«حياة الآخرين»: الحظ الأخلاقي والندم
مقدمة
إن «حياة الآخرين» مثال للأفلام التي يمكن مناقشتها من منظور عدد من القضايا الفلسفية المتنوعة، وهي قضايا يعتمد كل منها على الآخر من نواحٍ متعددة. يقدم الفيلم تجسيدًا قويًّا لمشكلة يُطلق عليها الفلاسفة مشكلة «الحظ الأخلاقي»، لا سيما عبر تحول عميل الإشتازي جيرد ويسلر، وعبر عدد من الشخصيات الأخرى كذلك. تصف مارجريت واكر (١٩٩١: ١٤) مفهوم الحظ الأخلاقي بأنه يكمن في «الحقيقة الواضحة والجدلية، على حد زعم البعض، بل والمتناقضة التي تقضي بأن عوامل حاسمة بالنسبة للموقف الأخلاقي للفاعل البشري تخضع للحظ.» هذا صحيح، لكن لدينا الكثير مما يمكن قوله حول الحظ الأخلاقي وتنويعاته.
تعتمد جودة حياتنا، بما في ذلك جودة حياتنا الأخلاقية، فيما يبدو على تلك الأشياء التي تمنحنا إياها الحياة، لحسن الحظ أو سوئه؛ فهي تعتمد على طريقة «تكويننا» فيما يتعلق بسمات مثل قوة الإرادة والذكاء والمشاعر. وتعتمد كذلك على ما تعرَّضنا له عرَضًا من أشخاص وأحداث تَصادف أنْ أثَّرت فينا. اكتسبت مسألة الحظ الأخلاقي أهمية في الفلسفة المعاصرة عبر أعمال برنارد وليامز وتوماس ناجل؛ فقد نشر وليامز بحثًا شهيرًا عام ١٩٧٦ تحت عنوان «الحظ الأخلاقي» مرفِقًا بها بحثًا آخر يتضمن ردًّا من ناجل. كلا البحثين مهمان، وقد أصبحا من كلاسيكيات الفلسفة الأخلاقية في القرن العشرين. سوف نستعين بفيلم «حياة الآخرين» ساعين لاستكشاف أفكار وليامز وناجل الأساسية، وقد نتعلم من الفيلم بعضًا مما يتعلق بالحظ الأخلاقي، حول انتشاره وتنوعه، وحول تطبيقاته في الأخلاقيات والحياة على حدٍّ سواء.
علاوة على ذلك، يطرح الفيلم أسئلة حول طبيعة ومغزى الحرية والخصوصية، جنبًا إلى جنب مع أسئلة حول الفساد والسلطة السياسية الطليقة والحرمان والخوف والتعذيب وحول الوضع البشري عامةً، وكلها موضوعات يتناولها الفيلم في سياقه. كذلك تستحق الخصائص الجمالية للفيلم نظرة أكثر تعمقًا، فيما يتعلق، على سبيل المثال، بالدور البارز فلسفيًّا الذي يلعبه المعمار الذي نشاهده، ويتجسَّد عبر صورة المدينة وغرف التحقيق وزنازين السجن. لا يمكن، ولا يُستحب أيضًا، مناقشة جميع القضايا الفلسفية التي يتضمنها فيلم «حياة الآخرين» في ذات الوقت. مع ذلك يكمن الجزء الأكبر من قوة الفيلم في تجنُّبه عزل الأسئلة المهمة عن بعضها بعضًا بل جمعها سينمائيًّا بطرق تجعل كل سؤال يستلزم الآخر ويطرح سياقًا له؛ ما يجعل الأسئلة تنساب على نحو درامي واحدًا تلو الآخر وتصطحب المشاهدين بإرادتهم عبر أحداث الفيلم؛ فقد أُعدت قصة الفيلم وما صاحبها من دراما، تدعمهما الموسيقى، إعدادًا مميزًا يجعل الأسئلة متضمنة بعضها بعضًا ومترابطة فيما بينها بطرق متعددة. نلاحظ هنا إذن طريقة تبدو بها السينما أقرب للحياة من الفلسفة، بما أن الحياة ترفض، على نحو مزعج، عزل المعضلات الفلسفية بعضها عن بعض، ومعالجة كل منها على حدة. وعلى المنوال نفسه، تُلقي بنا الأفلام الجيدة في خِضم ما تُجسِّده من مشكلات، بطريقة تتعارض مع الكتابة الفلسفية الأكثر رسمية، كما نجد مثلًا في مقالات المجلات المتخصصة؛ ففي الكتابة الفلسفية الرسمية، قد يظل المرء يشعر أن نقاش المسألة الفلسفية المطروحة لم يُعطِ التعقيد الفلسفي للحياة حقه، مهما اتسم هذا النقاش بالشمولية والبلاغة.
ونضيف إلى ذلك أن النزاهة ليست صفة متكاملة قد يمتلكها المرء أو لا، فهي تسمح بدرجة من الازدواجية بل وقد تتطلبها في بعض الأحيان. كلٌّ منا يتمتع بالنزاهة ويفتقر إليها أيضًا بدرجة ما. ويمكننا عبر الاستعانة بما ذكرناه من معايير للنزاهة، التي نعترف بكونها ملتبسة، أن نفحص كل شخصية من شخصيات الفيلم كي نحدد مدى ما تُبديه من نزاهة عبر أسئلة من قبيل: أين تُبدي الشخصية قدرًا من النزاهة، وكيف تنجح في ذلك على نحو مميز، وأين تخفق في ذلك ولماذا؛ كل شخصية بطريقتها الخاصة. يمكن القيام بهذه المَهمة على نحو واعٍ، كنوع من التمارين الأخلاقية، أو قد يجد المُشاهِد أن تأملات من هذا النوع حول النزاهة تصاحب بطبيعة الحال انغماسه في أحداث الفيلم.
