مشهد الرعب: «ألعاب مسلية»
مقدمة
يعتمد نوع مهم من أفلام الرعب على الرعب النفسي بدلًا من عرض صور الأذى الجسدي المنفِّر. فتجسيد القسوة الوحشية أو خطر وقوعها — وهو أسلوب يلعب على الإذلال المستمر واحتمالية الانتهاك الحاضرة دومًا — يثير أعصاب المشاهدين ومشاعر الكَرب لديهم، ويُرسل القشعريرة في أجسادهم، أو يُجمد الدم في العروق كما نقول أحيانًا. الأفلام التي تركز على توليد رد الفعل العاطفي هذا تُدعى في بعض الأحيان «أفلام القشعريرة»، والفيلم الذي نناقشه هنا ينتمي لهذا النوع، وهو «ألعاب مسلية» (فاني جيميز) للمخرج النمساوي مايكل هانيكه، وتوجد نسختان متشابهتان على نحو وثيق منه: نسخة نمساوية أُنتجت عام ١٩٩٧ (باللغة الألمانية)، ونسخة أمريكية أُنتجت عام ٢٠٠٧ (باللغة الإنجليزية). وباستثناء اللغة المستخدَمة والممثلين، فإن نسخة عام ٢٠٠٧ هي إعادة إنتاج لنسخة عام ١٩٩٧ بالمَشاهد نفسها دون تغيير؛ ومن ثَمَّ فإن ما سنقوله عن «ألعاب مسلية» يغطي النسختين، على الرغم من أن توقيتات المَشاهد التي سنتحدث عنها تشير إلى نسخة عام ٢٠٠٧. (يختلف الفيلمان اختلافًا هامشيًّا في هذا السياق.) في القسم الأخير من هذا الفصل، سوف نُجيب عن السؤال حول السبب الذي دفع هانيكه إلى إعادة إنتاج الفيلم باللغة الإنجليزية، وحول هدفه من صنع الفيلم من الأساس.
متع الرعب الفني
الرعب الفني هو رعب يُنتجه الفن مثل الأدب أو المسرح أو السينما أو الموسيقى أو الرسم وغير ذلك من الفنون المرئية. نحن بالطبع نهتم بتجرِبة الرعب الفني في السينما وتفسير جاذبيته، ونظرًا لعجزنا عن تغطية جميع الاستراتيجيات التفسيرية الممكنة في هذا المجال، أو إيفاء أي منها حقها، فإننا سنستعرض عوضًا عن ذلك ثلاث استراتيجيات تفسيرية: التفسير الفيسيولوجي، والتفسير التحليلي النفسي، والتفسير المعرفي الذي يطرحه نويل كارول. فلنتناول أولًا السمة الفيسيولوجية في استجابة الرعب. عندما تعترينا استجابة الرعب في السينما نشعر بدفقة من الأدرينالين في عروقنا. ولإفراز الأدرينالين تأثيرات فيسيولوجية معينة؛ مثل زيادة معدل ضربات القلب، وتمدد الممرات الهوائية، وإطلاق الجهاز العصبي السمبتاوي لرد فعل الكَر أو الفَر، وغير ذلك. ويحفز إفراز الأدرينالين المفرط نوبة ذعر، لكن استجابة الرعب الفني تتضمن على ما يبدو مستويات معتدلة فحسب من إفراز الأدرينالين، ويبدو أن كثيرًا من الناس يستمتعون بنتائج ذلك. وقد لا يرجع هذا إلى تأثيرات الأدرينالين في حد ذاتها، بل إلى إفراز متزامن للأندروفين، وهو نوع من الناقلات العصبية أفيونية المفعول. ربما يكون إفراز الأندروفين هو سبب استجابات المتعة المعتادة عند التعرض للرعب الفني، لكن ذلك مجرد تكهن. (نحن لا نهتم ها هنا بالتفاصيل الفيسيولوجية.) ما بوسعنا التأكد منه هو أن تجرِبة الرعب الفني تختلف عن تجرِبة الرعب الفعلي في كلٍّ من تكوينها وتأثيراتها. الرعب الفعلي غالبًا ما يكون موهِنًا للعزيمة ومفجِعًا ومحدثًا صدمات، وقد يتسبب أحيانًا في أعراض خطيرة طويلة الأمد. على العكس من ذلك، عندما ينجح الرعب الفني بوصفه مصدرًا للمتعة، فإنه لا يتضمن أيًّا من تلك التأثيرات السلبية. وإدراك المشاهدين في خلفية عقولهم أن ما يشهدونه غير حقيقي وانفصالهم عنه يغيران على ما يبدو من الاستجابة الفيسيولوجية لتجرِبة الرعب الفني، ويمنعان الاستجابات السلبية بالغة الخطورة حياله. ما يبقى على ما يبدو هو الرحلة المخيفة والصادمة التي في وسع المرء الاستمتاع بها فعليًّا.
