القدر والاختيار: فلسفة «تقرير الأقلية»
مقدمة
تخيَّل أنك سافرت إلى مستقبلٍ يبعد ٣٦ ساعة عن زمنك كي تزور ذاتك المستقبلية، وعندئذٍ شاهدتها ترتكب جريمة قتل؛ فهُرعتَ عائدًا إلى زمنك مصممًا على منع حدوث هذه الجريمة؛ فهل بوسعك منعها؟ بفرض أن الرؤية الرباعية الأبعاد للزمن صحيحة (راجع الفصل السادس)، وبفرض أنك سافرت حقًّا إلى المستقبل وأن الشخص الذي رأيتَه يُقتل هو بالفعل ذاتك المستقبلية، ستصبح الإجابة عن هذا السؤال هي لا بالطبع، لن تقدر على منع نفسك من ارتكاب الجريمة. لقد قُدِّر عليك ارتكابها. ويبدو أن لا خيار لك في هذه المسألة. لكن إذا كان ذلك قدرك، ولا خيار لك في هذه المسألة، فبأي حقٍّ تُعَد مُذنبًا؟ هل أنت مسئول أخلاقيًّا عن أفعالٍ لا تستطيع منعها؟ أهلًا بك في عالم فلسفة الإرادة الحرة المليء بالتحديات، والذي لا يخلو من الغرابة في بعض الأحيان.
في فيلم «تقرير الأقلية» يُجابه جون أندرتون ظرفًا مشابهًا لِما وصفناه لِتوِّنا. لكن أندرتون لا يسافر عبر الزمن، إنما يشهد لحظة ميلاد نبوءةٍ صادرة عن ثلاثة عرَّافين، يخبرونه أنه حتمًا وقطعًا سيقتل رجلًا لم يسمع عنه قطُّ من قبلُ، يُدعى ليو كرو، في غضون ٣٦ ساعة. العرَّافون لا يُخطئون أبدًا، أو هكذا يؤكد لنا الفيلم؛ فهم مُنحوا هبة التنبؤ، بل وفوق هذا، هم قادرون فعليًّا على رؤية المستقبل، هم شهود على مستقبل أندرتون حين يُطلق الرصاص على كرو. هل بوسع أندرتون مراوغة قَدَره؟ قد تقترح عليه محاولة الهرب من المدينة، لكننا في فيلم هوليوودي؛ ومن ثَمَّ يتفتق ذهن أندرتون عن خطةٍ مختلفة، فيقتفي أثر ليو كرو حتى يجده ويواجهه وعندئذٍ يُطلق عليه الرصاص.
حتى الآن يبدو أننا نُكرر مناقشتنا لقضية السفر عبر الزمن التي عرضناها في الفصل السادس. فثَمَّةَ رابط ما بين مصير أندرتون ومفارقة الجد. حسب مفارقة الجد يبدو وكأنك تستطيع العودة إلى الماضي ومنْع ولادتك، لكنك بالطبع لا تقدر على ذلك. أنت تمتلك القدرة على فعل «الأشياء» التي قد تتضمَّنها مَهمة منع ولادتك، لكنك لا تقدر على فعل هذا الشيء تحديدًا في هذا الوقت تحديدًا. لا يمكنك فعله لأن هذا الشي لم يُفعل في الماضي، أنت لم تمنع ولادتك لأنك قد وُلدت بالفعل. في قصة أندرتون وكرو، يبدو كما لو أن أندرتون يمتلك القدرة على الهرب من مصيره (فماذا لو اكتفى بالمكوث في البيت ومشاهدة التليفزيون على مدار بضعة الأيام التالية؟) لكنه في الحقيقة لا يملك تلك القدرة حقًّا. هو يفتقر إلى القدرة على تغيير قَدَره لأنه قَدَره. لقد تحدَّد بالفعل أنه سيقتل كرو. انتهى الأمر.
لكن الأمر لم ينتهِ قطعًا. «تقرير الأقلية» أعقَدُ كثيرًا من ذلك، وأكثر إرباكًا. وسوف نستخدمه كي نتلمَّس طريقنا عبر متاهات فلسفة الإرادة الحرة. والسؤال الرئيسي الذي سنطرحه هو: إلى أي مدًى يبدو الفيلم ملتبسًا؟ أهو ملتبس لدرجة يتعذَّر التغلب عليها؟ أحيانًا يكون أفضل ما تُقدِّمه لنا الأفلام، من المنظور الفلسفي، هو تحدي فهم حبكتها الملتبسة. وعبر محاولة فك طلاسم هذا الالتباس قد نتعلم الكثير. ومن جانبٍ آخر قد يتضح أن «تقرير الأقلية» أكثر منطقيةً مما كان يبدو عليه في البداية، بل وقد يساعدنا على استيضاح بعضٍ من سمات العلاقة بين القدر والإرادة الحرة والمسئولية الأخلاقية. فلنبدأ بتحري الحبكة الرئيسية للفيلم.
