الفلسفة والمشاهدة السينمائية
مقدمة
-
لماذا تُعد السينما وسيطًا يتمتع بهذه الدرجة من التأثير؛ إذ يؤثر على أعداد غفيرة تأثيرًا بالغًا في بعض الأحيان؟
-
ما الذي يميز السينما أو التصوير السينمائي كشكل فني إن وُجد؟
-
ما المغزى الفلسفي للأساليب الفنية والتكنولوجيا التي توظفها السينما؟
-
ما المغزى الفلسفي لاستجابات الجمهور للسينما؟
-
ما المزايا والمخاطر الخاصة التي قد تنطوي عليها السينما نظرًا إلى جاذبيتها الجماهيرية وقدرتها على استثارة مشاعر قوية؟
-
ما هو التجسيد السينمائي؟ الأفلام هي، في جزء منها، تجسيدات مرئية، لكن كيف ينبغي لنا فهم ذلك وما مغزاه؟
-
إذا كانت السينما شكلًا من أشكال الفن، فما الذي يجعل فيلمًا ما بديعًا؟ كيف نحكم على الأفلام؟
-
«مفارقة الرعب» (أو «المشاعر السلبية»): إذا كان الناس لا يحبون الشعور بالخوف، فلماذا إذن يشاهدون أفلام الرعب؟ وإذا كانوا يحبون بالفعل التعرض للفزع، فلماذا يحبون شعورًا سلبيًّا كهذا؟ وما الذي نستخلصه من ذلك فيما يتعلق بالمشاهدة السينمائية؟
-
«مفارقة الخيال»: كيف يمكن تفسير تعلقنا عاطفيًّا بشخصيات ومواقف نعلم أنها خيالية؟ إذا لم نصل إلى حلٍّ مُرضٍ لما يُطلق عليه مفارقة الخيال، فمن غير المرجَّح أن نتمكن مطلقًا من تفسير قوة الأفلام.
-
ما هو التوحد مع الشخصيات، وما حجم الدور الذي يلعبه التوحد والخيال فيما يتعلق برد فعل المُشاهِد؟
-
الأيديولوجية والسياسة والأخلاقيات والسينما: ما العلاقة بين أخلاقيات السينما وجمالياتها؟ ما هي المسئولية الأخلاقية والسياسية للفنان؟
-
تمثيل المرأة في السينما (النوع الجنسي و«نظرة الرجل إلى المرأة»): كيف تُمثَّل النساء في السينما، وما المغزى الفلسفي لذلك التمثيل؟ وماذا يعكس لنا عن السينما وعن نِسب المشاهدة السينمائية؟
-
ما حجم الدور الذي تلعبه نظرية التحليل النفسي، وغيرها من المناهج المتخصصة التي تُستخدم في التحليل السينمائي، مثل علم الرموز، لفهم العلاقة بين السينما والمشاهد؟
-
ما حجم الدور الذي يلعبه قصد المؤلف (أو المخرج) في فهم العلاقة بين السينما والمشاهد، وفي تفسير الفيلم ذاته؟
-
الكثير من الأفلام التي يحبها الناس ليست سوى «تفاهات للهرب من الواقع»، هل هذه الأفلام مناسبة للاستقصاء الفلسفي؟ وإذا كانت مناسبة فكيف إذن، وإذا كانت غير مناسبة فلماذا؟
-
ما المغزى الفلسفي لما يُطلق عليه أفلام الأطفال فيما يتعلق بفهم استجابة الجمهور ونسب المشاهدة السينمائية؟
-
تسيطر القوى الاقتصادية بدرجة لا يُستهان بها على طبيعة السينما عبر التحكم في أنواع الأفلام التي تُنتج؛ ما يؤثر تأثيرًا مباشرًا وغير مباشر على العلاقة بين السينما والمشاهد. ما مدى خطورة هذا؟
-
كيف تؤثر دور العرض السينمائية والسمات الأخرى التي تميز بيئة مشاهدة الأفلام (على سبيل المثال المشاهدة على شاشة السينما الكبيرة مقابل المشاهدة على أقراص دي في دي في المنزل) على نسب المشاهدة السينمائية؟
تلك قائمة طويلة، ولا تغطي جميع الأسئلة المحتملة كذلك، ولن يسعنا بالطبع معالجتها جميعًا. سيشغلنا السؤال الأول، حول قوة الأفلام، بدايةً في هذا الفصل؛ إذ ترتبط هذه القضية بطرق مختلفة وبدرجات متنوعة بجميع القضايا الفلسفية المتعلقة بالسينما تقريبًا، وتبرز كذلك أهمية تلك القضايا. إذا كانت مفاهيمنا عن الحب والعلاقات، وعن العدالة والقيمة، وعن الطرق التي نختارها لعيش حياتنا وإيجاد المعنى لها، تتأثر بالسينما، فلا عجب إذن أن الفلاسفة ومنظِّري السينما قد وجهوا انتباههم إلى القضايا الفلسفية المطروحة «حول» السينما. والسؤال حول كيفية تفسير قوة الأفلام يكمن في قلب مجموعة مترابطة من المشكلات الفلسفية المتصلة بالسينما، ويرتبط ارتباطًا غير مباشر بالكثير من المشكلات الأخرى.
إن مناقشة القضايا الفلسفية المطروحة في الأفلام دون الالتفات إلى القضايا الفلسفية التي تُطرح حول السينما ليست ممكنة فحسب، بل إن الكثير من النصوص التي تتناول الفلسفة والسينما، إن لم يكن معظمها، يقدم هذا بالضبط. مع ذلك يوجد سبب قوي يستدعي الإصرار على تناول هذا الجانب الآخر من مناقشة السينما والفلسفة؛ أي القضايا المطروحة حول السينما؛ فالوعي بالأسئلة المحورية حول طبيعة السينما وطرق معالجة تلك الأسئلة قد يدعم مناقشة القضايا الفلسفية المطروحة في الأفلام. على سبيل المثال، سنصل إلى فهم أفضل للأسئلة الفلسفية المطروحة حول الجاذبية الواضحة للرعب والعنف في السينما إذا أولينا اهتمامنا كذلك لمعالجة قدرة السينما على استثارة الرعب. ويتصل بذلك أيضًا طبيعة استجابة الجمهور للرعب، رغم كونها مسألة متنازعًا عليها بين منظِّري السينما والفلاسفة. (سوف نعود مجددًا إلى هذا السؤال حول الرعب والمشاهدة السينمائية في الفصل التاسع.)
وعلى نفس القدر من الأهمية، فإن تقدير بعض القضايا المطروحة حول السينما يدعم التجرِبة السينمائية، مثلما يساعدنا الإلمام بعض الشيء بطبيعة الموسيقى أو الفن الحداثي على شحذ مهاراتنا النقدية وانتباهنا في تلك المجالات. وإلى جانب دعم التجرِبة السينمائية، قد يؤدي الاطلاع النقدي على السجالات الفلسفية المُثارة حول السينما، كما هي الحال مع الفنون الأخرى، أحيانًا إلى تغيير طريقة مشاهدتنا للأفلام ونظرتنا إليها؛ فهو قد يغير من عادات مشاهدة الأفلام، وربما ينشأ عن ذلك، لحسن الحظ أو لسوئه (لا لحسن الحظ فقط)، وجهات نظر وأنماط جديدة للاستمتاع.
بعض القضايا الفلسفية المحورية المطروحة حول السينما تُثار كذلك حول أشكال فنية أخرى، مثل الكتابة الروائية، والمسرح والتصوير الفوتوغرافي والفن والموسيقى، وكلها أشكال فنية توظِّفها السينما. وما يُطلق عليه «مفارقتا» الخيال والرعب — وكلتاهما غير حقيقية كما سنرى لاحقًا — له حضور مماثل في الأشكال الفنية الأخرى (مثل الرواية والمسرح). لا يقلل هذا من أهمية أيٍّ من القضايا المطروحة، لكنه يساعدنا على تذكُّر أنه مع كون السينما شكلًا فنيًّا فريدًا من نوعه يتجاوز كثيرًا مجموع عناصره والأشكال الفنية المساهمة به، فإنها، كما لاحظنا في الفصل السابق، تتألف كذلك من العديد من الفنون المميزة. وعندما دفعنا بقدرة السينما على ممارسة الفلسفة زعمنا عدم وجود ما يبرر الإصرار على أن مساهمة السينما الفلسفية تنتج عن سمة متأصلة في طبيعتها لا توجد في أي شكل فني آخر. وكذلك لا يوجد ما يبرر الإصرار على أن القضايا الفلسفية التي تثيرها السينما والتي تُثار حولها ترتبط جميعها بالطبيعة الأصيلة والفريدة للسينما.
