«جسر المطار» وحلم السفر عبر الزمن
مقدمة
في فيلم كريس ماركر «جسر المطار» (لا جيتي) (١٩٦٣)، يشهد صبي صغير حادثة إطلاق نار على رجلٍ في مطار أورلي بباريس، وبينما يكبر تظل ذكرى موت الرجل تطارده. «جسر المطار» هو فيلم عن الذكريات التي تطاردنا، وهو أيضًا عن السفر عبر الزمن. سوف نستخدم هذا الفيلم من أجل مناقشة احتمالية السفر عبر الزمن، وفي خِضم ذلك سوف نبحث طبيعة الزمن وأيضًا طبيعة الاحتمالية.
إليك قصة الفيلم: دُمرت مدينة باريس في حربٍ كارثية ومن نَجَوا من الحرب عاشوا سجناء تحت الأرض. أصبح العالم خرابًا يحتاج إلى إنقاذ. يقرر المنتصرون في الحرب — وهم على ما يبدو ألمان — أن السبيل الوحيد للإنقاذ هو المستقبل؛ ومن ثَمَّ يشرعون في إجراء سلسلةٍ من تجارِب السفر عبر الزمن، ويقع الاختيار على بطل الفيلم ليخضع للتجرِبة، حيث ينجح في السفر إلى الماضي، إلى باريس قبل نشوب الحرب. هناك يزور امرأةً، ويعود إليها مرةً تلو الأخرى؛ فتطلق عليه «شبحها». ويقع كلٌّ منهما في غرام الآخر. وبعدما أتقن العلماء الألمان السفر إلى الماضي، بدءوا يُجربون السفر إلى المستقبل. وهي عملية تفوق السفر إلى الماضي صعوبةً؛ إذ يمنع شيءٌ ما المسافرَ من المُضي قدمًا في المستقبل، ويتضح أن المانع هو أهل المستقبل الذين أتقنوا علم السفر عبر الزمن وبَدَوا عازفين عن الترحيب بغريبٍ من بدايات التاريخ البشري. لكن المسافر يتمكن أخيرًا من التحدث إليهم وشرح مَهمته؛ الجنس البشري في الماضي في خطر، وبما أنه سيتمكن من البقاء فإن المستفيدين من بقائه يَدينون له بسُبل تساعده على البقاء. يقبل أهل المستقبل على ما يبدو هذه المغالطة السفسطائية، ويمنحون المسافر مُحوِّلَ طاقةٍ جبارًا ليصطحبه معه إلى زمنه، وهي مَهمة يُنفذها بالفعل، وتنجو البشرية من الفناء. بعدما أتمَّ المسافر مَهمته يخطط العلماء الألمان لإعدامه (فهم علماء «ألمان» أولًا وأخيرًا، وفيلمنا فيلم فرنسي أُنتج عام ١٩٦٣)، حينئذٍ يتدخل أهل المستقبل لإنقاذه، ويَعرضون اصطحابه إلى المستقبل، لكنه يُفضل العودة إلى فرنسا في عالم ما قبل الحرب إلى المرأة التي أحبها. عند عودته يجد نفسه في مطار أورلي (يبدو ذلك نذير سوء). يرى محبوبته فيركض ناحيتها لكنَّ عميلًا تابعًا للعلماء الألمان كان يتبعه (فقد أتقنوا الآن تقنية السفر عبر الزمن)؛ ومن ثَمَّ يُطلق عليه الرصاص قبلما يصل إلى المرأة. يشهد صبي الحادثة بأكملها؛ لقد شهد الرجل حادثة موته بينما كان صبيًّا. لا عجب إذن أن ذكرى هذا الحادث ظلت تطارده.
الزمن: تمهيد
تَدين المناقشة الفلسفية المعاصرة لطبيعة الزمن بالكثير لأعمال الفيلسوف البريطاني جيه إم إي مكتاجارت (١٨٦٦–١٩٢٢). زعم مكتاجارت أن الزمن وهْم، وأننا نعتقد أن الأشياء توجد عبر الزمن، لكن هذا غير حقيقي. سوف نُلقي نظرة سريعة على حجته المبدعة التي قادته إلى هذا الاستنتاج قريبًا، لكن علينا أولًا التمهيد لذلك. إن الجانب الأكثر تأثيرًا، وربما الأكثر إثارةً للاهتمام، في أعمال مكتاجارت ليس زعمه بأن الزمن وهْم، بل طريقة صياغته لهذه المشكلة الفلسفية. لقد ميَّز بين نوعين من المفاهيم الزمانية، بين طريقتين للنظر إلى ترتيب الأحداث الزمانية، وأطلق عليها المجموعة «أ» والمجموعة «ب». وهي مسميات ظلت عالقة في الأذهان.
