القسم الأول: طريق العقل
الفصل الأول: خطة السير
-
(١)
لا بد من إطار يجمع الأشتات.
-
(٢)
العقل طريق من عدة طرق. طريق العقل يتميز بتسلسل خطواته المؤدِّية إلى الهدف المقصود. ما كل سلوك إنساني على هذا النمط الهادف. تتميز الوقفة العقلية بأنها مقيَّدة بالروابط السببية، أما الوقفة العاطفية فتختار ما هو محبَّب إلى النفس. ليس الإنسان مسيَّرًا بالعقل وحده، اللهم إلا في استثناء مثل سقراط. حدوث الصراع بين العقل والهوى. الناس صنفان: من يغلب عليه العقل ومن تغلب عليه العاطفة.
-
(٣)
طريقنا في هذا الكتاب هو اختيار الجانب العقلي وحده من تراثنا الفكري. وصلُ الحاضر بالماضي لا يتحقق إلا عن طريق الجانب العاقل. العاطفة قد تتعلق في عصر بما لا تتعلق به في عصر آخر. طريق العقل الذي اخترناه ليس هو الأشكال المنطقية المجردة، بل هو المواقف الفعلية في حالات نبضها، والتي عالجها السلف بمنطق العقل لا باندفاع العاطفة. الإدراك السليم في حل المشكلات ليس كله أقيسة أرسطية، الإدراك السليم قد يأتي عفوًا، وقد يكون إدراكًا بالبصيرة اللامحة. فرقٌ بعيد بين رَجلين: أحدهما يُطمئن نفسه بالخرافة، وثانيهما يلتمس سند العقل؛ في التراث العربي هذا الصنفان من الرجال، وسنُعنى بالصنف الثاني منهما دون الأول.
-
(٤)
آية النور وتأويل الإمام الغزالي لها تصلح لهدايتنا في خطوات السير. في هذه الآية وصف لدرجات الإدراك السليم، وقد تكون هي الدرجات التي يتم بها النمو العقلي في الفرد وفي الجماعة. متابعة تراثنا الفكري على هدى هذه الدرجات، فلكل درجة منها عصر تمثَّلت فيه.
«النور» هو قوة الإدراك، وأول درجات الإدراك حسٌّ بالحواس، وتلك هي المرموز لها في الآية بالمشكاة، داخل المشكاة مصباح يرمز إلى العقل الذي يُدرِك المعاني من وراء المحسوسات، يُساعِد العقل في إدراكه قوة الخيال، وهي التي ترمز إليها الآية بالزجاجة المُحيطة بالمصباح. المصدر الذي يَستمد منه الخيال قوته «شجرة مباركة» ترمز إلى الروح الفكري الذي يؤلِّف بين العلوم العقلية، وإلا بقيت المعلومات أشتاتًا لا تنفع. الشجرة المباركة هي بمثابة «المبدأ» الذي يهتدي به السالك، ليست الشجرة المباركة بحاجة إلى مصدر سواها تستمد منه القوة؛ فهي مضيئة بزيتها، كأنما قصد بها الإدراك بالبصيرة النافذة، فهو وحي من الله.
تُرى هل تكون هذه الدرجات هي نفسها مراحل التطور الفكري في ثقافة بأسرها؟ فعصورٌ ثقافتُها أسطورية، تبعتها عصورٌ ثقافتها عقلية، ثم جاءت عصورٌ ثقافتها وحي من الله؟ ثم أتكون هذه نفسها مراحل النضج في الثقافة العربية؟ إذا صح ذلك التمسنا طريق العقل في خواطر البداهة أولًا، وفي محاجَّات المنطق ثانيًا، وفي حدس الصوفية ثالثًا؛ الأولى وفرة في الحصاد، والثانية تنظيم لذلك الحصاد، والثالثة تأمُّل فيما يُجاوِزه ويعلوه.
-
(٥)
مراحل النمو العقلي كما يراها «وايتهد» — الفيلسوف البريطاني المعاصر — في كتابه «أهداف التربية»، المراحل عنده ثلاثة؛ ففي الأولى يتميَّز الطفل بعفويَّته، وفي الثانية يضع القواعد التي تنظِّم له حصاد المرحلة الأولى، وفي الثالثة يجمع أشتات القواعد تحت مبادئ أكثر تجريدًا وتعميمًا.
الشَّبه واضحٌ بين تقسيم الغزالي (في تأويله لآية النور) وتقسيم وايتهد؛ في الحالتَين يبدأ الإدراك عفو البديهة، ثم ينتقل إلى التنظيم بالقواعد، ثم إلى إدراك المبادئ الأعم؛ ويُضيف الغزالي بعد ذلك مرحلة موجَّهة بقوة الإلهام. سأجعل هذه المراحل نفسها خطواتِ سَيري في هذا الكتاب: في المرحلة الأولى (القرن السابع الميلادي — الأول الهجري) ومضات عفوية خلاقة، وفي المرحلة الثانية (القرنان الثامن والتاسع في التاريخ الميلادي) تنظيم وتقسيم وتأصيل للقواعد، وجاء القرن العاشر ليعلو من القواعد إلى المبادئ، ثم جاء القرن الحادي عشر ليلتمس الحق في حدس المتصوفة.