«حياة الآخرين»
نعتقد أن المنافق هو من يُخفي دوافعه ونواياه، أو يتظاهر بغيرها، في المجالات التي تُعامل فيها الدوافع والنوايا بجدِّيَّة مثل الدين والأخلاق، والسياسة أيضًا على الأرجح … المنافق يدرك بلا شك نواياه الحقيقية، وقراره بإخفائها هو قرار متعمَّد حتمًا … لا بد أنه يرغب في أن يحكم الناس عليه حكمًا مختلفًا أكثر محاباةً له، ولا بد أنه يتخيل مسارَ عملٍ معين مصممًا بحيث تنتج عنه تلك التقييمات ويتولى تنفيذه.
لكن موقف هيمف مختلف؛ فلا حاجة حقيقية لديه لإخفاء دوافعه الحقيقية أو التظاهر بغيرها؛ فالجميع يعرف دوافعه يقينًا، ولا أحد ينخدع بكلامه، ربما باستثناء ويسلر في البداية لكنه سرعان ما يرى هيمف على حقيقته. إذن من غير المرجَّح أن يكون هيمف منافقًا بالمعنى الدقيق الذي عبَّر عنه مكينون. ما نراه هنا هو الواجهة الخارجية للنفاق لا النفاق ذاته، وتلك سمة متغلغلة في الأنظمة الاستبدادية. تلك الواجهة، حيث إظهار الولاء لقيم سياسية أمر إجباري رغم كونه لا يخدع أحدًا، سمة لا بد أن تَحذرها المؤسسات الديمقراطية. بعبارة أخرى، متشائمة نسبيًّا على الأرجح، المؤسسات الديمقراطية مصمَّمة بحيث تضمن على أقل تقدير عدم الحاجة إلى النفاق عندما يكذب المسئولون الحكوميون ويُخفون دوافعهم الحقيقية ويتظاهرون بغيرها.
لا يوجد سبب يستدعي مراقبة دريمان وزيلاند سوى الاهتمام الدنيء لدى هيمف ناحية زيلاند ورغبته في التخلص من حبيبها. مع أن جميع من في ألمانيا الشرقية في هذا الوقت كانوا معرَّضين للمراقبة وللخضوع للتحقيق، وأي شخص بارز يتمتع بدرجة من التأثير هو مرشَّح محتمَل لأن يخضع للمراقبة السرية، كان الفنانون على الأخصِّ مستهدفين. على حد قول فيليبا هاوكر في مراجعتها النقدية للفيلم (٢٠٠٧): «يُبدي الإشتازي اهتمامًا خاصًّا بالشخصيات المبدعة، وبقدرتهم على التشكيل والتقويض والتدمير. إحدى الشخصيات تتحدث عن الكُتَّاب واصفةً إياهم ﺑ «مهندسي الروح البشرية»، وهو تعبير مضلِّل يتضح أن ستالين كان يستخدمه.» ربما يلعب الفنانون دورًا خاصًّا في عملية نشر الأفكار، حتى وإن لم يكن بوسعهم معرفة التأثير الذي سيُحدثه فنهم على وجه التحديد.
جزء من أسلوب عمل عملاء الإشتازي هو معرفة كل ما يمكنهم معرفته عن المواطنين، بما في ذلك حياتهم الخاصة، فلربما رأت السلطات أنه «من الضروري»، لأي سبب كان، تقويض مكانتهم أو التحكم فيهم أو تدميرهم تحت ذريعة الحفاظ على الأمن القومي. يوضح الفيلم أن كلمه «ذريعة» هي الكلمة المناسبة في هذا السياق، فقليلٌ مَن يعتقدون أن الأمن القومي معرَّض للخطر بصرف النظر عما يقولونه سرًّا أو علانيةً. يؤدي انجذاب الوزير ناحية زيلاند إلى إنهاء ما هو أكثر من حياتها المهنية. ويُطلق علاوة على ذلك سلسلة من الأحداث التي تغير حياة ويسلر تغييرًا جذريًّا. ويركز الفيلم في المقام الأول على هذا التغيير الصعب والعميق الذي يطرأ على ويسلر بينما يشاهد ويستمع إلى ما يحدث بين دريمان وزيلاند.