يبدو أننا نستوعب التتابع الزمني إما عبر المجموعة «أ» أو المجموعة «ب». لكن مكتاجارت زعم أن المجموعة «أ» (تَحوُّل المستقبل إلى حاضر ثم إلى ماضٍ) لا غنى عنها لمفهوم الزمن. فبدون المجموعة «أ»، لن يوجد وقت. وقد اعتقد ذلك لأنه آمن بأن الزمن يستلزم التغيير، ونحن نحتاج إلى المجموعة «أ» كي يصبح التغيير حقيقيًّا (وهو زعم مثير للجدل دون شك). كذلك من الأهمية بمكانٍ الإشارة إلى أن مكتاجارت اعتقد أن المجموعة «أ» تُناقض نفسها؛ فهي تتطلب من الحدث الواحد — مثل فوز الأرجنتين بنهائي كأس العالم عام ١٩٧٨ على سبيل المثال — أن يتضمن خواصَّ متعارضة: خاصية الحاضر وخاصية الماضي وخاصية المستقبل. لكن شيئًا في الحاضر لا يمكن أن يكون ماضيًا في ذات الوقت. أليس كذلك؟ فهاتان خاصيتان متعارضتان. ورغم ذلك من المفترض أن يملك حدث واحد كلتا الخاصيتين معًا. كيف يمكن ذلك؟ ظاهريًّا تبدو هذه الحجة غير منطقية تمامًا؛ فليس من المفترض أن يكون حدثٌ ما ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا «في الوقت نفسه»، بل هو مستقبل في وقتٍ ما وحاضر في وقتٍ آخر وماضٍ في وقتٍ ثالث. يبدو ذلك صحيحًا لكنه لا يُفيد بشيء. على سبيل المثال، لن تتحقق أي استفادةٍ من زعم أن فوز الأرجنتين بنهائي كأس العالم كان حاضرًا يوم ٢٥ يونيو ١٩٧٨ وماضيًا يوم ٢٥ يونيو عام ٢٠١٠؛ إذا استعضنا عن الزعم القائل بأن الفوز حدثٌ ماضٍ، بزعمٍ أدق يقول بأن الفوز حدث يوم ٢٥ يونيو ١٩٧٨ فإننا نكون بذلك قد استعضنا لِتوِّنا عن المجموعة «أ» بالمجموعة «ب» (فالقول بأن حدثًا ما حاضرٌ في تاريخ محدد يرسخ موقعه فحسب في تتابُع الأحداث المرتبة حسب علاقة «قبل/بعد». أي المجموعة «ب»). يزعم مكتاجارت أن المجموعة «أ» هي المتناقضة، وليس المجموعة «ب».
قد نحاول التملص من هذا الفخ، وبدلًا من ذِكر تاريخ المباراة يمكننا أن نقول إن المباراة «كانت» في الحاضر. وقولنا إن حدثًا ما كان حاضرًا معناه أن ذلك الحدث يملك خاصية كونه حاضرًا في الماضي. (يهوى الفلاسفة هذه الطريقة الملتفة للتعبير عن الأشياء؛ فهم يعتقدون أنها تُضفي مزيدًا من التوضيح. وفي بعض الأحيان يكونون على حق.) فكون حدثٍ ما «حاضرًا في الماضي» لا يناقض خاصية كونه «في الماضي»؛ لذا بدلًا من أن نقول إن حدثًا واحدًا يملك خاصية الحاضر وخاصية الماضي، يمكننا أن نقول إنه يملك خاصية كونه «حاضرًا في الماضي» وخاصية كونه «ماضيًا». وهكذا تجنَّبنا فيما يبدو التناقض دون اختزال المجموعة «أ» في المجموعة «ب». لكن مكتاجارت يعتقد أن هذه الطريقة لا تصلح. لقد استعضنا عن خاصية صيغة زمنية ذات ترتيب أول (الحاضر) بخاصية صيغة زمنية ذات ترتيبٍ زمنيٍّ ثانٍ (حاضرٌ في الماضي) كي نتجنَّب التناقض. لكن تقديم خواص صيغة زمنية ذات ترتيبٍ ثانٍ يسمح لنا بتوليد تناقضات جديدة. على سبيل المثال فوز الأرجنتين بالمباراة حدثٌ يتمتع بخاصية كونه حاضرًا في الماضي، لكنه يملك كذلك خاصية كونه حاضرًا في المستقبل (في عام ١٩٥٠ كان هذا الفوز حاضرًا في المستقبل)؛ ومن ثَمَّ تتناقض هاتان الخاصيتان الزمنيتان ذواتا الترتيب الثاني؛ فلا يمكن لحدثٍ ما أن يمتلك خاصية كونه حاضرًا في الماضي وحاضرًا في المستقبل. وإذا حاولنا حل هذا التناقض الجديد عبر الاحتكام إلى خواص زمنية ذات ترتيب ثالث (كأن نقول، على سبيل المثال، في المستقبل يكون حدثٌ ما حاضرًا في الماضي)، فسوف نواجه الإشكالية ذاتها من جديد. لا مهرب إذن من إشكالية نسب خواص زمنية متناقضة لحدثٍ واحد، أو هكذا آمن مكتاجارت. وهذا مثال لما يُطلِق عليه الفلاسفة معضلة «التقهقر اللانهائي».
- (١)
مفهوم الزمن يستلزم المجموعة «أ».
- (٢)
إذن كي يصبح الزمن حقيقيًّا لا بد أن تكون المجموعة «أ» حقيقية.
- (٣)
لكن المجموعة «أ» تُناقض نفسها؛ ومن ثَمَّ لا يمكن أن تكون حقيقية.
- (٤)
إذن الزمن ذاته ليس حقيقيًّا.
