لماذا الربط بين السينما والفلسفة؟
مقدمة
يتناول هذا الكتاب مجموعة متنوعة من المشكلات الفلسفية من خلال السينما، كما يفحص أيضًا قضايا تتعلق بطبيعة السينما ذاتها. ينقسم مجال السينما والفلسفة إلى محورين متمايزين إلى حدٍّ ما. يسعى أحدهما إلى بحث القضايا الفلسفية التي تطرحها الأفلام، فعلى سبيل المثال قد تتشكك الأفلام في وجهة نظرٍ أخلاقية معينة أو تطرح أسئلة حول الشكوكية أو طبيعة الهوية الذاتية. أما المحور الآخر فيختص بالقضايا التي تطرحها السينما بوصفها شكلًا من أشكال الفن. ما الذي يميز السينما أو التصوير السينمائي بوصفه شكلًا فنيًّا؟ ما المغزى الفلسفي وراء الأساليب الفنية والتكنولوجيا التي توظفها السينما؟ ما المغزى الفلسفي لاستجابة الجمهور للسينما؟ ما هي المزايا أو المخاطر الخاصة التي تنطوي عليها السينما بالنظر إلى جاذبيتها الجماهيرية وقدرتها على إثارة مشاعر قوية؟
قوة السينما ونطاق تأثيرها
يتحدث الأكاديميون كثيرًا عن «الأدبيات»، التي تُمثل مجموع الكتابات والأعمال الأساسية (الكلاسيكيات) التي تُشكِّل مرجعًا للأجيال المتعاقبة من البشر. ويُفترض أن تنقل الأدبيات معنًى وأنماطًا لصياغة المفاهيم من جيل لآخر، وأن تُشكِّل كذلك مجموع الكتابات المشتركة بين أبناء جيل واحد. نظريًّا، تهدف الأدبيات إلى وصف حقب وأجيال معينة وتمييزها، فتُجسِّد على سبيل المثال مُثلهم العليا (أو مثلهم العليا المزعومة) وآراءهم حول العائلة والحب والواجب الوطني. ويُفترض أن تُجسِّد الأدبيات مصدرًا مرجعيًّا مشتركًا لمجموعة من الأفراد ينتمون لثقافة ما، مهما كانت اختلافاتهم. والبعض يتساءل عما إذا كانت هذه الأعمال موجودة بالفعل أو سبق أن وُجدت؛ على أي شيء استندت تلك الأعمال (الإنجيل أو غيره من الكتب المقدسة، أعمال شكسبير، أعمال جيه دي سالينجر)؟ وما المكانة التي ينبغي أن تحظى بها؟ وكيف ينبغي استخدامها؟ وما أوجه سلطتها ولأي غرض اكتسبت تلك السلطة؟
يمكن القول إن الأفلام الروائية — ونُدرج ضمن هذا التصنيف الأفلام الطويلة والمسلسلات التي تُعرض على شاشة التليفزيون والمتاحة عبر أشكال أخرى متعددة — تُشكل أدبيات أو أعمالًا ومؤلفات أساسية حقيقية. إذا كان ذلك صحيحًا، فإنه يرجع إلى المكانة الشعبية واللانخبوية لفن السينما؛ فأعداد من يشاهدون الأفلام ويناقشونها أكثر من أعداد من يقرءون، وبالتأكيد عدد الأفراد الذين يشاهدون الأفلام نفسها يزيد عن عدد من يقرءون الكتب نفسها، وتتخطى الأفلام الحواجز الاجتماعية والاقتصادية وغيرها من الحواجز التي تفصل بين الجماهير على نحوٍ لم تتمكن الأعمال الكلاسيكية الغربية من فعله قط. وفي الدول المتقدمة يشاهد الجميع تقريبًا الأفلام ويتحدثون عنها بين حين وآخر. ومع توافر الأفلام في صور غير مكلفة، يرى أيضًا العديد من أفراد الفئات المحرومة اقتصاديًّا الأفلام بكثرة. وفي نظر عدد لا يُستهان به، تُشكل الأفلام مركزًا مرجعيًّا مشتركًا حيث تُحلل القيم والقضايا الأخلاقية والتساؤلات العامة والفلسفية. تُجسِّد الأفلام ذلك كله بطريقة مميزة، فهي متاحة بسهولة، وغالبًا ما تتمتع بجاذبية جمالية، فضلًا عن كونها مسلية من نواحٍ تجعلها مؤثرة من الناحية العاطفية والفكرية أو الذهنية (انظر كارول: ٢٠٠٤). والأفلام عمومًا ليست جامدة ولا صعبة الفهم كما هي الحال عادةً مع النصوص الفلسفية أو الحُجج الجدلية المنهجية. تحظى الأفلام بشعبية، وهي متاحة بسهولة ومنتشرة في كل مكان وجذابة على المستوى العاطفي.
غالبًا ما توظِّف السينما أشكالًا أخرى من الفن (مثل الموسيقى والفنون المرئية والأدب)، وقدرة تلك الأشكال على التأثير فينا جزء لا يتجزأ من قوة السينما. إلا أن قدرة السينما على التأثير فينا ودغدغة مشاعرنا ليست ببساطة حاصل تأثير مكوناتها الفنية؛ ففي النهاية يوجد فيض من الموسيقى والأدب والشعر والفنون المرئية التي تؤثر فينا تأثيرًا مستقلًّا، يزيد عن تأثيرها حال تضمينها في الأفلام. ورغم ذلك تظل قدرة الفيلم الطويل على نقل الكثير من الأشياء لأعداد غفيرة في وقت قصير نسبيًّا (أقل من ساعتين عادةً، وأقل من ثلاث ساعات في أغلب الأحوال) أحد أبرز سماتها. لكنها أيضًا سمة أثارت قلق كثير من الفلاسفة والمنظِّرين السينمائيين. على سبيل المثال تخوَّف أدورنو وهوركهايمر (١٩٩٠) من التأثير السلبي المحتمَل للفن الجماهيري على جمهورٍ منقادٍ ولا يتمتع بحس نقدي. (ولِمَ لا ينطبق هذا الخوف أيضًا على جمهور فعَّال وناقد؟ فهل يستطيع هذا الجمهور مقاومة سحر السينما؟) يُزعم أن ألفريد هيتشكوك قال: «جميع الممثلين خِراف.» ليس هذا ما قاله بالضبط إنما قال: «لم أقل قطُّ إن الممثلين خِراف، ما قلته هو أن جميع الممثلين ينبغي معاملتهم مثل الخراف.» ما قد يدفعنا للتساؤل عن رأيه في الجمهور.