لا ينبغي اعتبار أن أيًّا من محتوى الفصلين الأول والثاني يملي مناهج للتحليل السينمائي. ولا ينبغي اعتبار المحتوى الفلسفي للأفلام الذي سنناقشه في الفصول اللاحقة هو التحليل النهائي لتلك الأفلام، سواء من وجهة النظر الفلسفية أو من وجه نظر النقد السينمائي عامةً. يمكن مناقشة الكثير من الأفلام من منظور مجموعات مستقلة نسبيًّا من القضايا الفلسفية. فيقدم فيلم «حياة الآخرين» (ذا لايفز أوف أذرز) تجسيدًا قويًّا لمشكلة «الحظ الأخلاقي». لكن يمكن كذلك الاستشهاد به في مناقشة قضايا مثل الحرية والفساد والسلطة السياسية والحرمان والخوف والتعذيب، وفي مناقشة الوضع البشري عمومًا. وقد نوقش الفيلم، مثلًا، من منظور الكيفية التي يلعب بها المعمار الذي نشاهده في الفيلم دورًا مهمًّا من الناحية الفلسفية.
إن فكرة وجوب تفسير بعض الأفلام بطرق متنوعة — طرق تعددية إذا كنت تفضل هذا المصطلح — ووفقًا لشروط خاصة بها، تتفق جيدًا مع زعمنا في الفصل الأول بأن قدْرًا كبيرًا من الاستقصاء الفلسفي ينتج عن اشتباك دائم ومركَّز مع الحياة كما نعيشها. ينبغي أن تتمكن الأفلام الجيدة في بعض الأحيان من تقديم رؤًى جديدة، وتوليد اهتمام وإثارة غير مألوفةٍ، وإتاحة مناهج فلسفية متنوعة، بل ومتباينة، لمعالجة محتواها. وهو ما تحققه جزئيًّا عبر قدرتها على إبراز الطبيعة السياقية متعددة الأوجه لمختلف المشكلات، وأيضًا عبر استثارتها كثيرًا لأفكارنا وتحريكها لمشاعرنا، وقد تولد من الاستجابة العاطفية والإمتاع ما يكفي لأسر انتباهنا.
والآن لننظر عن كثب إلى بعض القضايا الفلسفية البارزة التي أُثيرت حول طبيعة السينما. وهي قطعًا ليست المسائل الوحيدة المهمة فلسفيًّا، بل قد لا يعتبرها الجميع من أهم المسائل. لكنها رغم ذلك من بين أكثر القضايا نقاشًا على نطاق واسع في الكتابات الفلسفية.
قوة السينما
ينطوي الحديث عن «قوة السينما» على التباس بين معنيين أولهما احتمالية تأثير أفلام بعينها على المشاهدين الأفراد تأثيرًا قويًّا، وثانيهما التأثير الاجتماعي والسياسي الذي قد تفرضه أفلام معينة أو السينما بوجهٍ عام على جماهير عريضة، وكذلك فيما يتعلق بالمعتقدات والقيم الشخصية. من يتفقون مع وجهة نظر أدورنو وهوركهايمر (١٩٩٠) — الذين كانوا على حق في مخاوفهم (حتى وإن لم تكن تلك المخاوف دائمًا في محلها) حيال التأثير السلبي المحتمل للفن الجماهيري على جماهير سلبية تفتقر إلى الحس النقدي — تقلقهم قوة السينما بالمعنى الثاني. رغم ذلك، من الواضح أنه في حال استبعاد قدرة السينما على فرض تأثير قوي على الأفراد ستتلاشى تقريبًا الحاجة إلى طرح أنواع القضايا التي تثير قلق أدورنو وهوركهايمر. سوف نبحث مسألة قدرة السينما على تحريك مشاعر المشاهدين الأفراد عبر التحليل النقدي لأحد أبرز الآراء في هذا الإطار، وهو رأي نويل كارول.
يقول كارول (٢٠٠٤أ: ٤٨٦-٤٨٧): «تتألف قوة الأفلام من عنصرين: الجذب واسع النطاق والجذب القوي … أسعى إلى شرح العنصر الأول من منظور السمات التي تجعل الأفلام مفهومة إلى حدٍّ بعيد لنطاق عريض من الجماهير.» قد يبدو ذلك غريبًا بعض الشيء. فلماذا يعتقد كارول أن تفسير قوة السينما يكمن في كونها سهلة الاستيعاب لدى جماهير عريضة بدلًا من قدرتها على اجتذاب الجمهور بقوة؟ إن كون السينما متاحة ومفهومة على نطاق واسع شرطٌ ضروري للجذب واسع النطاق — فنادرًا ما ينجذب الأفراد إلى قصص لا يفهمونها — لكن لماذا يُعتقد أن سهولة فهم الجمهور للفيلم يُفسر قوة انجذابه له؟ تصبح رؤية كارول عرضة لمزيد من التساؤلات عندما يحاول تفسير «قوة جذب الأفلام عبر تحري تلك السمات التي تمكِّنها من تجسيد درجة عالية جدًّا من الوضوح … تكمن قوة الأفلام في وضوحها الذي يَسْهل على الجماهير العريضة استيعابه.» فالوضوح — وما يعنيه كارول ها هنا هو الوضوح السردي؛ أي القدرة على عرض عناصر القصة بدقة ووضوح عفوي — لا يبدو أنه السمة الصحيحة لتفسير التأثير العاطفي، في حين يشكِّل التأثير العاطفي جزءًا لا يتجزأ من قوة الأفلام. يُجسِّد كثير من الأفلام والكتب والمسرحيات وغيرها من الأشكال الفنية السردية قصصًا بالغة الوضوح وسهلة الاستيعاب دون أن تتمتع بجاذبية أو تأثير خاص.
لا يوجد سبب يستدعي القلق حيال تأثير الفن الجماهيري، مثل السينما، إذا كان عديم القوة. وما لم تستطع السينما، في المقام الأول، التأثير بقوة على الأفراد على المستوى الشخصي، سيظل الوسيط السينمائي — حتمًا — وسيطًا عاطلًا وعاجزًا على المستوى الاجتماعي والسياسي. ومن ثَم فإن السؤال الأول الذي نطرحه حول قوة السينما هو كيف تستطيع ممارسة ذلك التأثير على المشاهدين الأفراد؟ لمَ نترك دور العرض السينمائي ونحن نبكي أو نشعر بالإحباط أو الانتشاء أو الرضا أو الخوف أو القلق؟ في معظم الأحيان، تكون هذه التأثيرات، بصرف النظر عن نوعها، مؤقتة. لكن لماذا بعد مشاهدة أفلام بعينها نكتسب عزمًا وإصرارًا في جهودنا الرامية إلى «تغيير أنماط حياتنا» وولاءاتنا، وطريقة تفاعلنا مع الآخرين، بل وأحيانًا حياتنا؟
لقد رأينا في الفصل الأول أن الإجابة عن التساؤل حول ما إذا كان في وسع السينما ممارسة الفلسفة لا تتعلق بالضرورة بسمات تنفرد بها السينما، بل ربما من الأفضل الإجابة عن هذا التساؤل من منظور السمات التي تُعد من مقومات السينما لكنها توجد كذلك في أشكال فنية أخرى. بالمثل يمكن تفسير قوة السينما من منظور مجموعة متنوعة من السمات السينمائية (مثل السرد، الموسيقى، التمثيل)، بدلًا من تفسيرها بالاستعانة ببعض العناصر الجوهرية غير القابلة للاختزال، أو مجموعة من السمات الأساسية، التي تنفرد بها السينما. رغم ذلك يسعى جزء كبير من النقاش حول قوة السينما إلى تفسير قوتها من منظور عنصرٍ ما تنفرد به السينما. فربما تتمتع السينما بهذه الجاذبية الآسرة لأنها واقعية على نحو لا نجده في الأشكال الفنية الأخرى. إن اللوحة الفنية هي عمل مصطنع مهما كانت واقعية المشهد الذي تُجسِّده؛ لأنها ساكنة، فهي تُجسِّد لحظة زمنية جامدة، بينما نحن لا نخوض غمار الحياة كسلسلة من اللحظات الجامدة. ليس في وسع اللوحة الفنية تجنب هذا النوع من الاصطناع. لكن الأفلام تصور العالم بأسلوب يبدو أكثر واقعية على مستوى جذري. يمكن تتبع الفكرة الزاعمة بأن تفرُّد السينما وقوتها يكمنان بطريقة ما في واقعيتها وصولًا إلى المنظِّر السينمائي أندريه بازان. ويُعد نويل كارول واحدًا من أهم نقاد هذه الرؤية.