بالطبع لم يَدَع الفلاسفة المسألة تقف عند هذا الحد. إحدى طرق الرد على هذه الحجة هي محاولة إنقاذ المجموعة «أ» من الوقوع في فخ التناقض. وكما عرضنا لِتوِّنا، يرى مكتاجارت أنه لا يمكن لحدثٍ واحد امتلاك خاصية كونه حاضرًا وخاصية كونه ماضيًا على حدٍّ سواء؛ فتلك خواص متناقضة، وربما ينبغي لنا الاتفاق معه وكفى. كيف نستطيع إيقاف التناقض دون اختزال المجموعة «أ» في المجموعة «ب»؟ قد يبدو الحل التالي متطرفًا بعض الشيء؛ يمكننا منع التناقض عبر إنكار أن الأحداث تمتلك من الأساس خاصية كونها في الماضي أو في الحاضر؛ أي الماضي غير موجود والمستقبل غير موجود، الحاضر فقط هو الموجود. إذا كان شيء ما حدثًا، فهو إذن يحدث الآن؛ أما إذا لم يكن يحدث الآن، فهو ليس حدثًا، بل هو شيء آخر، شيء ليس له وجود. وعندما نتحدث عن «الأحداث الماضية»، نحن نتحدث على نحوٍ تقريبي لأن الأحداث الماضية ليست في الحقيقة أحداثًا على الإطلاق؛ الأحداث هي ما يقع الآن، والأحداث الماضية لا تقع الآن. وعلى وجه الخصوص، الأحداث الماضية ليست أحداثًا تتمتع بخاصيةٍ مميزة؛ ألا وهي كونها في الماضي؛ فقول ذلك يعادل القول بأنها تحدث مع امتلاكها خاصية مميزة ألا وهي عدم حدوثها، وذلك قولٌ منافٍ للعقل. إذن إذا كنا اتفقنا (نسبيًّا) على ما نعنيه بكلمة أحداث، واتفقنا أن الماضيَ والمستقبل لا يمكن أبدًا أن يكونا خواصَّ للأحداث، فسنضمن إذن أن الحدث الواحد لن يملك أبدًا خواصَّ زمنيةً متناقضة؛ فلا يمكن له امتلاك أي خاصية سوى خاصية كونه حاضرًا. وبإنكار وجود أي شيء خارج نطاق الحاضر، أصبح لدينا على ما يبدو سبيل لإصلاح المجموعة «أ» دون أن نُناقض أنفسنا.
ربما يبدو هذا الرأي الذي توصَّلنا إليه عبر مراوغة التناقض الذي يطرحه مكتاجارت غريبًا، لكنه يصف في الحقيقة مفهومًا بديهيًّا إلى حدٍّ كبير للزمن؛ فعندما نقول إن الماضي قد انتهى، ربما الشيء الذي نفكر فيه حقًّا هو أن الماضي لم يَعُد موجودًا. ربما نقصد أن الماضي غير موجود وكفى. الحاضر يبدو حقيقيًّا — يبدو موجودًا «هناك» أو «هنا» بالأحرى — على عكس الماضي والمستقبل. الحاضر لا ينفكُّ يتغير، وهذا التغير يُشكل تدفق الزمن. يُطلِق الفلاسفة على هذا الرأي، «الحاضرية»، وهو أمر لا يُثير استغرابًا. تتميز الحاضرية بأنها تُجسِّد إحساسنا البديهي بتدفق الوقت، وبأن الحاضر حقيقي، على العكس من الماضي والمستقبل. إحدى طرق تَصوُّر وجهة نظر أتباع هذا الرأي حول الوقت والوجود هي تخيُّل الحاضر كنقطة ضوءٍ تتحرك عبر خطٍّ مظلم يُمثل العالم. الظلام هو ظلام اللاوجود، والضوء هو ضوء الوجود. وحركة الضوء هي تدفق الزمن، وهو يتحرك دون توقف. (تُجسِّد الحاضرية مفهومًا بديهيًّا ولكنه غريب نوعًا ما لأن الحاضر سريع الزوال حقًّا. إذا كنا نعيش في الحاضر وحده، فربما علينا التوقف والتساؤل كيف نستطيع الْتِقاط أنفاسنا على الإطلاق؛ الزمن يتحرك بسرعةٍ فائقة! وإذا كنا نعيش في الحاضر كليًّا، فإننا نعيش فيما يبدو مجموعةً من اللحظات المؤقتة العابرة. لكن إحساسنا بالحياة يختلف عن ذلك.)
تواجه الحاضرية بعض العراقيل إذن. ربما نتمكن من شق طريقنا عبرها لكنها على أيِّ حال تُشجعنا على السعي وراء وجهات نظرٍ بديلة لمفهوم الزمن. يتخلى المنافس الرئيسي للحاضرية عن محاولة وصف الزمن حسب قواعد المجموعة «أ»، ولا يقبل بديهيةَ تدفق الزمن المنطقية أو وجود اختلاف وجودي (أنطولوجي) بين الماضي والحاضر. إنها الرؤية التي يتحدث عنها إتش جي ويلز في روايته «آلة الزمن»، وغالبًا ما يُطلَق عليها اليوم الرؤية الرباعية الأبعاد. تذكر أن حجة مكتاجارت التي تزعم أن الزمن وهْم تعتمد على مقدمتين منطقيتين؛ المقدمة الأولى مفادها أن المجموعة «أ» هي صفة أساسية من صفات الزمن، وبدون المجموعة «أ» لا يوجد زمن. والمقدمة الثانية مفادها أن المجموعة «أ» تُناقض نفسها. يَقبل الحاضريون المقدمة الأولى لكنهم يرفضون الثانية. أما أتباع الرؤية الرباعية الأبعاد فيتبعون المنهج المعاكس؛ أي يقبلون المقدمة الثانية لكنهم يرفضون الأولى؛ فهم يعتقدون أننا نفهم الوقت من منظور المجموعة «ب» فحسب (أي العلاقات الزمنية بين الأحداث: بعد، وقبل، وبالتزامن مع). حسب المنظور الرباعي الأبعاد، المفاهيم التي تطرحها المجموعة «أ» — الماضي والحاضر والمستقبل — لا تُعبِّر وجوديًّا عن حقائق ذات قيمة، بل هي تُشير فحسب إلى الموقع الزمني للمتحدث. فلنفترض على سبيل المثال أن شخصًا ما يرى إشارة المرور تتغير من الأحمر إلى الأخضر، بينما يشهد هذا التغيُّر: «إشارة المرور تتغير الآن.» ما الذي يجعل هذه العبارة صحيحة؟ ما الحقيقة التي يتناولها هذا الزعم؟ يعتمد ذلك على الموقع الزمني للمتحدث. إذا كان قد نطق بجملته الساعة ٩:٤٥ صباحًا يوم ٣٠ نوفمبر عام ٢٠٢٠، يصبح هذا الزعم صحيحًا فقط إذا كانت إشارة المرور التي نحن بصددها تتغير في ذلك الوقت. وإذا أبدى المتحدث هذا الزعم في وقتٍ آخر، فإنه لن يكون صحيحًا إلا إذا كانت إشارة المرور التي نحن بصددها تتغير في هذا الوقت الآخر. كلمة «الآن» تؤدي وظيفة تُشبه إلى حدٍّ كبير وظيفة كلمة «هنا»؛ ذلك هو ما يُطلِق عليه الفلاسفة تعبيرًا تأشيريًّا. وينطبق ذلك على مفاهيم المجموعة «أ» بأكملها؛ إذ يرى أتباع وجهة النظر الرباعية الأبعاد أن حقائق المجموعة «أ» هي حقائق تأشيرية. وتتمخَّض هذه الرؤية عن نتيجة مهمة، وهي أن الزمن لا يتدفق، بل يبدو هكذا فحسب؛ ومن ثَمَّ لا تواجه الرؤية الرباعية الأبعاد ما تواجهه الحاضرية من مشكلات، لكنها تواجه مشكلات أخرى خاصة بها. من بينها شرح الكيفية التي يبدو بها الزمن وكأنه يتدفق، وكذلك شرح الكيفية التي يبدو بها الزمن وكأنه يتدفق في اتجاهٍ واحدٍ فقط.
ما هو السفر عبر الزمن؟
عودةً إلى مسألة السفر عبر الزمن؛ من منظور الحاضرية، السفر عبر الزمن مفهوم غير مترابط. كيف يمكنك السفر إلى مكانٍ غير موجود؟ (ولا يرجع ذلك إلى أن الماضيَ والمستقبل لا يوجدان إلا في الحاضر فحسب، بل يرجع إلى أن الحاضرية تؤكد عدم وجودهما من الأصل.) على الجانب الآخر لا تنطوي الرؤية الرباعية الأبعاد على أيٍّ من تلك الشكوك؛ إذ يرى أتباعها أن الزمن بُعدٌ، والسفر عبر بُعدٍ أمر ممكن تصوره على الأقل، حتى وإن اتضحت استحالته ماديًّا. لكن ما هو السفر عبر الزمن تحديدًا؟ في «جسر المطار» ينتقل المسافر عبر الزمن إلى الماضي والمستقبل، ومن السهل عرض ذلك في الفيلم لأنه لا يتطلب سوى وضع الممثلين في بيئةٍ يعتبرها المشاهدون بيئة الماضي أو المستقبل. لكن ذلك لا يساعدنا على معرفة ما يحدث تحديدًا في سيناريو السفر عبر الزمن.
يقترح الفيلسوف الأمريكي ديفيد لويس التعريف التالي للسفر عبر الزمن. يُقاس الزمن بالتغير، تغير عقارب الساعة على سبيل المثال؛ ما يسمح لنا بتمييز الزمن الخارجي عن الزمن الشخصي. يُقاس الزمن الشخصي بالتغير في شخصية المرء (تخيَّل ساعة كوارتز مثبَّتة تحت جلدك؛ معدل تقدمك في العمر أو اكتسابك الذكريات هو إحدى وظائف الزمن الشخصي). أما الزمن الخارجي فيُقاس بالتغير في بيئتك الخارجية (تخيَّل ساعة على بُعد مائة متر). يحدث السفر عبر الزمن إذا انتقلتَ إلى زمنٍ خارجي بعيد نسبيًّا خلال فترةٍ زمنية قصيرة نسبيًّا من الزمن الشخصي. في «جسر المطار» يرتحل المسافر عبر الزمن إلى مستقبلٍ يبعد مئاتٍ كثيرةً من السنين، بينما من منظوره — منظور زمنه الشخصي — استغرقت الرحلة بضع ثوانٍ على الأكثر. أما من المنظور الخارجي، فقد استغرقت رحلة المسافر مئات السنين. لا يوضح كريس ماركر، في تصرُّف حكيم على الأرجح، عمليات الانتقال المتضمَّنة في هذه الرحلة؛ ففي أحد المَشاهِد يبدو المسافر يلاحظ أو يتخيل الماضيَ ليس إلا، وفي المشهد التالي نجده في الماضي بالفعل. ولا يُقال لنا كيف وصل هناك. في نسخة عام ٢٠٠٢ السينمائية من رواية «آلة الزمن»، نرى المسافر وهو يتحرك فعليًّا عبر الزمن. لا نكاد نرى أيًّا من علامات التقدم في السن عليه (ربما كبر دقيقة ليس إلا)، بينما يشيخ العالم خارج مركبته أمام أعيُننا (بفضل تأثيرات تسريع الفواصل الزمنية بين اللقطات المُعدة بواسطة الكمبيوتر). وعندما يسافر إلى الماضي، نرى الخدعة ذاتها؛ فبينما يرتحل ببطءٍ عبر الزمن دون أن يتقدم في السن (ودون أن ينقص عمره كذلك)، نرى العالم خارج مركبته يتراجع إلى الوراء بسرعةٍ كبيرة (أيضًا بفضل تأثيرات تسريع الفواصل الزمنية بين اللقطات المُعدة بواسطة الكمبيوتر).