إن السينما بطبيعتها وسيلة عظيمة القيمة لطرح موضوعات فلسفية ومناقشتها، لكن من المهم إدراك الأخطار الكامنة داخلها. قد تتسبب الأفلام في قدر من التشويش والارتباك عبر طريقة صياغتها وتصويرها، ونتيجة تلاعبها بالمشاعر أو مغازلتها لشتى الأهواء. واقتفاء أثر هذا التشويش يُجسِّد جزءًا مهمًّا من أي منهج للتحليل الفلسفي للسينما. كثير من الأفلام تغذي تحيزات ورغبات غير واعية أو بغيضة، وتتغذى عليها وعلى الإشباع الرمزي لرغبات مكبوتة. ويُعتقد أن نجاح الفيلم يعتمد غالبًا على نجاحه في تلبية تلك المتطلبات (تأمَّل على سبيل المثال أفلام الانتقام مثل «هاري بروان» (٢٠٠٩)، و«أمنية الموت» (ديث ويش) (١٩٧٤)، و«ذات مرة في الغرب» (وانس آبون آتايم إن ذا ويست) (١٩٦٨)). وكما نصدق عادةً ما نرغب في تصديقه (أو ما نتمنى تصديقه) بدلًا مما يدفعنا المنطق إليه، فنحن غالبًا ما نصدق أشياء معينة لأن مشاعر معينة تنتابنا. تؤثِّر المشاعر على ما نعتقد، مثلها مثل الرغبات، وتلك حقيقة غالبًا ما تستغلها السينما وتفسِّر إلى حدٍّ كبير قدرتها على اجتذاب الجمهور. ولهذا تمدُّنا الأفلام بمعلومات خاطئة وتضللنا من المنظور الفلسفي في كثير من الأحيان، بقدر ما تُطلعنا، في أحيان أخرى كثيرة أيضًا، على قضايا فلسفية وتعمِّق معرفتنا بها.
أحد أعظم مناقب السينما هو قدرتها على الجذب والتسلية، وهي نقطةٌ سعينا جاهدين من أجل توضيحها. هذا ما يميز السينما قطعًا عن معظم الكتابات الفلسفية، التي غالبًا ما تكون جافة كرمال الصحراء. وفي الوقت نفسه يظل قرب السينما (ووسائل الإعلام عمومًا) من الجماهير، وقدرتها على الجذب والتأثير، وعلى التلاعب بنا عاطفيًّا وفكريًّا وعلى «بث الاضطراب في نفوسنا» في صميم ما ذكرناه بالأعلى من المخاوف الأخلاقية التي أثيرت حول وسائل الإعلام، مثل تلك التي طرحها أدورنو وهوركهايمر (١٩٩٠) وغيرهما. ورغم ذلك، فالاشتباك الفلسفي مع السينما ليس دومًا إيجابيًّا. وكما أشار فرويد، قد يقدِّم الفن سبيل العودة من الخيال إلى الواقع؛ فللسينما فائدتها في سبر أغوار العديد من الجوانب التي تغطيها الفلسفة وليس جميعها. وتعالج أفلامٌ بعينها موضوعاتٍ في الأخلاقيات والميتافيزيقا والدين وعلم الجمال إلى جانب موضوعات في الفلسفة الاجتماعية والسياسية. وقد يبرز جانب بعينه من بين تلك الجوانب؛ فمثل الروايات، تصور الأفلام غالبًا جوانب من العلاقات البشرية الكثيرة وتستكشفها فلسفيًّا، لا سيما الحب والصداقة. وتلك حقيقة لا تبعث على الدهشة بالنظر إلى مدى انغماسنا عمومًا في الموضوعات التي تجذبنا من الناحية العاطفية مقارنة بأي موضوعات أخرى.
ما العلاقة بين الفلسفة والسينما؟
لقد اندمجت السينما والفلسفة لتُشكِّلا مجالًا مستقلًّا، وهو مجال يشهد نموًّا. إنه جزء من اتجاه نحو توسيع نطاق الموضوعات الصالحة للاستقصاء الفلسفي الجاد. وقد صاحب توسيع نطاق الموضوعات الفلسفية إدراك أن السينما وغيرها من أشكال وسائل الإعلام والترفيه قد تصبح أدوات فعالة لنقل الأفكار. وكثير من تلك الأفكار مثير للاهتمام من الناحية الفلسفية، وهي متأصلة في حياتنا اليومية، مثلها مثل الصداقة والحب والموت والهدف والمعنى. كون الحياة اليومية مصدرًا للموضوعات الفلسفية ليس باكتشاف جديد؛ فطالما عرف الفلاسفة القدماء ذلك، وإن أدى إضفاء الطابع المهني الاحترافي على الفلسفة في القرن العشرين أحيانًا إلى حجب هذا التركيز على الحياة اليومية. لقد شهدنا زيادة كبيرة في أعداد الكتب والمقالات التي لا تتناول الفلسفة والسينما فحسب، بل تتناول، من منظور أعمَّ، الفلسفة والثقافة. ويركز بعضها على الفلسفة والقضايا المعتادة كما تظهر على شاشة التليفزيون (كشكل من أشكال السينما) وفي الموسيقى المعاصرة، بينما يركز البعض الآخر على قضايا فلسفية — أخلاقية وسياسية ومعرفية واجتماعية ونفسية — أكثر تقليدية، كما تظهر في أفلام الاتجاه السائد.