التفسيرات التحليلية النفسية للرعب تربط بين الإجابات المقدمة لهذين السؤالين. حسب تلك التفسيرات نحن نستمتع بالشعور بالانزعاج لأن مشهد الرعب يعني شيئًا بالنسبة لنا، على الأقل على مستوًى غير واعٍ أو ضمني، ونحن نستجيب له وفقًا لمعناه. بعبارة أخرى، غامضة بعض الشيء ولا ترضينا بعدُ، يتفاعل معنى المشهد بشكلٍ ما مع كبتنا لرغباتنا. وهو ما يحدث عبر عدد لا حصر له من الطرق. تتعدد التفسيرات التحليلية النفسية لجاذبية الرعب وتتنوع، وهي عادةً ما تختلف من فيلم لآخر ومن مشاهِد لآخر. رغم ذلك، فالشكل الأبرز من التفسيرات التحليلية النفسية يربط متعة الشعور بالرعب بما يُطلق عليه «صعود المكبوت». وفقًا لنظرية التحليل النفسي، يكبت الأفراد رغبات (ذات طبيعة منحرفة غالبًا لكن ليس دائمًا) ويستمدون نوعًا من المتعة عندما تُشبَع الرغبات المكبوتة في الخيال. وكما في حالة العصاب الحاد، فإن الإشباع الخيالي لرغبة مكبوتة هو إشباع «تعويضي»، فهو بديل لشيء لم يحدث قطُّ، لكن المرء، على مستوًى ما وبطريقة ما، تمنى لو أنه كان قد حدث. نحن نستمتع بتحقيق رغباتنا المكبوتة أو بمشاهدة آخرين وهم يُشبعون رغباتنا المكبوتة نيابة عنا، ما دمنا قد تجنبنا عبء الإقرار بأن ذلك هو ما نفعله. يتضح هنا تحديدًا التأثيرُ الفعَّال للرعب الفني. يصف نويل كارول (١٩٩٠: ١٧٠) هذه العملية فيما يلي (وهو مجرد وصف؛ كما سنرى بعد قليل يطرح كارول تفسيره الخاص البعيد عن التحليل النفسي لجاذبية الرعب):
يُفرط كارول نسبيًّا في تبسيط التفسيرات التحليلية النفسية للسبل التي لا بد من خلالها استمالة «الرقيب الداخلي» كي نستطيع نحن الاستمتاع بمشهد الرعب. لا بد من توفر بضعة أشياء كي نتمكن من التغلب على ميلنا للرفض التلقائي لظهور الأمنيات المنبوذة لا شعوريًّا (دون أن نلاحظ حتى أن هذا هو ما نفعله). إن إشباع الرغبات المنبوذة لا بد أن يكون مستترًا بطريقة ما. من المفيد أن يكون لدينا القدرة على القول لأنفسنا إن صور الرعب تزعجنا، وإننا لسنا مسئولين عنها، وإننا نجدها مثيرة للاشمئزاز وكريهة (وهو ما نفعله حتمًا)؛ فذلك يتيح لنا التمتع بالمشهد تحت ستار الاعتقاد بأننا لا نستمتع حقًّا بمشهد الرعب في حد ذاته على الإطلاق. (ولسان حالنا هو «أنا أستمتع بشعور الذعر القوي في تلك الأفلام لكنى لا أستمتع بالمشاهد البشعة» أو «أنا أستمتع بشعور الذعر القوي في الأفلام، لكن الأجزاء البشعة عادةً ما تكون سخيفة وغريبة إلى حدٍّ مثير للضحك» … إلخ.) من المفيد أن يكون لدينا القدرة على إخبار أنفسنا أننا نلهو فحسب، وأننا نشاهد الفيلم لا لهدف سوى تجرِبة مشاعر الذعر القوية أو لأن القصة تجتذبنا، وأن مشاهدة فيلم رعب بين الحين والآخر هو جزء طبيعي من حياتنا المعاصرة. إن الطريقة المثلى لفهم استراتيجيات تمويه إشباع الرغبات المكبوتة هي رؤية ما يحدث عند إبطال مفعولها. وسنزعم فيما يلي أن ذلك هو ما يحدث تحديدًا في «ألعاب مسلية».
ثمة زعمان يكمنان في قلب التفسيرات التحليلية النفسية للمتع الناتجة عن مشاهدة الرعب: (١) وجود الرغبات المنحرفة (وهي ليست بالضرورة رغبات الفرد بكامل أجزائه، وبالتأكيد لا يُرجح كونها كذلك) و(٢) وجود آليات للرفض والتنصل لا نعي وجودها غالبًا، لكن في وسعنا الالتفاف حولها رغم ذلك. تعرض أفلام الرعب إشباع الرغبات المنحرفة بطرق تلتفُّ حول آليات الرفض والتنصل؛ ومن ثَم تصبح — عبر تجسيد إشباع تلك الرغبات المنحرفة — مصدرًا للمتعة لدى جمهورها. هذا الإشباع غير المباشر للرغبات المكبوتة هو مصدر المتعة، شريطة أن يتم ذلك وفقًا للشروط الصحيحة. وفي نظر الكثير من الناس، وفي كثير من المناسبات، تفي أفلام الرعب بهذه الشروط؛ ومن ثَم تهتم التفسيرات التحليلية النفسية للرعب بالرغبات المنحرفة بأشكالها المتنوعة، وتتناول بعين الفحص التلصصية والفتيشية والماسوشية والسادية؛ بهدف تصنيف العوامل التي تقدم لنا المتعة في الرعب الفني، رغمًا عن أنفسنا في أغلب الأحيان. وحقيقة أننا أحيانًا نحمل ميولًا سادية (كالانتقام مثلًا) تحظى بإشباع مؤقت على الشاشة لا ينبغي أن تُفاجئنا.
يكمن خلف التفسيرات التحليلية النفسية للرعب الفني اعتقادٌ بأن البشر «فاسدون في قلوبهم»، سواء بطبيعتهم أو نتيجة تنشئتهم، وبأن الرعب يتلاءم مع هذه السمة من الطبيعة البشرية. ويعمل هذا النوع الفني عمل القناة التي تُطلق الوحشية الكامنة داخل مستخدميها. إذا كان النموذج التفسيري قائمًا على فكرة التطهير، فتُعتبر هذه العملية حينئذٍ نافعة؛ أي بمثابة صمام أمان. وإذا كان قائمًا على الإفصاح والشرعنة، فيُنظر إلى النوع الفني في هذه الحالة على أنه يشجع المستهلكين في ممارسة سلوكهم المروع الخاص بهم. وفي كلتا الحالتين، تنبع جاذبية الرعب من مخاطبته للوحش المستتر داخل الإنسان المتحضر ظاهريًّا.