في بعض الأحيان يكون السفر عبر الزمن عمليةً مستمرة كما في فيلم «آلة الزمن»، وفي أحيانٍ أخرى يتضمَّن عمليات انتقال منفصلة. في معظم أفلام السفر عبر الزمن يستقل المسافر مركبته ثم يضغط على زرٍّ ما فينتقل إلى زمنٍ مختلف تمامًا دون المرور بفتراتٍ زمنية فاصلة على الإطلاق. تتم هذه العملية أحيانًا عبر ثقب دودي، لكنَّ صناع الفيلم عادةً ما يُجنِّبون أنفسهم عناء شرح علاقة الثقب الدودي على وجه التحديد بالسفر عبر الزمن. في حلقةٍ بديعة من مسلسل «دراما المستقبل» (فيوتشراما) بعنوان «نهاية سعيدة لحادثة روزويل» (روزويل ذات إندز ويل) يحدث السفر عبر الزمن لأن بطل المسلسل «فراي» يتجاهل تعليمات الاستخدام بينما يحاول إعداد الفشار في الميكروويف (وهي حادثة تصادفت مع وقوع انفجار نجمٍ ضخم، إذا كنت تتساءل عن كيفية تسبُّب ذلك في الانتقال عبر الزمن). فكما نرى، القصة التي تبرر قدرة السفر عبر الزمن في معظم الأفلام إما غائبة تمامًا أو مجرد كلام فارغ هزلي (عبقري ثائر الرأس، وكثير من الشخبطات على سبورة سوداء ومركبة فاخرة لامعة أو سيارة من نوع ديلوريان كما في فيلم «العودة إلى المستقبل» (باك تو ذا فيوتشر)). وفي النهاية يبقى السؤال الفلسفي بلا إجابة: هل السفر عبر الزمن ممكن من الأساس؟
ما احتمالية السفر عبر الزمن؟
هذا سؤال غامض؛ إذ يوجد أكثر من نوعٍ واحد من الاحتمالية؛ يوجد على الأقل ثلاثة أنواع ذات صلة بمبحثنا: الاحتمالية المنطقية والاحتمالية الميتافيزيقية والاحتمالية الفيزيقية. يُعتبر تسلسلٌ ما من الأحداث محتملًا من الناحية المنطقية إذا أمكن وصفه وصفًا شاملًا دون تناقض، ويُعتبر محتملًا من الناحية الميتافيزيقية إذا أمكن وصفه وصفًا شاملًا دون خرق مبادئ ميتافيزيقية صحيحة، بصرف النظر عن ماهيتها (على سبيل المثال، القول بأن الحاضر وحده هو الموجود أو أن الأشياء المادية هي فقط الموجودة يُصنَّف تحت بند المبادئ الميتافيزيقية، لكنها قد تكون مبادئ غير صحيحة). وخلافًا لذلك، يصبح تسلسلٌ ما للأحداث محتملًا من الناحية الفيزيقية إذا لم يخرق أيًّا من قوانين الطبيعة، بصرف النظر، مرةً أخرى، عن ماهيتها.
إذن ما السؤال الذي ينبغي لنا طرحه؟ بما أننا في كتابٍ فلسفي، فلن نبحث الاحتمالية الفيزيقية. لكن يجدر بنا أن نذكر في مجمل حديثنا أن نوعًا واحدًا على الأقل من السفر عبر الزمن يبدو محتملًا من الناحية الفيزيقية، بل ويحدث يوميًّا كذلك. تتنبأ النظرية النسبية الخاصة بنوعٍ من السفر عبر الزمن يحدث عبر ما يُطلق عليه تأثير تمدُّد الزمن؛ فلتفترض أنك أرسلت ساعةً فائقة الدقة إلى طائرةٍ وقارنتها بساعةٍ مطابقة لها على الأرض؛ سيتضح لك أن الساعة على الطائرة ستتحرك على نحوٍ أبطأ من الساعة الموجودة على الأرض. السفر جوًّا إذن سبيل للاحتفاظ بالشباب (رغم أن ذلك لا يحدث بقدرٍ كبير). يتزايد تأثير تمدُّد الزمن مع السرعة؛ لذا السفر على متن صاروخٍ يُعد طريقةً أكثر فعاليةً كي تمد في عمرك ليفوق عمر أبناء عمومتك على الأرض. (الجانب السلبي الوحيد أنك في الحقيقة لن تحظى بأي وقتٍ إضافي من منظور الزمن الشخصي، وهو في النهاية الزمن الذي يهمك حقًّا.) بالطبع تأثير تمدُّد الزمن ليس النوع الوحيد من السفر عبر الزمن؛ يمكن تحقيق السفر إلى المستقبل البعيد عبر آليةٍ أخرى، آلية تتسبب في ثني الزمكان. لكن تمدد الزمن لن يساعدنا على السفر إلى الماضي. (كما سنرى، السفر إلى الماضي هو ما يُسبِّب الإشكاليات الفلسفية الرئيسية.)
