البحث عن معنًى في جميع الأماكن الخطأ: «أن تحيا» (إيكيرو)
بعدما يدرك واتانابي أنه مصاب بسرطان لا شفاء منه — وهي حقيقة كذب الأطباء عليه بشأنها — يغرق على الفور في لجة من التعاسة. ويدرك عبر طيَّات يأسه الجلي أنه يواجه مشكلة تتجاوز موته الوشيك. وطبيعة هذه المشكلة هي موضوع هذا الفصل؛ إنها، بوجهٍ عام، مشكلة إيجاد معنًى للحياة. في الفصل الأول، ذكرنا أن الكثير من المشكلات الفلسفية توجد أولًا في الحياة الواقعية، يلي ذلك تبنِّي الفلاسفة لها. «أن تحيا» هو نموذج يعرض مشكلة فلسفية ويقدم حلًّا «على الطبيعة»؛ أي في سياق حياة معينة وما تفرضه على صاحبها من مشكلات جدِّيَّة. وهو، من نواحٍ عدة، سابق على المعالجات الفلسفية الاحترافية للمشكلة، ويحظى كذلك بتأثير أقوى.
يعلم واتانابي عن مصيره من مريض زميل بالمستشفى، يُعلمه كيف يكشف أكاذيب الأطباء. يُخبره الأطباء أنه يعاني من قرحة بسيطة بالمعدة، في حين يعاني فعليًّا من سرطان بالمعدة لا يمكن استئصاله جراحيًّا. لا يوضح الفيلم ما إذا كان الأطباء يعتقدون حقًّا، كما يوحي الحوار، أنهم يراعون مصلحته بعدم إخباره؛ ففي النهاية ما فائدة القلق على شيء لا يمكنك فعل أي شيء حياله؟! أم يرغبون ببساطة في تجنب مشقة إخباره. وكما هي الحال مع أفلام كوروساوا يروي الحوار قصةً بينما يحكي المشهد قصةً أخرى. في هذا المشهد يُوضع الحوار والسرد في مواجهة تكنيك التصوير السينمائي (اللقطات المقربة الطويلة والقاسية) والأداء التمثيلي من أجل تحقيق تأثير خاص (المشهد في الدقيقة ١٧). يطرح سلوك الأطباء مشكلة الأسلوب الأبوي في التعامل التي تستدعي منا بعض التأمل. في معظم الأماكن اليوم، يحاول العاملون بمجال الطب منع هذا النوع من السلوك الأبوي الذي يُظهره أطباء واتانابي. لكن استقلالية الفرد لا تزال تزعزعها الأبوية يومًا بعد يوم في كثير من مجالات الحياة، من بينها الطب طبعًا، لكن أبرزها هو السياسة. الفعل الأبوي هو الذي يحرم الأفراد من فرصة تقرير مسار عمل خاص بهم، إما عبر حجب معلومات أو إعاقة الوصول إلى الموارد، أو تجريم مسار عمل محتمل. من الصعب، إن لم يكن مستحيلًا، معرفة متى يكون السلوك الأبوي من جانب أولئك الذين في موقع سلطة — مثل الأطباء والساسة ورجال الشرطة وغيرهم — مبررًا. عادةً ما تُبرر الأبوية بمزاعم تدعي أن العجز عن تقرير مسار عمل ما أمرٌ في مصلحتنا، أو حول وجود مصلحة كبرى على المحك. يُقابل هذه الأبوية من الناحية الأخرى نوعٌ من الطفولية لدى أولئك الذي لا يرغبون في أن يكونوا على علم، أو أمثالهم تقريبًا ممن يخدعون أنفسهم بزعم أن من هم في مقاعد السلطة «هم الأكثر دراية» وقادرون على الوصول إلى معلومات تخفى على بقية الناس. تخيَّل ما كان سيحدث لو أن واتانابي صدَّق الأطباء، كان سيفقد فرصة إيجاد معنًى لحياته في شهورها الأخيرة.
يعيش واتانابي مع ابنه (ميتسو) وزوجة ابنه، أو بالأحرى يعيشون هم معه في منزله. هو غير مرحب به في بيته، ويبدو عاجزًا أو عازفًا عن إخبارهما بمرضه المميت، يدفعه في ذلك جزئيًّا عدم اهتمامهما به عمومًا وتجاهلهما إياه. وعندما يحاول بالفعل إخبارهما، تتدخل الظروف مرارًا وتكرارًا لمنعه من ذلك. ويظلان على جهل بمرضه وبعلمه أنه مريض حتى بعد موته. من الخارج على الأقل، يبدو أن ميتسو وزوجته مهتمَّين بميراثهما وبشراء بيت جديد أكثر من اهتمامهما بواتانابي. وعلى الرغم من برود الابن وانعزاله وعزوفه عن إبداء أي حب أو احترام تجاه واتانابي، كان واضحًا أيضًا أنه كان يُكِنُّ مشاعر تجاه والده، مشاعر لم يدرك وجودها على الأرجح إلا بعد وفاته.