يُنكر منظِّرو السينما المعاصرون وجود أي معنًى حرفي يمكن استخلاصه من الفكرة القائلة بأن السينما مرآة طبيعية للواقع. ومع ذلك يتمسكون دون شك بجزء من المنهج الواقعي، يتمثل تحديدًا في الافتراضات النفسية المسبقة لذلك المنهج … ففي حين يرفضون فكرة أن السينما جزء من الواقع، يوافقون رغم ذلك على أن السينما، حسب استخداماتها المعتادة، تنقل تأثيرًا واقعيًّا إلى مشاهديها. هذا التأثير النفسي يمكن وصفه بعدة صيغ متنوعة، من بينها الآراء التي تزعم أن السينما تعطي انطباعًا بأن الواقع يروي ذاته أو تُوهِم المتلقي بأنها تعرض صورة للواقع، أو أنها تبدو طبيعية.
تلك التنويعات على فكرة التأثير الواقعي عُرضة للتشكك لأنها تنسب إلى المشاهدين حالات من التصديق تعطل طرقنا المميزة للاستجابة إلى السينما وتقديرها. فإذا كنا نحن المشاهدين سنخلط في أي وقت بين التجسيدات التي تُعرض أمامنا وبين ما تمثله تلك الصور في الواقع، فلن نتمكن عندئذٍ من الجلوس في راحة وخمول واستمتاع بينما تندفع قطعان الجاموس تجاهنا، وبينما يبوح الأحبة بأشواقهم، وبينما يُعذب الأطفال.
هل يوجد بين الذين يعتقدون أن «السينما تنقل تأثيرًا واقعيًّا إلى مشاهديها» من يعتنق أيًّا من الآراء التي ينسبها كارول إليهم؟ هل المنهج الواقعي في نظرية السينما، كفرضية وجودية (أنطولوجية) أو في تنويعاته الأكثر حداثة ذات الطابع النفسي، هو طريق مسدود كما يزعم كارول؟
هل يمكن إنقاذ التنويعات النفسية على فرضية بازان من هذا المصير؟ هل في وسع المرء فعليًّا الاحتفاظ ﺑ «التأثير الواقعي» لقطيع الجاموس الهارب الذي يشاهده دون أن يُلقي عُلبة الفُشار من يده، ويندفع هاربًا نحو باب الخروج من دار العرض؟
إن الإشارة إلى الواقع ها هنا لا تساعدنا كثيرًا … لأن استيعابنا لقوة الأفلام يقع إلى حدٍّ كبير على طرف النقيض من استجاباتنا الأقل حدة للحياة العادية … وبما إن استجابتنا للواقع غالبًا ما ينقصها الحماس والحيوية، فإن الزعم القائل بأن السينما تبدو جزءًا من الواقع لا يقدم تفسيرًا لأي من استجاباتنا القوية إلى حدٍّ استثنائي للأفلام. لذا لا بد من إيجاد تفسير آخر، لا يعتمد على الواقعية، لتعليل قوة الأفلام.
ألم يُغفل كارول شيئًا ها هنا؟ ألم يراوغ في حديثه عن مفهوم «الواقع» في حقيقة الأمر، أو يفترض تصورًا محدودًا للغاية لما يندرج تحت «الواقع»؟ بالطبع لا تعكس الأفلام بوجهٍ عام الحياة العادية بمفهوم كارول (ولا حتى فيلم «إمباير» الصامت الذي أخرجه أندي وارهول عام ١٩٦٤، والمكوَّن من لقطة واحدة مدتها ثمان ساعات بالأبيض والأسود لمبنى إمباير ستايت ليلًا، يعكس الحياة العادية). لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن التأثير «الواقعي» الذي تنقله الأفلام ليس مهمًّا لتفسير قدرتها على اجتذاب المشاهدين (جذبًا قويًّا وعاطفيًّا في بعض الأحيان). فلو كانت الحياة الواقعية أكثر تشابهًا مع الأفلام فيما يتصل بالسرد والأحداث، لجذبتنا الحياة العادية قطعًا جذبًا قويًّا وعاطفيًّا، بل وبدرجة تفوق الأفلام دون شك.
باختصار، ربما تبدو رؤية بازان، بناءً على طريقة تفسيرها، متطرفة وخاطئة، لكن فكرة اعتماد قوة الأفلام جزئيًّا على قدرتها على «نقل تأثير واقعي لمشاهديها» لا تنطوي على إشكالية ما، بل هي صحيحة أيضًا. من ناحية أخرى، تركز رؤية كارول الخاصة حول التجسيد التصويري في السينما على السمات التي تساهم في وضوح السينما وسهولة استيعابها، بدلًا من واقعيتها.
يؤمن منظِّرو السينما المعاصرون بأن الصورة السينمائية النمطية تُضفي إيهامًا بالواقع أو الشفافية أو الطبيعية. إلا أن هذه الورقة البحثية لا تستشهد بأي من هذه التأثيرات النفسية الواقعية، أو أي مما يضاهيها. بل تزعم — عوضًا عن ذلك — أن المُشاهِد العاديَّ يدرك ما تمثله الصورة السينمائية دون الرجوع إلى قاعدة ما، ولا تزعم أن المُشاهِد يعتقد، بأي شكل من الأشكال، بتوحد التجسيد التصويري مع ما يعبر عنه في الواقع.
لكن ربما كان يجدر بالورقة البحثية زعم وجود هذا التوحد. فعندما نرى خيلًا تعدو في أحد الأفلام، نعتقد، بشكل ما، «بتوحد التجسيد مع ما يصوره.» توجد طريقتان رئيسيتان لتفسير هذا الزعم المتعلق بالاستجابة «الواقعية من الناحية النفسية» للصور السينمائية. التفسير الأول، وهو تفسير جامح، يقضي بأن الجمهور يَفترض أن صورة الخيل وهي تعدو تُجسِّد حدثًا تاريخيًّا؛ فلا بد أن الخيل اضْطُرت إلى العدْو في الواقع قبل أن تأتي الكاميرا و«تلتقط» عدْوهم بطريقة مكَّنت من نقله إلى جهاز عرض ثم «إعادة عرض المشهد» أمامنا. والثاني، التفسير المتواضع، يفترض الجمهور أن الصورة السينمائية لخيل تعدو تُجسِّد مجموعة معينة من الخيول في العالم الخيالي الخاص بالفيلم، وأن ما تفعله الخيل في الصورة — العدْو — هو تحديدًا ما تفعله في ذلك العالم. وكقاعدة عامة، كلما بدت الخيل في الفيلم أشبه بالخيل الحقيقية، كان التجسيد أكثر واقعية، ويُعد ذلك نجاحًا في الاستحضار بأذهاننا صورة أكثر تأثيرًا وجاذبية لعالم من الخيل العداءة. بالطبع لن نميل إلى الخلط بين العالم الخيالي الذي يخلقه الفيلم والعالم الحقيقي. يستخدم منظِّرو السينما مصطلح «حكائي» للإشارة إلى عناصر الفيلم التي تنتمي إلى العالم الخيالي للفيلم. ولا يخلط المُشاهِد العاديُّ بين الجوانب الحكائية الجليَّة في أحد الأفلام مع الجوانب غير الحكائية. على سبيل المثال، إذا كانت الموسيقى التصويرية تصاحب مشهد الخيل التي تعدو في الفيلم، فذلك لا يجعلنا نفترض أن الخيل تستطيع سماع تلك الموسيقى. (الموسيقى التصويرية عنصر غير حكائي.) وسيتطلب تقديم الموسيقى كعنصر حكائي في الفيلم إضافة عامل تجسيدي (كأن يظهر في الفيلم مكبرات صوت تصدح بالموسيقى). إن قدرة السينما على التجسيد «الواقعي» لعالم خيالي تُشكل جانبًا واضحًا من قوتها، حتى وإن لم يقدم ذلك تفسيرًا متكاملًا لقوة فيلم بعينه. لا يتغاضى كارول عن الخاصية التصويرية للتجسيد السينمائي، لكنه لا يولي اهتمامًا خاصًّا للخاصية الواقعية لهذا التجسيد في تفسيره لقدرة السينما على التأثير في الجمهور. ونحن نرى أن هذا خطأ من جانبه. لقد أصاب في الاعتراض على ما نُطلق عليه التفسير الجامح للتأثيرات النفسية الواقعية، لكنه أغفل الأهمية المحورية للصيغة المتواضعة من الواقعية.