الفصل الثاني: مشكاة البديهة
-
(٦)
ليست وقفتي وقفة العالم الذي يُحلل، بل هي وقفة الأديب الذي ينطبع بما يُحِس، هي وقفة أقرب إلى طريقة هوسرل منها إلى طريقة ديكارت أو هيوم. للكتابة عن الماضي طريقتان: إحداهما أن ينظر المؤرِّخ للعصر الذي يؤرِّخ له بأعيُن أبنائه ومن خلال ظروفه، والأخرى أن ينظر إليه بعين عصره هو ليرى ماذا يصلح للبقاء وماذا فقد صلاحيته؛ ولقد اخترنا الطريقة الثانية في النظر إلى تراث الأقدمين.
-
(٧)
وقفة عند المعركة التي نشبت بين علي ومعاوية. هنا مثال للإدراك الفطري المباشر، وهو إدراك المرحلة الأولى من مراحل التطور، هو موقف امتزج فيه أدب وفلسفة وفروسية وسياسة؛ فالسياسي هنا أديب والأديب فيلسوف والفيلسوف ينتزع حكمته بالبصيرة الصافية والسيف في يده وعنان جواده في قبضته. الإمام علي شاهدٌ على اجتماع هذه الجوانب كلها في رجل واحد. مختارات من أقواله في «نهج البلاغة». موضوعات فلسفية تُصاغ في عبارة أدبية. التمييز بين الفلسفة والحكمة. الفن الأدبي في نهج البلاغة أشبَهُ بفن النحت الذي يشكِّل الجلمود ليبقى على الدهر. هل جاء البناء اللفظي أقوى من المعنى الذي يحمله؟ مثلٌ مِن خطبته يوم بُويِع في المدينة. هذا مثلٌ يبيِّن الفرق بين ثقافة عصرهم وثقافة عصرنا؛ فموضع فخرهم عبارة قوية البنيان، وموضع فخرنا صيغة رياضية نُدير عليها الآلة.
-
(٨)
الصراع حول الخلافة بين علي ومعاوية: مشهد يتجسد فيه تراثنا، اجتماع الفصاحة والشجاعة ودهاء السياسة، ظهور المذاهب السياسية لأول مرة، شعورنا نحن إزاء هذا المشهد المتشابك الخيوط بميل إلى هذا ونفور من ذاك معناه قبول لبعض التراث دون بعض، وجوب إحياء الجانب الصالح لنا وترك الجانب الآخر لدارسي التاريخ.
أتباع عثمان يرفضون مبايعة علي. أهل الشام يأبَون أن يُبايَع للمؤمنين أمير بعد عثمان إلا بعد أخذ القصاص من قاتليه. عليٌّ يرى أن لا مَفر من القتال مع معاوية، ومعاوية يُلزم عليًّا دم عثمان بدعوى أن عليًّا قد آوى القاتلين. عمرو بن العاص هو مستشار معاوية. معاوية يسعى لدنياه دون آخرته باعترافه. وقعة صفين من حيث هي تجسيد لنَواحٍ كثيرة من تراثنا الفكري. معاوية يتحكم في ماء الفرات ويُشير عليه مُشيروه أن يحبس الماء عن جنود علي ليموتوا عطشًا. تبادُل الرسل بين علي ومعاوية ونماذج من حوارهم الذي امتزج فيه أدب بسياسة. وصية أمير المؤمنين لجنوده مثلٌ أعلى في أخلاقية الحرب. معاوية وعمرو يعدلان عن القراع إلى الخداع. كيف وصف عليٌّ عمرو بن العاص في نهج البلاغة. رسول من معاوية يعرض على علي أن يقتسما بينهما العراق والشام؛ فيكون العراق لعلي والشام لمعاوية. رفض الاقتراح. عمرو يُشير على معاوية بأن يطلب الاحتكام إلى القرآن، «وهو أمر إن قبِلوه اختلفوا وإن ردُّوه اختلفوا.» أنصار معاوية يرفعون المصاحف على أطراف رماحهم مُطالبين بالاحتكام إلى الكتاب. وقوع الخلاف في صفوف علي.