ما قبل وقوع الجريمة
ثَمَّةَ قضيتان على المحك هنا. أما القضية الأولى فتخصُّ طبيعة العقاب؛ هل يصح بأي حالٍ من الأحوال عقاب شخصٍ ما على شيءٍ لم يرتكبه (بعد)؟ قد نرى أن العقاب إجراء انتقامي في الأساس؛ أي إننا نُنزل العقاب بأحدهم جزاء ما اقترفه من جُرم؛ إنه رد فعلٍ على الاعتداء، سبيل لتصفية الحسابات، إن جاز التعبير. تلك ليست الرؤية الوحيدة لفكرة العقاب، لكنها رؤية شائعة للغاية، ووفقًا لها، تصبح مبادرةُ منع الجريمة قبل وقوعها قائمةً على أساسٍ سيئ الإعداد. هي دعوة لتصفية الحسابات قبل أن يظهر الصراع، ومحاولة للرد على فعلٍ لم يحدث. وذلك نوع من الالتباس. إذا كانت فكرتنا عن العقاب بصفته إجراءً انتقاميًّا في الأساس صحيحة، فسيصبح السبيل الأمثل لاستخدام قدرات العرَّافين هو «منع» الجريمة لا «المعاقبة» عليها قبل وقوعها. على سبيل المثال، قد يوضع المجرمون المستقبليون رهن اعتقالٍ وقائيٍّ قصير المدى بدلًا من معاقبتهم بشكلٍ من الحياة أشبه بالموت. إذا كان المجرم قد شرع بالفعل في ارتكاب فعل القتل قبل أن يتمكن شُرطيُّو منع الجريمة من القبض عليه، فمن الملائم وقتها توجيه تهمة الشروع في القتل إليه. إذا كانت الجريمة لا تزال في طيات المستقبل؛ أي مجرد نية أو نية مستقبلية، فلا مبرر حينئذٍ لإنزال العقاب.
ومن ثَمَّ يصبح لدينا منظوران للقَدَر والاختيار، كلاهما يُجسِّده «تقرير الأقلية». حسب المنظور الأول، تتطلب الإرادة الحرة الحقة وجود مستقبل بديل؛ فلِكي نمتلك إرادة حرة لا بد أن تُتاح لنا إمكانية الهرب من قَدَرنا؛ لا بد أن نمتلك القدرة على الاختيار بين مستقبلين كلاهما متاح على حدٍّ سواء. أما المنظور الثاني، فيقتضي تحمُّلنا المسئولية عن الاختيارات التي نتخذها بأنفسنا دون تدخُّل الآخرين. إذا اتخذنا خيارًا ما، واتخذناه مستخدمين الموارد التي تتيحها لنا عقولنا، فإن هذا الاختيار يصبح خاصًّا بنا؛ ومن ثَمَّ نتحمَّل المسئولية عنه. كيف يرتبط هذان المنظوران أحدهما بالآخر؟ لاستيضاح ذلك، سنحتاج إلى الاطِّلاع على بعض الموضوعات الفلسفية. لكن أولًا توجد مسألة مربكة نوعًا ما في حبكة «تقرير الأقلية» علينا محاولة استيعابها.
ماذا يرى العرَّافون؟ يرَوْن جرائم قتل. لكن كيف يمكنهم رؤيتها ما دامت جرائم القتل قد مُنعت؟ يحاول الفيلم التعامل مع هذه المشكلة، لكنها محاولة ضعيفة نسبيًّا. فيما يلي حوار بين داني ويتوير (محقق من مكتب المدعي العام)، وجوردن فليتشر (شرطي منع الجريمة) وجون أندرتون (رئيس مبادرة منع الجريمة قبل وقوعها):
بناءً على ذلك، ماذا يرى العرَّافون فعليًّا عندما يشهدون جريمةَ قتلٍ مستقبلية؟ إنهم لا يَرَون المستقبل، بل يَرَون مستقبلًا محتملًا؛ أي يَرَون ما كان سيصبح عليه العالم لو لم تُغيِّر نبوءتَهم الأوضاع. لكن هذا ليس شكلًا عاديًّا من أشكال تدفُّق المعلومات من المستقبل إلى الحاضر، بل يتضمَّن الاطلاع على شيءٍ مختلف كليًّا: لا مستقبل هذا العالم، بل مستقبل عالم محتمل مشابه. وفكرة أن أحد سكان عالم محتمل يمكنه فعليًّا الاطلاع على أحداث خاصة بعالم آخر محتمل، تبدو غير منطقية وفقًا لأي رؤية متماسكة لمفهوم العوالم المحتملة. إن الخطأ الفلسفي الذي وقع فيه كاتبا السيناريو هو التركيز على «رؤية» المستقبل. إذا كان العرَّافون يستنتجون، بطريقةٍ غامضة، مستقبلًا مشروطًا بدلًا من رؤيته رأيَ العين، فستمضي القصة في مسارها دون مواجهة هذا القدْر من العقبات الميتافيزيقية (على الرغم من أن فكرة استنتاج المستقبل بهذه الطريقة فكرة سخيفة في حد ذاتها). لكن في الوضع الحالي، لا يمكننا إنقاذ القصة مما تتضمَّنه من التباس.