لكن ما هي تفاصيل نظرية كارول الخاصة؟ لقد لاحظنا أنه يؤكد على وضوح الفن السينمائي، على النقيض من الأشكال الفنية الأخرى، في محاولة لشرح اتساع نطاق قدرة السينما على تحريك مشاعر الجمهور. حان الوقت كي نُلقي نظرة على بعض من تفاصيل وجهة نظره.
ينقسم تفسير كارول (٢٠٠٤أ: ٤٨٧) «لاستجابتنا القوية إلى حدٍّ استثنائي للأفلام» إلى عدة أجزاء. فيتناول أولًا التجسيد التصويري: «أيًّا كانت السمات أو الإشارات التي نوظفها في عملية التعرف على الأشياء؛ فنحن نحشدها كذلك للتعرف على ما تُجسِّده الصور … ويتناقض التطور السريع لهذه القدرة على التعرف على الصور تناقضًا بالغًا مع تعلُّم نظامٍ من الرموز مثل اللغة.» إن السهولة التي يتعامل بها الناس مع التجسيد التصويري هي إحدى «السمات التي تجعل السينما بوجهٍ عام مفهومة للجماهير غير المثقفة … لقد أصبحت الأفلام ظاهرة عالمية لأنها استندت في استغلالها لقدرة التعرف على الصور — مقارنة بأنظمة الرموز التي تتطلب إتقانًا لعمليات مثل القراءة … كي تُفهم — إلى قدرة بيولوجية تنمو لدى البشر وهم يتعلمون إدراك الأشياء والأحداث في بيئتهم.»
حتى الآن حاول كارول تفسير السبب الذي يجعل الأفلام أسهل بوجهٍ عام في الفهم والمتابعة مقارنةً بالروايات: «إن التعرف على صور الأفلام أكثر شَبهًا بردِّ فعلٍ تلقائيٍّ مِن شَبَهه بعمليةٍ مثل القراءة» (كارول ٢٠٠٤أ: ٤٨٩). لكنه لم يقدِّم بعدُ تفسيرًا لكون «الفيلم العاديِّ، حال تكافؤ جميع الظروف، أسهل في المتابعة من مسرحية عادية» (٢٠٠٤أ: ٤٩٠)، بما أنه في المسرح (وفي بعض الأشكال الفنية الأخرى) «لا يتحقق التعرف على ما تشير إليه التجسيدات، كما في الأفلام، عادةً عبر عمليات مكتسبة مثل تفسير الرموز أو القراءة أو الاستنتاج» (٢٠٠٤أ: ٤٨٩).
يتمتع صانع الفيلم في فيلمه بتحكم في انتباه المُشاهِد (من خلال تنويع أُطر الصور على سبيل المثال، وذلك باستخدام تقنيات مثل اختيار وضع الكاميرا الذي يسمح للمخرج بتركيز انتباه المُشاهِد) يفوق بمراحل ما يتيسر للمخرج المسرحي. والنتيجة أن مشاهِد الفيلم ينظر دائمًا إلى حيث ينبغي له النظر، ودائمًا ما يولي اهتمامه إلى التفاصيل المطلوبة ملاحظتها؛ ومن ثَم يستوعب، دون جهد تقريبًا، الحدث الدائر أمامه، على النحو المقصود تمامًا … الأفلام أسهل على المستوى الإدراكي. وقد يفسر عامل الوضوح الإدراكي الذي تتمتع به الأفلام أيضًا ما تولده من انجذاب قوي واسع النطاق. (٢٠٠٤أ: ٤٩٠)
تنطوي وجهة النظر السابقة على شيء من الصواب. لكن من غير المرجَّح على ما يبدو أن يقدم الوضوح الإدراكي الذي يحققه الفيلم، عبر أدوات معينة تركز انتباه المشاهدين، تفسيرًا كاملًا لقوة الأفلام مقارنة بالمسرحيات حتى وإن كان صحيحًا أن تأثير الأفلام علينا يكون عادةً أقوى من المسرحيات. ومن جديد لا ينبغي تجاهل التفسيرات الأكثر وضوحًا. ربما كان موضوع معظم المسرحيات مقارنة بالأفلام أقل جذبًا من نواحٍ أخرى، وإن لم يقلَّ وضوحًا عنها. ربما لا يغازل المسرح المشاعر بقدر ما تفعل الأفلام. ربما يخلط كارول بين الفكرة القائلة بأن الأفلام «تفرض علينا تأثيرًا أقوى» بفكرة أن الأفلام «تؤثر على أعداد أكبر منا على نحو أقوى». والفكرة الأخيرة لا تبعث على الدهشة بما أن جمهور المسرحيات يتضاءل مقارنة بجمهور الأفلام. وعمومًا قضاء أمسية مسرحية نشاطٌ مُكلِّفٌ حقًّا بينما الأفلام رخيصة نسبيًّا (حتى وإن لم ينطبق ذلك على الفُشار) ويمكن في كثير من الأحيان مشاهدتها مجانًا. وأخيرًا يجدر بنا ألا نسارع بقبول الزعم القائل بأن الأفلام قادرة على جذبنا على مستوًى أعمق من المسرح باعتبار ذلك الزعم حقيقة جوهرية حول كلٍّ من المسرح والسينما؛ فالمسرح القوي يؤثر فينا تأثيرًا عميقًا دون شك. وربما كان تحقيق تأثير قوي في المسرح أصعب من تحقيقه في السينما، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى الأسباب التي حددها كارول — توجيه انتباه المشاهدين مَهمة أسهل على صناع الأفلام من المخرجين المسرحيين — لكن هذا لا يقدم بعدُ تفسيرًا جيدًا للتأثير الذي تفرضه الأفلام علينا؛ إنه يساعدنا على تفسير الجاذبية الواسعة التي تتمتع بها الأفلام (فهي رخيصة مقارنةً بالمسرح، والأفلام المتوسطة الجودة أكثر جاذبية من المسرحيات المتوسطة الجودة)، لكن لا يزال علينا إيجاد تفسيرات أعمق وأكثر تكاملًا لقوة الأفلام. وربما تشترك تلك التفسيرات في بعض عناصرها مع قوة الأشكال الفنية السردية الأخرى (وغير السردية بالتأكيد).