الجزء الأهم والأكثر فعالية من طريقة عمل الإشتازي يعتمد على الخوف. فبما أن عملاء الجهاز عاجزون عن الوجود في جميع الأماكن والأوقات، نجدهم يلجئون إلى استخدام شبكة واسعة جدًّا من المخبرين بغية أن يعجِز الجميع عن تحديد من هو جاسوس ومن ليس بجاسوس. وكان تأثير ذلك في الواقع أن أصبح السكان يراقبون أنفسهم بما أن كل فرد يشك في كون جميع من حوله يتجسسون عليه، وهو شك مُبرَّر. يُجسِّد الفيلم سينمائيًّا هذا الإطار العام الخانق من الشك والخوف، ويعزز المعمار القاسي والسماء الرَّمادية والجو البارد والشوارع الخالية، هذا التأثير. ربما يرى المُشاهِد تلك العناصر باعتبارها امتدادات طبيعية قاتمة للدولة، إلى جانب كونها نوعًا من المصادقة الكونية على الوضع السياسي والاجتماعي والشخصي القائم. يعرف الجمهور، عبر حاشية سينمائية تُعرض مع بداية الفيلم، أن الأحداث تدور قبل خمس سنوات من حدوث تغير جذري؛ ألا وهو سقوط حائط برلين وتوحيد شرق ألمانيا («جمهورية ألمانيا الديمقراطية») وغرب ألمانيا (جمهورية ألمانيا الاتحادية)؛ ففي عام ١٩٩٠، انضمت ألمانيا الشرقية أخيرًا إلى جمهورية ألمانيا الاتحادية. لكن خلال الوقت الذي تدور فيه أحداث الفيلم، وهو تحديدًا عام ١٩٨٤، كان الأمل في حدوث تغير جذري ضئيلًا للغاية؛ فقد بدا أن الحكومة الاستبدادية وأسلوب الحياة الذي أرسته باقٍ للأبد. لا يمكن فهم أفعال الشخصيات إلا في هذا السياق واستنادًا إلى هذه الخلفية. وفي ظل هذه الخلفية يختار ويسلر ويخاطر بحياته ويُجسِّد مفهوم الحظ الأخلاقي. لقد خاطر مخاطرة بالغة؛ هو ضابط ذو مكانة مرموقة في الإشتازي، لكن ضباط الإشتازي أنفسهم يتملَّكهم الخوف إلى حدٍّ كبير. وأبوابهم هي الأخرى قد تُطرق في منتصف الليل، وقد يُعتقلون لأسباب ظنِّية. لا يوجد سبيل قانوني مشروع يُعتمد عليه في ظل هذا النظام الاستبدادي، وذلك هو سر طبيعتهم القمعية. فمن يعرف ما يستحق الخوف أفضل من ضباط الإشتازي أنفسهم؟!
بينما يتنصت ويسلر على أنشطة دريمان وزيلاند ومحادثاتهما الخاصة، يصاحب اهتمامه تدريجيًّا، وعلى نحو ربما فاجأه شخصيًّا، نوعٌ متأنٍّ أو تأملي من الحسد. ليس ذلك النوع من الحسد النابع أساسًا من الرغبة في حيازة ما لدى شخص آخر أو أن تصير مثله، بل هو نوع من الحسرة على افتقاد الجوانب التي تجعل حياة دريمان وزيلاند حياة حافلة. ومن خلال هذه المقارنة، يصبح ويسلر واعيًا فيما يبدو بنوع الحياة التي يعيشها، وطبيعة شخصيته. لقد وُضعت حياته موضع مقارنة مع حياتهما فأصبح يراهما على حقيقتهما، بما يقدمانه من عمل ذي قيمة، يستمتعان به وما يجمعهما من علاقة حميمة يملؤها الحب. يُعد الاختلاف بين شقتهما المريحة والجذابة وبين شقته الخالية من الأثاث التي لا تحمل أيَّ طابع شخصي اختلافًا بارزًا وصادمًا، والفرق بين ممارستهما الجنسية المتَّقدة ولقاء ويسلر العارض مع عاهرة، تتقاضي أجرها على أساس النصف ساعة، وترفض البقاء قليلًا بعد الممارسة الجنسية لأن عميلًا آخر ينتظرها، لهو فرق قاسٍ ومحزن. إن ويسلر بصفته عضوًا في الحزب الشيوعي قد استوعب داخله ما تُجسِّده الدولة من تشكك بارد وفاتر يخلو من الحياة، على نقيض الحيوية والشغف والنزْر اليسير من الأمل لدى دريمان وزيلاند.
رغم ذلك، توجد صفة واحدة لا تنطبق على ويسلر؛ وهي النفاق في صورته الأوضح؛ ففي الأجزاء الأولى من الفيلم، نراه شخصًا يؤمن بهدف الدفاع عن الاشتراكية ضد ما تجلبه المُثل الليبرالية والانغماس الغربي في الملذات من فساد. ويبدو في الظاهر شخصًا مؤمنًا بالفعل بقضية؛ شخصًا ملتزمًا بأداء مهام دنيئة وكريهة إلى أقصى حد؛ لأنها ضرورية لأجل الدفاع عن التجرِبة الاشتراكية العظيمة لجمهورية ألمانيا الديمقراطية. وهو في ذلك يتناقض بقوة مع رئيسه في الإشتازي، أنطون جروبتز، وهو شخص انتهازي شكاك لا يهتم إلا بمصلحته الشخصية. من الصعب تخيُّل جروبتز وهو يُبدي تأثرًا كبيرًا بالمراقبة المتلصصة لحياة الآخرين. إن انفتاح ويسلر على تأثير الآخرين على هذا النحو العميق يرجع جزئيًّا إلى أنه ليس شخصًا انتهازيًّا يخدم مصلحته الخاصة. والفيلم يذكرنا بمدى الاختلاف الذي قد يُحدِثه الآخرون دون علم منهم في حياتنا. فموضوعه الرئيسي هو تحوُّل ويسلر عبر إدراكه، في اللحظة الحاسمة، لحقائق مهمة حول نفسه والآخرين، تتعلق بما يقدره وما يعتبره صوابًا، وبالثمن الذي يتأهب لدفعه.
يوافق دريمان على تحدي السلطات والمساعدة في تهريب مقال له حول مدى انتشار حالات الانتحار في جمهورية ألمانيا الديمقراطية — وهي ظاهرة تتستَّر عليها الحكومة — إلى الصحيفة الألمانية الغربية دير شبيجل. يتستر ويسلر بانتظام على أنشطة دريمان؛ فقد رتَّب لنقل زميله إلى مهمة أخرى، وبدأ يسلِّم مجموعة من التقارير الزائفة (المضحكة غالبًا) حول نشاط دريمان (حسب التقارير، يكتب دريمان مسرحية عن لينين).