مع ذلك، حقيقة أن الأسس الميتافيزيقية لفيلم «تقرير الأقلية» واهية بالفعل لا تحرم الفيلم من نزعته الفلسفية؛ فهو لا يزال يُجسِّد نموذجًا اختباريًّا مثيرًا للاهتمام بالفعل، من أجل تقييم معتقداتنا البديهية حول الحرية والقَدَر والمسئولية. دعونا إذن نُحوِّل أنظارنا إلى الفلسفة التي يستند إليها هذا الجانب من الفيلم.
فلسفة القدر
القدرية هي الرؤية الدافعة بأن كل أفعالنا محتومة، وأننا عاجزون عن تغيير قَدَرنا. وهي تتضمَّن ثلاث تنويعات رئيسية: القدرية الميتافيزيقية والقدرية اللاهوتية والحتمية السببية، وجميعها محل جدل فلسفي. القدرية الميتافيزيقية (يُطلَق عليها أحيانًا القدرية المنطقية) هي استنتاج توصَّل إليه بعض الفلاسفة من النظرية الرباعية الأبعاد للزمن التي عرضناها في الفصل السادس. تذكَّر قصة السفر عبر الزمن التي بدأنا بها فصلنا الحالي، حيث سافرتَ إلى مستقبل يبعد ٣٦ ساعة عن زمنك، وشاهدت نفسك ترتكب جريمة قتل. لقد أصبح قَدَرك محسومًا، وأصبح ارتكابك جريمة القتل حقيقة مستقبلية، وبما أنها ستحدث، فلا يمكنك فعل أي شيءٍ لمنعها من الحدوث. تلك هي طبيعة الحقائق. وفقًا للميتافيزيقية القَدَرية، جميع حقائق المستقبل محسومة بالفعل على هذا النحو. والشيء الغريب الوحيد في قصتنا هنا هو أنك عرفت قَدَرك مسبقًا، لكن وجود قَدَر لكلٍّ منا لا يعتمد على معرفتنا له؛ فلكلٍّ منا قَدَره بصرف النظر عن ذلك. وما الحياة سوى مهمة اكتشاف هذا القدر. تضيف القدرية اللاهوتية بُعدًا خاصًّا إلى هذه القصة عبر الاحتكام إلى علم الله وقدرته غير المحدودة؛ فعندما قرر الله خلْق العالم كان على علمٍ تامٍّ بكل حدثٍ سيقع فيه. وإذا كان يريد منا التصرُّف على نحو مختلف، فقد كان بوسعه خلْق عالمٍ مختلف. نحن إذن ضحايا اختيار الله.
يُهدد كلٌّ من القدرية الميتافيزيقية والقدرية اللاهوتية فيما يبدو اعتقادنا بأننا أفراد أحرار؛ إذ تُصوِّرنا ككائناتٍ عاجزة عن تبديل مصيرها؛ أي ضحايا للحقائق المستقبلية أو ضحايا لاختيارات الله فيما يتعلق بالخلق. أما النوع الثالث من القدرية وهو الحتمية السببية، فيجعلنا ضحايا الماضي. وهي الرؤية التي غالبًا ما سنُشير لها اختصارًا بالحتمية، ومفادها أن كل وضع يعيشه العالم استلزم وجودَه وضعٌ سابقٌ للعالم. عندما دحرج أندرتون الكرة على سطح مكتبه، تآمرت قواعد الفيزياء جنبًا إلى جنبٍ مع شتى عناصر الموقف كي تضمن تَدحرُج الكرة حتى نهاية المكتب ثم سقوطها أرضًا. لا خيار أمام الكرة سوى التدحرج على سطح المكتب حتى تسقط. وهذا معناه — على سبيل التقريب — أنه نتيجةً لقواعد الفيزياء ذات الصلة، ولوضع الكرة المبدئي قبل أن تشرع في رحلتها على سطح المكتب، إلى جانب الظروف الأخرى المحددة للموقف (مثل الاحتكاك بين الكرة وسطح المكتب، والضغط الجوي، وجاذبية الأرض، وعدم وجود عوائق، وغيرها من الظروف المعيقة)، لا بد أن تتدحرج الكرة، لا سبيل أمامها سوى التدحرج. لكن ويتوير يلتقطها بعد ذلك. ماذا حدث هنا؟ لقد رأى ويتوير الكرة، وقدَّر مسار رحلتها بمجرد أن غادرتْ سطح المكتب، ثم قرَّر التقاطها، فجهَّز عضلاته، واتخذ وضع الالتقاط، وشعر باصطدام الكرة براحة يديه، وأخيرًا أطبق أصابعه حولها. هذا بالطبع شرح مختصر لفعل الالتقاط؛ إذ توجد الكثير من العمليات الأخرى التي يتطلبها إتمام هذا الفعل. لكن هل أيٌّ من النقاط المتضمَّنة في تسلسل العلة والمعلول السابق تختلف عن كونها مجرد وصف أكثر تعقيدًا لعملية تدحرج الكرة؟ هل توجد أيُّ نقطةٍ في هذا التسلسل لا تستلزمها أوضاع سابقة؟ ربما كان قرار ويتوير بالتقاط الكرة هو أوضح نقطة؛ فالقرار هو فعل عقلي. هل هو مجرد عنصر آخر من تسلسل العلة والمعلول الذي يفرض تأثيره في هذا السيناريو؟ هل قرار ويتوير فرضته الأوضاع السابقة؟ يُجيب الحتميون عن هذا السؤال بنعم؛ فهم يعتقدون أن كل ما يحدث في هذا العالم استوجبتْه أوضاع سابقة له؛ ومن ثَمَّ فقرار ويتوير بالتقاط الكرة الساقطة استلزمته الأوضاع السابقة للعالم (الأوضاع السابقة لدماغه على الأرجح).
إذن تُمثِّل الحتمية سبيلًا آخر لجعل أقدارنا محسومة. إذا كانت الحتمية صحيحة، فإن كل قرار نتخذه استوجبتْه أوضاع سابقة في هذا العالم. ويمتد تسلسل الحتمية هذا إلى ما قبل مولدنا؛ فكل فكرة خطرتْ ببالنا، وكل خيار اتخذناه كان محسومًا من قبل أن نُولد. لقد وقعنا في قبضة عالَم ميكانيكي لا يرحم. لكن ربما جانَب الحتميين الصوابُ في هذه النقطة؛ فهناك مبرر قوي يدفعنا للاعتقاد بأن بعض الأحداث على الأقل لا تستوجبها أوضاع سابقة للعالم. ويبدو أن أحداثًا في مناطق محدودة للغاية من العالم تحكمها قوانين لا تستوجب — بل تُعدد — احتمالات ما يمكن أن يقع. على سبيل المثال، قد تنص قوانين الفيزياء على أن ذرة عنصر البلوتونيوم احتمال تَحلُّلها في غضون ٢٤١٠٠ عام (تقريبًا) هو ٥٠ بالمائة إذا تحللت الذرة فجأة، يصبح هذا التحلل أمرًا غير متوقَّع لأنه لا يوجد ما يُحتم حدوثه. لم يكن لزامًا على الذرة التحلل اليوم. لكن هذا هو ما حدث فحسب. إذا كانت قصة التحلل الإشعاعي هذه صحيحة، فيمكننا القول بأن بعض الأحداث على الأقل لا تستوجبها أحداث ماضية. هل يساعدنا هذا على الهرب من فكرة الحتمية فيما يتعلق باختيارات البشر؟ لا يمكننا الجزم بهذا على الإطلاق. ربما كانت بعض العمليات السببية المتضمَّنة في عملية الاختيار لدينا غير حتمية، مثلما كان التحلل الإشعاعي غير حتمي. لكن ربما لا يكون الوضع كذلك أيضًا. إذا كانت الاختيارات هي أحداثًا تقع في دماغنا، فربما كانت تحدث على نطاقٍ كبير بما يكفي لأن تصبح معها قوانين اللاحتمية غير منطبقة عليها. وربما كانت حالة اللاحتمية الواضحة على المستوى الكمِّي تنعكس على مستوى الأحداث الدماغية. إذا كانت الأحداث العقلية هي أحداثًا دماغية، فربما كانت تخضع بالفعل لنظامٍ حتمي لا محالة قائم على السبب والنتيجة.