لكن التفسيرات التحليلية النفسية لا تُبرر في الواقع جاذبية الرعب من منظور «الوحش الذي بداخلنا». فنظرية التحليل النفسي لا تفترض أن البشر فاسدون حتى النخاع، ولا تحتاج إلى مثل تلك الرؤية كي تزعم أن «الرعب يخاطب الرغبات المكبوتة العميقة الجذور والواضحة من منظور التحليل النفسي» وأن هذا النوع الفني يعمل عمل قناة تختص ببعض أنواع التفريغ العاطفي. إذا كان الكبت يتناقض مع آداب السلوك فسنصبح جميعًا مُخلِّين بالآداب. لكن النظرية التحليلية النفسية تجاهد لتوضيح توافق الكبت والأنشطة العصابية الناتجة عنه إلى حدٍّ كبير مع مفهوم «الطبيعية» وآداب السلوك الأخلاقية. لا يوجد «وحش بداخلنا» لأن الرغبات المكبوتة ليست رغبات كاملة التطور لدى الفرد، بل هي مصادر للمتعة أو للإحباط داخله، لكن تلك مسألة أخرى مختلفة تمامًا.
تستند قصص الرعب على الكشف عن كائنات مستحيلة مجهولة ولا سبيل إلى معرفتها، كائنات غير معقولة ولا يمكن تصديقها، وغالبًا ما تتخذ شكل سرد يعتمد على الاكتشاف والأدلة؛ فالأشياء المجهولة مثل الوحوش هي بلا شك موضوعات تتطلب إثباتًا بطبيعة الحال. عندما نطبق تلك الملاحظات على مفارقة الرعب، نجدها تشير إلى أن المتعة المستمَدَّة من قصص الرعب ومنبع اهتمامنا بها يكمن، أولًا وأخيرًا، في عمليات الاكتشاف والإثبات والتأكيد التي غالبًا ما تتضمنها قصص الرعب … وقد يُرى التقزز الذي يبديه المشاهدون بوضوح جزءًا من الثمن الذي لا بد من دفعه لقاء متعة الكشف. بعبارة أخرى، التوقع السردي الذي يتبناه نوع الرعب هو أن الكائن الذي يتناول الفيلم مسألة وجوده سيتضح كونه شيئًا يتحدى التصنيفات الثقافية القائمة؛ ومن ثم يصبح التقزز ذاته — إذا جاز التعبير — أمرًا يفرضه بشكل أو بآخر نوع الفضول الذي يستخدمه سرد الرعب.
«ألعاب مسلية» جدًّا
أول ما يجدر الإشارة إليه فيما يتعلق ﺑ «ألعاب مسلية» هو كونه فيلمًا لا يتضمن الكثير من التسلية. ومن واقع خبرتنا، نادرًا ما يستمتع المشاهدون بالفيلم، قد يجدونه مشوقًا، لكنهم عادةً ما يرَوْنه غير ممتع على الإطلاق. بل إن البعض قد يغادر قاعة العرض قبل انتهائه. وكان الكثيرون سيحذون حذوهم لولا رغبتهم في الظهور بمظهر من يهتم بالفيلم اهتمامًا جدِّيًّا. إنه فيلم رعب واقعي تعمَّد مُخرجه تجريده بدقة من جميع المتع التقليدية التي تميز مشاهدة الرعب الفني؛ ما يجعله دراسة حالة مشوقة لتطبيق النظريات المتنافسة حول متع مشاهدة الرعب الفني.
يروي الفيلم قصة اقتحام منزل عائلة ثرية (تتكون من أم وأب وابنهما) وقتلها بينما تقضي إجازة نهاية الأسبوع في بيتها الريفي. لا يحاول الفيلم إثارة استجابة الخوف لدى الجمهور إلا في حالات قليلة نسبيًّا. (وباستثناء فاصل قصير عندما يهرب الابن الصبي إلى بيت الجيران، لا يتضمن الفيلم أي مشاهد لشخصيات تختبئ داخل الدواليب أو تنسلُّ بحذر عبر أروقة مظلمة.) رغم ذلك يحافظ بنجاح على مشاعر التوتر لدى مشاهديه عبر عوامل عدة، من بينها سلوك غريب من زائرين يبدون على قدر التهذيب، ولا تنفك تتزايد غرابة ذلك السلوك حتى ينفجر سلوكهم العنيف؛ ألعاب تعذيب لا تُطاق، تؤدَّى أمام كاميرا تعرض تفاصليها بقسوة لا ترحم؛ فرص الهرب تظهر وتتبدد بينما تؤجل جرائم القتل الموعودة على نحو لا يُطاق. يستثير الفيلم باستمرارٍ استجابة الرعب، لكنه لا يحقق ذلك عبر أيِّ تجسيد وحشي لمذابح دموية، بل تنبع استجابة الرعب من الفزع الناتج عن البلطجة والترهيب والإذلال، عن تهديدات القتل التي يعبر عنها ببساطة ومرح، وعن جرائم القتل نفسها التي نسمعها ولا نراها. ربما كانت الصورة الأكثر ترويعًا في الفيلم هي التي تُجسِّد لعبة القطة في الحقيبة، حيث نرى رأس الصبي جورج مغطًّى بكيس الوسادة (الدقيقة ٤٤). (ذلك كل ما في الأمر، لكنه كافٍ ويبرز دقة صورة الرعب في أعمال هانيكه.) على مدار الفيلم نشاهد، في ذعرٍ لا ينفكُّ يتزايد، أفرادَ العائلة بينما يتعرضون للترهيب والإذلال والتعذيب في إطار «الألعاب المسلية»، ثم يُذبحون.