تمد السينما — لا سيما في جانبها الروائي — الفلسفة بمواد تصلح للبحث والتدقيق (سيناريوهات ودراسات حالة وقصص وفرضيات وحُجج). إن القصص التي ترويها الأفلام، والتأكيدات التي تقرها، والفرضيات التي تطرحها أو تلمح إليها، تمد الأفراد — ومن ثَم الفلاسفة — بموادَّ للتقييم النقدي. والأفلام تصلُح كموضوعات مباشرة للاستقصاء الفلسفي. على سبيل المثال، فيلم «انتصار الإرادة» (ترايمف أوف ذا ويل) (١٩٣٥) للمخرجة ليني ريفينشتال — الذي يصور مؤتمر الحزب النازي الذي انعقد في نورنبيرج عام ١٩٣٤ — يقدم لنا مادةً غنيةً بموضوعات صالحة للتأمل الفلسفي، من بينها العلاقة بين القيمة الجمالية والأخلاقية للفيلم. (غالبًا ما تُعتبر أفلام ريفينشتال تحفة جمالية لكنها ساقطة أخلاقيًّا.) ومشاهدة فيلم «انتصار الإرادة» تستدعي حتمًا أسئلة حول مسئولية الفنانين الأخلاقية عن إنتاجهم الفني. رغم ذلك لا تصبح الأفلام ببساطة ذات محتوًى فلسفي خاص لمجرد كونها مادة صالحة للتدقيق الفلسفي (مثل طاولة أو قلم أو سحابة أو كاتدرائية)؛ فعادةً ما يصبح شيء ما مادةً للتدقيق الفلسفي عبر تمثيل نوع محدد من الخبرات أو الظواهر التي تحيِّرنا وتتحدانا فلسفيًّا. وتصبح الأفلام فلسفية من زاوية أكثر اكتمالًا وإثارة للاهتمام عندما تفعل ما هو أكثر من ذلك. إنها تصبح فلسفية عندما تدفعنا للتأمل الفلسفي ونحن نشاهدها.
هل في وسع الأفلام تقديم إسهامات بارزة وإبداعية ومستقلة إلى الفلسفة باستخدام وسائل يتفرد بها الوسيط السينمائي (مثل المونتاج والعلاقات بين الصوت والصورة)، وهي إسهامات مستقلة من حيث كونها متأصلة في طبيعة السينما وليست قائمة على التعبير الفلسفي اللفظي، مثل التعليقات أو الشروح؟ تنغمس الأفلام بالفعل في تفكير فلسفي إبداعي وفي بنية المفاهيم الفلسفية الجديدة، حسب الزعم الذي كثيرًا ما يتكرر في الأدبيات الضخمة المستوحاة من كتابات جيل دولوز التأمُّلية عن السينما.
يجب علينا التخلي عن الفرضية الجريئة التي ترى السينما نوعًا من الفلسفة، والتحول إلى فرضيات أكثر اعتدالًا وقابليةً للتطبيق. بعض الأفلام الروائية يصنعها مؤلف يستخدم الوسيط السينمائي، بالاشتراك مع الوسائل اللغوية، للتعبير عن منظور قائم على معرفة فلسفية. والبعض الآخر لا يُصنع بهذه الطريقة لكن يمكن رغم ذلك استخدامه لتوضيح أراء مألوفة لكنها ذات قيمة حول الحكمة العملية، والشكوكية وغيرها من الموضوعات. يفتح كلا النوعين من الأفلام سبيلًا إلى مواقف وحُجج فلسفية، وقد يوفِّران حافزًا لا يُستهان به على التفكير الفلسفي الإبداعي …
يستطرد ليفينجستون معدِّلًا هذه «الفرضيات الأكثر اعتدالًا وقابلية للتطبيق» على نحوٍ كاشفٍ، فيقول (٢٠٠٨: ١٢): «هذا يحدث ما دُمنا نتذكر أن طرح تصنيفات وحجج معقَّدة سيتطلب تعبيرًا لفظيًّا لا يوفره العرض السينمائي في حد ذاته؛ فوصف الحبكة، مهما كان بارعًا، ليس بديلًا لها.»
يقترح ليفينجستون على ما يبدو أننا إذا أردنا ممارسة الفلسفة على أصولها، بما تتطلبه من تصنيفات وحجج معقدة، فسوف نحتاج إلى الانكباب على العمل من أجل صياغة بينة؛ أي لفظية، لحجة فلسفية. بلا شك تتطلب أنواعٌ محددة من الحجج الفلسفية ذلك تحديدًا. ونحن نعلم أن السينما ليست بديلًا عن أساليب مفيدة ومحددة للممارسة الفلسفية. لماذا إذن يزعم أحدهم أنها كذلك؟ لماذا قد يرغب في جعلها كذلك؟ إن زعم ليفينجستون أدنى بكثير من هذا المستوى، بل هو يلمِّح، بشكل أو بآخر، إلى أن السينما تخدم الفلسفة؛ إذ تقدم السينما (في بعض الأحيان) القوة الدافعة للتفلسف. إنها إحدى سبل التأمل الفلسفي. وعلى النقيض من الفرضية الجريئة، دعونا نقترح «فرضية البطلان». وفقًا لهذه الفرضية ليس للسينما أي دور على الإطلاق في التأملات الفلسفية، بل إن دورها الوحيد هو تقديم قوة دافعة، أو مادة صالحة، للعمل الفلسفي الذي يُنجز كليًّا في إطار لغوي عبر نصوص شفهية ومكتوبة. والأفلام نفسها لا تطرح نقاطًا فلسفية (إلا عندما تجعل شخصياتها تعبِّر لفظيًّا عن نقاط فلسفية). ولكي تطرح الأفلام نقاطًا فلسفية لا بد أن تخضع للشرح والتفسير ثم تُدمج في حجة فلسفية تتطور في مسارها المعتاد. تلك هي فرضية البطلان، وهي بالأحرى استنتاج متحفظ ومحبط. أتوجد خيارات أكثر طموحًا تناسب من يحترزون من الفرضية الجريئة؟
أنا لا أعتبر تلك الأفلام أمثلة توضيحية رائجة، وفي المتناوَل، للآراء والحُجج التي يطورها الفلاسفة على نحو سليم، بل أرى أنها ذاتها تتأمل تلك الآراء والحجج، وتُقيِّمها، وتفكر فيها جدِّيًّا وعلى نحوٍ منهجي، بالطرق نفسها التي يستخدمها الفلاسفة. تلك الأفلام ليست مادةً خامًا للفلسفة، ولا مصدرًا لتنميق الفلسفة، بل هي تمرينات فلسفية؛ ممارسةٌ عملية للفلسفة أو ما يمكن أن نسميه تفلسفًا سينمائيًّا.