لدينا إذن ثلاثة أشكال من القدرية، قائمة على مسلمات مختلفة، ولا ينبغي الخلط بينها. القدرية اللاهوتية والحتمية السببية تُضفيان مكونًا إضافيًّا خاصًّا بهما إلى الموقف القدري الميتافيزيقي؛ فتضيف القدرية اللاهوتية خلق الله المُطلق القدرة والعلم لهذا العالم، بينما تضيف الحتمية السببية فكرة أن الماضي يستلزم المستقبل. يمكن للمرء اعتناق وجهة النظر القدرية الميتافيزيقية دون أن يكون مؤمنًا بالحتمية، لكن العكس مستبعد. لا يتضح أي نوعٍ من القدرية — القدرية الميتافيزيقية أم الحتمية السببية — يتناوله فيلم «تقرير الأقلية». لكن هذا لا يهم كثيرًا لأن اهتمامات الفيلم الفلسفية تكمن غالبًا في الروابط المفاهيمية التي يخلقها بين القدرية والإرادة الحرة والمسئولية الأخلاقية. لا يمنحنا الفيلم أي مبرر للإيمان بالقدرية أو نبذها، لكنه يطرح أسئلة مفاهيمية حول العلاقة بين الإرادة الحرة والمسئولية الأخلاقية والقدر.
فلسفة الإرادة الحرة والمسئولية الأخلاقية
القضية الفلسفية المهمة في هذه المرحلة تتمحور حول السؤال التالي: كيف يؤثِّر شكل أو آخر من أشكال القدرية على إمكانية وجود الإرادة الحرة والمسئولية الأخلاقية؟ ثَمَّةَ منهجان فلسفيان رئيسيان للتعامل مع هذه القضية، وهما التوافقية واللاتوافقية.
على الجانب الآخر، يطرح التوافقيون وجهةَ نظرٍ مختلفةً للغاية حول العلاقة بين الإرادة الحرة والقدرية؛ فهم يعتقدون أن الإرادة الحرة تتوافق مع القدرية. من المنظور التوافقي يكون الفرد حرًّا في تصرفاته ما دام اختياره لا يخضع لتدخُّل الآخرين؛ أي ما دام مسئولًا مسئوليةً كاملة عن أفعاله. يترتب على ذلك أن يصبح في وسع أتباع الرؤية الحتمية السببية والرؤية القدرية الميتافيزيقية على حدٍّ سواء القول بأن اختيارات المرء من صُنعه هو. لكن ما يتطلبه الاختيار كي يصبح من صنع المرء مثار جدلٍ كبير. يرغب التوافقيون في استبعاد حالات الإكراه (على سبيل المثال، عندما تُضطر إلى الاختيار تحت تهديد السلاح أو تحت تأثير التنويم المغناطيسي أو ربما تحت تأثير الإدمان). وفي معظم الأحيان، يرغب التوافقيون كذلك في استبعاد الحالات التي لا يمكن الجزم فيها بأنك قد قررت على نحوٍ ملائم أن تفعل أي شيءٍ على الإطلاق. على سبيل المثال، قد تتصرف دون تفكُّر واعٍ، وفي تلك الحالة يبدو الفعل أشبه بحادثٍ مفاجئ وقع لك، أو قد تتصرف عندما لا تكون متحكمًا تمامًا في قدراتك العقلية؛ أي دون أن تكون قادرًا على التفكُّر مليًّا، كأن تكون تحت تأثير عقَّارٍ ما مثلًا أو في خضم نوبة ذُهان.
خُطت صفحات لا حصر لها في كتب الفلسفة لمناقشة مزايا كلٍّ من التوافقية واللاتوافقية. ويتصل بهذا الجدل جدلٌ آخر حول العلاقة بين التصرف بحُرية والمسئولية الأخلاقية. وكما شاهدنا لِتوِّنا، يعتقد التوافقيون أننا قد نكون أحرارًا في تصرفاتنا حتى لو كانت أفعالنا قَدَرية. بعبارةٍ أخرى: هم يَرَون أن في وسعنا التصرفَ بحُرية حتى لو لم يكن بوسعنا التصرف على نحوٍ مغاير للقدر. ويميلون أيضًا إلى الإصرار على أننا مسئولون أخلاقيًّا عن أفعالنا الحرة؛ ومن ثَمَّ نصبح مسئولين أخلاقيًّا عن فعلٍ ما حتى لو لم يكن بوسعنا فعل غيره. يرفض اللاتوافقيون بوجهٍ عام هذه الرؤية. ويميلون إلى الإصرار على أننا لا نكون مسئولين أخلاقيًّا إلا عن الأفعال التي نملك اختيارًا «حقيقيًّا» فيما يتعلق بفعلها من عدمه، والاختيار الحقيقي يتطلب مستقبلًا غير محدَّد. في ضوء الرؤية اللاتوافقية، نحن لا نملك اختيارًا حقيقيًّا فيما يتعلق بفعل شيءٍ من عدمه إذا كان قد تقرر بالفعل أننا سنفعل ذلك الشيء.