يُقتل الصبي أولًا، بعيدًا عن الكاميرا، ونشهد نحن صدمة والديه بتفصيل موجِع، يُجسِّدها الفيلم تجسيدًا مكثفًا لا يكاد يُحتمل، بينما يعرض جهاز التليفزيون شيئًا في خلفية المشهد. إنه يعرض سباق سيارات بضوضائه المتواصلة وتعليقه الممل (الدقائق من ٣ حتى ١٢ من الساعة الثانية). يُجسِّد المشهد كله الأم (آنا، آن) بينما تجلس مصدومة مقيدة اليدين والقدمين. لقد غادر القتلة (مؤقتًا)، تجلس آن في سكون تام، ثم تتمكن من الوقوف والقفز بصعوبة حتى تصل إلى التليفزيون وتغلقه، ثم تجاهد حتى تخرج من الغرفة، وتعود بعدما تخلصت من قيودها، وتساعد الأب على النهوض ثم مغادرة الغرفة. يستمر المشهد نحو تسع دقائق، وهي مدة طويلة إلى حدٍّ استثنائي بالنظر إلى الفعل الذي يصوره. وقد صُور بكاميرا ثابتة، وتظهر الغرفة في لقطة متوسطة، ولا يتضمن أي مونتاج، تدور الكاميرا قليلًا مرة واحدة فحسب، فيما عدا ذلك تظل ثابتة لا تتزحزح.
القاتلان الشابان، وهما وحشان واقعيان من الطراز الأول، مخلوقان يثيران الاهتمام؛ فهما مهذبان، يجيدان التحدث، وعادةً ما يتحدثان بهدوء. أحدهما يُدعى بول، وهو وسيم وفائق الذكاء، بينما يتظاهر الآخر — المدعو بيتر — بالغباء. إنهما مزيج يصعب وجوده من الشباب حَسني التربية والبلطجية والجلادين الساديين والقتلة الساعين وراء الإثارة. في مشهد محوري (الدقائق من ٣٧ حتى ٣٩ من الساعة الأولى)، يسخر بول من فكرة وجود أي تفسير لسلوكهما المضطرب نفسيًّا. ويذكر عابثًا مجموعة متنوعة من التفسيرات الملفقة؛ مثل عيش طفولة معذبة بسبب طلاق الأبوين، أو الترعرع في منزل فاسد، أو إدمان المخدرات. القاتلان هما كما يبدو: قاسيان على نحو يَتعذَّر تفسيرُه، يستمتعان بما يمارسانِه من ترهيب، وبالألعاب التي يمارسانِها، دون أدنى تردد. إنهما يستمتعان على ما يبدو بالترهيب أكثر من استمتاعهما بالقتل؛ إذ يرتكبان جريمة القتل الأخيرة (الدقيقة ٤٠ من الساعة الثانية) على نحو روتيني للغاية دون اكتراث تقريبًا.
وفي مقابل الألعاب المسلية التي يمارسها القاتلان يلعب المخرج، مايكل هانيكه، بدوره ألعابًا مع المشاهدين. ثمة نوعان من الألعاب؛ هما التلاعب المثير للأعصاب بالتوقعات المرتبطة بهذا النوع السينمائي، إلى جانب إشعار المشاهدين بالتواطؤ مع الأحداث. فلنتأمل الأساليب التي يوظفها الفيلم لتحدي التوقعات المرتبطة بنوع الرعب السينمائي؛ أولًا: الأحداث التوضيحية المحورية لا تصورها الكاميرا، أو تصورها على نحو روتيني. فجرائم القتل كلها — باستثناء الأخيرة — تحدث خارج الكادر، والجريمة الأخيرة، إغراق آنا في الخليج، تُؤدَّى على نحو يجردها تمامًا من أي أهمية، فهي ليست سوى نهاية اللعبة، لا الهدف منها (الدقيقة ٤٠ من الساعة الثانية). ثانيًا: لا يوجد ناجون في الفيلم، فلا ينجو في نهايته فتاة أو رجل أو امرأة أو صبي. (في عام ١٩٩٧ جسدت هذه التقنية تحدِّيًا لقواعد هذا النوع السينمائي أكثر مما أصبحت عليه بعد عشر سنوات.) ثالثًا: صورت الأحداث بأسلوب متقشف وصارم، «الأسلوب الفني الأوروبي»، لا يمت بصلة لأسلوب الرعب المعتاد. يتضمن هذا الأسلوب عندما يستخدمه هانيكه غيابًا تامًّا للموسيقى التصويرية (باستثناء الدوِيِّ الصاخب لأغنية جون زورن «الأحمق والمدمر» المصاحبة لتترات بداية الفيلم ونهايته). هذا بالإضافة إلى توظيفٍ للَّقطات الطويلة جدًّا، معظمها لقطات متوسطة، وتقليل المونتاج إلى الحد الأدنى مع تحرك محدود جدًّا للكاميرا. توظف معظم أفلام الرعب آليات أكثر تعقيدًا بكثير من المونتاج وحركة الكاميرا، تميل تأثيراتها إلى إغواء الجمهور نحو الاستسلام لتجرِبة مشاهدة مريحة. لكن الأسلوب المتقشف الذي يفضِّله هانيكه يميل إلى توليد مشاهدة أكثر قابلية للتأمل عبر منح المشاهدين فيضًا من الفرص داخل المَشاهد لملاحظة رد فعلهم على الأحداث وتأمله؛ ومن ثَمَّ لا ينسى المتفرج نفسه بينما يشاهد فيلمًا صُور بهذا الأسلوب، وذلك — إلى حدٍّ كبير — جزء من استراتيجية هانيكه الفنية.