للوهلة الأولى، نلمَح أمرًا مُحيِّرًا بعض الشيء في الفقرة السابقة. ماذا يعني مولهال بعبارة: «بالطرق نفسها»؟ يمكن أن تصبح الأفلام ممارسةً عملية للفلسفة، وأن تصبح فلسفية مثل النصوص (وأكثر من النصوص في بعض الأحيان) دون أن تتبع «الطرق نفسها التي يستخدمها الفلاسفة». إذا اتبعنا المعنى الحرفي لكلام مولهال، فسنجد أن إصراره على التكافؤ يعني، من المنظور المنهجي، أنه لا يوجد حقًّا داخل السينما فئة منفصلة للأفلام الفلسفية، بل الأمر ببساطة مجرد تأملات فلسفية عبر وسيطٍ ما بنفس الطرق التي تتم بها عبر وسيطٍ آخر. وهذا ينفي ضمنيًّا وجود أيِّ قيمة في ممارسة السينما للفلسفة، وهو ما يحمل نوعًا من المفارقة. بالطبع يمكن تفسير كلمات مولهال تفسيرًا أقل قسوة من هذا. تزعم الفقرة السابقة بالأساس أن كلًّا من الممارسة الشفهية للفلسفة والممارسة السينمائية لها طريقتان للتفكير جدِّيًّا ومنهجيًّا في الآراء والحجج. دعونا نُطلِق على ذلك «الفرضية المعتدلة». في حين تزعم الفرضية الجريئة أن التمثيل السينمائي للفلسفة فريدٌ من نوعه، ولا يمكن اختزاله إلى أشكال أخرى من الممارسات الفلسفية. وتزعم فرضية البطلان، على وجه التحديد، أنه لا يوجد ما يُدعى التمثيل السينمائي للفلسفة. تزعم الفرضية المعتدلة أن التمثيل السينمائي للفلسفة موجود، وأنه بالفعل تمثيلٌ للفلسفة. رغم ذلك تُنكِر الفرضية المعتدلة تفرُّد الفلسفة السينمائية. والتمثيل السينمائي للفلسفة ليس عصيًّا على الترجمة إلى أشكالٍ فلسفية لفظية؛ إذ يمكن إعادة التعبير عن الفلسفة لفظيًّا دون خسارة، على الأقل من حيث المبدأ. إن ممارسة الفلسفة سينمائيًّا لا تتطلب اتباع نفس طريقة ممارستها لفظيًّا (وهو ما لا يحدث عادةً)؛ لكن هذا لا يدفعنا بالضرورة لاستنتاج أن ممارسة الفلسفة سينمائيًّا تمنحنا مدخلًا إلى معارف وحقائق فلسفية يستعصي على الفلاسفة، الذين يمارسون الفلسفة بطرق غير سينمائية، الوصولُ إليها (وهو استنتاج يُعتبر إعادة صياغة للفرضية الجريئة). تقع الفرضية المعتدلة في مكانٍ ما بين الفرضية الجريئة وفرضية البطلان.
ربما ينبغي لنا إذن تبنِّي فرضية معتدلة تقضي بأن أفكارًا فلسفية محددة تُجسَّد على نحو أفضل على شاشة السينما من تجسيدها في النصوص المكتوبة؛ فربما تعمق الأفلام أحيانًا من وجهات نظر فلسفية على نحو تجد النصوص المكتوبة صعوبة في تحقيقه. لا يتطلب ذلك امتلاك السينما قدرةً فريدة على توظيف نمط خاص بها من التفلسف أو نوع تنفرد به من التبصر الفلسفي، ولا يتطلب امتلاك الأفلام قدرة على أداء أنشطة فلسفية لا يمكن أداؤها على الإطلاق عبر أساليب فلسفية شفهية أو مكتوبة. تلك إذن فرضية مختلفة عن الفرضية الجريئة. على الجانب الآخر، تقتضي الفرضية المعتدلة أن الأفلام قد تتفوق أحيانًا على النصوص المكتوبة في أداء بعض المهام. إذن فالأفلام ليست مجرد منهلٍ للتفلسف، وهي أيضًا ليست مجرد وسائل للتأمل المنهجي في معتقدات أساسية. إنما هي طرق جيدة على نحو استثنائي لممارسة الفلسفة. إن الفرضية المعتدلة تخوِّل السينما امتلاك مغزًى فلسفي عميق.
الفكرة الرئيسية وراء الفرضية المعتدلة هي أن الأفلام تستطيع أحيانًا التفوق على الأنواع الفلسفية المعتادة في تقديم أشكال بعينها من المادة الفلسفية. ولا يرجع ذلك فحسب إلى كون السينما أكثر إمتاعًا وجاذبية على المستوى العاطفي. الأفلام في أغلب الأحيان أكثر جاذبية من الكتابة الفلسفية العادية، وفي النهاية أيُّ من كتابات فلاسفة مثل كانط وهيجل وهيوم ورولز ودوميت لا تعتبر حقًّا كتابات مشوقة. إذا كانت السينما تستطيع أحيانًا أن تصبح وسيطًا فلسفيًّا أفضل، فإن ذلك يرجع جزئيًّا إلى قدرتها على تجسيد نوع من الفروق الدقيقة ووجهات النظر التي لا توجد غالبًا في الفلسفة الاحترافية، ومن الصعب إعادة إنتاجها ضمن الأنواع الأدبية التي تستخدمها. وذلك بدوره يرجع جزئيًّا إلى أن الفلسفة الاحترافية مكبَّلة أكثر مما ينبغي بقيود أنواعها الأدبية المتخصصة؛ ألا وهي مقالات الدوريات المتخصصة والدراسات ذات الموضوع الواحد.