-
(٩)
الناس يطلبون الموادعة وعليٌّ يخطب فيهم ليردهم إلى صواب. زهاء عشرين ألفًا من أصحابه يُطالبونه بالاحتكام إلى كتاب الله، كان هؤلاء أول «الخوارج». تحكيم القرآن يأخذ مجراه. أهل الشام يختارون عنهم ابن العاص، وأهل العراق يختارون عنهم أبا موسى الأشعري. لما قُرئت وثيقة الموادعة في صفوف علي، جاءت صيحات من جميع الأرجاء تقول: «لا حكم إلا لله.» الصائحون يعترفون بخطئهم حينما رضوا بالتحكيم، ويطلبون من علي أن يعترف بخطئه كذلك. هؤلاء هم الذين أصبحوا فيما بعدُ جماعة «الخوارج». لم يلبث الخوارج أن باتوا مذهبًا سياسيًّا له فروع. كيف خدع عمرو بن العاص زميله في التحكيم أبا موسى الأشعري، حتى أعلن هذا في الناس خلع علي عن إمرة المؤمنين، فقام ابن العاص وأثبت صاحبه معاوية في الخلافة؟
-
(١٠)
من خدعة التحكيم انبثقت دولة وتفجَّرت فلسفة سياسية. السؤال القائل: لمن يكون الحُكم؟ يطرحه الخوارج لأول مرة. الخوارج يضعون أصلح المبادئ في سياسة الحكم، لكن دعوتهم تذهب أدراج الرياح؛ من مبادئهم أن يكون الحكم للقادرين عليه لا للوارثين له عن آبائهم ولا للأقوياء ولا للأغنياء، ومن مبادئهم أيضًا ألا تكون فجوة بين العقيدة والعمل بناءً على تلك العقيدة، لكن موقف الخوارج مليء بالمتناقضات؛ قبِلوا التحكيم ثم صاحوا: «لا حكم إلا لله.» عليٌّ نفسه في عجَب مِن تناقضهم هذا. فظائع الخوارج مع من خالفهم في الرأي من المسلمين. قصتهم مع عبد الله بن خباب؛ يقتلون المسلم المختلف معهم في الرأي، ويتركون النصراني المختلف معهم في الرأي. قصة واصل بن عطاء إذ ادَّعى لهم أنه مُشرِك ليُخلوا سبيله. لو كان سلوك الخوارج صورة عصرهم لكان عصرًا طغى عليه اللاعقل. قصة علي مع أحد المنجِّمين ودلالتها على احتكام القول إلى عقولهم، فلا هي اللاعقلانية وحدها التي سادت ولا العقلانية وحدها.
-
(١١)
موقفنا من المشهد الذي صوَّرناه. تشابُه الناس في كل العصور من حيث الدهاء والمكر والحيلة، لا فرق بين أقدمين ومُحدَثين، لكن الطابع البارز هو اجتماع العناصر الكثيرة في رجل واحد، فيكون هو السياسي والفارس والأديب وصاحب الحكمة الخالدة. لقد احتوى مشهد صفِّين على أقطاب كثيرين، لكننا نختار من بينهم عليًّا ليكون مرآة عصره، ويكفي أنه أورثنا كتابًا — هو نهج البلاغة — نرى عقله على صفحاته، ومن هذا الكتاب نجد البرهان على أن الإدراك عندئذٍ كان موكولًا إلى الفطرة السليمة لا إلى التحليل والتعليل. لم تكن «الفكرة» عندئذٍ نظرية مجردة بقدر ما كانت أداة من أدوات العمل؛ ولذلك تشابكت الأفكار مع السيوف والجياد في نسيج واحد. نماذج من نهج البلاغة.
الفصل الثالث: مصباح العقل في مشكاة التجربة
-
(١٢)
رأينا في الصورة التي رسمناها لواقعة صفين؛ كيف كان أسلافنا يفكِّرون ويسلكون في المرحلة الأولى من مدارج طريقهم العقلي. أحكامهم عندئذٍ هي أحكام البديهة الفطرية حيث لا تكون الفكرة وليدة قراءة ودرس، ولا وليدة تأمُّل طويل في صورة مجردة نظرية، بل كانت الفكرة تأتي فور لحظتها لتردَّ على موقف طارئ. في المرحلة التالية أصبح الفكر تقعيدًا للقواعد وردًّا للتجارب الجزئية والخبرات المفردة إلى أحكام عامة، وذلك هو صميم المنهج العلمي، فالعلم بمنهجه لا بموضوعه؛ فالانتقال مع أسلافنا من القرن السابع الميلادي إلى القرن الثامن، هو انتقال من مرحلة التمرس الفعلي والمعاناة إلى مرحلة الإدراك العلمي في أولى درجاته. كان العرب يتكلمون لغتهم قبل ذلك بقرون، لكن قواعد اللغة لم تُضبَط إلا في القرن الثامن؛ وكان للعرب شعر ينظمونه، لكن تفاعيله وبحوره وأوزانه لم تتم صياغتها إلا في القرن الثامن. كانت المرحلة الأولى بمثابة المشكاة من مصادر النور، ومع القرن الثامن بدءوا مرحلة أخرى تُقابل المصباح في المشكاة.