رغم ذلك، يجدر بنا ملاحظة أننا نتعامل هنا مع قضيتين منفصلتين، تتعلق إحداهما بالإرادة الحرة بينما تتعلق الأخرى بالمسئولية الأخلاقية. ربما يمكننا توضيح خياراتنا إذا تعاملنا مع كل قضيةٍ على حِدَة. وتلك هي الاستراتيجية التي اتبعها الفيلسوف جون مارتن فيشر (١٩٩٤؛ ١٩٩٨). يميز فيشر بين طريقتين يتحكم من خلالهما الفرد بأفعاله، ويُطلِق عليهما التحكم التوجيهي والتحكم التنظيمي. يمكن القول بأننا متحكمون توجيهيًّا في أفعالنا إذا كانت نابعةً من تفكيرٍ يستجيب على نحوٍ مناسب للمنطق. بعبارة أخرى: يصبح لدينا تحكم توجيهي إذا فكرنا فيها مليًّا، واستخدمنا المنطق من أجل توجيه قراراتنا. لا حاجة لنا باستخدام المنطق استخدامًا فعالًا حقًّا؛ فربما نتخذ ردَّ فعلٍ بِناءً على أسبابٍ طائشة، أو ربما نُخفق في إعطاء الأسباب ما تستحقه من أهمية. مع ذلك، ما دمنا قد استخدمنا قدراتنا الفكرية استخدامًا يفي بالحد الأدنى المناسب، يمكن القول بأننا قد وجَّهنا أفعالنا. إن تحديد تفاصيل التحكم التوجيهي مَهمة لا تختلف في جوهرها عن مَهمة تطوير وجهة نظر توافقية فيما يتعلق بالإرادة الحرة؛ فالتحكم التوجيهي لا يتطلب القدرة على مراوغة القَدَر؛ فقد نتمتع بالتحكم التوجيهي في فعلٍ ما حتى إذا كان مُقدَّرًا لنا مسبقًا فعله، بل يتطلب التحكم التوجيهي أن نُفعِّل فحسب قدرتنا على التفكر مليًّا على نحوٍ ملائم. (لا يُكافئ التحكم التوجيهي القدرة على تغيير مصيرنا.) على الصعيد الآخر، يُعرف التحكم التنظيمي بأنه نوع من التحكم في الأفعال نمتلكه إذا كان بوسعنا حقًّا تنظيم حدوثها أو عدم حدوثها. ولكي نتمتع بالتحكم التنظيمي في أفعالنا لا بد أن نَقدر حقًّا على اختيارٍ مغاير لِما قُدِّر لنا؛ إنه يتطلب أن يكون المستقبل مفتوحًا أمامنا حقًّا. هكذا يُميز فيشر بين مفهومٍ توافقي للتحكم في أفعالنا (التحكم التوجيهي) ومفهومٍ غير توافقي للتحكم في أفعالنا (التحكم التنظيمي). تذكر أن علينا الإجابة عن سؤالين مختلفين: ما المطلوب مِنَّا كي نملك إرادةً حرة؟ وما المطلوب منا كي نصبح مسئولين أخلاقيًّا عن أفعالنا؟
مذنب بلا ذنب ومجرم بلا جريمة
عندما يقدم لنا صُناع «تقرير الأقلية» مبادرة منع الجريمة قبل وقوعها، يخبروننا أن المجرمين المستقبليين سيَقتلون لا محالة إذا لم يُوقِفهم أحد. ويُقدِّمون دليلًا مثيرًا على هذا من خلال عرض هاورد ماركس، الذي لم يكن يفصله عن قتل زوجته وعشيقها، مثلما تنبَّأ العرَّافون تمامًا، سوى لحظاتٍ عندما يُلقي شُرطيُّو منع الجريمة قبل وقوعها القبض عليه. جريمة هاورد ماركس هنا هي الشروع في القتل. لكن فلنفترض على سبيل المثال أن شُرطيي منع الجريمة ألقَوا القبض عليه قبل لحظاتٍ من شروعه في أُولى خطوات ارتكاب الجريمة؛ فما الإثم الذي ارتكبه في هذه الحالة؟ أهو حمْل مِقَص في منزله؟ إن الافتراض الأخلاقي الأساسي الذي تقوم عليه مبادرة منع الجريمة يتمثل في أن ماركس الذي مُنع من ارتكاب جريمته لا يقل ذنبه عن ماركس الذي يقتل بالفعل. تتعدد الأسباب التي تجعلنا غير راضين عن هذا الافتراض الأخلاقي، لكن الفكرة القائلة بأن المجرمين المحتملين لا يتحمَّلون مسئوليةً أخلاقية عن فعلتهم؛ لأن ارتكاب جريمة القتل هو قَدَرهم، ليست من بين تلك الأسباب. يُسلط الفيلم دون شكٍّ الضوء على الحجة المعارضة. ولا ينهار الأساس الأخلاقي لمبادرة منع الجريمة في عين أندرتون إلا عندما يكتشف أن بعض المجرمين المستقبليين (أبرزهم أندرتون نفسه) لديهم مستقبل بديل. يوجد مبرر قوي لهذا بالطبع؛ إذا كان لأحدهم مستقبل بديل، فإنه يصبح لديه تحكُّم تنظيمي لأفعاله، وعندئذٍ لا تُعَد نبوءات العرَّافين موثوقًا بها؛ فالشخص الذي يملك تحكمًا تنظيميًّا في شئونه قد يُقرر تنفيذ جريمة القتل (وقد أوشك أندرتون على فعل ذلك) أو يمتنع عن ارتكابها. وإذا كان متحكمًا تحكمًا تنظيميًّا، لا يصبح مستقبله مقررًا فعليًّا، ولا يصبح مذنبًا بأي شيءٍ لم تقترفْه يداه. على الجانب الآخر، إذا لم يُتَح للمجرمين المستقبليين سوى تحكم توجيهي في أفعالهم، فقد تظل نبوءات العرَّافين في هذه الحالة صحيحة، وستبدو مبادرة منع الجريمة مرتكزةً على أُسُس أكثر صلابة، على الأقل في هذا الجانب.