وعلى الرغم من محالات واتانابي الواهنة بعض الشيء لاسترجاع الود بينه وبين ابنه، من الخطأ اعتقاد أنَّ تحقُّق ذلك الوفاق بينهما كان سيحل وحده مشكلة واتانابي. ربما خفف من عزلته ووحدته وساعده على تهدئة خوفه، وذلك ليس بالأمر الهين. لكن كوروساوا يُلمِّح، عبر السرد البصري أكثر من السرد الحواري، إلى أنه في مواجهة الموت نحن أيضًا، لا واتانابي فحسب، نكون وحدنا. ويأتي التجسيد الأقوى لهذه الفكرة — في أحد أكثر المَشاهِد اكتمالًا وإتقانًا في تاريخ كوروساوا السينمائي — في اللقطة الأخيرة لواتانابي التي تُصوِّره وحده ليلًا قبل لحظات من وفاته في المتنَزَّه الذي أنشأه، يتأرجح على أرجوحة الأطفال ويغني بينما تتساقط الثلوج من فوقه (الدقيقة ١٧ من الساعة الثالثة). فمهما حشدنا من دعم واستجمعنا من قوة، ومهما كان لحياتنا من مغزًى، وأيًّا كان من يتشبث بأيدينا وقت الرحيل، نحن نواجه الموت بمفردنا عند مجيئه. وأيَّما تلقَّينا من عون من أولئك المحيطين بنا، حتى أولئك الذين نحبهم ويحبوننا، فإن ذلك كله إن لم يُجرَّد تمامًا من قوته، فإنه على الأقل يصير بلا أهمية نسبيًّا في وجه الموت.
في مكتب البلدية، يؤدي الموظفون أدوارًا في تمثيلية مُحكَمة، حيث يُخفي الجميع ما يدور داخل عقولهم خلف ستار من الادعاء، ولا يتشكك أحد في قيمة ما يفعله. الاستثناء الوحيد بينهم هي تويو؛ موظفة شابة مستجدَّة، سرعان ما تستقيل من العمل لأنه في رأيها «ممل إلى حدٍّ لا يطاق.» وعلى الرغم من صغر سنها — في الواقع، بسبب صغر سنها — هي تتمتع ببصيرة فطرية، وانجذاب نحو ما يُضفي معنًى على الحياة. هي ليست المنقذ الذي قد نتوقعه لبطلنا (على الرغم من أننا نخمن دورها على الفور)، لكنها تلعب رغم ذلك دورًا محوريًّا في خلاص واتانابي؛ إذ ترشده إلى طريق للخلاص لا يرتبط بقوًى غيبية أو رعاية إلهية. وفي النهاية، ينعم واتانابي، ولو للحظات وجيزة، بإحساس بالمكان والانتماء. في المشهد الذي ذكرناه بالأعلى، يغنِّي واتانابي أغنيته المفضلة على ما يبدو، فتلك هي المرة الثانية التي يغنيها في الفيلم، وفي هذه المرة يغنيها بمزيد من الطمأنينة، ويخفت إحساسه بالضياع. وهي أحاسيس لا تنبع من إدراك كون حياته ناجحة بقدر ما تنبع من كونه تعلَّم «أن يحيا».
•••
بلا شك أدى المرض إلى تفاقم مشاعر الأسى والندم لدى واتانابي، لكننا نخطئ إن ظننا أن ذلك هو كل ما في الأمر.
•••
•••
•••
قد يتضافر مرضٌ مميت من ناحية، مع إدراكٍ، لا يكون دومًا واعيًا، لإخفاق مُحدِق من ناحية أخرى، تحدث نتيجة له أزماتُ منتصف العمر — بعضها يثير الضحك، لكن الكثير منها لا يبعث على ذلك — والتي تُسفِر تحديدًا عن رجال عاجزين بدرجة ما أو بأخرى عن احتمالها، غير قادرين على فهم الفائدة التي يجنيها الآخرون من قيادة سيارات رياضية باهظة الثمن. من ناحية، الإخفاق هو مصير البشر جميعًا، و«الإخفاق» هو التعبير المناسب هنا. وقدرة الفيلم (قدرة كوروساوا) على استحضار ذلك هي ما يربطنا بواتانابي ويحرك مشاعرنا، على الأقل لدى مَن تأثر منا بالفيلم (البعض لم يتأثر بهذا الفيلم). وما يدفع هذا التوحد مع بطلنا عامل شعوري أكثر من كونه إدراكيًّا. على وجه التحديد، ربما يكون ما نشعر به تجاه واتانابي انعكاسًا لميولنا النرجسية، حبنا لذاتنا، ونابعًا منها.
في اللقاء الأخير مع تويو، يسألها واتانابي، مدركًا أبعاد مرضه وموته الوشيك: «لمَ تنبضين بالحياة إلى هذا الحد المذهل؟ … قبل أن أموت، أرغب في أن أحيا يومًا واحدًا كما تحيَين. سوف أحيا على هذا النحو قبل موتي، لن أستطيع الاستسلام للموت حتى أحقق ذلك» (الدقيقة ٢٦ و٢٧ من الساعة الثانية). بالتأكيد يرى واتانابي قرب موته مشكلة، لكنها ليست — كما يتضح من الاقتباس — مشكلته الأساسية. غالبًا ما يُنظر إلى «أن تحيا» على أنه عمل دعائي لمبادئ الفلسفة الوجودية، يعالج قضية معنى الحياة وما تتضمنه من أسئلة على غرار: لماذا ينبغي على المرء أن يحيا، وكيف يحيا في عالم بلا معنًى، ربما عالم عبثي؛ عالم قادر على إنتاج صور مروعة لا يمكن تصورها من الرعب والظلم والألم؛ عالم بلا سردية كبرى منطقية تفسره وتُصالحنا عليه؟ من الصعب تخيُّل حال اليابان عام ١٩٥٢ بعد الحرب العالمية الثانية وبعد سقوط قنبلتَي هيروشيما وناجازاكي. (يعكس فيلم كوروساوا بدقةٍ أزمة اليابان في فترة ما بعد الحرب، وهو على أقل تقدير يطرح نقدًا اجتماعيًّا بقدر ما يروج لأفكار وجودية.)