-
(١٣)
المشكلات الفكرية تجيء نابضة بالحياة حين تنبت في تربة الحياة العملية نفسها. مشكلاتنا الفكرية اليوم مُصطنَعة؛ لأنها منقولة عن مفكرين في غير أرضنا. جمهور الناس اليوم لا يجد في مفكرينا مَن يحل لهم مشكلاتهم فيلجئون إلى الخرافات ومروِّجيها. مشكلات الفكر عند أسلافنا نبتت لهم من واقع حياتهم؛ من واقعتَي الجمل وصفين نشأت لهم مشكلة نظرية هي مشكلة الذنوب الكبيرة؛ ماذا يكون بالنسبة لمقترفيها؟ ففي كلتا الواقعتَين سُفكت دماء للمسلمين، ولا بد أن يكون أحد الفريقَين المتحاربَين — على الأقل — على خطأ؛ وإذن فالجانب المُخطئ منها مسئول عن تلك الدماء المسفوكة، فماذا يكون الحكم فيه: أيُظنُّ معدودًا من المؤمنين أم يُسلك في زمرة الكافرين؟ وسرعان ما انتقل البحث النظري إلى مشكلة أخرى تتفرع عن السابقة: مَن ذا يكون أحق بالخلافة؟ أي إن الفكر الفلسفي والفكر السياسي قد استثارهما ما حدث للناس في حياتهم العملية. رأينا في الفصل السابق كيف نبت «الخوارج» من أرض صفين، ومن واقعة الجمل نشأت مشكلة الخلافة؛ علي مع طلحة والزبير؛ فهذان تنكَّرا لبيعة علي بعد أن أقرَّاها، ذهبا معًا في صحبتهما عائشة نحو البصرة، وهنالك وقعت بينهم وبين علي موقعة «الجمل»؛ سُمِّيت كذلك لأن أم المؤمنين عائشة كانت في هودجها على ظهر جملها تُشارك في مقاتلة علي وصحبه. انتصار علي وصحبه. الفريقان يتبادلان السباب، مع أن أم المؤمنين في الفريق الأول، وعلي بكل مكانته من رسول الله في الفريق الثاني، وكلا الفريقين في أعيننا اليوم تراث مقدَّس! ويهمُّنا الآن ما نشأ عن الموقف من أسئلة عقلية: أي الجانبَين على حق؟ ما حُكمنا فيمن يكون على باطل؟
-
(١٤)
الوقفة الثانية من رحلتنا الثقافية هي مدينة البصرة في أوائل القرن الثامن الميلادي (الثاني الهجري). توتُّر عقلي يسود الناس: تحت أية راية ينضوُون؛ تحت راية فريق فيهم عائشة، أم تحت راية فريق آخر فيهم علي؟ أم يُحايدون حفاظًا على وحدة المسلمين؟ هل يُعلون من شأن الإسلام باعتباره دينًا للناس أجمعين، أو يُعلون من شأن الانتماء القَبَلي أولًا، وبعد ذلك يأتي الولاء للدين؟ في مدينة البصرة ظهرت الأحزاب؛ مِن أنصار عائشة نشأ حزب «العثمانية»؛ أي أتباع عثمان، ومن أنصار علي نشأت «الشيعة»، ومن المحايدين نشأ الزاهدون المتطرِّفون الذين هم «الخوارج»، ومن هؤلاء وُلدت حركة «المعتزلة». معركة الجمل هي نقطة البدء لكل تطوُّر سياسي وديني ظهر بعد ذلك. من واقعة الجمل — كما أسلفنا — نشأ السؤال العقلي الأول: ماذا يكون الحكم بالنسبة للفريق المخطئ من المتحاربين؟ ظهرت ثلاثة حلول، كل حل منها أصبح يمثِّل مذهبًا فكريًّا على طول التاريخ العقلي في تراثنا: (١) فهنالك اليساريون المتطرِّفون (بتعبيرنا الحديث) وهم الخوارج. (٢) وهنالك اليمينيون المتطرِّفون وهم أهل السُّنة. (٣) وهنالك المعتدلون وهم المعتزلة. أما اليساريون فقد رأوا تكفير المخطئ مهما يكن، وأما اليمينيون فقد رأوا صحة إسلام الفريقَين معًا، وأما المعتدلون فقد رأوا أن المخطئ منهما — دون التحديد من هو — مؤمنٌ عاصٍ.
البصرة والكوفة يمثِّلان اتجاهَين في طريق الفكر؛ فالبصرة تعتمد على حجة العقل والكوفة تعتمد على الرواية المنقولة عن السلف، في البصرة نشأ الاعتزال، ونشأت الدراسات الأولى للنحو واللغة.
-
(١٥)
الخوارج. دعوتهم إلى الخروج على الحاكم إذا أخطأ. مقارنة بما حدث في إنجلترا في القرن السابع عشر، وما نشب من اختلاف في النظرية السياسية بين فيلسوفَين، هما: «هوبز» و«لوك»؛ فموقف الخوارج هو نفسه موقف «لوك». تفرُّق الخوارج في أحزاب فرعية بالغت العشرين يدل على دقة التحليل العقلي؛ إذ مِن المبدأ الواحد المتفَق عليه انبثقت ظلال كثيرة متباينة. مِن أهم فِرق الخوارج جماعة «الأزارقة». قسوة الأزارقة في قتل كل مَن خالفهم. ومِن فِرق الخوارج أيضًا «النجدات»، وقد برئت النجدات من شناعات الأزارقة. ومن الخوارج كذلك فرقة «الصفرية»، وفيها شيء من الاعتدال بالنسبة للأزارقة. ومنهم فرقة «الإباضية». الخوارج يزدادون تسامحًا كلما تقدَّم معهم الزمن؛ فأشدهم تزمتًا هم الأزارقة، ثم اعتدلت الصفرية بعض الشيء، ثم ازدادت النجدات اعتدالًا، ثم أمعن الإباضية في الاعتدال.
فريق «المرجئة» يمثِّل التسامح المقبول، وهم يرون إرجاء الحكم على المُذنِب إلى يوم القيامة، فيكون لله حسابه.
