد الذي لا رأيَ يقابله لكي يمكن إيجاد الوسط بينهما. وفي هذه الحالة يكون الوسط بين طرفين. وفي حالات أخرى يكون الوسط بين أكثر من طرف بإيجاد مركز مشترك بين الأطراف. وهو أسهل من ناحية بالتعامل مع أكثر من طرف وإيجاد وسط بين عدة أطراف، وأصعب من ناحية أخرى بالتعامل مع عدة أطراف وإمكانيات أكثر؛ وهو يتطلَّب جهدًا إضافيًّا في الفهم والحرية الفكرية. والأكثر شيوعًا أن الوسط يوجد بين طرفين اثنين وليس بين عدة أطراف. والتعامل بين احتمالَين اثنين لا بين عدة احتمالات فيه نوعٌ من سهولة التفكير. وليست التعددية وقفًا على حضارة دون غيرها، الحضارة الأوروبية، بل هي ناتجة من طبيعة الفكر والموقف من الحياة.
لا توجد مخاطر وقوع في النسبية كما حدث في الفكر الغربي؛ لأن القيمة لها وجودٌ عام وشامل وموضوعي. وهي شروط الحقيقي، أي الواقعي، نظرًا إلى أن الفكر الغربي ظل واقعًا تحت سيطرة الخيال والوهم مدة طويلة.
وعرف الفكر الفقهي التعددية في مبدأ الاجتهاد. وإذا توحَّد النص فإن الاجتهاد متعدد. فلكل مجتهد نصيب كما هو الحال في التراث الشعبي. وفي الحديث الشريف «إذا حكم الحاكم — بمعنى القاضي أو العالم — فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر.» وأجر المخطئ على اجتهاده بصرف النظر إذا ما أخطأ أم أصاب. وإذا كان التوحيد واحدًا فإن الفقه متعدد. فالحق ليس واحدًا، بل متعددًا بتعدُّد المجتهدين. النص الديني كالبلور المتعدد الجوانب. وكلُّها تعكس النورَ الساطع عليه بزوايا مختلفة، الحق منظور إنساني، ولا يستطيع إنسان واحد أن يأخذ كلَّ المناظير.
وقد ارتبط مفهوم الوسطية بالفكر الإسلامي الحديث بعامة، وبالفكر الإصلاحي بخاصة، مع أنه نشأ وسط حركات التحرر الوطني كما في مصر: الثورة العرابية، وثورة ١٩١٩م، وأخيرًا ثورة ١٩٥٢م ثم إكمالها في ثورة يناير ٢٠١١م، يتطور الفكر الإصلاحي شيئًا فشيئًا، ويتحول من الفكر الديني العقائدي إلى الفكر الاجتماعي الثوري، وهو جوهر الدين. فالأنبياء كانوا مصلحين يهدفون إلى تغيير المجتمع، من الظلم إلى العدل، ومن الاستبداد إلى الحرية، ومن اللامساواة إلى المساواة. هكذا كان موسى مع فرعون، وعيسى مع أحبار اليهود، ومحمد مع أشراف مكة. ولكن ظروف الحركة الإسلامية وتعذيبها في السجون جعلت الفكر الإصلاحي ينتكص ويصبح خريج سجون. فقد كان حسن البنا تلميذ رشيد رضا في دار العلوم، ورشيد رضا تلميذ الإمام محمد عبده، ومحمد عبده تلميذ رائد الحركة الثورية الحديثة، جمال الدين الأفغاني. وكان تعذيب سيد قطب أمين الدعوة والفكر قد غيَّر رؤيته للعالم في معالم في الطريق من ناقد أدبي «النقد الأدبي: أصوله ومناهجه، والتصوير الفني في القرآن، ومشاهد القيامة في القرآن»، ومحلل للبنية الاجتماعية «العدالة الاجتماعية في الإسلام، ومعركة الإسلام والرأسمالية، والمستقبل لهذا الدين»، متنبئًا بالدور السياسي للعالم الإسلامي في كتلة العالم الثالث والقارات الثلاث، أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
والسؤال هو: هل هناك تياران: تيار إسلامي وسطي وتيار علماني، أم هناك قوتان متصارعتان على السلطة؟ وبالتالي الخطورة في قسمة القوى الوطنية في الأمة إلى قوتَين متناحرتَين تتخفيان وراء الأيديولوجيَّتَين الإسلامية والعلمانية كغطاء نظري. ليس الهدف هنا هو التقريب أو التوفيق، بل تحليل الأيديولوجيَّتَين لمعرفة دوافعهما وتشكيلهما وأهدافهما، ولمعرفة مدى اتفاقهما أو اختلافهما مما يبرِّر تمايزهما، بل تصارعهما على السلطة. صحيح أن المعرفة قوة في الثقافة السياسية. ولكنها تتجاوز القوة الديمقراطية التي تَصِل إلى الحكم على أكتاف الجماهير، والقوة الاستبدادية التي تعدُّ الأيديولوجية بطبيعتها قوة. ومن في السلطة هو الأغلب. فالقضية هي تشويهُ الآخر حتى يسهل إقصاؤه وإبعاده من المعركة حتى يسهل الوصول إلى السلطة. وما أسهل من تشويه الخصم السياسي باستعمال الدين كثقافة سياسية لجماهير متدينة فيها المعارض السياسي والعدو الذي يقف الإنسان ضده ويحترس منه وهو الشيطان. وهو داخل النفس قبل أن يكون خارجها. وما أسهل بعد ذلك من تركيب العدو السياسي على هذا العدو الديني وهو الشيطان. ويستحيل بعد ذلك إقامة أي وحدة وطنية مع هذا العدو السياسي وهو الشيطان. وهو ما يسمى «شيطنة» الآخر حتى يسهل إقصاؤه والانفراد بالسلطة. فالآخر منافس ثم غريم ثم خصم ثم عدو. ويتوجه الجهاد ضده، وليس ضد العدو الأجنبي من خارج الحدود.