يُطرح السؤال حول معنى الحياة بصيغ متنوعة، من بينها الصيغتان التاليتان: «هل للحياة معنًى؟» و«ما معنى الحياة؟» لكن هاتين الصيغتين على حدٍّ سواء لا تُجسِّدان قلق واتانابي، وصيغة السؤال المناسبة لحالته توضح أن هذين السؤالين بطريقة طرحهما يُغفلان جوهر المسألة أو الصيغة الأكثر شيوعًا لها. إن واتانابي لا يتساءل عما إذا كان للحياة معنًى، ناهِيك عن التساؤل حول ماهية هذا المعنى. هذان السؤالان تحديدًا بلا أهمية من منظور واتانابي، بل قد يراهما بلا معنًى؛ فهو لا يشغله السؤال حول ما إذا كان للحياة في حد ذاتها معنًى، بل يهمه كيفية إيجاد المعنى في «حياته هو». يختلف ذلك عن السؤال حول ما إذا كانت الحياة، بمفهومها المجرد، تحمل معنًى، ويختلف كذلك اختلافًا واضحًا عن السؤال حول ما إذا كان لحياة المرء ذاته معنًى. عندما نطرح السؤال على هذا النحو فإننا نسعى إلى إيجاد معيار موضوعي يحدد مغزى الحياة؛ أي دور في سردية كبرى، سردية دينية غالبًا، تجعل حياتنا مهمة على نحو ما. مشكلة واتانابي لا تتعلق بإيجاد تلك القصة، بل بإيجاد طريقة للحياة «على نحو سليم» على حد تعبيره. مشكلته هي كيف يعيش الحياة على نحو هادف، لا اكتشاف معنًى للحياة. مشكلته هي كيفية السعي لإيجاد وإرساء طرق للعيش على نحو هادف تتوافق مع فكرتنا عن أنفسنا وما نود أن نكون، بقدر استيعابنا لتلك المفاهيم.
فضلًا عن ذلك، ما يزيد المسألة تعقيدًا هو أن مشكلة إيجاد معنًى للحياة ليست من نوعية المشكلات التي يمكن حلها جذريًّا، رغم أننا قد نتظاهر بالعكس ونعرِّض أنفسنا للمخاطرة في خضمِّ ذلك. إنها مهمة متكررة؛ فالحل الذي قد يعتبره المرء مُرضيًا في وقت ما من حياته قد لا يكون كذلك في وقت آخر. لماذا نفترض عكس ذلك؟ ربما يأتي على المرء وقت لا يبالي فيه بقدر ما حققه في حياته أو ما تحمله من معنًى من منظور العمل أو العلاقات وما شاب، ويرغب في هجر عالمه وشد الرحال إلى الغابة كما فعل بوذا. وبعض الناس — لا لعيب فيهم ولا لتكاسلهم عن المحاولة — قد يواجهون قدرًا لا يُستهان به من الصعوبة في إيجاد معنًى لحياتهم والحفاظ عليه مقارنة بالآخرين. (انظر المناقشة حول الحظ الأخلاقي في الفصل الثاني عشر.)
نزعم هنا أن فيلمنا يوضح أن السؤال الأهم حول معنى الحياة ليس «هل للحياة من معنًى؟» بل «كيف يجد المرء معنًى لحياته؟»
هل معنى الحياة ذاتيٌّ أم موضوعيٌّ أم غير ذلك؟
لا يهتم واتانابي بمعنى الحياة (فلا تشغله أسئلة مثل «ما سبب وجود الحياة؟» أو حتى «لماذا أنا على قيد الحياة؟»)، بل يهمه إيجاد معنًى لحياته، أو «إيجاد سبيل لجعل حياته هادفة». وجَّهته تويو نحو الوجهة الصحيحة عندما عرضت عليه الأرانب اللعبة التي كانت تساعد في صنعه بالمصنع الذي تعمل به (الدقيقة ٢٩ من الساعة الثانية)، وقد احتفظ بواحد منها. كانت اللعبة رغم بساطتها تُشعر الآخرين بالسعادة. تلك لحظة فارقة في الفيلم؛ فقد أدرك واتانابي فجأة، بينما كان يُهدهد الأرنب اللعبة (في مشهد جميل يصور واتانابي بمعطفه الطويل وقبعته) أن سعادته الشخصية ترتبط، أو قد ترتبط، ارتباطًا وثيقًا، بحياة الآخرين وسعادتهم. فإذا استطاع صنع فارق إيجابي في حياة الآخرين، فسوف ينجح كذلك في عيش حياة تحمل قدرًا من المعنى والهدف، مهما كان إنجازه أو إسهامه مؤقتًا أو زائلًا على المدى الطويل.