إذا كان الخوارج قد خرجوا على علي، فقد شايعه فريق «الشيعة». حق الخلافة له ولأولاده من بعده.
-
(١٦)
وما زِلنا في البصرة في أوائل القرن الثامن الميلادي (الثاني الهجري). ظهور التضاد الفكري بين المعتزلة والخوارج في مسألة الذنوب الكبيرة، وبين المعتزلة وأهل السنة في مسألة صفات الله، ثم ظهور تضاد فكري آخر بين القدرية (وهم من المعتزلة) الذين يجعلون للإنسان إرادة حرة مسئولة، والجبرية الذين جعلوا كل فعل بمشيئة الله وحده. ملخَّص لأمهات المسائل التي عرضت لعقول أسلافنا عندئذٍ، وكيف كانت مسائل انبثقت من حياتهم، ولم تعُد بالمسائل التي تؤرِّقنا اليوم؛ لأنها بعيدة عن حياتنا، باستثناء مسألة واحدة قد تكون باقية ما تزال، هي الخاصة بحرية إرادة الإنسان أو جبرها.
مسألة حرية الإرادة ومسئولية الإنسان عن فعله؛ كيف نشأت؟ واصل بن عطاء في حلقة شيخه الحسن البصري عندما ألقى السؤال لأول مرة عن مرتكب الذنب الكبير. واصل يطرح إجابته بالقول ﺑ «المنزلة بين المنزلتَين». رأيه لم يُعجِب شيخه الحسن البصري، فاعتزل عنه واصل؛ ومن ثَم جاء اسم «المعتزلة». رأي «واصل» متفرِّع عن قوله ﺑ «القدر» (أي بِحرية إرادة الإنسان في فعله، بغير حرية الإنسان في اختياره لا يكون «العدل» مفهومًا في ثوابه وعقابه). جهم بن صفوان يُعارض واصلًا، ويجعل كل شيء بإرادة الله وحده. المسألة الخاصة بصفات الله؛ أهي الذات الإلهية نفسها كما قال المعتزلة، أم هي قائمة وحدها كما ذهب الصفاتية؛ أي أهل السنة؟
-
(١٧)
ما زِلنا في البصرة في أوائل القرن الثامن الميلادي (الثاني الهجري). رجال اللغة والنحو يمثِّلون الحركة العقلية خير تمثيل. لم يكن هؤلاء مبتوري العلاقة بحياة الناس الفعلية كما هم اليوم. مراجعة المفكِّرين للقرآن ابتغاء الهداية فيما عرض لهم من مشكلات، اقتضى الوقوف عند نصه اللغوي. الخليل بن أحمد؛ لو وُضعت عبقرية الخليل في اليونان لكانت أرسطو، أو في أوروبا النهضة لكانت نيوتن. يضع الخليل أول معجم للغة، ولأول مرة يضع للشعر العربي بحوره. ترتيبه الحروف في المعجم بحسب مخارجها عند النطق؛ فأقصاها مخرجًا يرِد أولًا في الترتيب، وأدناها إلى الشفتَين يرِد آخرًا؛ ومن ثَم بدأ بحرف «العين»، ومن ثَم كذلك سمَّى معجمه ﺑ «العين»؛ لأن «العين» أول حرف عُولِج لكونه أقصى الحروف مخرجًا من الحلق. تقسيم منطقي رياضي لما «يُمكِن» أن تجيء عليه الألفاظ من حيث طريقة بنائها، سواءٌ وقع في تاريخ اللغة بالفعل أن وردت تلك الألفاظ، فتدلنا «الخانات» الفارغة في ذلك التقسيم على ما يجوز للعرب استحداثه من ألفاظ اللغة استجابةً لما يطرأ لهم من ظروف جديدة. الخليل يجمع «الشواهد» التي تبيِّن معاني الألفاظ بطرائق استخدامها. مقارنة ذلك بتيار فلسفي معاصر لنا يجعل معنى اللفظة مرهونًا بوقوعها في جملة تحتويها، وإلا ظلت بغير معنًى. لما كان معظم «الشواهد» أبياتًا من الشعر القديم، التفت الخليل باهتمامه إلى الشعر وطريقة نظمه.
-
(١٨)
البصرة تلتزم ضرورات المنطق في دراسة علمائها للغة. ما ورد على ألسنة القدماء مما لا ينساق مع تقسيماتهم المنطقية عدُّوه شاذًّا، مثلهم مثل بروقرسطس الأسطوري. إمام البصرة في هذا الاتجاه هو سيبويه تلميذ الخليل بن أحمد، يُدعى كتابه المشهور في النحو ﺑ «الكتاب»، بلغ علم النحو العربي أعلى ذراه في الكتاب بغير سوابق تدريجيه تمهِّد لبلوغه هذا المرتقى. الأمثلة كثيرة في ميادين الفكر والثقافة لظهور النتاج الضخم دفعة واحدة. في كتاب سيبويه إحالات إلى أسلاف له في مواضع كثيرة، لكن ذلك لا ينفي الكمال المفاجئ في تنسيق البناء. عقلانية البصرة وصرامة منطقها في دراسة اللغة والنحو اقتضى أن تنشأ في الكوفة مدرسة مُعارِضة تجعل الرواية عن السلف — لا ضرورات المنطق — مدارها في القول والرفض. الكسائي في الكوفة يُناظر سيبويه في البصرة. اختلاف البصرة والكوفة على هذا النحو ربما جاء صدًى لاختلافهما السياسي؛ فأهل البصرة لم يكونوا من أهل الجزيرة العربية، فكان همهم ألا يجعلوا الأسلاف العرب مقياسًا، بل منطق العقل الإنساني هو عندهم المقياس، وأهل الكوفة من أصول عربية؛ ولذلك اتجهوا إلى الإعلاء من شأن السلف في اللغة والنحو.