تستند بعض الآراء المحافظة حول قدرة السينما على ممارسة الفلسفة إلى مفهومٍ قيِّمٍ وحصري ومفرط التدقيق لماهية الفلسفة. قد يرجع ذلك إلى أن بعض الفلاسفة لا يرغبون ببساطة في تقبُّل احتمالية أن الشعراء والروائيين وصناع الأفلام، وغيرهم ممن يمتهنون مهنًا أقل مقامًا، ربما ينجحون كثيرًا فيما يخفق فيه الفلاسفة، ويتفوقون أحيانًا في ممارسة الفلسفة على الفلاسفة المحترفين، ناهيك عن تقبُّل ذلك كحقيقة بسيطة. ويرتبط بالمفهوم «القيِّم» للفلسفة الافتراض المزعوم بأن على السينما تحقيق توقُّع ما؛ أي معايير معينة لا بد أن تفيَ بها كي تصبح جديرة بالنظر إليها على أنها تمارس الفلسفة أو تساهم فيها. لكن ربما يجدر بنا النظر فيما إذا كان الفلاسفة قد أساءوا فهم الترتيب الصحيح للعلاقة بين الفلسفة والسينما. ربما كان السبيل الأكثر ثراءً بالأفكار هو طرح السؤال التالي: «ما الذي ينبغي على الفلسفة فعله، ما المعايير التي ينبغي أن تسعى لتحقيقها، كي تصبح أكثر شبهًا بأفلام (معينة) أو كي تساهم فيها؟»
يرى بعض الفلاسفة أن الممارسة الفلسفية المعاصرة شوهت الكثير من القضايا الفلسفية. وعلى وجه الخصوص، فإن فلاسفة أمثال آيريس مردوخ (١٩٧٠) ومارثا نوسباوم (١٩٩٠) يعتقدون أن الفلسفة — على الأقل في بعض الأحيان، وفي ميادين مثل الأخلاقيات — تبدو أكثر انسجامًا، أو بعبارة أخرى أكثر قابلية للفهم وأكثر تناغمًا في الأدب والفنون، مقارنة بوضعها بين الفلاسفة. إن جماليات السينما وتقنياتها؛ مثل المونتاج والتركيز العميق واللقطات المقربة ولقطات التتبع، جميعها مناسِبة لتركيز وتعزيز الانتباه والتأمل اللازمَيْن اللذين يعتقد مردوخ ونوسباوم أن الأدب الروائي الجيد يُجسِّدهما. إلا أنه في جَعبة السينما ثمة حِيَل تَفُوق بكثير ما لدى الروايات؛ فالكاميرا تصحبنا إلى حيث يريدنا المخرج تحديدًا، ويمكن إبراز وجهة نظرٍ ما باستخدام الصوت أو الموسيقى. والأفلام تُرينا وجوهًا؛ ومن ثم تُطلق العِنان لقدرتنا على قراءة الوجوه وإدراك مغزى الحركات والإيماءات. بينما يُضطر الروائي إلى التصريح أو التلميح، بأشياءَ يمكن لصانع الفيلم أن يعرضها علينا. لا يعني هذا، حسب وصف مردوخ ونوسباوم، أن الأفلام دائمًا ما تتفوق على الروايات في اجتذاب المُشاهد على المستوى النقدي والأخلاقي. (تفتقر الأفلام عمومًا إلى الصوت الحازم الجلي الذي نجده في بعض الروايات، رغم أن ذلك لا يُعد دومًا عيبًا بأي حال.) وحتى مع الأبعاد الإضافية أو الحيل التي تستخدمها السينما، يتفوق كثير من الروايات (كل الروايات العظيمة تقريبًا) على الأفلام في جذب القارئ إلى عالمها، ودفعه إلى التركيز في سياق أخلاقي، داعمةً إدراكه للتفاصيل المهمة (أحيانًا عبر حجب معلومات معينة). رغم ذلك، فإن التقنيات المتنوعة المتاحة للسينما قد تؤدي بالفعل إلى خلق درجة من الانجذاب العاطفي والأخلاقي يَعجِز الأدب الروائي في كثير من الأحيان عن تحقيقها. يمكننا توسيع نطاق هذا النقاش ليتجاوز الأخلاقيات وفن الرواية. السينما قادرة على طرح بعض الآراء ووجهات النظر الفلسفية بطريقة أفضل، وبمزيد من الوضوح، مقارنة بالمؤلفات المكتوبة على اختلافها. وتلك الرؤية هي بالطبع ما نُطلق عليه الفرضية المعتدلة حول العلاقة بين السينما والفلسفة.
في هذا الكتاب، سوف نفحص كثيرًا من الأفلام، بعضها سيوضح أفكارًا فلسفية، وبعضها سيعرض ظواهر تستدعي الاستقصاء الفلسفي، والبعض الآخر يشكِّل في حد ذاته موضوعات للتدقيق الفلسفي. وإلى جانب ذلك سنتناول أفلامًا نرى أنها تستدعي تجارِب افتراضية فلسفية، وأخرى قدمت تحرِّيًا دقيقًا لموضوعات فلسفية عبر حشد رسائل تذكيرية قوية حول مختلف جوانب خبرتنا بالحياة وعبر استخلاص استنتاجات منها. في الفئة الثانية من الأفلام التي نعرضها سوف نتبع الفرضية المعتدلة؛ إذ نرى أن التجارِب الافتراضية في بعض الأحيان (وليس دائمًا) تُعرض في قالب سينمائي أفضل من عرضها في القالب المقتضَب عن عمد والمنفصل عن أي سياق، الذي نألفه في الكتابة الفلسفية. ونعتقد أن السينما قادرة أحيانًا على إجراء تحرٍّ دقيق لجوانب أصيلة من خبرتنا البشرية يتخطى الإنجازات المعتادة لدى النصوص الفلسفية المكتوبة، وبينما تفعل ذلك تدحض بقوةٍ الطرق الجوفاء والمفرطة التبسيط لفهم الحياة.
الفلسفة السينمائية وقصد المؤلف
تثير العلاقة بين نوايا صناع الأفلام والاستقصاء الفلسفي للأفلام عدة أسئلة. أحد الجوانب المثيرة للاهتمام في السينما، والذي يوجد أيضًا في الأشكال الأخرى من الفن السردي (مثل الروايات)، هو أنها كثيرًا ما تسمح لنا برؤية وتخمين أشياء تفوق بكثير ما انتواه صُناعها. قد يتضمن الفيلم في ثناياه رؤية فلسفية ما دون أن يقصد المخرج أو الكاتب إظهارها، وأحيانًا دون أن يعيَ، حتى إنه يعتنق تلك الرؤية، أو إنها مضمرة ضمن ما يعتنقه من آراء أخرى. وبعيدًا عن دعم المخرج أو الكاتب صراحة لرؤية ما (وحتى مع وجود ذلك الدعم) لا بد من مراعاة الحرص عند عزو تلك الرؤى إليهم. فهل يدعم صناعُ الأفلام التي تصوِّر أبطالًا يطبقون العدالة بأنفسهم خارج إطار القانون — مثل مايكل وينر مخرج فيلم «أمنية الموت» (١٩٧٤) ودون سيجل مخرج فيلم «هاري القذر» (ديرتي هاري) (١٩٧١) — الآراءَ التي يُجسِّدها الممثلون بتلك الأفلام حول العدالة، حتى وإن أبدى الجمهور دعمًا جارفًا لها؟ إن تلك الأفلام تقدم حُججًا (رديئة للغاية) لدعم تطبيق العدالة خارج إطار القانون بصرف النظر عن إجابة السؤال السابق.