يتكشَّف الموقف في النهاية نتيجة لافتنان الوزير بزيلاند؛ إذ عزم، منذ رفضها له، على تدميرها. لقد نما إلى علمه أنها تعاني نوعًا من إدمان المخدرات، وأنها تبتاع عقاقير محظورة. وعليه، يعتقلها جروبتز، بأمر من الوزير، متذرِّعًا بتلك التهمة، ويستخدمها في الضغط عليها كي تُفصح عن مؤلف مقال دير شبيجل. تُهدَّد زيلاند بالسجن وفقدان مستقبلها المهني، فتعرض عليهم التجسس لصالح الإشتازي، بل وتعرض على جروبتز خدمات جنسية. لكن جروبتز، الذي لا تشغله سوى حياته المهنية، يهتم فحسب بما تعرفه عن مؤلف مقال المجلة. تَذْكر زيلاند في النهاية أن دريمان هو من كتب المقال، في مشهد لا نراه، لكنها تحجب معلومات ضرورية عنه؛ فلا تُفصح عن مخبأ الآلة الكاتبة التي استخدمها في كتابة المقال، وهي دليل حاسم يحتاجه جروبتز لاعتقال دريمان وسجنه. يُفتش عملاء الإشتازي شقة دريمان فلا يجدون للآلة الكاتبة أثرًا؛ ما يؤدي إلى فرض ضغوط أكبر على زيلاند؛ إذ يجلب جروبتز ويسلر (الذي أصبح جروبتز الآن يشك في كونه عميلًا مزدوجًا) كي يستجوبها. فتلك هي فرصة ويسلر الأخيرة كي يُبرئ ساحته أمام جروبتز، رئيسه في العمل؛ لا بد أن ينتزع منها معلومات حول مكان الآلة الكاتبة. وهكذا نتابع، في واحد من أكثر مشاهد الفيلم حزنًا (الدقائق من ٤٠ إلى ٤٤ من الساعة الثانية)، عملية الاستجواب حيث يحاول ويسلر استخلاص المعلومة من زيلاند، بينما يحاول، دون نجاح، طمأنتها خُفيةً عبر إشارات تُلمِّح إلى أن كل شيء سيصير على ما يرام (يتضح فيما بعدُ أن خطة ويسلر هي نقل الآلة الكاتبة قبل إرسال العملاء للبحث عنها)، تخفق زيلاند في فهم أيٍّ من تلك الإشارات. يحاصرها ويسلر أثناء التحقيق، ويجعل الوضع يبدو كما لو أنه لا يوجد خيار أمامها سوى الوشاية بدريمان. يكذب ويسلر عليها، فيدعي أن دريمان سيُسجن استنادًا إلى أدلة اكتشفوها بالفعل، ويخبرها أنه لا بد لها من إكمال خيانتها له حتى النهاية وإلا فستواجه السجن بتهمة حنث اليمين. يناشد حاجتها العميقة إلى فنها، ويرجوها أن «تتذكر جمهورها». تتفاقم الضغوط على زيلاند إلى حد لا يُطاق مع مصادرة الشرطة لعقاقيرها وما تمر به من محنة مروعة في إحدى زنزانات الإشتازي، فتستسلم سريعًا دون صخب.
تبحث قوات الإشتازي عن الآلة الكاتبة، فلا تجدها في المكان الذي ذكرته زيلاند؛ لقد نقلها ويسلر. تندفع زيلاند، فيما يعتبره بعض المشاهدين مشهدًا مصطنعًا بعض الشيء، خارج الشقة قبل أن يتضح فشل عملية البحث، وتسير متعمدة قبالة شاحنة على الطريق. يشير انتحارها (عند فحص المشهد عن كثب نكتشف أنها سارت متعمدة في طريق الشاحنة) إلى فشل خطة ويسلر في أحد أهم جوانبها. لقد أنقذ دريمان، لكنه لعب دورًا مساعدًا في موت زيلاند. عقب الإخفاق في إيجاد الآلة الكاتبة، وفي مواجهة حادث وفاة لم يتوقعه عملاء الإشتازي أنفسهم، تَصدُر أوامر بإنهاء عملية مراقبة دريمان، ويُصدِر جروبتز قرارًا بخفض رتبة ويسلر.