الفصل الرابع: مصباح العقل يشتد توهُّجه
-
(١٩)
هذه هي الوقفة الثالثة على الطريق، وقد اخترنا لها مدينة بغداد في القرن التاسع الميلادي (الثالث الهجري). بثُّ الدعوة سرًّا لانتقال الخلافة من بني أمية إلى بني العباس. تركيز الدعوة في الكوفة — لولائها لآل البيت — وفي خراسان لنقمة الموالي (وهم الفُرس المسلمون) على الأمويين. الأمويون عرب خُلَّص أرادوا السيادة للعرب على غيرهم حتى لو كان غيرهم من المسلمين؛ هنا تحالفت السياسة مع الثقافة في الهدف، فإذا كان الخلاف السياسي بين من أراد الخلافة للعرب من غير بني أمية ومن أرادها مقصورة على بيت الرسول، فكذلك كان الخلاف الثقافي قائمًا بين من أراد التعصب للثقافة العربية وحدها، ومن اعتز بالثقافات الأخرى العريقة كالثقافة الفارسية؛ الأولون هم حزب بني أمية، والآخرون هم الموالي المؤيِّدون لأن تكون الخلافة في آل البيت؛ من هنا التقت شيعة علي مع الساخطين من الموالي.
نجحت الدعاية السياسية لبني العباس، وبُويِع أبو العباس بالخلافة سنة ٧٥٠م. اتهام بني أمية بالجور وابتزاز أموال الناس والظلم وإيثار الدنيا على الآخرة؛ وإذن فأسلافنا كان فيهم ما في البشر من طباع حسنة وسيئة. بعد أن استنفد بنو العباس حلفاءهم في الوصول إلى الخلافة، انقلب خليفتهم الثاني (أبو جعفر المنصور) على أبي مسلم الخراساني.
-
(٢٠)
تلك المقدمات السياسية في سطوة بني العباس وقتلهم لأبي مسلم الخراساني، أنتجت نتائج ثقافية، منها اللامعقول ومنها ما يدور في دنيا العقل؛ فمن اللامعقول الذي نتج ارتدادُ الفُرس إلى عالم الوهم والخرافة في ردتهم إلى ثقافاتهم القديمة ليُقاوموا بها ثقافة العرب، تأليه الفُرس الساخطين لأبي مسلم الخراساني، تيارات من زندقة: من ذلك حركة «سنباد» وحركة «الراوندية»، وكما ارتد المجوس إلى مجوسيتهم (تعاليم زرادشت) ارتد أتباع «ماني» و«مزدك» إلى عقائدهم المانوية والمزدكية.
من هذه الحركات اللاعقلية نشأت ردود عقلية، فنشأت جماعات المعتزلة تُناصر الإسلام بقوة العقل.
-
(٢١)
كانت الكوفة مقر الخليفة المنصور حين ثارت عليه الراوندية، فكرِه المكان، وخرج بنفسه يرتاد له موضعًا يسكنه هو وجنده، فكان أن اختار مكانًا أقيمت عليه ما سُمِّي بعدئذٍ باسم بغداد سنة ٧٦٥م. الموكب العقلي العظيم في بغداد. «بيت الحكمة» (٨٣٢م) في عهد المأمون. المأمون يستجلب مجموعة مختارة من كتب الأقدمين المخزونة في بلاد الروم. نقل هذه الكتب إلى العربية. أساطير تشيع في الناس وتدل على اهتمامهم بالكتب العلمية. وقفة داخل بيت الحكمة لنرى ماذا يحدث فيها؛ ثلاثة رجال من أسرة مسيحية واحدة: حنين بن إسحاق، وابنه إسحاق بن حنين، وابن أخيه حبيش بن الحسن؛ يقومون بترجمة الكتب العلمية من اليونانية إلى العربية. الشَّبه من حيث الموقع الثقافي بين حنين بن إسحاق قديمًا ورفاعة الطهطاوي حديثًا. هل تسرَّبت اليونانية المنقولة إلى شرايين الثقافة العربية أو اقتصرت على صفوة المثقَّفين؟ تُرى ما الدافع الحقيقي للمأمون أن ينهض بحركة الترجمة عن ثقافة اليونان؟ عن السؤال الأول نقول إن الظاهر هو أن الثقافة الغربية المنقولة لم تمس جماهير الناس، كان المفكر الذي يتنصل علنًا من العلم اليوناني يظفر بطيب السمعة عند جمهور الناس، وأما عن السؤال الثاني فيحتمل أن يكون الدافع الحقيقي لنقل الثقافة اليونانية بهذا الحماس الذي شهدناه هو إما محاربة الثقافة الفارسية القديمة، وإما محاربة الثقافة العربية الصميمة؛ فالأولى كان يرتكز عليها متعصِّبو الفرس، والثانية كان يرتكز عليها المتعصِّبون للدولة الأموية، وكلا الفريقَين ذميم في عين الخلافة العباسية.