تتفق سوزان وولف (٢٠٠٧: ٧٢) مع واتانابي في هذا، فتقول: «إن عيش حياة ذات معنًى هي مسألة تقتضي اندماجًا ناجحًا جزئيًّا على الأقل في مشروعات ذات قيمة إيجابية.» وحياة كهذه ستتضمن الآخرين وستؤثر في جميع الأحوال تقريبًا على حياتهم تأثيرًا إيجابيًّا. وحتى إن لم يكن للحياة ذاتها معنًى أو كانت نتاج صدفة بحتة على سبيل المثال، فلن يقوِّض هذا فكرة الحياة الهادفة كما تراها وولف. تزعم وولف (٢٠٠٧: ٦٩): «أن عيش حياة مفعمة بالمشاركة في مشروعات تستمد قيمتها من مصدر غير ذاتي أو على الأقل تُركز جزئيًّا على تلك المشروعات هي سبيل يساعد المرء على إدراك أن وضعه غير مميز. وتتناغم، على نحو تعجِز عن تحقيقه حياة تتمركز كليًّا حول الذات، مع حقيقة أننا لسنا مركز الكون.»
حسب المفهوم الجوهري للسعادة، الحياة السعيدة حقًّا هي «الحياة التي في صالح الإنسان» … والسعادة (اليوديمونيا؛ أي الرفاهة أو الهناء) هي نوع الحياة المناسب أو الملائم «للإنسان»، و«الإنسان» الفرد هو تجسيد الطبيعة الجوهرية للبشر (أو جوهر البشر)؛ ومن ثَمَّ لا يمكن ربط السعادة بأي نوع من الحياة قد يرغب المرء في عيشه. بل هي سمة لنوع الحياة الذي كنا سنرغب جميعًا في عيشه إذا فهمنا طبيعتنا الحقة كبشر. السعادة إذن يمكن تعريفها بأنها حالة «الروح» أو وضعٌ حياتيٌّ يستهدفه البشر جميعهم، «بقدر كونهم بشرًا»، في النهاية.
بقدر ما يستطيع الإنسان بلوغ «السعادة» عبر تفعيل الخصائص التي «تحدد صالح الإنسان بوصفه إنسانًا» أي عبر تجسيد الطبيعة الجوهرية للبشر، بقدر ما سيعيش حياة طيبة أو ذات قيمة جوهرية.
عندما يُستخدم هذا التصور للسعادة كمعيار للقيمة الجوهرية، يتوحد هذا المعيار مع معيار الكمال الإنساني أو الفضيلة الإنسانية الذي يطرحه معتنقو الرؤية الجوهرية. ما يحدد الصلاح الجوهري لحياة الفرد هو تحقيقه لنموذج مثالي؛ عبر عيش حياة إنسانية حقًّا، يحقق للفرد ما في صالح الإنسان بوصفه إنسانًا. لا يستطيع الجميع الالتزام بهذا المعيار بالدرجة نفسها، لكن بقدر ما يستطيع المرء فعل ذلك، تكتسب حياته جدارة، واكتمالًا يضفي عليها قيمة في ذاتها بمعزل عن أي آثار قد تُحدِثها في حياة الآخرين.
يختلف التصور الإيماني للطبيعة الجوهرية للبشر عن تصور أرسطو. فيرى المؤمن بالله أن الهدف أو المنتهى من الحياة هو الخلاص الذي يتخذ شكل الخلود الفردي، ونوع خاص من السعادة؛ ففي الجنة سيحظى الفرد بعلاقة أكثر حميمية مع الله مما كان متاحًا له على الأرض. «الغبطة» أو «السعادة» هي هدف المؤمن، وتُعرف الطبيعة البشرية في ضوء هذا الهدف. ويعني كونك إنسانًا أنك مخلوق زائل تعتمد سعادته في النهاية على علاقة مع إله أزلي. يقتضي السعي لتحقيق هذا الهدف ما يعتبره المؤمنون طريقة حياة مميزة.
إذا رفضنا التصورات الجوهرية للسعادة الإنسانية، ستنكسر إذن الصلة بين المعنى والسعادة. ويمكننا عندئذٍ افتراض ما نعرفه بالفعل على أي حال، وهو أن حياة ذات معنًى، بل حياة مفعمة بالمعنى، لا تضمن للمرء السعادة. ومع ذلك، على اعتبار أننا نعرف بالفعل الطبيعة البشرية، يبدو أن فرص السعادة تتزايد إجمالًا بقدر سعي المرء وراء مشروعات ذات قيمة إيجابية مع تحقيق قدرٍ يسيرٍ من النجاح في مسعاه على الأقل. وعلى الرغم من أن جهود واتانابي لإنشاء المتنَزَّه لم تضمن بأي شكل من الأشكال شعوره بالسعادة، فإن جهوده قد كوفئت (وهو ما كان متوقعًا).