إن العامل الثاني الذي يقترحه كارول لتبرير قوة الأفلام — وهو التركيز الموجِّه لانتباه المُشاهِد — لا يكفي على ما يبدو لتفسير قوة السينما تفسيرًا متكاملًا حتى عند ضمه إلى عامل التجسيد التصويري. ما قد يحققه هذان العاملان في الواقع هو المساعدة في جذب المشاهدين والتأثير عليهم عاطفيًّا. فربما يساعدان على توليد التأثير العاطفي الذي تُحدِثه الأفلام لدى المشاهدين دون أن يشكِّلا فعليًّا السبل المباشرة لتوليد هذا التأثير. قد يوجد عدد كبير من العوامل الأخرى التي تساهم في انجذابنا العاطفي ناحية السينما، أو تمنعه، إلى حدٍّ أكبر بكثير من العوامل التي يقترحها كارول.
العامل الثالث الذي يتضمنه تفسير كارول يتعلق بدعم الجانب السردي للأفلام لسهولة استيعابها ومن ثَم لقوتها. يقدم السرد تفسيرًا للحدث، والجماهير مهتمة بطبيعتها بمعرفة تفسير الحدث. يقول كارول (٢٠٠٤أ: ٤٩٣): «بقدر ما تُصوِّر قصص الأفلام أفعال الشخصيات بأساليب تعكس منطق الاستدلال العملي، تكون الأفلام مفهومة على نطاق واسع؛ نظرًا لكون الاستدلال العملي شكلًا عامًّا من أشكال اتخاذ القرار لدى البشر.» وفي إطار سهولة الفهم، يبرز جانب آخر مستقل نسبيًّا من السرد؛ الأفلام تصنع التشويق عبر خلق مواقف، أو طرح أسئلة، من خلال قصة ننتظر — نحن المشاهدين — في ترقُّبٍ حلَّها أو تقديم إجابةٍ لها. ويرى كارول (٢٠٠٤أ: ٤٩٤) أن نموذج السؤال والإجابة هذا (الذي يُطلق عليه النموذج التساؤلي) «أكثر أسلوبٍ سرديٍّ مميَّز في الأفلام.» وقليل من يُنكرون أن قصةً مشوقة أو جذابة هي عنصر ضروري في تفسير قوة السينما.
لكن كارول يُغفل هنا أيضًا على ما يبدو دور النموذج التساؤلي في إثارة المشاعر لصالح دوره الإدراكي وقدرته على تحريك الحبكة عبر طرح المشكلات ثم معالجتها؛ ومن ثم إشباع فضولنا. وبينما تعمل الإثارة المرتبطة بحبكة جيدة على أسْر انتباه الجمهور وقد تُسهم في إحداث رد فعل عاطفي قوي، فإن حقيقة كونها تطرح أسئلة ثم تُجيب عنها تجعلها مستقلة نسبيًّا عن تلك العوامل السردية التي تُثير استجاباتٍ عاطفيةً قوية. تذكَّر أن كارول يسعى للإجابة عن سؤالين مترابطين، وهما: ما سر قوة الأفلام؟ وما السبب وراء كون تأثيرها واسع الانتشار؟ ربما لا يشكِّل الوضوح السردي سوى جزءٍ من تفسير جاذبية السينما الواسعة النطاق، لكنه لا يصلح كتفسير لقوة السينما في حد ذاتها. وهو يساعد على تفسير الجاذبية السردية للأفلام — كيف تستحوذ على الجمهور — لكنه لا يعطي تفسيرًا على الأرجح لما قد يُبديه الجمهور من اهتمام كبير ﺑ «جلسة الأسئلة والأجوبة» الخيالية التي يشاهدونها على الشاشة. إن قوة الأفلام تكمن غالبًا في نوعٍ من الارتباط العاطفي الذي لا تفسره جاذبية السرد المعرفية.
إن تقنيات السينما والحبكة وطبيعة التجسيد السينمائي كلها عناصر مهمة في تفسير قوة الأفلام، لكنها ليست بأي حال من الأحوال العناصر الوحيدة، بل وربما ليست العناصر الأهم في واقع الأمر؛ إذ تنحصر أهميتها في مقدار إسهامها في تفسير التأثير الذي يُحدِثه «بعض» الأفلام على «بعض» المشاهدين في «بعض» الأوقات. والعناصر الثلاثة التي يركز عليها كارول مهمة بقدر ما تساعد على التوحد مع الشخصيات، وتغذي الخيالات والأمنيات والرغبات (كالانتقام وغيره)، وشتى صور التحيزات والميول التلصصية الشبقية وغيرها من الميول التي قد تُثار مؤقتًا. عندما يصوب هاري كالاهان (المعروف بهاري القذر) مسدَّسه الضخم من طراز ٤٤ ماجنم نحو المجرم في فيلم «تأثير مفاجئ» (صدن إيمباكت) (١٩٨٣) قائلًا: «هيا، أطلق مسدَّسك إن كنت تملك الجرأة» فإنه يقولها نيابة عنا جميعًا؛ ومن ثم نشعر بالامتنان والرضا. في تلك اللحظة تسود العدالة، لا في الموقف الذي يمر به هاري فحسب بل في المواقف — ربما جميع المواقف — التي عانينا فيها من الظلم (سواء كان حقيقيًّا أو متخيَّلًا) والتي قد نعانيها في المستقبل.
في سعينا هذا لتفسير قوة الأفلام اقتصر تناولنا على سمات الأفلام التي تخاطب الملَكات «الإدراكية» لدى الجمهور. وهو موضوع يلعب دون شك دورًا محوريًّا في هذا النقاش؛ لأننا لن نتمكن من تحديد السمات التي تفسر تأثير الأفلام واسع الانتشار والاستثنائي إلا إذا ركزنا على القدرات الإدراكية — لا سيما تلك المترسخة بعمق مثل التجسيد التصويري والمنطق العملي والدافع لإيجاد إجابات على أسئلتنا — بما أن القدرات الإدراكية، على المستوى الذي ناقشناه، هي المرشح الأكثر قبولًا للعب دور العناصر المشتركة بين جموع جماهير الأفلام.
في الحقيقة، وجه كارول تركيزه في الاتجاه الخاطئ؛ فالملكات الإدراكية لدى الجمهور تقبع في جميع الحالات تقريبًا تحت إمرة الطبائع الوجدانية للمشاهدين واحتياجاتها التي لا تنقطع.
مفارقة الخيال
فلنتأمل حقيقة أننا في بعض الأحيان نستجيب عاطفيًّا إلى الأدب الروائي كما لو كان حقيقيًّا، بينما نعلم أنه ليس كذلك. ترتبط المشاعر عادة بالتصديق، فعندما نصدق حدثًا ما — كأن نصدق أن الألم الذي يعانيه أحد الأشخاص ألم حقيقي مثلًا — سيراودنا رد فعل شعوري مناسب مثل التعاطف معه. أما إذا أصبحنا نصدِّق أن هذا الشخص لم يكن يشعر بالألم بل يتظاهر به فحسب، فسنكفُّ — على الأقل في المعتاد — عن الشعور بالأسى لحاله. تتطلب المشاعر، كما يبدو في هاتين الحالتين، التصديق بأن الموضوع الذي يثير المشاعر حقيقي أو صادق. إذن كيف نتأثر شعوريًّا بالأحداث الخيالية مع أننا نعي أن ما نشاهده أو نقرؤه لا يحدث في الحقيقة أو لم يحدث حقًّا؟
- (١)
تتطلب المشاعر التصديق بأن الحدث المثير للمشاعر حقيقي.
- (٢)
عند مشاهدة فيلم أو قراءة كتاب نحن نعي أن الشخصيات لا توجد حقًّا (إلا في عالم الخيال) وأن المواقف لا تحدث حقًّا.
- (٣)
رغم ذلك تنتابنا مشاعر قوية في الغالب ونحن نقرأ كتابًا أو نشاهد فيلمًا.