-
(٢٢)
لا يكفي أن نسأل: أي الجوانب الثقافية نقل العرب عن اليونان، بل لا بد أن نسأل كذلك: ماذا صنع العرب بما نقلوه؛ فقد نُقلت الثقافة اليونانية القديمة إلى العرب وإلى أوروبا، فأنتجت نتيجتَين مختلفتَين فيما يقول المستشرق الألماني «كارل هينرش بكر»، فقد صادفت عند نقلها إلى العرب أفكارًا من جنس غير جنسها، وأما عند نقلها إلى أوروبا فقد أضافت عددًا آخر من أسرة حضارية واحدة تتفق في جنس التفكير حديثها مع قديمها. نحن الآن نُترجم عن أوروبا، وننقل عنها بالمشاهدة والتدريب مما تغيَّرت له وجوه حياتنا العملية، لكن الأقدمين — في رأينا — عندما ترجموا عن اليونان لم يتغير من حياتهم العملية إلا القليل. فوارق عميقة في وجهة النظر نشأت بالتربية بين ما يُسمَّى بالشرق وما يُسمَّى بالغرب.
-
(٢٣)
وقفتنا بعد خروجنا من بيت الحكمة كانت مع جماعة المعتزلة؛ لنرى فيمَ يفكرون وكيف يفكرون، وهم أقرب الناس تأثرًا بالثقافة اليونانية المنقولة، كبار المعتزلة عندئذٍ (القرن التاسع الميلادي) كانوا في البصرة، فلنعُد إلى البصرة حينًا لنُنصت إليهم، مع «العلاف» شيخ المعتزلة، صاحبُ «المِلَل والنِّحَل» يروي عنه عشر مسائل: المسألة الأولى عن ذات الله وصفاته، والثانية عن الإرادة الإلهية، والثالثة عن أمر «التكوين» في قوله تعالى: «كن» لما يريد له أن يكون، والرابعة عن حرية الاختيار عند الإنسان، والخامسة عن امتناع الحركة في الآخرة، والسادسة عن الرابطة بين القلب والجوارح عندما يهم الفاعل بفعل، والسابعة عن وجوب أن يعرف الإنسان ربه معرفة قائمة على العقل وأدلته، والثامنة عن تحديد الآجال، والتاسعة فيها عودة إلى الإرادة الإلهية، والعاشرة مسألة منهجية يشترك بها العلاف ألا تُقبَل حجة إلا إذا استندت آخر الأمر إلى وحي من الله ينزل على ولي معصوم، وهذه النقطة الأخيرة كفيلة بهدم موقف العلاف العقلي. المشكلات التي تعرَّض لها العلاف خاصة بعصره، لا يكاد يمتد إلينا منها إلا ما يمس حرية الإرادة.
-
(٢٤)
وقفة مع النظَّام في البصرة، وهو تلميذ العلاف. التلميذ يتفوق على أستاذه. يذكر صاحب «الملل والنحل» ثلاث عشرة مسألة تميَّز بها «النظَّام»؛ الأولى عن حرية الإرادة الإنسانية، رأيه بأن الله لا يجوز وصفه بالقدرة على فعل الشر؛ يكاد «النظَّام» يُعاصرنا في الفكر حين يرد على معارضيه، فيقول إنه لا فرق بين أن نقول إن الله غير قادر على فعل الشر، وأن أقوله إنه قادر على فعله لكن لا يفعله؛ إذ هو في كلتا الحالتَين لا يفعله، ولا يكون للعبارة معنًى إلا بما تتضمنه من فعل؛ والمسألة الثانية خاصة بالإرادة الإلهية، يقول فيها إن هذه الإرادة لا تكون مُطلَقة مُنفصِلة عن الشيء المراد، فلا إرادة إلا وهي موصولة بفعل؛ والمسألة الثالثة هي مما تجعله معاصرًا لنا في الفكر، إذ يجعل بها الحركة أساسًا لكل ما في الوجود، جسمًا كان أو عقلًا أو إرادة؛ والمسألة الرابعة خاصة بتعريف الإنسان، وهو أنه إنسان بنفسه وروحه لا ببدنه، على أن تفهم النفس أو الروح على أنها مجموعة استعدادات لوظائف معيَّنة يُمكِن أداؤها؛ وهذه فكرة أخرى تجعله قريبًا من فكر عصرنا؛ والمسألة الخامسة يبيِّن فيها الحدود الفاصلة بين قدرة الله وقدرة الإنسان، مناقشة هذه الفكرة؛ وفي المسألتَين السادسة والسابعة يقرب «النظَّام» من إحدى مدارسنا الفلسفية المعاصرة، وهي التي تجعل حقيقة الشيء مجموعة ظواهره؛ تعليق على فكرته؛ لكنه يعود في المسألة الثامنة فيُناقض نفسه إذ يجعل الكائنات مُنبثِقًا بعضها من بعض؛ لشرح ذلك قدَّمنا شروحًا للمصطلحات الفلسفية الآتية: الجوهر، العرَض، العلاقات الداخلية، العلاقات الخارجية؛ «النظَّام» في المسألتَين السادسة والسابعة كان من طراز «هيوم»، لكنه في المسألة الثامنة من طراز «ليبنتز»؛ المثل الذي ساقه «النظَّام» لشرح فكرته هو نفسه الذي ساقه ليبنتز لشرح الفكرة عينها، وأعني مثل آدم وبنيه؛ فلو حلَّلنا آدم لوجدنا أفراد الإنسانية جميعًا؛ وتأتي المسألة التاسعة وهي خاصة بإعجاز القرآن؛ تناقُض نُلاحظه في تعليله للإعجاز؛ وأما المسألة العاشرة ففيها في بيان بأنه لا بد من إمام معصوم لشرح غوامض القرآن؛ استناده إلى العقل مرة وإلى الإمام المعصوم مرة؛ ويستأنف الحديث عن الإمام المعصوم في المسألة الحادية عشرة؛ وفي الثانية عشرة يذهب إلى أن في مستطاعنا البرهنة على وجود الذات الإلهية بالعقل وحده، حتى لو لم يكن هناك وحي، وأخيرًا تعرَّض «النظَّام» لمشكلة الوعد الوعيد التي تمسُّ فكرة «العدل» الإلهي.