يمكن تقييم الآراء الفلسفية التي تقدمها الأفلام، أو التي يُعتقد أن الأفلام تقدمها، تقييمًا مستقلًّا عن قصد المؤلف. بالطبع قد لا نكون على حق دومًا في كل رأي ننسبه إلى فيلم ما، سواء كان حاضرًا في الفيلم عن قصد أو دون قصد، وبما أن بعض الأفلام قد تكون غامضة أو غير واضحة أو مرتبكة حيال الآراء التي تقدمها، فلن يتاح لنا دائمًا إدراك ما إذا كان الفيلم يُجسِّد موقفًا ما أو يدافع عنه. وهو وضع ينطبق كذلك على الحجج الفلسفية في النصوص المكتوبة كذلك، ولا يوجد سبب يدفعنا إلى افتراض تمتُّع السينما بأفضلية طبيعية فيما يتعلق بعرض الآراء أو الحجج الفلسفية عرضًا واضحًا لا يشوبه الغموض.
إن الاكتفاء بتحديد قصد صناع الفيلم قد يكون مفيدًا في عملية استخلاص رد فعل فلسفي على الفيلم، وقد لا يكون مفيدًا. دون قدر كبير من الأدلة الداعمة قد يستحيل فعليًّا تحديد قصد المؤلف، أو تبرير عزو قصد المؤلف، حتى في الحالات التي نُصيب فيها. وعلى أي حال، لا يحظى قصد المؤلف دائمًا، بل وربما لا يحظى حتى في معظم الأحوال، بأهمية خاصة، ما لم يكن المرء مهتمًّا تحديدًا بآراء صانع أفلام بعينه. على سبيل المثال، يبدو من المهم فهم نوايا صناع الأفلام المثيرين للجدل الذين يتعمدون اختيار موضوعات معينة مثل مايكل هانيكه. إلا أن نوايا هانيكه الكامنة في أفلام مثل «فيديو بيني» (بينيز فيديو) (١٩٩٢) و«ألعاب مسلية» (فاني جايمز) (١٩٩٧، ٢٠٠٧) و«الشريط الأبيض» (ذا وايت ريبون) (٢٠٠٩) لا تحدد الإمكانات الفلسفية لتلك الأفلام أو تحد منها. وما ينبغي أن يثير اهتمامًا فلسفيًّا في أفلام العدالة خارج نطاق القانون التي أشرنا إليها أعلاه ليس ما إذا كان صناع تلك الأفلام يؤمنون بمفهوم العدالة الذي يصورنه، بل ما إذا كانت الأفلام تقدم ما يدعم فعليًّا هذا المفهوم. وبالطبع إذا انتهينا إلى أنها لا تحقق ذلك، فسيصبح السؤال الأهم فيما يتعلق بالفلسفة والسينما يخص تلقِّي الجمهور لتلك الأفلام. كيف يستوعب الجمهور على المستوى المعرفي أن تلك الأفلام تحاول مثلًا التأثير في غرائز الانتقام لديهم؟ ولماذا يستمدون هذا القدر الكبير من نوع ما من الإشباع من تلك الأفلام؟
يعلق ليفينجستون قائلًا (٢٠٠٨: ٤): «يمتلك وارتنبيرج من الحصافة ما يجعله يُسلِّم بأن القول إن فيلمًا ما يتضمن معالجة فلسفية ليس سوى «تعبير مختزل يُقصد به القول إن صناع الأفلام هم من يتناولون الفلسفة فعليًّا في السينما أو من خلالها».» إذا كانت الوساطة ضرورية لفعل أي شيء، وإذا لم يكن الفيلم وسيطًا فبالتأكيد ليس في وسع السينما ممارسة الفلسفة، وإنما مسُّها مسًّا خفيفًا وحسب. قد تبدو صحة الرأي الذي يطرحه ليفينجستون واضحة جلية، لكنها في الحقيقة ليست بهذا الجلاء؛ إذ يوجد شعور طبيعي أن الأفلام، مثلها مثل الأعمال الروائية إلى حدٍّ كبير، قد تتمتع بقدر ينسب إليها شيئًا من الوساطة. في وسع الأفلام فعل أشياء لأن بمقدورها إحداث تأثيرات ذات معنًى تتجاوز كثيرًا نوايا صناعها. ومثلما يؤدي تطور الشخصيات في الأدب الروائي إلى عرض فروق دقيقة في وجهات النظر، وتوضيح عواقب غير مقصودة قد تضيف إلى جدل فلسفي، أو تعبر عن رأي ما، تستطيع الأفلام تحقيق ذلك، بل وربما تحققه بدرجة أكبر من الأدب الروائي، بصرف النظر عما إذا كان صناعها ينوون ذلك أو يتنبئون به؛ فجزء من مهام مُمنتج الأفلام (محررها) هو استخلاص أو تسليط الضوء على القصة وتطور الحبكة والمعنى الحاضر أو الآخذ في التنامي داخل الفيلم. لكن الفيلم قد يفوق أو يقل عن مجموع أجزائه من منظور قيمته الجمالية الكلية ومعناه، سواء كان ذلك مقصودًا أم لا. ومن الممكن غالبًا تمييز قصد المؤلف عن الأشياء التي تُصورها قصة الفيلم أو المؤثرات البصرية أو الأداء.
خاتمة
بالعودة إلى تفسير وارتنبيرج لفيلم «إشراقة أبدية لعقل نظيف»، نوجه اهتمامنا إلى مقترح ذكرناه آنفًا يدفع بحتمية الاعتراف بالتفوق الفلسفي للسينما إن رغبنا في استيعاب العلاقة بين السينما والفلسفة وإدراكها حق الإدراك. ويجب على الفلسفة، على الأقل إلى حدٍّ ما ومن أوجه معينة، التطلع نحو السينما بدلًا من توقع العكس.