يُجسِّد باقي الفيلم اكتشاف دريمان، عقب ست سنوات ونصف، ما حدث فعلًا أثناء تلك الأحداث الفظيعة. لقد افترض أن زيلاند قد نقلت الآلة الكاتبة وأنقذته. لكن لقاءً مع هيمف، الذي لا يزال يعيش حرًّا طليقًا في ألمانيا الجديدة، يُغيِّر من تصوراته. يكشف له هيمف عن عملية المراقبة، التي لا تزال أجهزة التصنت المستخدمة بها موجودة بشقته. والآن أصبح في وسع دريمان الاطلاع على ملف الإشتازي الخاص به؛ حيث يكتشف أن ويسلر كان يحميه سرًّا، وأن زيلاند لم يكن بوسعها نقل الآلة الكاتبة، في حين كان لدى ويسلر فرصة القيام بذلك. يطلع دريمان كذلك على ما أعقب المهمة من خفض لرتبة ويسلر. وبناءً على تلك الاكتشافات، يهدي كتابه الجديد «سوناتا لأجل رجل طيب» إلى ويسلر مستخدمًا رمزه السري لدى الإشتازي. يصور المشهد الأخير في الفيلم ويسلر عندما يكتشف هذا الإهداء: «إلى إتش جي دبليو/إكس إكس ٧، عرفانًا بجميله». وبينما يبتاع الكتاب يسأله البائع ما إذا كان يرغب في تغليفه كهدية فيجبيه: «لا، إنه لي» (الدقيقة ٧ من الساعة الثالثة). وتعرض اللقطة الختامية للفيلم صورة ثابتة لوجه ويسلر (الذي يبدو أقل تجهمًا، وأكثر استرخاءً، وتتجلى عليه بوضوح علامات التأثر بل تكاد تزينه ابتسامة!) تصحبها موسيقى شاعرية بعض الشيء (تختلف اختلافًا بسيطًا عن باقي موسيقى الفيلم)، وتُجسِّد هذه اللحظة كنوع من الخلاص المؤجل. إن كفاح ويسلر لحماية هذا الفنان المنشق قد لاقى اعترافًا على الأقل، من الفنان نفسه في هدوء دون علم أحد تقريبًا.
أنواع الحظ
إذن، ما الدور الذي يلعبه الحظ في هذا القصة؟ يلعب الحظ أدورًا كثيرة بالتأكيد؛ لكن نظرة أعمق إلى هذا السؤال ستدفعنا إلى دراسة بعض النقاشات الفلسفية المؤثرة حول الحظ ودوره في الحياة، لا سيما في جانبها الأخلاقي. يصبح أي شيء خاضعًا للحظ، حسن الحظ أو سوئه، إذا كان يؤثر على أمر مهم بالنسبة لنا وإذا كان خارجًا عن نطاق سيطرتنا. ويميز توماس ناجل (١٩٧٩) بين أربعة أنواع مهمة من الحظ. أولًا: قد يكون المرء محظوظًا أو غير محظوظ في ظروفه. لقد كان من سوء حظ زيلاند أنها جذبت انتباه الوزير هيمف جذبًا شهوانيًّا. يُطلق ناجل على هذا النوع من الحظ حظًّا ظرفيًّا. ثانيًا: قد يكون المرء محظوظًا أو سيئ الحظ في شكله أو شخصيته أو طبعه أو مواهبه، وما إلى ذلك. علينا أن ندرك أن الناس ليسوا متحكمين تمامًا بكل جانب من جوانب شخصيتهم أو سماتهم المميزة، وذلك عنصر حاسم في حكمنا على الآخرين. (مع ذلك، سنزعم في الفصل الرابع عشر أن المرء يملك كذلك قدرًا من السيطرة على ما يتمتع به من فضائل ورذائل.) ويطلق ناجل على هذا النوع من الحظ حظًّا بنيويًّا. الحظ الظرفي والحظ البنيوي كلاهما عنصران متغلغلان كليًّا في حياتنا، ويؤثران تأثيرًا استثنائيًّا على مدى صلاح حياتنا أو ما تتمتع به من قيمة أو ما تستحقه من احترام وتقدير. القليل منا يُختبر إخلاصه مثلما اختُبر إخلاص زيلاند لدريمان، وكثير من الناس يحيَون حياة صالحة لا تشوبها شائبة لا لسبب سوى أنهم لم يتعرضوا لمواقف غير عادلة كتلك.
الحظ والندم
حتى الآن لاحظنا التأثير المحتمل للحظ على الحكم الأخلاقي الصادر من طرف ثالث، وقد ركزنا على النماذج الأبسط للحظ الأخلاقي. إلا أن بحث بيرنارد وليامز الأصلي «الحظ الأخلاقي» يتناول قضايا أكثر تعقيدًا وأقل مباشرة في إطار بحثه لنقطة مختلفة نسبيًّا. كان وليامز مهتمًّا بطبيعة حكم الفرد بأثر رجعي على قراراته الحياتية المؤثرة. يلعب نموذج جوجان دورًا حاسمًا ها هنا؛ فالسؤال المحوري من وجهة نظر وليامز لا يتعلق بما إذا كان قرار جوجان بهجر عائلته من أجل امتهان الرسم في جزر جنوب المحيط الهادي أصبح مبررًا أخلاقيًّا على أثر نجاحه الفني أم لا. بل انشغل وليامز بما إذا كنا قادرين، بالنظر إلى الماضي، على تبرير قرار مهم لأنفسنا، ناهيك عن الآخرين، وكيفية ارتباط تلك العملية في أغلب الأحيان بنجاح المشروع أو الهدف الذي يشكل المشروع جزءًا منه أو فشله. إن نجاح المشروع أو فشله أمر قد لا يكون لنا سيطرة كبيرة عليه، هذا إن وُجدت من الأساس. لكنه يحدد مع ذلك كيف نُقيِّم هذا القرار، والأهم من ذلك ما إذا كنا سنندم ندمًا شديدًا على اتخاذه.
توجد قرارات … معينة، تتعلق بمشروعات مهمة تؤثر على مسار حياة المرء حيث يتوحد الفاعل مع المشروع الذي تُتخذ هذه القرارات في سبيله توحدًا من شأنه أن يجعله يقَيِّم القرار حال نجاح المشروع من حياة تَدين بجزء بارز من أهميتها بالنسبة له إلى هذا النجاح في حد ذاته. وإذا فشل، قد لا يتمتع هذا القرار بالضرورة بذلك القدر من الأهمية في حياته. إذا نجح الفاعل في مشروعه، فمن غير المنطقي أن يرحب بالنتيجة بينما يندم على القرار من الأساس. وإذا فشل، فسيقيم القرار كفرد اتضح له عدم جدوى المشروع الذي اتُّخذت في سبيله القرارات، وهو أمر … لا بد أن يثير لديه أعمق مشاعر الندم … على هذا النحو يصبح القرار مبرَّرًا للفاعل لا للآخرين بالضرورة عن طريق النجاح.