هذا فيما يتعلق بالاحتمالية الفيزيقية. ماذا إذن عن الاحتمالية الميتافيزيقية؟ حسب الرؤية الحاضرية، السفر عبر الزمن مستحيل ميتافيزيقيًّا. وحتى لو استطعت سرد قصصٍ مترابطة منطقيًّا للسفر عبر الزمن، تتناقض تلك القصص مع مبادئ ميتافيزيقية جوهرية حول طبيعة الزمن؛ فأنت لا تستطيع السفر إلى مكانٍ غير موجود. لكن لحُسن الحظ لدينا نظرية ميتافيزيقية أخرى للزمن متاحة للتأمل؛ ألا وهي النظرية الرباعية الأبعاد. لا يُبدي أتباع هذه النظرية أي اعتراضٍ ميتافيزيقي على السفر عبر الزمن. لكنه إذا اتضح أن السفر عبر الزمن غير محتمل منطقيًّا، فلن تكون هناك أهمية لجميع الحجج المطروحة حول ميتافيزيقا الزمن. إذا لم يكن السفر عبر الزمن محتملًا منطقيًّا، فهو غير محتمل إذن في أي سياقٍ آخر. وبالمناسبة توجد حجة شهيرة مفادها أن السفر عبر الزمن غير محتمل منطقيًّا، وهي تُدعى مفارقة الجد.
مفارقة الجد
إذا كان السفر إلى الماضي ممكنًا، فما الذي يمنعني إذن من السفر إلى الماضي وقتل جدي في صباه؛ ما يضمن منع ولادة أمي؛ ومن ثَمَّ إذا لم يكن لديَّ أم فلن أُولد من الأساس، وإذا لم أُولد من الأساس، فلن يمكنني السفر إلى الماضي وقتل جدي. وهكذا تتحطم احتمالية السفر إلى الماضي فيما يبدو أمام أعيُننا. تُعرف هذه المفارقة باسم مفارقة الجد. هل هي تثبت بالفعل أن فكرة السفر إلى الماضي في حد ذاتها غير متماسكة منطقيًّا؟ دعونا نَصُغْها في شكل حجةٍ تُناقض الاحتمالية المنطقية للسفر عبر الزمن.
-
(١)
إذا كان السفر عبر الزمن محتملًا من الناحية المنطقية، ففي وسعي الرجوع إلى الماضي وقتل جدي؛ ما يضمن عدم ولادة أمي.
-
(٢)
إذا لم تُولَد أمي قطُّ، فلن أُولدَ أنا أيضًا.
-
(٣)
ومن ثَمَّ لن أكون موجودًا.
-
(٤)
إذا قَتلتُ جدي فسأكون موجودًا.
-
(٥)
إذن في هذا السيناريو سأكون موجودًا وغير موجود، وذلك أمر لا يمكن حدوثه.
-
(٦)
ومن ثَمَّ لا يمكنني السفر إلى الماضي وقتل جدي؛ ما يضمن منع ولادة أمي.
-
(٧)
إذن السفر عبر الزمن غير محتمل من الناحية المنطقية.
ما رأيك؟ تبدو حجة منطقية حقًّا. ما إن تقبل المقدمة الأولى حتى ينهال عليك باقي المقدمات كطوفانٍ من الحقائق المنطقية؛ فكل خطوةٍ من الحجة إما تُجسِّد استنتاجًا منطقيًّا للخطوات السابقة أو تطرح مزاعم عادية للغاية لا يوجد أي سبيلٍ منطقي يُمكِّننا من إنكارها. كيف سيتصرف المدافع عن السفر عبر الزمن إذن؟ بالطبع عليه أن يرفض المقدمة المنطقية الأولى. لكن كيف؟
إن قتل الجد ليس سوى وسيلةٍ درامية لتوضيح نقطة ضعف مزمنة في قصص السفر عبر الزمن. قد يبدو أن السفر إلى الماضي سيتسبَّب قطعًا في تغيير الماضي؛ فمجرد وجود المرء في الماضي يُشكل تغيُّرًا فيه على ما يبدو. قبل أن تسافر عبر الزمن لم تكن موجودًا في الماضي، وبعدما سافرت أصبحت حاضرًا فيه، وهكذا أصبح هناك وصفان للماضي يبدو كلاهما صحيحًا: «أ» ماضٍ كنت أنت غائبًا عنه. و«ب» ماضٍ كنت أنت حاضرًا فيه. وذلك تَناقُض لا شك فيه. لا حاجة بك إلى قتل جدك كي تخلق استحالةً منطقية، بل التسكع وحده في الماضي يكفي.
يواجه السفر عبر الزمن وضعًا صعبًا على ما يبدو، إلا أن الحجة التي طرحناها في الفقرة السابقة قائمة في الحقيقة على سوء تفاهم خطير. تذكَّر أن الرؤية الميتافيزيقية للزمن التي تبنَّيناها كي نُمهد الطريق لإمكانية السفر عبر الزمن هي الرؤية الرباعية الأبعاد. وحسب الرؤية الرباعية الأبعاد، فإن الماضيَ ثابت، ولا يمكن تغييره. الماضي ليس شريط فيديو يمكنك إرجاعه والتسجيل عليه. وإذا سافرت إلى الماضي لا يعني ذلك أنك تُعيد كتابته، بل أنت بالفعل كنت هناك! فلتفترض على سبيل المثال أنك سافرت إلى الماضي والتقطت لنفسك صورة مع كليوباترا ثم دَفنتَ الصورة في مقبرةٍ خفية، وعندما عدت إلى زمنك بحثت عن المقبرة واستعدت صورتك. كم من الوقت ظلت الصورة هناك؟ منذ أن دفنتَها قبل ألفَي عامٍ تقريبًا. لقد أثَّرت على الماضي عندما دفنت الصورة، لكنك لم تُغيره. بعبارةٍ أخرى: أنت لم تُغير الماضيَ من وضعٍ معين (حيث ظلت إحدى المقابر باقية طوال ألفَي عامٍ دون أن تحويَ صورة) إلى وضعٍ آخر (حيث ظلت مقبرة ما باقية لمدة ألفَي عام وبداخلها صورة مدفونة). تفترض مفارقة الجد أنه من الممكن تغيير الماضي، لكن ذلك غير ممكن. لا مجال للمفارقة ها هنا، بل هي مجرد غلطة. المقدمة المنطقية الأولى لتلك الحجة كانت خاطئة. السفر عبر الزمن ممكن منطقيًّا لأننا تحديدًا عاجزون عن إعادة كتابة الماضي.