تتجلى استراتيجية هانيكه في المشهد الذُّرْوي بالقرب من نهاية الفيلم، والذي يُجسِّد أسلوبًا رابعًا يستخدمه لنبذ الأعراف السائدة فيما يتعلق بالرعب. فيتخلى الفيلم عن نهجه الواقعي كليًّا في هذا المشهد. في الدقيقة ٣٥ من الساعة الثانية تتمكن آنا من الاستحواذ على بندقية الرش وإطلاق النار على بيتر، ونرى جسده يطير إلى الخلف مُصطدمًا بالحائط، ويسقط غارقًا في دمائه. يندفع بول إثر ذلك في ذعر بحثًا عن جهاز التحكم في التليفزيون عن بُعد، ويضغط على زر الإرجاع، فنرى أحداث الفيلم ذاته ترجع إلى الخلف أمام أعيننا حتى تتوقف عند مشهد يسبق إطلاق النار مباشرةً، وعند تلك اللحظة يضغط بول على زر التشغيل وتُستأنف الأحداث. وعندما تحاول آنا انتزاع البندقية تُجهَض محاولتها بسهولة (فبول يعرف ما سيحدث). ما مغزى هذا المشهد؟ يحاول هانيكه إثارة سخط مشاهدي الفيلم (في حال تبقى أحد منهم) عبر الإثبات بطرق لا تقبل الشك أن الأحداث — بما تتضمنه من ألعاب سادية وإذلال وقتل — قد أُعدت سينمائيًّا من أجل ما تبعث عليه من متعة وتسلية.
الهدف هنا هو تفتيح أعين المشاهدين على حقيقة أنهم يشاهدون عرضًا شائهًا مقززًا للعنف لا لغرض سوى التسلية، وأنهم متواطئون فيما يُعرض على الشاشة من عنف لأنه قد صُور لأجلهم. إن الفيلم هو اتهام موجه للجمهور (سوف نتناول هذه الفكرة الرئيسية في الجزء التالي). ويشدد الفيلم على تواطئنا كجمهور من خلال النوع الآخر من الألعاب التي يمارسها هانيكه معنا؛ إذ يخرق قالب الدراما الواقعية عبر جعل بول يخاطب الكاميرا في أجزاء متعددة. في الدقيقة ٢٩ يوجه بول آنا نحو اكتشاف جثة كلب العائلة، رولفي، الذي قتله بيتر. يلعب بيتر مع آنا لعبة الأطفال «العثور على الغرض المخبأ»، وفي اللحظة التي تصبح فيها «على وشك إيجاده» يلتفت بول ناحية الكاميرا ويغمز بعينيه. في البداية يساورنا الشك فيما رأيناه، لكنه يبدو وكأنه يغمز لنا، إذن نحن مشاركون في اللعبة. في الدقيقة ٤٠، يخاطب بول الكاميرا مباشرة. لقد عقد لتوِّه رهنًا (من جانب واحد) مع العائلة؛ هو يراهن على أنهم سيغادرون الحياة قبل حلول الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي، وعليهم المراهنة على أنهم سينجون. في هذه اللحظة يلتفت إلى الكاميرا قائلًا: «ما رأيكم؟ أتظنون أن أمامهم فرصة؟ أنتم تدعمونهم، أليس كذلك؟ على من تراهنون؟» (الدقيقة ٤٠)
وبالقرب من نهاية الفيلم، ينزع بول الكمامة من فم آنا، مخاطبًا الجمهور على نحو غير مباشر: «من الممل أن تعاني وهي بكماء، نحن نرغب في تسلية جمهورنا، أليس كذلك؟ نريد أن نُريهم ما نقدر على فعله» (الدقيقة ٢٨ من الساعة الثانية).
تخرق هذه النماذج من مخاطبة الكاميرا ما يُطلق عليه عادةً «الحائط الرابع»؛ إذ تعامل المشاهدين كما لو كانوا حاضرين داخل الأحداث، لا مختبئين في أمان داخل قاعة السينما المظلمة. وهي تدمر الراحة التلصصية للمشاهدة السينمائية عبر جعلنا واعين بما نمارسه من تلصص شَبَقي. يستخدم هانيكه هذه التقنية استخدامًا فعالًا لأنه استخدام محدود؛ إذ يقتصر استخدامها على أربعة مواقف فحسبُ، إذا احتسبنا الاستخدام غير المباشر في الدقيقة ٢٨ من الساعة الثانية. الاستخدام المفرط لهذه التقنية كان سيجعل الجمهور يفصلون بين تجرِبة مشاهدة «ألعاب مسلية» وتجرِبة مشاهدة الرعب الواقعي عمومًا. وفي تلك الحالة من المرجح أن يستقبل الجمهور الفيلم باعتباره فيلمًا فنيًّا غريبًا لا يكاد يمتُّ لتجرِبة المشاهدة السينمائية المعتادة بصِلة. من المهم ملاحظة أن فيلم هانيكه، على الرغم من كل ما يشتمل عليه من خروقات لقواعد الرعب الواقعي المتفق عليها، فإنه ينتمي بجدارة إلى نوع الرعب الواقعي بما أنه يروع جمهوره بهدف تشجيعهم على تأمُّل الرعب الواقعي كنوع فني. وهي مَهمة ينجح في تحقيقها دون شك. إنه يُعتبر درسًا لا يضاهَى في الحفاظ على توتر المشاهدين واستحضار استجابة رعب تجمد الدماء في عروقهم.