يلفت وارتنبيرج (٢٠٠٧: ٩١) أنظارنا إلى «الفرق بين تفسيرين للأعمال الفنية؛ تفسير متمركز على صانع العمل، وتفسير متمركز على الجمهور»:
التفسيرات المتمركزة على صانع العمل الفني تطرح تأويلات ربما قصد الصانع طرحها عبر عمله. لكن … هذا لا يعني حتمية إلمام الصانع إلمامًا مباشرًا بالموقف الفلسفي الذي تدعي تلك التفسيرات أنه محور العمل، بل يشير فحسب إلى معقولية الاحتمال القائل بأن الصانع قد استجاب إلى مواقف أو أفكار متضمنة في ذلك العمل الفلسفي. وعلى الرغم من أن النصوص الفلسفية بمنزلة مصادر للكثير من الأفكار والنظريات والمواقف، فإنها تكتسب حياة خاصة بها داخل إطار ثقافة ما. وكل ما هو ضروري للتفسير المتمركز على صانع العمل كي يكون مقبولًا في هذا السياق هو طرح احتمالية اطلاع الصانع على الأفكار والنظريات والمواقف الفلسفية بموجب وجوده العام ضمن إطار ثقافة ما مثلًا. إن النفعية نظرية فلسفية اكتسبت تقديرًا واسع النطاق داخل الثقافة الأمريكية بوجهٍ عام، وشعار «أكبر نفعًا لأكبر عدد من الناس» معروف لدى أعداد أكثر بكثير من أعداد من قرءوا النصوص التي انبثق منها؛ لذا يبدو معقولًا في رأيي أن فيلمًا معاصرًا ربما يستهدف تلك الرؤية.
يضفي وارتنبيرج (٢٠٠٧: ٩٢) مزيدًا من التأكيد على فكرته عبر الإشارة إلى «استدعاء الفيلم بوضوح لأفكار نيتشه»، إلى جانب حقيقة أن «النفعية كانت من بين ما استهدفه نقد نيتشه الفلسفي».
لا حاجة للمرء برفض رأي وارتنبيرج حول ممارسة هذا الفيلم للفلسفة كي يقترح أن الشكل الذي يتخذه الدفاع عن الفيلم كوسيط للمعالجة الفلسفية يتضمن افتراضًا مسبقًا مثيرًا للاهتمام. إذا لم نستكشف طبيعة هذا الافتراض، فسوف نُسيء على الأرجح فهم آلية الارتباط الوثيق بين الفلسفة والسينما في أغلب الأوقات، وسبب هذا الارتباط. نجح وارتنبيرج في البرهنة على أن الأفلام تستطيع تقديم مواقف فلسفية، أو توضيحها، أو مناقشتها، وطرح أسئلة فلسفية، وغالبًا ما تفعل ذلك. ونحن نقترح، فيما أطلقنا عليه الفرضية المعتدلة، أن الأفلام غالبًا ما تتفوق حقًّا على النصوص الفلسفية الشفهية أو المكتوبة في القيام بالمهام السابقة. ربما السؤال المحوري ها هنا ليس هل تستطيع الأفلام القيام بذلك أو كيف تقوم به، بل كيف تعجز عنه؟ يقول وارتنبيرج (٢٠٠٧: ٩٣): «لقد رأينا أن فيلمًا واحدًا، «إشراقة أبدية لعقل نظيف» يقدم مثالًا مناقضًا للنفعية؛ ومن ثَم يمارس الفلسفة فعليًّا … وعلى عكس المتوقع لدى دارسي السينما والفلسفة على حدٍّ سواء، في وسع الأفلام الروائية تقديم حُجج فلسفية عبر قصصها؛ لأنها تعرض تجارِب افتراضية تلعب دورًا محوريًّا في تقديم نماذج مناقضة للأطروحات الفلسفية.» هذا تعبير عما نُطلق عليه الفرضية المعتدلة، ويبدو لنا أن مثل هذا الموقف المتواضع لن يصدمنا كموقف مناقض للحدْس إلا إذا كنا غارقين حتى آذاننا في أغوار أيديولوجية ما غير منطقية حول السينما والفلسفة أو كليهما. هذا الكلام غير موجَّه بالضرورة إلى وارتنبيرج بقدر ما هو موجَّه إلى من يتحدث عنهم من المعترضين بِناءً على أسس فلسفية؛ فهم يؤمنون على ما يبدو بتصور بالغ السطحية حول الفلسفة وأصول التفلسف.
يفترض وارتنبيرج مسبقًا عاملَيْن في مناقشته هذه المسألة. الأول هو تفوق الفلسفة. إذا جسَّد فيلمٌ ما تجرِبةً افتراضية فلسفية فإنه يتمكن من ذلك عبر حشد قواه لمواجهة موقف فلسفي معروف؛ فالموقف الفلسفي يأتي أولًا، ويمارس الفيلم الفلسفة عبر الاستجابة له بطريقة ما. (هذا ما يحدث غالبًا، لكن هل يحدث دائمًا؟ وهل لا بد أن يحدث؟) والثاني هو تأكيده المفرط فيما يبدو على المحتوى الفكري للحُجج السينمائية بدلًا من طريقة إعدادها وتقديمها في الفيلم. إن جزءًا مهمًّا من منهج السينما في ممارسة الفلسفة هو قدرتها على تجسيد الحُجة بطرق وجدانية؛ أي بطرق تحقق تجاوبًا عاطفيًّا لدينا إلى جانب التجاوب الفكري. والمشاعر التي يولِّدها الفيلم قد تُركز انتباهنا، وتمكِّننا من «رؤية» أو تقدير جوانب من حُجةٍ ما كانت لتُطرح جانبًا في أحوال أخرى. وباستثناء الحقائق القائمة على الملاحظة والتجريب (أن ترى شيئًا رَأي العَين)، فإن التصديق في أغلب الأحيان ينبع من الرغبات والمشاعر أكثر من المنطق والدليل. وأحيانًا يجب على الفكر الفلسفي ملاحظة هذا المكون الوجداني الذي يميز الفلسفة البارعة.
قد ينبع افتراض وارتنبيرج المسبق حول أفضلية الفلسفة على السينما من وجهة نظر خاطئة عن نشأة المشكلات الفلسفية؛ إذ يقول (٢٠٠٧: ٩١): «رغم أن النصوص الفلسفية هي مصادر الكثير من الأفكار والنظريات والمواقف، فإن تلك الأفكار تكتسب حياة خاصة بها داخل إطار ثقافة ما.» مع ذلك فإن النصوص الفلسفية ليست دائمًا، ولا حتى في أغلب الأحيان، مصدر الأفكار، بل الثقافة هي المصدر. إن النصوص الفلسفية، لا الثقافة، هي المكان الذي تكتسب فيه «الكثير من الأفكار والنظريات والمواقف» حياة خاصةً بها. وخارج النطاق الضيق لبعض صور الفلسفة الاحترافية، لا تنبع الفلسفة من نفسها؛ فالتساؤل الفلسفي يتولد من إحساس دائم ومركَّز من العجب والحيرة من الحياة، حياتنا وحياة الآخرين أيضًا، كما نعيشها ونندمج فيها.