يستثير «تقرير الأقلية» بديهيات داعمة لفكرة أن التحكم التوجيهي يكفي وحده لوقوع المسئولية الأخلاقية. ويحقق ذلك عبر تقديم فكرة قاتل بحكم القَدَر ثم تطويرها على مدار السرد بما يكفي ليُمكِّننا من الإجابة عن السؤال التالي: هل القَتَلة — بحكم القَدَر — مُعفَون من المسئولية الأخلاقية عن أفعالهم، لا لسببٍ سوى أن «القَدَر» قد كَتب عليهم القتل؟ وهو سؤال يتيح لنا التعقيدُ السرديُّ للقصة وطريقةُ عرضها الإجابةَ عنه إجابةً حاسمة، وهي بالنفي طبعًا. لكن «تقرير الأقلية» فيلم في غاية التعقيد، ومن الصعب تحديد ما إذا كانت معتقداتنا البديهية قد تعرَّضت للتشويه جرَّاء هذا التعقيد. لقد أثبت الفيلم براعةً في التلاعب بمشاعر التعاطف لدينا، بدءًا من تعاطفنا المبدئي غير المدروس مع مبادرة منع الجريمة قبل وقوعها (إذ نرى وحدة منع الجرائم تُنقذ أرواح أشخاصٍ أبرياء) وانتهاءً بكرهنا لها (إذ نشهد العديد من أساليب التعامل غير العادلة لا سيما فيما يتعلق ببطلنا التعيس الحظ أندرتون). وهكذا تتبدَّى مزايا مبادرة منع الجريمة باطِّرادٍ أمام أعيُننا مع تطور أحداث الفيلم؛ فلا يُنقِذ شرطيو منع الجريمة المزيدَ من الأرواح، بل يَقضون وقتهم في مطاردة بطلنا، إلى أن يُلقوا القبض عليه، ويرسلوه ظلمًا إلى جحيم «الهالة». لا يُقدِّم الفيلم عرضًا دقيقًا للجانب المَعيب أخلاقيًّا في مبادرة منع الجريمة، لكن الفساد السابق الكامن في المبادرة يكتسب أهميةً محورية؛ فمع نهاية الفيلم يبلغ بنا التقزُّز مبلغه، من مبادرة منع الجريمة وما أحدثتْه من أذًى، بما في ذلك الأذى الذي أوقعتْه بالعرَّافين أنفسهم. وفي خِضمِّ هذه الدراما الأخلاقية الصاخبة، يُغفل الفيلم تمامًا تناول أحد جوانب منع الجريمة تناولًا إشكاليًّا، ألا وهو فكرة التوافق التام بين المسئولية الأخلاقية والقدَر، أو بعبارةٍ أخرى: فكرة أن الأفراد مسئولون عن اختياراتهم حتى لو كان مُقدَّرًا لهم اتخاذ تلك الاختيارات.