هل سينجح أيٌّ مما عرضناه من نظريات متنافسة حول متع الرعب الفني في تفسير نموذج «ألعاب مسلية»؟ سوف نطرح فيما يلي افتراضين حول الاستجابة المعتادة التي قد يبديها الجمهور حيال الفيلم. أولًا الفيلم مثير، ويحافظ على تشويقه السردي على الأقل حتى مشهد إرجاع الأحداث قرب نهايته (وهي المرحلة التي تُدمر فيها القصة عمدًا). قد يغادر الناس قاعة السينما قبل هذا المشهد، لأسباب لا ترجع على الأرجح إلى مَللهم منه. ثانيًا مشاهدة الفيلم تجرِبة كريهة حقًّا على الأقل منذ الدقيقة ٤٤ فصاعدًا (أي بدءًا من مشهد لعبة القطة في الحقيبة). وحتى من منظور هواة أفلام الرعب المخضرمين، من الصعب الشعور بأي متعة حقيقية من مشاهدة الفيلم عقب هذه المرحلة، رغمًا عن كونه مثيرًا إلى أقصى حد، بطريقته البغيضة المنفرة. إذا كان هذان الافتراضان صحيحين، فنظرية كارول السردية، بما أضفنا عليها من تطورات، تواجه مشكلة حقيقية. فها نحن نواجه فيلمًا يشتمل على جميع المكونات السردية اللازمة لصنع فيلم رعب واقعي من الطراز الأول؛ إذ يحوي وحوشًا واقعية تعكس مزيجًا مشوقًا ومحيرًا من الطبائع الإنسانية والحيوانية، وراويًا متمكنًا يقينًا من الحفاظ على تشويق الفيلم؛ أي الحاجة القوية لمعرفة ما سيحدث بعد ذلك. يحقق الفيلم نجاحًا استثنائيًّا على المستوى السردي طوال مدته تقريبًا، لكنه يُخفق في توليد المتع المتوقعة من مشاهدة الرعب الفني. بل يخرِّب تلك المتع. والاستنتاج الجلي الذي نستخلصه من هذا النموذج هو أن المتع الأساسية للرعب الفني لا تكمن في الواقع في التلقي المعرفي للسرد.
ماذا فعل الفيلم إذن كي يحرم جمهوره من متع الرعب الفني؟ ربما يمدنا الإطار التحليلي النفسي بإجابة عن ذلك. تذكَّر أنه وفقًا لهذا الإطار يتطلب صعود المكبوت إلى السطح نمطًا من المشاهدة يُخفي الطبيعة الحقيقية لتجارِب الإشباع المنحرفة التي يخوضها المشاهدون؛ ومن ثَم يسمح لهم باكتساب المتعة من تلك التجارِب. لكن «ألعاب مسلية» يحرم مشاهديه من سبل التمتع بمشاهدة الرعب. ويحقق هذا عبر طريقتين أساسيتين. أولًا يجعل الفيلم المشاهدين، في عدة نقاط محورية، واعين وعيًا ذاتيًّا بما يمارسونه من مشاهدة متلصصة شبقة. ويعامل الجمهور كما لو كان جزءًا من الأحداث، ومن خلال ذلك يمحو إحساس الراحة الناتج عن نسيان المُشاهِد لنفسه في خضم سلسلة من التجسيدات المصورة التي «تحيط» به. يجبر الفيلم المشاهدين على الإحساس بأنهم متواطئون فيما يحدث لأنه يوضح لهم بما لا يدع مجالًا للشك أن تلك الأحداث قد رُتبت من أجل إمتاعهم. ثانيًا: يحرمهم من جميع المتع المرتبطة بهذا النوع الفني عبر عرض عواقب العنف عرضًا دقيقًا وقويًّا وباردًا. ويُجسِّد المشهد التالي لحادث قتل الصبي، الذي ناقشناه بالأعلى، أوضح نموذج على ذلك (الدقائق من ٣ إلى ١٢ في الساعة الثانية). أي فيلم رعب عادي كان سينتقل سريعًا إلى الأحداث التالية بعد تصوير جريمة كتلك. لكن هانيكه يجعلنا نشاهد رد فعل الأبوين المصدومين لمدة طويلة إلى حدٍّ مروع. والمشهد نفسه واقعي لدرجة لا تُطاق؛ ومن ثَمَّ، يتسبب قتل الطفل في كسر الميثاق الخفي لحالات الموت في أفلام الرعب، والذي ينص على أنها ليست أحداثًا مفجعة، بل أحداثًا في عالم خيالي، عالم يُسمح للخيالات فيه بأن تتحقق دون تدخل الواقع. يلجأ هانيكه كذلك إلى طرق أخرى لحرمان جمهوره من متع هذا النوع السينمائي. فسلبية العائلة — لا سيما الأب الكسيح، جورج، الذي كسر القتلة ساقه — تحرم الجمهور من فرصة التوحد معهم بقوة؛ ومن ثَم يصبح من الصعب عليهم الحفاظ على إحساس التوحد الماسوشي، وهو أحد أكثر مصادر المتعة التي يعوَّل عليها في مجال مشاهدة الرعب. لكن سلبية العائلة لا تعبر عن أي نوع من أنواع التواطؤ مع الاعتداء الواقع عليها؛ فأفرادها يتعرضون عراةً للتعذيب، ويُحرمون من الموارد التي تمكِّنهم من المشاركة الحقيقية في الألعاب، ما يصعب على الجمهور أن يستمتعوا بإظهار البراعة السادية لدى القتلة. فلتقارن على سبيل المثال «ألعاب مسلية» بسلسلة أفلام «الأحجية» (سو). على مدار سلسلة الأفلام تلك، نجد ضحايا التعذيب ضالعين في تعديات أخلاقية، تكون خطيرة حقًّا في بعض الأحيان، ما يجيز لنا نوعًا ما من الاستمتاع بالمشاهد السادية التي تصور عذابهم. (بالطبع قد يكون ذلك هو سر النجاح التجاري الملحوظ لأفلام «الأحجية»، على الرغم من انخفاض جودتها عمومًا.)