إن الأسئلة الأخلاقية التي تطرحها النفعية، والإجابات التي تقدمها، لا توجد، بدايةً، في كتابات ميل وبنثام، ولا ابتدعها كلٌّ منهما من لا شيء. إنما هي مسائل أخلاقية تُثار في الحياة العادية. ومحاولات الفلسفة النفعية، في هذه الحالة، لترتيب وتصنيف إجابات لهذه المسائل ذات الأهمية لم تخرج إلى النور إلا بعد ما استحوذ علماء الأخلاق وذوو التفكير الفلسفي على تلك المسائل. والإيمان بأن «احتياجات الكثرة تفوق احتياجات القلة أهمية» (أو احتياجات الفرد)، حسب تعبير شخصية سبوك في مسلسل «ستار تريك»، سابقٌ على صيغ النفعية التي ظهرت في القرن التاسع عشر. لم توجد المشكلات الفلسفية، بعيدًا عن المشكلات شديدة التخصص، أولًا وأخيرًا في المقالات والنصوص الدعائية الفلسفية، بل هي مكون من مكونات الحياة. وغالبًا ما تصورها السينما والأدب وتحللها كما هي بدرجات متفاوتة من النجاح، وتتناولها أيضًا أشكال فنية أخرى، مثل الموسيقى والرسم، لا تتضمن محتوًى سرديًّا واضحًا أو ربما لا تتضمن أي عنصر سردي على الإطلاق.
لا يبتدع الفلاسفة، على الأقل في المعتاد، المشكلات الفلسفية العامة التي هي من مكونات الحياة. وتلك المشكلات ليست من ابتداع الفلسفة ولا ملكية خاصة بها. لذا لنفهم الصلة الجذرية بين السينما والفلسفة، وكي نفهم السينما كشكل من أشكال الفلسفة، لا ينبغي لنا الاكتفاء بالنظر إلى قدرة السينما على توضيح أفكار فلسفية محددة مسبقًا أو ابتداع حُجج فلسفية حول مواقف فلسفية محددة مسبقًا. بل إن الصلة الأكثر جوهرية تكمن في وجود مصدر عام مشترك لمزاولة الفلسفة، وهو الحياة كما نعيشها، وتوجد على وجه الخصوص في اهتمام السينما بالقصص التي نخبر بها أنفسنا عبر سعَيْنا لفهم ذواتنا وإرشادها، وشرح وتبرير دوافعها، والتماس العذر لها. إن قدرة السينما كمنبع للفلسفة لا تُستنزف عبر قدرتها على معالجة القضايا الفلسفية النمطية بطرق مختلفة؛ فالسينما تمتلك قدرة هائلة في هذا الإطار، لكنها ليست الملمح الوحيد الذي يميز علاقة السينما بالفلسفة. فمثل الأدب، السينما وسيط يوظف أساليب متعددة، ليست جميعها من صنعها، كي تُجسِّد القضايا الفلسفية كما تُثار، أو كما قد تُثار، في الحياة وفي الخيال. بل إن قدرة السينما على تصوير الحياة كما تبدو في الحقيقية وفي الخيال — والحياة دائمًا ما تكون خيالية بدرجة ما — هي ما تشكل الصلة الجذرية بين الفلسفة والسينما.
تفترض الفصول في الجزء الثاني من هذا الكتاب أن السينما والفلسفة غالبًا ما يتضافران بطرق تلقي الضوء على كل منها بالتبادل؛ فالجمع بين المناقشة النقدية العميقة وخبرة مشاهدة الأفلام قد يُعد سبيلًا جذابًا للتعمق في الفلسفة والسينما على حدٍّ سواء. إن الفلسفة لا تطرح منظورًا مبتكرًا لرؤية السينما، ولا توجد صلة فريدة من نوعها بين الاثنين. بل الأفلام في حد ذاتها استقصاء فلسفي، يشوبه الارتباك غالبًا، مثلما يشوب الارتباك — في أحيان كثيرة — الاستقصاء الفلسفي الذي يضطلع به الفلاسفة.
أسئلة
-
هل تستطيع الأفلام تغيير طريقة ممارسة الفلسفة، أو هل تمكنت من ذلك بالفعل؟
-
هل في وسع الفلسفة تغيير طبيعة السينما، أو هل غيرت الفلسفة بالفعل من طبيعة السينما؟
-
هل تستطيع الفلسفة تقديم عمل سينمائي؟ ما هي أوجه الاعتراض الأقوى على هذا الزعم؟
-
تزعم الفرضية الجريئة أن مساهمة السينما في الفلسفة، إن كانت مساهمة حقيقية، فهي قطعًا مساهمة لا تقبل الاختزال أو الاستبدال بأي شكل آخر من أشكال التواصل. ما مدى معقولية هذه الفرضية وما مدى أهميتها؟
-
كثير من الأفلام التي يحبها الناس ليست سوى «تفاهات للهرب من الواقع». هل هذه الأفلام مناسِبة للاستقصاء الفلسفي؟ وإذا كانت مناسِبة فكيف ذلك إذن، وإذا كانت غير مناسِبة فلماذا؟
-
«تؤثر المشاعر على ما نعتقد، مثلها مثل الرغبات. وتلك حقيقة غالبًا ما تستغلها السينما، وتفسر إلى حدٍّ كبير قدرتها على اجتذاب الجمهور. لذلك غالبًا ما تمدُّنا الأفلام بمعلومات خاطئة، وتضللنا من المنظور الفلسفي، بقدر ما تُطلعنا كثيرًا على قضايا فلسفية وتُعمِّق معرفتنا بها.» هل هذا صحيح؟ كيف إذن؟
-
ما أوجه تشابه الأفلام مع الحياة، إن وُجدت؟ وهل يلعب هذا التشابه دورًا في قدرة السينما على التفلسف؟
-
هل الأفلام وسيط أنسب للتعامل فلسفيًّا مع موضوعات معينة مقارنة بالأدب أو الفنون المرئية؟ هل في وسعها التفوق على كتب الفلسفة ومقالات الدوريات المتخصصة؟