رغم ذلك تبعث تلك الأفكار الحيرة في نفوسنا؛ إذ يبدو غريبًا القول بأنك إذا امتلكت آلة زمن لا تستطيع استخدامها لإحداث حالةٍ من الفوضى في شجرة العائلة. ماذا يمنعك من ذلك؟ بالطبع لديك القدرة المحضة على قتل أي شخص. ماذا يمنعك من تفعيل هذه القدرة؟ لن تنزل قواعد المنطق من عليائها كي تحافظ على الاتساق؛ فهي لا تملك هذا النوع من القوة. ماذا سيحدث إذن؟ ربما إذا رجعت إلى الماضي وحاولت ارتكاب تلك الفعلة الشنعاء فستفشل، ستنزلق قدماك على قشرة موزٍ في اللحظة الأخيرة أو سيعلق مسدسك أو قد تُطلق النار على الشخص الخطأ. مع ذلك، لا نزال نشتَمُّ رائحة المفارقة ها هنا؛ إذ يبدو أنك تمتلك القدرة على فعل شيءٍ ما، لكنك، في الوقت نفسه، عاجز عن فعله. أنت تملك القدرة على قتل جدك ولا تملك القدرة على قتل جدك في الوقت نفسه. وذلك ينطوي فيما يبدو على تَناقُض.
قصص السفر عبر الزمن المتسقة وغير المتسقة
لنُلقِ نظرةً أخيرة على فيلمنا. يروي «جسر المطار» قصة سفر عبر الزمن حيث يشهد رجل حادثة موته أثناء صباه. أكان بوسع هذا الرجل منع موته؟ هل كان بوسعه تغيير رأيه في اللحظة الأخيرة والتوجُّه إلى المستقبل حيث الأمان؟ هل كان بوسعه الجريُ أسرع؟ أو الانحناء وتجنُّب الرصاص؟ الإجابة عن هذه الأسئلة هي لا. لم يكن بوسعه فعل أيٍّ من تلك الأشياء؛ لأنه لم يفعلها في الماضي. لقد كان مُقدَّرًا له الموت في مطار أورلي قبل تدمير باريس، لكنه لم يكن يعرف ذلك بعد. بل إن استخدام تعبير «كان مُقدَّرًا له الموت» غير دقيق نسبيًّا في واقع الأمر؛ فعندما كان يفكر في قَبول عرض اللجوء إلى المستقبل أو رفضه، كان وقتها ميتًا بالفعل. لقد كان ميتًا طوال الجزء الأكبر من حياته. وقد وُجد كذلك لفترةٍ قصيرة في مكانين في الوقت ذاته، في صورة صبيٍّ وفي صورة رجل. هل من الممكن أن يُوجَد شخص واحد في مكانين في الوقت نفسه؟ يعتمد ذلك على معرفة أيٍّ من وجهات النظر حول الهُوية الشخصية هي الصحيحة. سوف نناقش في الفصل الثامن نظرية الاستمرارية النفسية، التي تطرح منظورًا رباعيَّ الأبعاد للأفراد. وفقًا لهذا المنظور يتكون الأفراد من أجزاءٍ زمنية مؤقتة يرتبط بعضها ببعضٍ عبر الذاكرة. ولا تنطوي هذه النظرية على ما يجزم باستحالة وجود شخصٍ ما في مكانين في الوقت ذاته، أو ما يجزم باستحالة موت شخصٍ ما (في مرحلةٍ زمنية مختلفة) بينما يستمر على قيد الحياة (في مرحلةٍ أخرى). علاوةً على ذلك لا تنفي النظرية إمكانية موت أحد الأشخاص قبل ولادته. ذلك عجيب بالطبع، لكن لا أحد يزعم ها هنا أن السفر عبر الزمن لا ينطوي على بعض العجب. نزعم فحسب أنه ممكن من الناحية المنطقية، وربما من الناحية الميتافيزيقية. قدم «جسر المطار» نموذجًا لقصة سفرٍ عبر الزمن متسقة؛ ومن ثَمَّ ممكنة منطقيًّا. والمَلمح الرئيسي في تلك القصص هو أن الماضي لا تُعاد كتابته أبدًا. قد تتضمَّن القصة الكثير من الأحداث العجيبة لكنها تحكي عن عالمٍ واحد متسق.