قد لا يكون التحكم التنظيمي ضروريًّا لوقوع المسئولية الأخلاقية، لكنه يبدو مع ذلك في غاية الأهمية بالنسبة إلينا. والنهاية السعيدة، جزئيًّا، ﻟ «تقرير الأقلية» ترجع إلى انتصار الفيلم للإرادة الحرة على القدرية. فمع اللحظات الأخيرة من الفيلم يختار لامار بيرجس الانتحار بدلًا من القتل، على الرغم من أن العرَّافين تَنبَّئوا بجريمة قتل. وعندما يُثبت لامار خطأ العرَّافين، فإنه لا يثبت أنه مسئول أخلاقيًّا عن أفعاله فحسب (وهو أمر بديهي في كلتا الحالتين)، بل يثبت كونه قادرًا على صُنع أفعاله لا مجرد توجيهها. يُثبت بيرجس أنه ليس مجرد دمية في يد القَدَر. تنطوي مبادرة منع الجريمة على إشكاليتين؛ الأولى: أنها غير عادلة (إما لأنها تُعاقِب أُناسًا لم يرتكبوا جُرمًا بعدُ، أو لأنها تُعاقِب أُناسًا أبرياء تمامًا)، والثانية: أنها أنكرت أننا نملك تحكمًا تنظيميًّا في أمورنا، وصوَّرتْنا كما لو كنا أغراضًا يعبث بها القدر. أدَّى الإخفاق التام للمبادرة إلى تمكين سبيلبيرج من تقديم نهاية سعيدة مزدوجة (أو نهاية سعيدة متعددة الأوجه إذا أخذنا في الاعتبار ما يَنعم به الأبطال الباقون على قيد الحياة من سعادة)؛ إذ أدَّى تدمير المبادرة إلى وضع حدٍّ لنظامٍ ظالم واستغلالي، وإعادة تأكيد عنصر ذي قيمة جوهرية في الوضع البشري، ألا وهو كوننا صُناع أفعالنا ومصدرها. لقد نجح الفيلم في تقديم دليلٍ على أن التحكم التنظيمي مُكوِّن مهم لما نقدره فيما يخص الإرادة الحرة، بالقدر الذي سمح لسبيلبيرج بتصوير نهاية سعيدة هانئة. بالطبع لا يقطع الفيلم أيَّ خطواتٍ جديةٍ في سبيل إثبات أننا نمتلك تحكمًا تنظيميًّا في شئوننا، لكن من غير المعقول توقُّع اضطلاع فيلم بهذه المَهمة.
أسئلة
-
إذا كان العرَّافون قادرين على التنبُّؤ الدقيق بمحاولات الشروع في القتل، فهل تصبح مبادرة منع الجريمة قبل وقوعها مبررة وقتها؟ (تخيَّل نوعًا من العقاب أقل قسوةً من «الهالة».)
-
أتوجد طريقة تُمكِّننا من فهم رؤى العرَّافين فهمًا فلسفيًّا؟
-
ما أوجه التشابُه بين أنواع القدرية الثلاثة التي وصفناها في هذا الفصل؛ القدرية الميتافيزيقية والقدرية اللاهوتية والحتمية السببية؟ وهل تتساوى في قدرتها على تقويض الإرادة الحرة؟
-
كثيرًا ما تُعَد سببية الفاعل موضع شكٍّ فلسفي، لماذا؟ ما الفرص المتاحة لنظريةٍ غير توافقية للإرادة الحرة لا تُسلِّم بسببية الفاعل؟ هذا النوع من النظريات يقع فريسةً لمشكلة الحظ. أهي حقًّا مشكلة؟ أمن الممكن التغلب عليها؟
-
تواجه النظريات التوافقية للإرادة الحرة المشكلة التالية. إذا كان قراري راجعًا إلى أحداثٍ ماضية، وإذا لم يكن لي خيار في تلك الأحداث الماضية (وفقًا للرؤية الحتمية السببية، يمتد تسلسل الأحداث المؤدِّي إلى القرار إلى الماضي البعيد قبل ولادتي)، فإنه لم يكن لديَّ اختيار في القرار. كيف يمكن القول بأنني كنت حرًّا في قراري بينما لم يكن لديَّ خيار آخر سوى اتخاذ هذا القرار؟ أهذه حجة منطقية؟ أيوجد سبيل للالتفاف حولها؟
-
هل التحكم التنظيمي ضروري لوقوع المسئولية الأخلاقية؟ لقد عرضنا حجتين تزعمان أنه غير ضروري. تتضمَّن الحجة الأولى التي طرحها فرانكفورت حالاتٍ يبدو فيها أن المرء مسئول عن خياراته حتى وإن لم يكن بوسعه الاختيار على نحوٍ مخالف. وأما الحجة الأخرى فتناشد البديهيات التي أطلق لها الفيلمُ العِنان. لقد انتقدنا حجة فرانكفورت، لكننا قدَّمنا دعمًا مستحقًّا للحجة المستندة إلى الفيلم. هل تتفوق حقًّا الحجة المستندة إلى الفيلم على حجة فرانكفورت؟ هل البديهيات التي يثيرها الفيلم واضحة بما يكفي لدعم استنتاج فرانكفورت؟ هل تعرَّضت تلك البديهيات للتلاعب والتشويه عبر قصة الفيلم أو بالطريقة التي صُوِّرت بها؟
-
هل يوفر الفيلم دعمًا بديهيًّا لفكرة كون التحكم التنظيمي شرطًا لامتلاك إرادة حرة حقيقية؟ كيف يستطيع فيلم سينمائي تحقيق ذلك؟ ما مخاطر استنباط بديهيات من الأفلام على هذا النحو؟