عندما نتخذ خيارات حياتية جوهرية، كما فعل جوجان وكما فعل ويسلر في النهاية، نبدأ ما يشبه مشروعًا؛ أي أمرًا تتنوع طرق ودرجات نجاحه أو فشله. ونجاح هذا المشروع أو فشله أمر لا يخضع بالكامل لتحكُّمنا. علاوة على ذلك، تحدد القرارات الحياتية الجوهرية ما سنصبح عليه مستقبلًا، وهذه الذات المستقبلية هي من ستحكم على اختيارنا بأثر رجعي. قد يبدو هذا الكلام أشبه بفخ؛ على سبيل المثال، إذا اختار أحد الأشخاص الانضمام إلى طائفة دينية، فربما تؤثر هذه الطائفة — وستؤثر على الأرجح — على القواعد التي سيحكم وفقًا لها على قراراه بالانضمام إليها. سوف يتسبب انتماؤه لطائفة في تشويه حكمه إلى أن ينفصل عنها آخر المطاف. لكن وليامز لا ينشغل بهذا النوع من الخدع في الفقرة التي اقتبسناها لتوِّنا، بل يهتم بالأوضاع التي ستحيط بالفرد، في المستقبل، بينما يتخذ حكمًا بشأن خياراته الحياتية الأساسية، وبما إذا كان ينبغي له الندم عليها أم لا.
لكي نتجنب مواقف الندم العميق، لا بد أن نكون محظوظين من ناحيتين على الأقل. أولًا سنحتاج في معظم الحالات إلى قدرٍ من الحظ (أو إلى غياب سوء الحظ على الأقل) كي نضمن نجاح أهم مشروعاتنا. ثانيًا: لا بد أن نكون، في المستقبل، في موضع يمكِّننا من تقدير ذلك النجاح مثلما تصورناه أول مرة تقريبًا، وهو أمر لا يخضع بالضرورة لسيطرتنا. لم يكن بوسع جوجان التأكد تمامًا أن مشروعه الرامي لأن يصبح فنانًا عظيمًا سيلقى نجاحًا، ولم يكن بوسعه كذلك التأكد بما لا يدع مجالًا للشك أنه سيظل يحب الرسم بشغف وإخلاص. فماذا لو أصابه الملل من الرسم وأصبح يعتبره لهوًا فارغًا يناسب الهواة الساعين للهرب من متطلبات حياة كريمة كادحة؟ الخيارات الأساسية إذن محفوفة بالمخاطر، وقد ينتج عنها إخفاق كبير. (ينتقي وليامز مثالًا على اختيار فِشَل فشلًا ذريعًا من رواية تولستوي «أنا كارينينا»، حيث اختارت آنا ترك زوجها، وحاولت تأسيس حياة مع عشيقها، فرونسكي.)
مجرد قرارات محفوفة حقًّا بالمخاطر … لها نتائج مهمة. لا بد أن تكون النتيجة ملموسة بطريقة خاصة، طريقة تؤثر تأثيرًا مهمًّا في تصوُّر الفاعل عما يحمل أهميةً في حياته؛ ومن ثم يحدد موقفه عند تقييم هذا القرار بأثر رجعي. نستنتج من هذا أن مثل هذه القرارات هي بالتأكيد قرارات تنطوي على نوع من المخاطرة، نوع يساعدنا على شرح أهمية الاختلاف بين الإخفاق الجوهري وغير الجوهري فيما يخص المشروعات المرتبطة بها. في حالة الإخفاق الجوهري، يتضح أن المشروع الذي تمخض عنه القرار بلا قيمة، ولا يصلح كأساس داعم لحياة الفاعل. في حالة الإخفاق غير الجوهري، لا يتضح هذا، وعلى الرغم من حتمية اعتراف الفاعل بالفشل، فإن المشروع لا يُجرد من قيمته، وقد يساهم، في صورة تطلُّع جديد ربما، في إعطاء معنًى لما تبقَّى من حياة المرء. في حالة الفشل غير الجوهري يعجِز الفاعل — بينما يفكر بأثر رجعي ويبدي مشاعر الندم الأولية — عن التوحد توحدًا كاملًا مع قراره؛ ومن ثم لا يجد مبررًا لما فعله؛ لكنه في الوقت نفسه ليس منفصلًا تمامًا عن قراره، ولا يمكن أن يعتبره مجرد خطأ كارثي؛ ومن ثَم لن يجد نفسه في النهاية بلا مبررات.
عندما تخفق مشروعاتنا الرئيسية إخفاقًا جوهريًّا، ينهار الأساس الداعم لأحد الجوانب المحورية من حياتنا. ولا يبقى لدينا ما يبرر الأذى الذي ربما أوقعناه بالآخرين في خضم سعينا لتحقيق هذه المشروعات. أما في حالة الفشل غير الجوهري لمشروع رئيسي، يظل المشروع معقولًا من وجهة نظرنا ولا يمكننا اعتباره «خطأً كارثيًّا». لا يعتقد وليامز أن جوجان يستطيع تبرير سلوكه لعائلته التي هجرها، فليس مطلوبًا منهم أن يقولوا لأنفسهم: «حسنًا، لقد اتضح في النهاية أنه رجل عبقري مبدع. من الأفضل أنه هجرنا ولم يعبأ بمصيرنا وارتحل إلى الجزر.» لكن إذا اتضح أن رحلته إلى جنوب المحيط الهادي كانت مغامرة خيالية بلا قيمة، فلن يجد جوجان ما يقوله دفاعًا عن قراره أمام نفسه وأمام الآخرين. إن الحظ الأخلاقي في قصة جوجان يتمثل في حقيقة تجنبه لهذا المصير تحديدًا.