من وجهة نظر رادفورد (١٩٧٥؛ ١٩٧٧)، تكمن المشكلة في «أنه يمكن التأثير في الناس عن طريق معاناة خيالية مع أخذ سلوكهم الهمجي في سياقات أخرى في الاعتبار حيث يكون تصديق حقيقة المعاناة الموصوفة أو المشهودة أمرًا ضروريًّا لحدوث هذه الاستجابة» (رادفورد ١٩٧٥: ٧٢). وبعدما عرَض عدة حلول ممكنة لهذه المفارقة، استنتج أن أيًّا منها لم يكن مُرضيًا، وأعلن أن الاستجابات العاطفية للخيال لا تتناقض فحسب مع استجابتنا العاطفية للأحداث الواقعية بل هي عبثية و«عصيَّة على الفهم» و«تخالف الطبيعة البشرية» أيضًا (رادفورد ١٩٧٥: ٦٩-٧٠). إذن يمنح جانب إضافي من حُجة رادفورد امتيازًا ضمنيًّا لردود الفعل العاطفية الناتجة عن أحداث الحقيقية على مثيلتها الناتجة عن أحداث خيالية. وكون أننا نستجيب عاطفيًّا لأحداث حقيقية هو، وفق ما قاله رادفورد، «حقيقة عمياء» من حقائق الوجود البشري، أما قدرتنا على الاستجابة عاطفيًّا لأحداث خيالية فهو أمر «لا ينسجم» مع هذه «الحقيقة العمياء».
كل ما نحتاجه حقًّا للتغلب على هذه المفارقة المزعومة هو قدر بسيط من الاستبطان أو التأمل الذاتي. وكما يقول سميث (١٩٩٥أ: ٥٦): «لا يوضح رادفورد قطُّ لماذا لا ينبغي اعتبار الاستجابات العاطفية للأحداث الخيالية «حقيقة عمياء» هي الأخرى؟ … لماذا ينبغي علينا قبول الارتباط بأحداث حقيقية كشرط لجميع الاستجابات العاطفية مع أن تجرِبتنا مع الفن الروائي تُملي علينا ما يخالف ذلك؟»
لكن رد سميث مضلل بدوره بما أن الفن الروائي ليس وحده ما يولِّد استجابة عاطفية في غياب شرط التصديق. والتجارِب العاطفية اليومية قد تتمتع بوضع مماثل. على سبيل المثال قد تشعر بالضيق من أحد الأشخاص، أحد والديك مثلًا أو صديق، فتتخيل أنك متَّ، وفي جنازتك ترى جميع من ضايقوك حاضرين، يرتدون الأسود ويشعرون بحزن بالغ، بينما يُعدِّدون مناقبك. أنت تعي أنك لم تمت، وأن أحدًا لم يبكِك، وأن الكلمات التي تتخيل أنها قيلت لم تُقل، ورغم ذلك تنهمر الدموع من عينيك. أو تأمَّل الحالة التي تُطلق عليها إيميلي رورتي (١٩٨٠) «العاطفة الغريبة» أو الشعور غير الملائم، حيث يشعر المرء بشعور معين رغم غياب حالة التصديق المقابلة لهذا الشعور. فلنفترض أنك ظننت أن قطتك قد دهستها سيارة، ثم وجدتها تقفز فجأة نحو ذراعيك، حيةً وتموء؛ رغم ذلك تستمر في البكاء والشعور بالحزن بينما تداعبها بحكِّها خلف أُذنها. أو عندما تشعر بالغضب حيال رئيسك في العمل رغم إدراكك عدم وجود ما يبرر هذا الشعور، بل في الواقع رئيسك يُحسن التعامل معك وأنت مقتنع بهذا، لكن شعورك بالغضب يظل باقيًا رغم ذلك. الأمثلة السابقة لا تتعلق بأشخاص يقرءون رواية؛ وحالات التصديق التي غالبًا ما تصاحب أو ترتبط بهذه المشاعر المطروحة غائبة، مع ذلك تظل المشاعر موجودة.
لاحظ أيضًا أن هذا يشير إلى انعدام حاجة المرء إلى افتراض وجود أي ارتباط أصيل بين التصور الواقعي للتجسيد السينمائي والتأثير العاطفي للأفلام على المشاهدين. فإدراك الجمهور أن ما يشاهدونه لا يحدث «حقًّا» لا ينبغي أن يَعُوق البتة أي استجابة عاطفية لديهم، حتى وإن كان من المفترض أن هذه الاستجابة لن تكون مطابقة لما قد نمر به عاطفيًّا إذا آمنا بكون تلك الأحداث حقيقية، وحتى إن لم نتصرف مثلما كنا سنفعل عند مواجهة حدث حقيقي (كأن نغادر دار العرض مثلًا).
من هذا المنظور، لا تتطابق العواطف في أغلب الأحيان مع تصورنا عنها، ولا يمكن أبدًا تفسيرها تفسيرًا وافيًا في ضوء أسبابها المباشرة (ليفين: ٢٠٠٠). إن رؤية المشاعر من هذا المنظور تُضفي على الرؤية المختلفة اختلافًا مدهشًا لطبيعة المشاهدة طابعًا مألوفًا. إذا كانت هذه الرؤية للعواطف صحيحة بطريقة ما أو بأخرى، فسيصبح علينا إعادة النظر في كثير من المشكلات الفلسفية المطروحة حول السينما. وعلاوة على ذلك، بالطبع، لن تقتصر عملية إعادة التقييم على طبيعة المشاهدة فحسب، بل ستمتد كذلك لتشمل الطبيعة البشرية ذاتها. نحن في حاجة إلى أن نُرى ككائنات تفصلها مساحة كبيرة عن ذاتها، وتواجه عوائق نسبية فيما تبذله من جهود لفهم الذات. تلك رؤية للبشر تقع في قلب التحليل النفسي، وتؤكدها الحياة العادية.
صور النقد النسوي للسينما و«مفارقة المُشاهِد المنحرف»
تمنحنا مناقشة كلٍّ من العواطف ومفارقة الخيال، الفرصةَ لتناول قضية إضافية، ألا وهي تمثيل النساء في السينما. فلنفترض أن بعضًا من السمات الشخصية التالية، منفردةً كانت أو مجتمعة، لا غنى عنها لفهم المشاهدة السينمائية، ولا سيما للاستمتاع بالأفلام: التلصص الشبَقي والفيتيشية والسادية، وغيرها من الانحرافات المتعددة إلى جانب التصنيفات التحليلية النفسية الأخرى مثل الخيال والإسقاط والاستدماج والإنكار والدفاع والكبت … إلخ (والقائمة تطول). تزعم لورا مولفي (١٩٧٥) على سبيل المثال أن المشاهدة السينمائية الحديثة لا بد من فهمها من هذا المنظور. إن ما تزعمه، هي وبعض المنظِّرين الآخرين الذين يطرحون نقدًا نسويًّا للسينما، يتلخص في أن استجابات المشاهدين العاطفية ومتعتهم لا تنبع من معتقداتهم (أو من معتقداتهم الواعية على أي حال) بل من قدرة الفيلم على استحضار رغبات متلصصة ومعادية للمرأة فضلًا عن الرغبات المرتبطة بانحرافات أخرى أو ميول منحرفة، وتحقيق إشباع مؤقت لتلك الرغبات.
ترى مولفي أن الفيلم الروائي التقليدي الذي يُجسِّد أحداثًا وهمية قائم على أساس نظرة ذكورية فاعلة ذات طابع شبقي. داخل الإطار الروائي، ينظر الرجال بقوة إلى نساء يلعبن أدوارًا غير فاعلة باعتبارهم أشياء مثيرة للشهوة الجنسية، خاضعة لتحكم النظرة الذكورية. الذكور هم من يتحكمون في مسار القصة، أما النساء فهن موجودات لا لهدف سوى الفُرجة الجنسية … وعليه فإن الفيلم التقليدي مصمَّم بحيث يضع في الحسبان وجود مشاهِد ذكَر … تتحد نظرته مع نظرة بطل الفيلم ويتوحد معه. وإذا تمكَّن البطل من الاستحواذ على المرأة، يستمتع المُشاهِد بهذا الانتصار على نحو غير مباشر. لكن النساء، كأغراض عاجزة خاضعة للنظرة الذكورية، لا يزال في وسعهن زعزعة هذا الوضع؛ إذ يُثرن لدى الرجال قلق الخصاء فيتسببن في إفساد متعتهم. هذا التهديد لا بد من التغلب عليه، وهو ما يحدث بالفعل، إما عبر الفحص المتلصص للجسد الأنثوي والمعاقبة السادية لما يطرحه من تحدٍّ، أو عبر النظر الشبقي الفيتيشي الذي يحوِّل جسدها أو جزءًا منه إلى رمز للقضيب غير الموجود … كلا الاستجابتين تختزلان المرأة في عجْزها، ويعيدان تشكيلها داخل الفيلم في صورة «شيء يُنظر إليه» وهكذا تُستعاد السيطرة الذكورية. رد الفعل النسوي على هذا واضح؛ لا بد أن تفضح النظرية المتع الفاسدة المستمدة من الفيلم الروائي المجسِّد للوهم وتدمرها ولا بد أن تخلق الممارسة العملية سينما بديلة تفضح النظرة الذكورية وما تُجسِّده من هيمنة معادية للمرأة.