قد نفترض أن واتانابي، مثل معظم اليابانيين، يمزج في حياته جوانب من ديانتَي البوذية والشنتو. (الزواج وغيره من الأحداث الاحتفالية البهيجة مثل بداية السنة الجديدة تخضع لتقاليد الشنتو، بينما تخضع الجنازات غالبًا للبوذية.) وبما أن البوذية، إذا راعينا الدقة، ديانة تنكر وجود الله (مع أن الممارسة البوذية غالبًا ما تتضمن إشارات إلى آلهة متنوعة)، فإن السؤال حول ما إذا كان وجود الله أو وجود خطة إلهية ما شرطًا لازمًا لنيل السعادة ليس — على حد علمنا — سؤالًا يخطر على بال واتانابي من الأساس. وبحثه عن سبيل لإيجاد معنًى في حياته منفصل أيضًا عن مفهوم السعادة القصوى البوذي (النرفانا) وأي مفاهيم دينية أخرى فيما يبدو؛ ومن ثَمَّ، بقدر ما يتضح في حالة واتانابي، إيجاد المرء معنًى لحياته سعي لا يرتبط البتة بوجود أي إله أو خطة مقدَّرة. وحتى إذا كان الله موجودًا، فإن رحلة واتانابي كانت ستظل كما هي في طبيعتها، بل ربما في فحواها أيضًا؛ إذا افترضنا أن الله قد حدد مسارًا لنا، غاية لكل فرد منا على حدة، فإن تلك الغاية السماوية لن تساعد أيًّا منا على إرساء معنًى لحياته إذا لم نتمكن من بلوغها وإدراكها ثم تبنِّيها في حياتنا. ولا جدوى من إخبار أحدهم أن معنى حياته، مثلًا، هو تأسيس علاقة مع الله، إذا لم يكن الفرد نفسه قادرًا على إيجاد معنًى في ذلك المسار. فحتى لو وُجد إله قد حدد غاية لكل منا، فإن ذلك على المستوى المنطقي لا يكفي كي يجد أيٌّ منا معنًى لحياته إلا إذا كان يعتبر هذه الغاية ذات معنًى. وحتى لو كان الله يعلم أن شخصًا ما، لنسمِّه «أ»، لن يحقق الغاية التي حددها له إلا إذا فعل شيئًا محددًا، لنسمِّه «ب»، فسيظل لزامًا على «أ» اعتبار «ب» مسعًى يحمل معنًى. وإذا كان الله قد خلق «أ» على نحوٍ محدَّد يجعله عاجزًا عن إيجاد معنًى في أي شيء سوى «ب»، فسيكون «أ» عندئذٍ محرومًا فعليًّا من الحرية التي لا غنًى له عنها في تشكيل حياته وما تحمله من معانٍ. دون وجود تلك الحرية وذلك الاختيار، يُعفى «أ» من تحمُّل نوع محدد من المسئولية عن طريقة حياته؛ لن يُعفى من مسئوليته عن الاستجابة التي اختارها للخطة التي رسمها الله له، بل سيُعفى من مسئولية جعل حياته ذات معنًى.
زعم سارتر (١٩٥٧) أنه في حالة وجود معنًى موضوعي للوجود صاغه إله؛ أي جوهر إنساني في واقع الأمر، فإن ذلك لا يعني فحسب حرمان البشر من الحرية والقدرة على تأسيس حياة ذات مغزًى بل سيصادر أيضًا مسئوليتهم عن اختياراتهم المحورية ذات القيمة. وعليه، يرى سارتر أن غياب أي إله والجوهر الإنساني شرطٌ للحرية وعبءٌ في الوقت ذاته؛ فالحرية شرط لا غنًى عنه لتحقق المسئولية وترسيخ معنًى في حياة المرء.
أما القيمة الذاتية فهي تشير إلى معتقدات الفرد الفاعل ومواقفه أو حالاته الأخرى التي تنسب قيمةً إلى أمرٍ ما. على سبيل المثال إذا كانت صناعة الأفلام نشاطًا ذا قيمة ذاتية لدى كوروساوا، فذلك يعني أن كوروساوا يعتبر أن صناعة الأفلام أمر ذو قيمة، ويؤمن بذلك. بل والأهم من ذلك، إيمان كوروساوا بقيمة صناعة الأفلام شرط لازم وكافٍ كي تصبح صناعة الأفلام نشاطًا ذا قيمة ذاتية في نظره. ربما تكون صناعة الأفلام نشاطًا مضرًّا بكوروساوا من نواحٍ عدة، وربما تكون مفيدة. لكن بصرف النظر عن ذلك، إذا اعتقد كوروساوا أن صناعة الأفلام أمر ذو قيمة، أو بعبارة أخرى إذا كان كوروساوا يقدِّر صناعة الأفلام، فإن صناعة الأفلام تصبح نشاطًا ذا قيمة ذاتية بالنسبة له. القاعدة إذن هي، مهما كانت فائدة «س» بالنسبة ﻟ «ص»، إذا لم يقدِّر «ص» «س»، فلا يمكن أن تصبح «س» أمرًا ذا قيمة ذاتية لدى «ص». بالطبع قد يكون كوروساوا مخطئًا حيال ذلك كله؛ فقد يظن أنه يقدِّر صناعة الأفلام، ويكون مخطئًا. ربما كان يخدع نفسه مثلًا، فيُشدد بحماس على قيمة الأفلام على المستوى الواعي بينما ينكر قيمتها على مستوى اللاوعي. (ربما اختار هذا المجال سعيًا خلف المال والنساء.) وبما أن الأشياء التي نخدع أنفسنا بشأنها هي أشياء ذات أهمية نسبية لدينا، يمكن للمرء أن يتوقع أنه أينما تبرُز المسائل ذات القيمة يبرز أيضًا خداع الذات.