حظ ويسلر
من نواح عدة، تثير شخصية ويسلر في «حياة الآخرين» اهتمامًا أكثر من جوجان؛ فهو يخوض مخاطرات عظيمة، لكنه، على عكس جوجان، لا يخرج منها ظافرًا منتصرًا. رغم ذلك ينجح ويسلر ويحالفه الحظ بطرق واضحة وأخرى أقل مباشرة وأكثر إثارة للاهتمام على حدٍّ سواء. يتخذ ويسلر في خضم الأحداث قرارًا حياتيًّا جوهريًّا؛ فهو يهجر السردية التي تربط أجزاء حياته المفككة، فيهجر إيمانه بأهمية وحقيقة دوره في جهاز الإشتازي. ويشجعه سلوك هيمف وجروبتز على ذلك، في حين ينمو داخله احترام وإعجاب بدريمان وزيلاند. لا يتحول ويسلر نفسه إلى مُنشَق، وبعد خفض رتبته يستمر في العمل بالإشتازي (في قسم مراقبة الخطابات في السرداب) حتى انهيار جدار برلين. تزداد حياة ويسلر صعوبة دون شك بعد انهيار الجدار بسبب دوره السابق في الإشتازي على الأرجح. وهو الآن يعمل ساعيًا للبريد، ونراه يحمل الخطابات عبر شوارع برلين الرَّمادية القبيحة التي تشوهها الرسومات الجدارية، حيث يبدو وحيدًا ومتضائلًا. (قارن حياته الآن بحياته عندما نراه للمرة الأولى في الفيلم؛ إذ كان وقتها في ذروة تألقه المهني، محققًا ألمعيًّا بارعًا يعطي محاضرة لمجموعة من الطلاب يتطلعون إليه بنظرات يملؤها الإعجاب.) لماذا إذن نعتبره محظوظًا؟
قرر ويسلر حماية كاتب مُنشَق، وقد نجح في هذا. لكنه سعى كذلك إلى حماية زيلاند وأخفق في هذا المسعى. لا بد أنه مُثقَل بالندم حيال مصيرها استنادًا إلى دوره في تحققه. يُطلق وليامز على هذا النوع من الندم «ندم الفاعل»، وهو يختلف عن وخز الضمير الذي ينطوي على إحساس قوي بإخفاق أخلاقي عميق لدى المرء؛ ربما لا ينبغي لويسلر الشعور بوخز عميق للضمير على سلوكه في هذا الشأن تحديدًا. لقد استجوب زيلاند، وقد أدى هذا، على نحو غير متوقع، إلى انتحارها، لكنه لم يكن أمامه خيار أفضل في هذه المسألة. لقد فعل كل ما في وسعه، وخاض مخاطرة كبرى كي يمحوَ قدر ما يستطيع من الضرر الذي تسببت به أفعاله. رغم ذلك، كان ويسلر سببًا مباشرًا في ضياع زيلاند، وسوف يتضاءل في نظرنا إذا تعامل مع هذه الحقيقة باعتبارها نوعًا من الحظ السيئ ليس إلا، أو إذا تملَّص منها بأن يقول: «لو أنني لم أستجوبها، لاستجوبها شخص آخر أقل تعاطفًا بكثير معها.» من المفترض أن يشعر ويسلر بندم الفاعل فيما يخص دوره في استجواب زيلاند (وبتأنيب حقيقي للضمير حيال دوره في استجواب متهمين آخرين).
لم يكتفِ ويسلر بقرار حماية شخص ما، بل فعل ما هو أكثر. لقد اختار حماية مفاهيم لم يكن يرى لها قيمة حقيقية قبل هذه اللحظة، مفاهيم مثل حق المعارضة السياسية، وحق الخصوصية، وحق المرء في العيش بالطريقة التي يرغب فيها دون أن تحكم الدولة في ذلك. يتضح من تصرفات ويسلر (الذي لا نَطَّلع أبدًا على أفكاره) أنه تحوَّل إلى اعتناق تصور ليبرالي لمجتمع عادل، وتخلى عن الطموحات الاشتراكية لتجرِبة ألمانيا الشرقية. ويعبر هذا عن إعادة توجيه جذرية لرؤيته، ويعكس على الأرجح تقديره المتنامي لما تزخر به الحياة من تجارِب ثرية في ظل أوضاع ليبرالية. ربما بلغ ويسلر مستوًى أعمق بينما يعيد صياغة قيمه الأساسية؛ فربما ألهمه تذوقه الجديد للفن وما شهده من علاقة متَّقدة تسودها الحميمية والاهتمام في حياة دريمان وزيلاند المشتركة كي يعقد العزم على أن يحيا بدوره حياة أكثر ثراءً بالتجارِب والتواصل وبالشغف. لا يقدم الفيلم إجابة حاسمة عن هذا السؤال بأي شكل من الأشكال. (يظل ويسلر شخصية مبهمة، ويظل، لدواعي المفارقة، رجلًا منعزلًا، لا يُعرب أبدًا عن دوافعه، ولا يكشف عن أفكاره ومواقفه الأساسية إلا من خلال أفعاله.)