تعتمد صحة نظرية مولفي من عدمها أو درجة صحتها اعتمادًا شديدًا على مدى صحة وجهة النظر التحليلية النفسية للمشاهدة، وهو ما يعتمد بدوره على مدى صحة منهج التحليل النفسي. وبعيدًا عن قضية صحة رؤية مولفي وما تحوزه من أهمية، نرغب في استكشاف الآثار الضمنية لهذه الرؤية لا على طبيعة المشاهدة فحسب بل على مستقبل السينما كذلك. إذا كان تفسير مولفي للمتعة السينمائية صحيحًا، فهل من الممكن صنع أفلام لا تخضع لنقدها النسوي؟ إذا كانت مولفي على حق، فمن المنطقي أن نرى استحالة «تدمير المتع الفاسدة للفيلم الروائي المجسِّد للوهم» أو صنع بديل له، بما أن السمات التي تطرحها مولفي تُعتبر (بشكل أو بآخر) سمات متأصلة في المشاهدة والمتعة السينمائية.
قد يستند نقد مولفي جزئيًّا إلى الاعتقاد الخاطئ بأن أشكال التلصص والسادية والماسوشية والفيتيشية جميعها غير مرغوب فيها. لكن هذا الوصف، في الحقيقة، ينطبق على بعض الأشكال فحسب وليس جميعها. ويعتمد الأمر على ما إذا كانت تُلحق ضررًا بالفرد أو بالآخرين؛ أي ما إذا كانت، على سبيل المثال، تسيطر على النفس على نحو يؤدي إلى تقويض علاقاتها، كما تفعل الأفلام الإباحية على حد زعم البعض. إن المتع الفاسدة للفيلم الروائي المجسد للوهم التي تستدعي مولفي الانتباه إليها قد تكون عناصر ضرورية في أي سينما بديلة بقدر ما هي ضرورية في السينما الحالية. لا يعني هذا أننا ننكر وجوب فضح السمات المستغلة والمعادية للمرأة في السينما أو ننكر قدرة نوع جديد من السينما على التخلي عن تلك السمات ووجوب سعيه لذلك. لكن إذا كانت طبيعة المشاهدة خاضعة لهيمنة تلك المتع، فكيف لنا إذن التخلص منها دون الاستغناء في الوقت نفسه عن عناصر جاذبية الفيلم؟ دعونا نُطلق على ذلك إشكالية «مفارقة المُشاهِد المنحرف».
لا تنطوي مفارقة الخيال على أي سمات تختص بها السينما وحدها ولا تنطبق على الأدب؛ وكذلك مفارقة المُشاهِد المنحرف. جزء كبير من الرؤية التحليلية النفسية ذاتها يستعان به لتوضيح السبب وراء صعوبة قراءة بعض الروايات بينما البعض الآخر شديد الإثارة والجاذبية. يسيطر ستيفن كينج على أدب الرعب الجماهيري بالغًا مستوًى لم يستطع أيٌّ من صناع أفلام الرعب الاقتراب منه أبدًا. وهو أيضًا يعتمد على «ميول قارئيه المنحرفة» ويستغلها.
- (١)
تعتمد المتعة السينمائية على مزيج ما من العناصر التالية: التلصص الشبقي، الفيتيشية، النرجسية، إزكاء التحيزات، وغيرها من الانحرافات المتنوعة (بما فيها السادية والماسوشية).
- (٢)
من الممكن إرساء نوع جديد من السينما ومن اللغة والمشاهدة السينمائية لا يعتمد على استغلال عناصر مثل التلصص الشبقي والعنف ضد المرأة والجنس، إلى آخره … سينما تغيب فيها (نسبيًّا) تلك العناصر المولدة للمتعة.
- (٣)
هذا النوع الجديد من السينما سيكون له جمهور يمكن أن/سوف يتسلى عمومًا ويستمد المتعة منه.
(٣أ) هذا النوع الجديد من السينما سيكون له جمهور.
تبدو تلك الفرضيات الثلاثة متعارضة فيما بينها.
إن مفارقة المُشاهِد المنحرف لا تقل في زيفها عن مفارقة الخيال. إذا كانت المتعة السينمائية تتطلب نوعية العناصر التي تزعمها مولفي، فإن تلك العناصر إذن تشكل معًا سمة عامة مهمة لا بد من وجودها كي يستطيع الفرد الاستمتاع بأي فيلم أو بأنواع معينة من السينما والأدب، أو ربما الاستمتاع على الإطلاق. وإذا كان جذب الجمهور يعتمد على إمتاعه، فإن الأفلام التي تعجِز عن تقديم تلك المتع لن يصبح لها جمهور. يمكن التحدث كثيرًا عن هذه القضية لكن لا شيء فيها ينطبق عليه وصف المفارقة.
تتحدث مولفي عن لغة سينمائية جديدة، خالية من العناصر البغيضة التي تزعم أنها تهيمن على سينما الاتجاه السائد المعاصرة. لكن لكي تُقدِم لغة جديدة ستحتاج إلى متحدثين جدد وجمهور جديد. كيف يمكن تحقيق ذلك؟ إذا كان التلصص الشبقي وغيره من السمات يلعب دورًا لا غنًى عنه في تحقيق المتعة السينمائية، فمن المؤكد إذن أن ذلك سيضع قيودًا محكَمة على النوع الجديد من السينما غير المتحيزة جنسيًّا التي تتطلع مولفي إليها. إذا كانت المتعة والتسلية تعتمدان على السمات السلبية التي تشير إليها مولفي، فإن السينما الجديدة التي تقترحها لن تُسلي ولن تُمتع الناس.
تخلق الرموز السينمائية نظرة وعالمًا وهدفًا، وهكذا تُنتج وهمًا على مقاس الرغبة. تلك الرموز السينمائية وعلاقتها بالهياكل الخارجية المكوِّنة هي ما يحتم علينا تحليله كي نستطيع تحدي السينما التقليدية والمتع التي تقدمها. وبدايةً (وكهدف نهائي)، فإن النظرة المتلصصة الشبقية ذاتها، التي تلعب دورًا محوريًّا في المتعة السينمائية التقليدية، يمكن تدميرها.
الضربة الأولى التي يجب توجيهها نحو التراكم الهائل من أعراف الأفلام التقليدية (والتي بدأ صناع الأفلام الراديكاليون في شنِّها بالفعل) هي تحرير نظرة الكاميرا ودفعها نحو واقعها المادي المتمثل في الزمان والمكان، وتحرير نظرة الجمهور وتوجيهها نحو المنطق الجدلي والانفصال العميق. يدمر ذلك دون شك الامتياز الذي يحوزه «الضيف الخفي» وما يستمده من إشباع ومتعة، ويُلقي الضوء على كيفية اعتماد الفيلم على الآليات التلصصية الفاعلة/غير الفاعلة. ولا يسع النساء، اللاتي لطالما سُرقت صورهن واستُخدمت لهذا الغرض، النظر إلى انهيار الفيلم التقليدي إلا بنوعٍ من الأسى العاطفي.