إذا زعمنا أن شيئًا ما يتمتع بقيمة موضوعية فإننا نعني بوجهٍ عام أنه ذو قيمة بصرف النظر عما إذا كان أحدٌ يراه كذلك أم لا. وفي هذه الحالة اعتقاد الأفراد أن شيئًا ما ذو قيمة لا يعتبر عمومًا شرطًا ضروريًّا أو كافيًا كي يصبح ذلك الشيء ذا قيمة موضوعية. الأشياء ذات القيمة الذاتية (على سبيل المثال، سعادتي التي أقدِّرها) قد تكون ذات قيمة موضوعية كذلك. لكن في ظل غياب حُجة ما تُبيِّن وجود صلة جوهرية بين النوعين، لا نجد مبررًا قويًّا يدفعنا إلى افتراض أن ذلك هو الوضع بالضرورة أو على الأقل في أغلب الأحيان. ما يُعيدنا من جديد إلى القول بأنه إذا كان شيءٌ ما يتمتع بقيمة موضوعية، فلا يُشترط بالضرورة — بعيدًا عن أي حُجة لإثبات قيمة جوهرية — أن يتمتع بقيمة ذاتية لدى أحد.
تنقسم القيم إلى شعبتين على الأقل؛ فقد تكون قيمًا موضوعية أو قيمًا ذاتية كما أوضحنا منذ قليل. وقد تكون، في إطار آخر، قيمًا جوهرية أو قيمًا غير جوهرية. القيمة الجوهرية هي قيمة في حد ذاتها، بصرف النظر عن أيِّ ارتباط بقيمة إضافية أو أوضاع ما. على سبيل المثال، يؤمن بعض الأفراد بأن المتعة شيء ذو قيمة جوهرية. ما يعني أن تجرِبة ممتعة بعينها تحمل قدرًا من القيمة بصرف النظر عما حدث قبلَها أو بعدَها، ومهما كانت عواقبها. بالطبع قد تغطي العواقب السيئة الناتجة عن متعة لحظية على المتعة ذاتها، لكن إذا كانت المتعة ذات قيمة جوهرية فلا يمكن أبدًا لعواقبها أن تمحوَها كليةً. بل سيظل لها نفعٌ ما، إذا جاز لنا القول. القيمة غير الجوهرية هي القيمة التي تنبع من علاقة الشيء بأشياء أخرى، والنوع الأوضح من القيمة غير الجوهرية هو القيمة الذرائعية. تتألف القيمة الذرائعية لشيءٍ من قدرته على التسبب في أشياء أخرى ذات قيمة أو على تيسير وجودها. فقرصٌ لعلاج الصداع لا يملك قيمة جوهرية، لكنه ذو قيمة ذرائعية. قد تكون القيمة الذاتية قيمة جوهرية أو قيمة غير جوهرية (أو الاثنتين معًا). تكون سعادتي ذات قيمة ذاتية من وجهة نظري، وفي حد ذاتها إذا أنا اعتبرتها كذلك. وربما تكون ذات قيمة ذاتية كذلك من وجهة نظري إذا كانت تمكِّنني من تحقيق غايةٍ ما أخرى ذات قيمة. وبالطبع قد تكون الاثنتين معًا. القيمة الجوهرية والقيمة الذرائعية لا تستلزم ولا تستبعد إحداها الأخرى. وبالمثل القيمة الذاتية والقيمة الموضوعية لا تستلزم بالضرورة ولا تستبعد إحداها الأخرى.
عندما نبحث عن معنًى لحياتنا، فإننا نبحث عن قيم إيجابية. لكن هل تلك القيم ذاتية أم موضوعية؟ هل هي قيم جوهرية أم غير جوهرية؟ لا بد أن تكون قيمًا ذاتية على الأقل وإلا لن تُسهم في سعينا لإيجاد معنًى لحياتنا. قد تكون القيم الذاتية متفردة نسبيًّا؛ فربما يَعتبِر شخصٌ واحدٌ شيئًا ما ذا قيمة. تخيَّل شخصًا يقرر اعتبار علب البيتزا المهمَلة أشياء ذات قيمة، وينشغل بجمعها وتصنيفها في أماكن الصدارة بحجرة التذكارات. (هل يحيا هذا الشخص حياة ذات معنًى؟) لا يجب أن تتسم القيم الذاتية بهذه الدرجة من التفرد، بل يمكن أن تُعتنق على نطاق واسع، وأن تحظى بالتأييد من عدة أفراد واعين. يبدو أن البحث عن حياة ذات معنًى هو بحثٌ عن سبل للإسهام بأشياء ذات قيمة ذاتية مشتركة تحظى بتأييد عدة أشخاص. هل لا بد أن تتمتع تلك الأشياء بقيمة جوهرية؟ لا بد أن ترتبط على نحو وثيق بأشياء ذات قيمة جوهرية. لقد وجد واتانابي قيمةً في متنَزَّه الأطفال. لكن المتنَزَّه قد لا يكون ذا قيمة جوهرية في حد ذاته؛ ربما يكون ذا قيمة لما يمنحه من سعادة للأطفال ولعائلاتهم. وهذه السعادة في حد ذاتها قد تكون ذات قيمة جوهرية، وهي تبدو صالحة إلى حدٍّ كبير لاحتواء قيمة جوهرية. بِناء على ذلك، سوف يجد واتانابي قيمة بالغة العمق في إسهامه في سعادة الأطفال الآخرين. إذا لم يكن المتنَزَّه مرتبطًا على هذا النحو الوثيق نسبيًّا بأشياء ذات قيمة جوهرية — تخيَّل أن الشيء الوحيد ذا القيمة الذي تمكَّن واتانابي من فعله عبر مجهوداته هو المساعدة على إعادة انتخاب نائب رئيس البلدية، وهو أمر تنحصر قيمته في أن نائب رئيس البلدية شخصية سياسية أقل فسادًا بعض الشيء من خصمه — فإننا قد نبدأ في التشكك بالدور الذي لعبه المتنَزَّه في إحساس واتانابي بأنه عاش حياة ذات معنًى. فلا يكفي على ما يبدو أن يساهم المرء بوصفه ترسًا في آلة عملاقة ذات قيمة ذرائعية. (ولعل واتانابي قد لعب، رغم كل شيء، هذا الدور بدرجةٍ ما، حتى في الأيام التي قضاها في نقل الأوراق من كومة لأخرى.) إذن كي يحيا المرء حياةً ذات معنًى، عليه أن يُسهم إسهامًا مؤثرًا في إنتاج أشياء ذات قيمة جوهرية يتفق عليها عدة أفراد؛ أي أشياء تهمنا وأشياء مهمة في حد ذاتها.