ربما كان السبيل الأمثل لفهم سيناريوهات أفلام مثل «تأثير الفراشة» هو النظر إليها لا من منظور السفر عبر الزمن بل من منظور العوالم المتشعبة. عندما يعود إيفان إلى ماضيه في محاولةٍ لتحسين حياته فهو لا يسافر إلى ماضيه، بل يسافر إلى عالمٍ مُوازٍ، عالمٍ مُتفرعٍ من العالم الفعلي. وخلق تلك العوالم المتشعبة أو القفز إلى أحدها لا يُغير الماضي. يوجد العديد من الشكوك حول ما إذا كانت فكرةُ القفز بين العوالم فكرةً متماسكة من المنظور الميتافيزيقي. لكن على أي حال، القفز بين العوالم ليس شكلًا من أشكال السفر عبر الزمن. وإذا استخدمتَ أسلوب القفز عبر العوالم كي ترجع إلى الماضي وتقتل جدك، فستُخفق ها هنا أيضًا في قتله؛ قد تقتل في تلك الحالة شخصًا ما، لكنه لن يكون جدك، سيكون نسخةً من جدك يعيش في عالمٍ مختلف. لكن في عالمنا سيظل جدك حيًّا يُرزق في كامل صحته. نستخلص من هذا كله أن قصص السفر عبر الزمن غير المتسقة تميل إلى تجسيد أبطالٍ يعانون من تشوُّش كبير. في حين تتمتع قصص السفر عبر الزمن المتسقة بقدرٍ أكبر من الإثارة لأنها قصص متماسكة على مستوًى عميق.
تَفتح قصصُ السفر عبر الزمن المتسقة البابَ أمام احتماليةٍ جديرة حقًّا بالملاحظة، وهي الحلقات السببية. في «جسر المطار» يَمنح أهلُ المستقبل بطلَنا مُحوِّلَ طاقة (وهو عبارة عن صندوق معدِني أسود لا يُميزه شيء) كي يصطحبه معه إلى الماضي. والآن تخيَّل أن هذا المُحوِّل كان ناجحًا حقًّا وظل موجودًا لزمنٍ طويل في المستقبل، بحيث ظل أهل المستقبل يستخدمونه عندما قدم إليهم غريب من تاريخ البشرية المبكر طالبًا مساعدتهم، فمنحوه هذا المُحوِّل. وهكذا نرى أن الماضيَ يمنح المُحوِّل للمستقبل والمستقبل يمنح المُحوِّل للماضي. يُطلَق على ذلك حلقة سببية. هي فيما يبدو نتيجة محتملة للسفر عبر الزمن. من أين إذن أتى مُحوِّل الطاقة؟ مَن صنعه؟ لا مفر من الإجابة بأنه أتى من الماضي ومن المستقبل، وبأنه ليس مِن صُنع أحد، بل وُجد هكذا. تلك حلقة سببية إعجازية دون شك، لكنها محتملة منطقيًّا. ربما تكون بعض أنواع السفر عبر الزمن محتملة منطقيًّا لكنها عجيبة، عجيبة حقًّا في بعض الأحيان. لا بأس. العالم مكان عجيب، فلماذا يُفترض بالسينما ألا تكون عجيبةً بدورها؟
أسئلة
-
السفر عبر الزمن هو إحدى الحبكات السردية الأوسع انتشارًا في الخيال العلمي. ما سبب ذلك؟ ما الذي يجذب هذا العدد الكبير من الناس إلى فكرة السفر عبر الزمن؟ وماذا نستنتج من ذلك فيما يتعلق بالندم وبتمنِّي عيش حياةٍ مختلفة؟ إذا لم يكن بوسعنا تغيير الماضي، تصبح أمنية عيش حياةٍ مختلفة أمنيةً مستحيلة؛ فلا يوجد سيناريو يمكن اعتباره تحقيقًا لهذه الأمنية. هل يجعل ذلك منها أمنيةً لا عقلانية؟
-
هل مفهوم الزمن يستلزم وجود المجموعة «أ»؟ هل المجموعة «أ» ضرورية لتفسير التغيير؟
-
إذا خضعت للتجميد بتقنية التبريد الفائق وظللتَ في غيبوبةٍ لمدة ١٠٠ عام استيقظت بعدها سالمًا دون أدنى تغيُّر، وأنت تشعر كما لو أنك لم تَنم سوى بضع ساعات، هل سيُعدُّ ذلك نوعًا من السفر عبر الزمن إلى المستقبل؟ هل سيتفق مع تعريف السفر عبر الزمن الذي استخدمناه في هذا الفصل (تعريف ديفيد لويس)؟
-
هل نجحنا في التعامل مع مفارقة الجد في هذا الفصل؟ ألا يوجد حقًّا عنصر غير مقبول في الحل الذي قدَّمناه؟ يزعم هذا الحل أنك إذا عُدت إلى الماضي عبر آلة زمنٍ وحاولت قتل جدك (أو بالطبع قتْل نفسك في الماضي)، فلا بد أنك ستفشل. ما الذي يمنعك من النجاح؟
-
لقد اقترحنا أن قصص السفر عبر الزمن المتسقة تستحوذ على اهتمامنا أكثر من مثيلتها غير المتسقة؛ فهل هذا صحيح؟ فكر في أمثلةٍ على ذلك، قَسِّم أفلام السفر عبر الزمن التي شاهدتها إلى قصصٍ متسقة وأخرى غير متسقة (سوف تلاحظ أن الأفلام غير المتسقة هي السائدة). هل الأفلام المتسقة تطرح قصصًا تفوق في تأثيرها ما تطرحه الأفلام غير المتسقة؟ هل يؤثر الاتساق الفلسفي لقصة الفيلم بوجهٍ عام على قوة الفيلم؟
-
القفز عبر العوالم لا يُعَد سفرًا عبر الزمن. لماذا؟
-
«الحلقات السببية غريبة، لكنها ليست مستحيلة.» ما نوع الاحتمالية الذي قد تُعبِّر عنه هذه العبارة؟ ما المبادئ الميتافيزيقية التي قد تتناقض مع الحلقات السببية؟ هل هي مبادئ معقولة؟