إذا كان تحليلنا صائبًا، فسنجد أن منهجًا يعتمد على التحليل النفسي لمتع الرعب الفني لديه ما يلزم من موارد لتفسير ظاهرة مثل «ألعاب مسلية»، وهي موارد لا يتمتع بها المنهج المعرفي. بالطبع، في وسع المنهج المعرفي تفسير جزء ما من رد فعلنا على الفيلم، ألا وهو قدرة الفيلم على جذبنا وأسر اهتمامنا. لكن إذا كانت متع الرعب الفني هي متع سردية بالكامل، فلماذا لا تؤدي جاذبية الفيلم إلى متعة؟ فرغم كل شيء، فيلم هانيكه أكثر جذبًا بكثير على المستوى المعرفي مقارنة بالسياق المعتاد لأفلام الرعب الواقعي. لماذا لم يحقق فيلم هانيكه متعة تفوق متعة عروض الرعب الواقعية المعتادة، لماذا كان أقل إمتاعًا؟ قد يجادل أتباع المنهج المعرفي زاعمين أن متع الفيلم السردية غطى عليها ببساطة العرض السادي الذي يقدمه الفيلم. وقد يصرون على أن في وسع المرء إيجاد متعة في سرد رعب واقعي، لكن تلك المتعة لا بد أن تتنافس مع الاستياء الناتج عن مشاهدة مشاهد مخيفة ومقززة. في حالة «ألعاب مسلية»، فرصة المتعة السردية في منافسة الاستياء الناتج عن عرض هانيكه القاسي بلا هوادة للممارسات السادية شبه منعدمة. لكن السادية التي يعرضها هانيكه معتدلة جدًّا مقارنة بأفلام أخرى كثيرة من نفس الجنس، مثل فيلم «نُزُل» (هوستيل) (٢٠٠٦) و«نُزُل الجزء الثاني» (هوستيل بارت تو) (٢٠٠٧). وهي أفلام تتخصص (بنجاح غالبًا) في توليد المتعة من مادة سردية أقل إثارة للاهتمام بكثير مع استحضار أقوى كثيرًا لرد فعل الرعب لدى الجمهور.
ربما يردُّ أتباع المنهج المعرفي على حُجتنا بطريقة أخرى؛ ربما يزعمون أن متع الرعب السردية تتطلب أحيانًا أن «نأذن لأنفسنا» بالاستمتاع بالسرد، وعملية منح أنفسنا الإذن تشبه كثيرًا عملية إخفاء إشباع الرغبة المنحرفة. فنحن نستطيع الاستمتاع بفيلم مثل «صمت الحُمْلان» (سايلانس أوف ذا لامز) (١٩٩١) لأن في حوزتنا قصة ملفقة نُجيب بها عن التساؤل حول السبب الذي يجعل مشاهدة ذلك العرض المقزز أمرًا مقبولًا؛ إذ سنزعم عندئذٍ أن قصة الفيلم عظيمة (رائعة ومرعبة على حدٍّ سواء) وأن شخصية هانيبال ليكتر شخصية ذات سحر لا ينتهي. إلا أن فيلم هانيكه لا يمكن الاستمتاع به بهذه الطريقة، رغم ما يتسم به من تشويق؛ لأنه يحرمنا من إعطاء «الإذن» لأنفسنا بالاستمتاع بالقصة. فهانيكه يجعلنا نشعر بالتفاهة وبالعار من مشاهدتنا؛ ومن ثم نعجِز عن استخلاص متعة سردية من فيلم تحت هذه الظروف. ربما كان هذا هو السبب. لكن نوع المتعة السردية التي يعبر عنها كارول، المتعة المستمدة من إثارة فضولنا، لا يبدو أنها متعة آثمة تتطلب تبريرًا معقدًا. إذا كنا نرى الشابَّين المتوحشَين في الفيلم مثيرَين للاهتمام، وإذا كان هذا، وسيظل دومًا، هو المصدر الوحيد للمتعة أثناء مشاهدة الفيلم، فلماذا إذن نشعر بالتفاهة والعار؟ يوجه هانيكه انتباهنا إلى ما يراه تواطؤًا منا في العنف المصور، لكن لماذا ينبغي لنا الشعور بالذنب حيال ذلك إذا كان كل ما نفعله هو اكتساب متعة معرفية من القصة؟ إن تواطؤنا، إن وُجد، ليس تواطؤًا في إنتاج العنف في حد ذاته، لكنه تواطؤ في إنتاج تجسيدات العنف. (نحن لم نُضبط متلبسين ونحن نسترق النظر عبر ثقب الباب لمشاهدة أناس حقيقيين يُعذَّبون، بل كنا نشاهد فيلمًا أُنتج عبر إنشاء ديكورات وبمشاركة ممثلين وفريق عمل وفريق لإعداد الطعام ومدرب خاص للطفل في الفيلم.) ربما ينجح النقد الأخلاقي الذي يقدمه هانيكه وربما لا؛ لكنه إذا اعتُبر نهجًا يهدف لحرمان الجمهور من المتعة السردية الخاصة، فمن المستبعَد أن يحقق نجاحًا كبيرًا. إذا كانت القصة التي يقدمها هانيكه مثيرة للاهتمام، فسوف تثير اهتمام الجمهور. كيف يصبح اعتبارنا إياها مثيرة للاهتمام أمرًا يتطلب تعطيل «رقيب داخلي»؟ إذا كان هذا هو كل ما يدفعنا لمشاهدة الفيلم، فيمكننا بسهولة الرد على نقد هانيكه الضمني له قائلين: إذا كان السيد هانيكه يريد أن يتوقف الناس عن الاهتمام بتجسيدات العنف، فعليه إذن أن يتوقف عن صنع أفلام مثيرة للاهتمام، أو التوقف عن صنع أفلام عنيفة. لكن هانيكه حقق نتيجة مهمة بلا شك. إن الشيء الذي نملك مبررًا قويًّا حقًّا لإنكاره فيما يتعلق بخوضنا تجرِبة الرعب الفني هو مدى استمتاعنا بمشهد الرعب في حد ذاته. وما قام به هانيكه من استئصال جراحي للمتع المرتبطة بهذا النوع الفني والتي تمكِّن هذا النوع من الاستمتاع من المفترض ألا يُحدِث تأثيرًا يُذكر في المتع السردية كما يفهمها كارول. لكنه أحدث تأثيرًا. إن «ألعاب مسلية» يقدم ما هو أكثر من مجرد عرض قاسٍ لا يتوانى لسلوك سادي، بل يحرم مشاهديه على نحو منهجي من سبل التمتع بمشهد الرعب.