لكن ذلك يتركنا مع مسألة القيمة الموضوعية. ما الدور الذي قد تلعبه في عيش حياة ذات معنًى؟ يزعم البعض أنه بعيدًا عن وجود الله أو الإيمان بالله (أو كلا الأمرين)، تتبدد احتمالية بلوغ أشياء ذات قيمة موضوعية في الحياة وأن ذلك يقوِّض من احتمالية عيش حياة ذات معنًى. لكن كيف يمكن دعم مثل هذا الزعم؟ بل ما معناه من الأساس، بما أن أولئك غير المؤمنين بوجود إله أو بالخلود يحيَون حياة ذات معنًى وذات أهمية من نوع ما؟ نتحدث هنا عن نوع من المعنى لا يمكن لذي فهمٍ إنكار وجوده بالحياة؛ إنها المعاني الذاتية التي لا نتوقف عن خلقها لأنفسنا بينما نحيا أو التي نجد أنفسنا منغمسين فيها. قد تساهم الوظائف والعلاقات في عيش حياة ذات معنًى ذاتي، مع أنها، كما نجد في أفلام كثيرة، قد تُستلب بشدة من ذات المعنى أو الإحساس بوجود غاية.
إن الإنسان نتاج مسببات لم تعرف مسبقًا الغايات التي ستصل إليها. فأصله ونموه وآماله ومخاوفه وما يحبه وما يؤمن به كله ليس سوى نتيجة تجمعات عشوائية لمجموعة من الذرات؛ فلا نار ولا بطولة ولا قوة فكر ولا عمق مشاعر في وسعه الإبقاء على حياة الفرد بعد موته. والجهود التي بُذلت على مر العصور والتفاني والطموح وبريق العبقرية البشرية في أوج ازدهارها مآلها جميعًا إلى الفناء في خضمِّ الهلاك العظيم للمجموعة الشمسية. وصَرْح الإنجاز البشري بأكمله لا بد وحتمًا أن يُدفن تحت أنقاض حُطام الكون. كل هذا، إن لم يكن تحصيل حاصل، فهو أمرٌ يكاد يكون يقينيًّا إلى حد يقضي على أمل أيِّ فلسفة رافضة له في الصمود.
فكرة أن يومًا ما «صَرْح الإنجاز البشري بأكمله» (سيمفونيات بيتهوفن وغيرها) سيتبدد هي فكرة مؤرِّقة. يشير راسل إلى أن أيًّا كان معنى الحياة لدينا فلا بد أن نؤسس هذا المعنى على نحوٍ مستقل عن أيِّ سبب أو هدف مزعوم للحياة، سواء كان هدفًا إلهيًّا أو غير ذلك. ويزعم على ما يبدو أن الحياة لا تشتمل على معنًى مستقل عما يضفيه الأفراد من معنًى على حياتهم، ونقصد بالاستقلالية هنا الاستقلالية عن المعنى الذاتي الذي نصوغه أثناء الحياة.
لا ينكر راسل أن «الإيمان» بوجود إله وبوجود غايات ما مقدَّرة، مثل العلاقة مع الله، قد يجعل الحياة ذات معنًى من بعض النواحي لدى بعض الناس. لكنه يزعم أنه من المنظور الفلسفي إذا أردنا عيش حياة ذات معنًى بعيدٍ نسبيًّا عن الضلالات أو الأوهام، فلا بد لنا ألا نعترف فحسب بحتمية فنائنا، بل وبأن إجمالي ما حققه النوع البشري سوف يفنى يومًا ما. كما أسلفنا، ما يشغل واتانابي ليس ما إذا كان للحياة معنًى، بل كيفية جعل حياته ذات معنًى. يُلمِّح الفيلم بالفعل إلى أن إدراك المرء لفنائه (موت واتانابي الوشيك) هو أحد عوامل تكوين ذلك المعنى بنجاح. مع ذلك لا يعتنق الفيلم، ولا ينكر أيضًا، زعم راسل الأبعد بأن العبقرية البشرية مصيرها الاندثار. على أي حال، يرفض الفيلم الزعم الديني الراسخ القائل بأنه في حال غياب الإله أو الخطة الإلهية أو الخلود، فإن الحياة ستصبح بالضرورة بلا معنًى أو عبثيةً. فلماذا الافتراض أنه في حال عدم وجود معنًى موضوعي للحياة — مثل المعنى الذي كانت ستحظى به حياتنا إذا كان هدف إقامة علاقة مع الله هدفًا سماويًّا مُنزَّلًا — فإن حياتنا ستصبح بالضرورة بلا معنًى؟ لماذا الافتراض أنه إذا أُبيدت جميع أشكال الحياة بالكون، والكون نفسه دون شك، فإن حياتنا ستصبح — من ثَمَّ — بلا معنًى أو عبثية؟ لماذا نفترض أن «المعنى» الذي نصوغه في حياتنا مرتبط بأي حال ارتباطًا جوهريًّا بوجودٍ زائل أو مستمر؟ إذا اختفى العالم غدًا هل يجعل ذلك من حياة واتانابي حياة عبثية أو لا معنى لها؟
الفصل الأخير