وهكذا، في حين تعترف مولفي وتحتفي بحقيقة أن أساليب صانعي الأفلام الراديكاليين ربما تدمر «الامتياز الذي يحوزه «الضيف الخفي» وما يستمده من إشباع ومتعة»، فإنها لا توضح ماهية المصادر الجديدة للجاذبية السينمائية، ولا تقدم تفسيرًا واضحًا لكيفية إيجادها. وكما سيخبرك أيٌّ ممن يذهبون إلى السينما بهدف التسلية، بدون مصدر ما من هذا النوع، لن يذهب أحد لمشاهدة الأفلام بعد الآن.
لن تجد السينما الجديدة جمهورًا جديدًا إلا إذا لجأت إلى رفع الوعي. لكن من غير الواضح على الإطلاق ما إذا كان رفع الوعي قد يكفي لتكوين جمهور يستمد من الأفلام متعًا تختلف في نوعيتها عن متع الجماهير السابقة. ما نحتاج إليه، أو ما يبدو أننا نحتاج إليه، ليس رفع الوعي بل رفع اللاوعي. يدفع منهج التحليل النفسي بأن بعض جوانب اللاوعي من الممكن التلميح إليها ورفعها إلى مستوى الوعي ثم التعامل معها بطرق تمكِّن الأفراد من التغلب على ميول عصابية محددة. لكن التحليل النفسي، على الأقل التحليل النفسي الفرويدي، لا يحوي الكثير مما قد يدعم إمكانية تغيير النفس البشرية على النحو الذي تعتقد مولفي كونه ضروريًّا لبزوغ جمهور مستنير جديد للسينما، جمهور قادر على الإحساس بمتع سينمائية بديلة. تُشير بعض القراءات للتحليل النفسي أن المتع المنحرفة هي جزء من البشر، وجزء من المتعة نفسها. وفي حين قد نستطيع التخلص من صور معينة من التمييز الجنسي الصريح ومن بعض التحيزات، من الصعب، أو ولا ينبغي لنا، محاولة التخلص من التلصص الشبقي والماسوشية (والمتع المستمَدَّة منها)؛ إذ تعتمد المتعة التي نستمدها من السينما، والكثير من المتع الحياتية بالطبع، على ذلك.
في السنوات الأخيرة الماضية، سنحت لي الفرصة لإجراء دراسة تحليلية على مجموعة من الرجال ممن تُهيمن الفيتيشية على اختيارهم العاطفي. لا ينبغي توقُّع أن أولئك الأشخاص قد أتَوْا للتحليل النفسي بسبب هذه الفيتيشية؛ هم يدركون تمامًا أنها انحراف عن المسلك الطبيعي، لكن نادرًا ما يشعرون بأنها عرَضٌ لمرض تصحبه معاناة. وعادةً ما يكونون قانعين بها، بل وقد يمتدحون الطريقة التي تسهِّل بها هذه الفيتيشية حياتهم الجنسية؛ ومن ثَمَّ، كقاعدة، ظهرت الفيتيشية في تحليلهم النفسي كاكتشافٍ ثانوي.
كذلك الماسوشية هي على الأرجح جزء من عملية الحزن المعتادة، والسادية (في بعض أشكالها) قد تحقق هدفًا وقائيًّا، بل وأخلاقيًّا. سوف نستأنف الحديث عن تلك الموضوعات في الفصل التاسع، حيث سنناقش شكلًا متطرفًا جدًّا من الاعتماد على ما يبدو أنه رغبات سادية لدى المُشاهِد؛ إذ سنناقش أفلام الرعب، ولا سيما أفلام الرعب الواقعية (أي الأفلام التي تستثير استجابةً تنطوي على رعب دون اللجوء إلى وسيلة خارقة لتحقيق ذلك).
عرضنا في هذا الفصل مجموعةً صغيرة فحسب من المشكلات الفلسفية المثارة حول السينما، وقد اخترنا المشكلات المترابطة والتي تؤدي كل منها إلى الأخرى أو تتضمنها على ما يبدو. وهي جميعًا مشكلات مرتبطة من زاويةٍ ما بالعلاقة بين السينما والمشاهد. رغم ذلك، على القارئ أن يحكم بنفسه ما إذا كنا على حق في زعم أن الوعي بالقضايا المثارة حول طبيعة السينما لن يؤدي إلى تحسين نقاش القضايا الفلسفية المطروحة في الأفلام فحسب، بل قد يحسِّن كذلك من السهرة التي يقضيها المرء في دار العرض السينمائي.
أسئلة
-
ما الذي يجعل فيلمًا ما أخلاقيًّا أو غير أخلاقي؟
-
هل يمكننا استخلاص نتيجة مهمة من حقيقة أن نفس الأفلام لا تستحوذ على إعجابنا جميعًا، وأن الأفلام التي يجدها بعضنا مؤثِّرة (أو مضحكة أو مخيفة أو عميقة) إلى أقصى درجة لا تثير إعجاب الآخرين ولا تترك تأثيرًا يُذكر عليهم؟
-
كيف تؤثِّر دور العرض السينمائي وغيرها من سمات بيئة المشاهدة (مثل مشاهدة الأفلام على شاشة كبيرة في مقابل مشاهدتها على جهاز دي في دي في المنزل) على نسب المشاهدة السينمائية؟
-
ما سبب قوة الأفلام (بعض الأفلام)؟ هل قدمنا تفسيرًا وافيًا لذلك؟ هل اقترحنا بديلًا مقبولًا للنظرية التي انتقدناها (نظرية كارول)؟
-
زعمنا أن تركيز كارول على الجانب الإدراكي عوضًا عن الجانب العاطفي أعاقه عن تقديم تفسير معقول لقوة الأفلام. هل ما قدمناه من حُجج لدعم هذا الزعم كان مقنعًا؟ بالتأكيد تلعب الخصائص الإدراكية للأفلام دورًا فعالًا في تعزيز قدرتها على التأثير في الجماهير، لكن كيف نستطيع إثبات أن الخصائص الإدراكية وحدها لا تكفي لتفسير قوة الأفلام تفسيرًا متكاملًا؟
-
لقد ركزنا على الجوانب العاطفية، وتلك القائمة على الرغبات، فيما يتعلق بقدرة الأفلام على التأثير علينا بعمق. ما المخاوف والإشكاليات الفلسفية المُثارة حول هذه القدرة؟
-
هل من الممكن أن يدعم إدراك القضايا الفلسفية المثارة حول الأفلام التجرِبة السينمائية؟ هل يُضعف هذا الإدراك القوة العاطفية للأفلام؟ هل يدعم هذا الإدراك استخدام القدرات النقدية عند المشاهدة السينمائية؟ هل هو بوجهٍ عام ظاهرة ثانوية تصاحب الإدراك النقدي للأفلام؟
-
هل يمكن بطريقةٍ ما تنقيح رؤية أندريه بازان التي تزعم أن «الصورة السينمائية هي تجسيد موضوعي للماضي، قطعة صادقة من الواقع» كي تصمد أمام نقد نويل كارول؟ هي بالتأكيد ليست صحيحة حرفيًّا أو لا تنطبق على جميع الصور المتحركة أو جميع السرديات التي تُجسِّدها الصور المتحركة، لكن هل تنطوي رغم ذلك على جانب من الحقيقة؟
-
ما مدى معقولية مفارقة المُشاهِد المنحرف؟ هل تعتمد المشاهدة السينمائية على عمليات نفسية مضطربة، ربما نُفضِّل الاستغناء عنها؟ هل يهم ما إذا كان الانغماس في فيلمٍ ما يتطلب من المُشاهِد خوض عملية نفسية مضطربة؟
-
ما الصفات التي تصنع نجمًا سينمائيًّا؟ هل فهم هذا الموضوع فهمًا أفضل يساعدنا على فهم المشاهدة (العلاقة بين الجمهور والفيلم)؟
هوامش
the formal resistances to the elaboration of female subjectivity produce perturbations and contradictions within the narrative economy. The analyses in this study emphasize the symptoms of ideological stress which accompany the concerted effort to engage female subjectivity within conventional narrative forms. These stress points and perturbations can then, hopefully, be activated as a kind of lever to facilitate the production of a desiring subjectivity for the woman—in another cinematic practice.” (Doane 1993: 175)