النقد الأخلاقي الذي يطرحه هانيكه
هل نجح نقد هانيكه وفقًا للأسس التي حددها؟ ذلك أمر مشكوك فيه. يفترض هانيكه أن جمهورًا يلج دار العرض عن وعي ليتسلَّى بمشاهدة فيلم يتضمن سيلًا من جرائم القتل المصطنعة، يشارك من زاوية ما في عملية الإنتاج الثقافي للجرائم المصطنعة، فإذا غاب الجمهور تختفي تلك المحاكاة، وتختفي الآلية الثقافية التي تدعمها. لكن في الجزء الذي اقتبسناه من الحوار مع هانيكه، نجده لا يتحدث عن قاتل خيالي أو قتل مصطنع، بل يتحدث عن قاتل وما يمارسه من عنف. هو يستخدم على ما يبدو لغة مراوغة في الحديث عن العنف وعن تمثيل هذا العنف. وربما يرى أن تمثيل العنف هو في حد ذاته نوع من العنف، لكن زعمًا قويًّا كهذا يحتاج إلى حُجة تدعمه.
أسئلة
-
هل فيلم «ألعاب مسلية» فيلم رعب؟
-
هل الرعب مزيج من الخوف والتقزز؟ هل من الممكن أن تتألف استجابة الرعب كليًّا من الخوف؟ هل يوجد عنصر معرفي لا غنًى عنه في تجرِبة الرعب؟ (هل لا بد أن يصدق المرء شيئًا ما حول موضوعات التجرِبة التي يمر بها كي يشعر بالرعب؟ ما هو هذا الشيء؟)
-
ما السمات التي تجعل الفيلم على درجة عالية من الغرابة؟ هل من الممكن أن تكون أفلام الرعب الواقعية غريبة، أم هل يقتصر هذا على الرعب الخارق للطبيعة؟
-
في هذا الفصل، زعمنا أن المشاعر السلبية ليست كريهة بالضرورة، بل هي كريهة عادةً أو في الأحوال الطبيعية. هل هذا صحيح؟ عندما تتعرض لصدمة في دار العرض، هل تستمتع بالصدمة نفسها أم بالآثار التالية لها مباشرة؟ هل من الممكن أن تمنح المشاعر السلبية متعة من خلال تأثيراتها أو عواقبها لا من خلال ذاتها؟ ما هي تأثيراتها وعواقبها؟
-
كيف يفسر المنظِّرون من أتباع المنهج التحليلي النفسي العملية التي من خلالها نسمح لأنفسنا بتلقي المتعة من الإشباع التلصصي الشبق للرغبات المكبوتة؟ ينبذ الفرد الرغبات المكبوتة ويتنصل منها؛ كيف تُقدم تلك الرغبات في السينما في شكل لا يلقى رفضًا أو إنكارًا؟
-
لقد زعمنا في هذا الفصل أن التفسيرات التحليلية النفسية للرعب لا تفترض مسبقًا مفهوم «الوحش الذي بداخلنا». لكن أليس ذلك تحديدًا ما تفترضه؟ إذا كنا نكبت الرغبات التي نجدها مرفوضة (لمبررات قوية حقًّا)، فلماذا إذن لا نرفض أنفسنا على مستوًى أعمق؟ هل ردُّنا في هذا الفصل، فيما يتعلق بهويتنا وعلاقتها باللاوعي، كافٍ لتجريد الزعم القائل بأن التحليل النفسي يُبرز «الوحش الذي بداخلنا» من فعاليته؟
-
هل ينجذب الناس إلى قصص الرعب لا لسبب سوى افتتانهم المعرفي بالوحوش (أو فضولهم حيالها)؟ هل كارول محق في قوله إن متع مشاهدة الرعب هي بالأساس متع سردية؟ أمن الممكن حقًّا الحفاظ على اتساق هذه الرؤية على الرغم من تفاهة القصص والتكرار الذي نجده في الكثير من أفلام الرعب؟
-
أكنا على حق في زعمنا بأن فيلم «ألعاب مسلية» يستأصل جراحيًّا المتع المعتادة لمشاهدة الرعب؟ قارن فيلم «ألعاب مسلية» بغيره من أفلام الرعب الواقعي. ما سبب كون الأفلام الأخرى أكثر إمتاعًا (بالنسبة لهواه الرعب التقليديين) منه؟
-
استخدمنا فيلم «ألعاب مسلية» لنقد نظرية كارول حول متع مشاهدة الرعب. زعمنا أن الفيلم يحافظ على المتع السردية حتى النهاية تقريبًا، لكن المُشاهد لا يستمد في المعتاد متعةً سردية من الفيلم. وهو يُجسِّد قصة من المفترض أن نستمتع بها إذا كنا نستمتع بقصص الرعب الواقعي من الأساس، لكننا لا نستمتع. تقدم الرؤى التحليلية النفسية تفسيرًا أكثر إقناعًا لهذا الوضع مقارنة بتفسير كارول المعرفي. هل تصلح هذه الحجة؟ هل يوجد رد مقنع نسوقه نيابة عن كارول؟ «ألعاب مسلية» ليس سوى فيلم واحد، فلماذا نُحمِّل فيلمًا واحدًا عبء كل هذا الجدل؟
-
هل يوجد إثم أخلاقيٌّ ما يرتبط بمشاهدة أفلام الرعب؟ (لا يتعرض أحد للإيذاء أو الإذلال حقًّا في تلك الأفلام، بل هم ممثلون يؤدون أدورًا تمثيلية؛ وغالبًا ما يستمتع أفراد بصنع تلك الأفلام، ويستمتعون بجني أموال منها.)