توجد على الأقل نقطة أخرى يعرضها كوروساوا في مشهد الجنازة. بعدما يدرك الحضور من زملاء العمل أن واتانابي كان لديه بالفعل علم عن موته الوشيك، ينسبون لذلك التغير في شخصيته وتشبثه بإتمام بناء المتنَزَّه. وفي تلك اللحظات المفعمة بالمشاعر — عندما يتكشف لهم العديد من الحقائق الخطيرة عن أنفسهم وعن عبثية عملهم (وحياتهم) — يعتزمون صادقين تغيير أساليب حياتهم. لكن كوروساوا، خشية أن يغادر الجمهور السينما بهذا الانطباع الأخير، بهذه النهاية السعيدة الزائفة، يُعيدنا عامدًا إلى مكتب البلدية. وهناك نجد ما توقعنا أن نجده؛ لا شيء قد تغير ولا شيء سيتغير. لا تزال أكداس الملفات المربوطة بإحكام كما هي، وكذلك المهام العبثية اللانهائية التي ينشغل بها الموظفون هناك؛ مع تلميح ما بأن بعضهم يدرك ما بلغوه من تردٍّ ويندمون عليه.
إن حتمية موت المرء، لا الموت بمفهومه المجرد فحسب، هي الحقيقة التي ينبغي له أن يعيها كي يحيا بصدق وبحكمة — أو كي يحيا على الإطلاق كما في حالة واتانابي — ومع ذلك قد يفشل أيضًا! تلك هي الفكرة الرئيسية التي نجدها في قلب مقال كامو «أسطورة سيزيف» (١٩٥٥ [١٩٤٢])، والتي لا نجدها لدى وولف (٢٠٠٧). على المرء أيضًا أن يعي وجود نوع شامل كليِّ الوجود من الجمود واللامبالاة التي فيما يبدو تُنظم وجودنا ذاته. (تلك الملفات لا تزال موجودة، مربوطة بإحكام ومكدسة في تلك المكاتب الحكومية، وسيضاف إليها المزيد إلى الأبد.)
أسئلة
-
هل يعاني واتانابي من مشكلة حقيقية؟ ما مشكلته؟ وإلى أي حد يمكن القول بأننا جميعًا نواجه المشكلة ذاتها؟
-
في «أن تحيا» تظهر الحقيقة عندما يبدأ الجميع في التحدث (في حفل التأبين). ما الحقائق التي تكشفت، حال وجودها؟ وما الفرق الذي يُحدثه انكشافها؟
-
يقال إن المعرفة قد «تخلِّصنا» أحيانًا، أو بعبارة أخرى: المعرفة قادرة على إنقاذنا في بعض الأوقات. هل تحصَّل واتانابي على معرفة أدت إلى خلاصه؟ ماذا كانت؟ وممَّ أنقذته؟
-
ألا يُدرك الشباب قيمة فترة شبابهم؟
-
يغني واتانابي أغنية «الجندول» مرتين. كيف تغيرت ظروفه فيما بين المرة الأولى والثانية؟ هل للأغنية معنًى مختلف في كل مرة؟ جرب الجلوس على أرجوحة وغنِّ الأغنية بنفسك.
-
هل من الممكن عيش حياة حقيقية بلا معنًى؟ تذكَّر، قد يكون لحياة في غاية السوء معنًى.
-
يقول إيزاك بابل في قصته القصيرة «جي دي موباسان» (١٩٣٢):
حتى في تلك الأيام، عندما كنت أبلغ من العمر عشرين عامًا، كنت أقول لنفسي: الموت جوعًا أو الإلقاء في السجن أو التشرد أهون عليَّ من قضاء عشر ساعات يوميًّا خلف طاولة في مكتب. لا يوجد ما يستحق ثناءً خاصًّا في قراري، لكنني لم أتراجع عنه قط ولن أتراجع عنه أبدًا. لقد كانت حكمة أجدادي مترسخة بعمق في عقلي: لقد وُلدنا لنستمتع بعملنا، بمعاركنا، بأحبائنا، لقد وُلدنا لأجل ذلك لا لأجل أي شيء آخر.
-
يا ترى ماذا كان واتانابي سيقول إذا قرأ ذلك؟
هوامش
Even in those days, when I was twenty years old, I had told myself: better starve, go to jail, or become a bum than spend ten hours every day behind a desk in an office. There was nothing particularly laudable in my resolve, but I have never broken it and I never will. The wisdom of my ancestors was firmly lodged in my head: we are born to enjoy our work, our fights, and our love; we are born for that and for nothing else. (http://www.opus40.org/tadrichards/npaltz/Babel.htm)
The temporal immortality of the human soul, that is to say, its eternal survival after death, is not only in no way guaranteed, but this assumption in the first place will not do for us what we always tried to make it do. Is a riddle solved by the fact that we survive for ever? Is this eternal life not as enigmatic as our present one? The solution of the riddle of life in space and time lies outside space and time.