على أي حال، ينحاز ويسلر إلى الجانب الآخر، وبينما يقوم بذلك يخاطر بالتعرض للفشل، بكلا نوعيه الجوهري وغير الجوهري. مثال على الفشل غير الجوهري في حالة ويسلر هو عجزه عن حماية دريمان. (تخيَّل سيناريو تؤدي فيه التقارير الزائفة غير المتقَنة التي يُعِدُّها ويسلر إلى تعريض دريمان للخطر بدلًا من حمايته.) كان الفشل غير الجوهري سيؤدي إلى ندم حقيقي، لكن من نوع يختلف عن الندم الناتج عن الفشل الجوهري. أما احتمالية الفشل الجوهري فتكمن في مخاطرة ويسلر عند انحيازه إلى الجانب الآخر بفقدان مبرر حياته في المستقبل. تخيَّل أن القيم التي تبنَّاها عند تحوُّله أضحت فيما بعدُ جوفاء في عينه، ربما أصبح يرى الكاتب المنشق شخصًا يُحدث صخبًا نابعًا من انغماسه في ذاته وشعوره بأهميتها حول أشياء تافهة؛ أو بعبارة أخرى، أصبح يراه خائنًا حقًّا. تخيَّل أنه أصبح يرى صعود التيار الليبرالي في ألمانيا فشلًا في حد ذاته؛ نوعًا من تخلِّي الحكومة عن دورها في رعاية المواطنين وضمان المساواة والتآخي بينهم، واختيار طائش للوحشية النيوليبرالية لتحل محل نظام معيب حقًّا، لكنه قابل للإصلاح، من القيم الاشتراكية. يخاطر ويسلر بفشل جوهري، لكن هذا الفشل لا يحدث لحسن حظه. يبدو المشهد الأخير من الفيلم مصطنعًا وعاطفيًّا في نظر البعض، لكنه يشير في الواقع، إشارة واضحة وعملية، إلى نجاح ويسلر في مشروعه للتحول الذاتي. لقد أصبح شخصًا يستطيع تقبل تعبيرات الشكر الصادرة من رجل أنقذه يومًا ما عن طيب خاطر ودفع ثمنًا لا يُستهان به في سبيل ذلك. لقد استحق ويسلر تلك اللحظة. (ومن المهم ملاحظة أن هذه اللحظة لا ترمز إلى تطهُّر دولة ألمانيا الشرقية أو جهاز الإشتازي الذي أفسدها، بل تتمحور في الأساس حول إمكانية ظهور شخص مثل ويسلر.)
توجد بعض المواقف يُبدي فيها فون دونرسمارك (مخرج الفيلم) اهتمامًا أكبر على ما يبدو بعرض شخصية ويسلر، مستخدمًا مزيجًا من المفارقة والسوداوية، بوصفه شخصًا مثاليًّا حالمًا، شخصًا مؤمنًا إيمانًا حقيقيًّا ويملك القوة على تطهير نفسه والآخرين. ثمة أمر مزعج حيال هذه النزعة في الفيلم، أمر يؤدي إلى ضياع سياق القصة؛ أي عالم الإشتازي، وتبدده.
رغم ذلك، وبالنظر إلى أن ويسلر هو الوحيد الذي يمر بهذا التغير — قطعًا لا يمر به هيمف وزير الثقافة المثير للاشمئزاز ولا جروبتز — قد نزعم أن صناع الفيلم يتفقون على لا معقولية تغيُّر كهذا. لكن هذا لا يعني استحالته، وإذا كان هذا التغير الجذري مقبولًا كأمر طبيعي، فلن توجد إذن قصة تستحق أن تُروى. إن نجاح «حياة الآخرين» وقوته يعتمدان على لا معقولية التغير الذي خاضه ويسلر. لكن اللامعقولية لا تعني الاستحالة. التحول الذاتي الناجح يتطلب حظًّا، وفي بعض الأحيان يحالف الناس الحظ. بالطبع لم يكن تحول ويسلر مجرد مسألة حظ، لكن الحظ لعب دورًا في حياته. فربما لم يقابل قطُّ الكاتب والممثلة، ربما لم يُعجب بهما على الإطلاق، ربما أخطأ تمامًا في فهم ذاته؛ فاعتقد أنه اكتشف أمرًا عميقًا وذا أهمية بينما هو في الحقيقة مفتون فحسبُ بشخصين ساحرين من محبي الفن. لكنَّ أيًّا من ذلك لم يحدث. لقد فضل الحظ في النهاية عميل الإشتازي الصارم والمنعزل الذي تحوَّل إلى شخص أفضل.
أسئلة
-
هل السؤال «ماذا كنت سأفعل في موقف كهذا؟» سؤال فلسفي مهم؟ أهو سؤال فلسفي من الأساس؟
-
ما هو «الحظ البنيوي»؟ ما مدى أهميته في تقييم المسئولية الأخلاقية؟
-
كيف يرتبط الندم بمشكلة الحظ الأخلاقي؟
-
هل ويسلر رجل نزيه؟
-
هل أحبت زيلاند دريمان؟ هل خانته؟
-
ما التداعيات التي قد تفرضها قضايا الخصوصية والمراقبة والسلطة الاستثنائية للدولة في «حياة الآخرين» فيما يتعلق بسلوك الحكومات الديمقراطية الليبرالية، لا سيما في متابعتهم «للحرب على الإرهاب»؟