تركنا «العلاف» و«النظَّام» وعلى الشفاه سؤالان: هل يقدِّمان لعصرنا شيئًا؟ وهل كانا متأثِّرين بما نُقل عن اليونان؟ الجواب عندي بالنفي في كلتا الحالتَين، وليس يعيبهم أن تختلف مشكلاتهم عن مشكلاتنا، وألا يكونوا تزوَّدوا بزادٍ كثير من علوم اليونان؛ على أننا نستطيع محاكاتهم في الوقفة العقلانية من المسائل المعروضة.
-
(٢٥)
عودة إلى بغداد. الجاحظ — كسائر عمالقة الفكر — يمتص في نفسه ثقافة عصره ليتناولها بالنقد ابتغاء تحويلها. الجاحظ مثل فولتير في سخريته وفي عقلانيته، هو نقطة التحول في الثقافة العربية؛ من ثقافةٍ محورها الشعر إلى ثقافةٍ محورها النثر، إلى التحول من الوجدان إلى العقل، من البداوة إلى الحضارة المدنية. الجاحظ غني الفكر فلم تكن به حاجة إلى بريق اللفظ في خواء، وليس في كتابته ما يثقل على السمع أو على النفس أو ما يُخفي شخصيته وراء كثرة الشواهد كما كانت الحال عند غيره، الجاحظ يعرض الفكرة ونقيضها ليخلص من المقارنة إلى رأي واضح، ينشد اليقين عن طريق الشك. رسالة «المعاش والمعاد» فيها توجيه في الأخلاق المحمودة. المنفعة عنده أساس الفضيلة. هذا المبدأ وحده من تراثنا يُبيح لنا أن نرفض من التراث ذاته ما ليس ينفع عصرنا. تفرقة الجاحظ بين «التواني» و«التوكل»؛ فالأول لا يجوز لعاقل، وأما الثاني فلا يجوز إلا بعد أن نستنفد جهدنا ﻓ «نتوكل» بعد ذلك. الجاحظ يرسم طريق السير العاقل؛ تحديد للهدف أولًا، فتنظيم الخطوات الموصلة إليه ثانيًا. لا بد أن يجيء «تخطيط» السير بحيث نكون على ثقة بما يُنتج لنا آخر الأمر. التخطيط المرسوم بدقة لا يحتاج إلى «شجاعة» في تنفيذه، وإنما تُطلَب الشجاعة حيث تكون المغامرة، وهذه لا تكون إلا حين نصدر في سلوكنا عن «ترجيح» للنتائج المنشودة، لا عن «يقين». رسالة «كتمان السر وحفظ اللسان» تكاد تصوِّر عصرنا كما صوَّرت عصر الجاحظ. كلام جيد في كتمان السر. رسالة «في الجد والهزل» يتحدث فيها عن حالة الغضب ماذا تفعل بصاحبها، ثم يتحدث عن وجوب أن يكون للَّفظ ما يُشير إليه.
-
(٢٦)
كتاب «الحيوان» للجاحظ، مقارنة بين «الشعر» الذي هو خاصة العرب و«الكتاب» الذي هو خاصة اليونان؛ الشعر لا يُترجَم فينحصر في أصحابه، وأما الكتاب فيُترجَم وتتسع دائرته. وجهة نظر الجاحظ في الترجمة وشروطها. إذا كان الجاحظ وهو يعيش في عصر الترجمة على غير ثقة بجدواها، فنحن نتساءل عن الدافع الحقيقي إليها؛ أهو دافع سياسي لإحداث البلبلة في قيمة الثقافة العربية الأصيلة حين يُوضَع إلى جوارها فكر يوناني غزير المادة؟ ينتقل الجاحظ من الحديث عن الترجمة إلى الحديث عن الكتاب أيًّا كان. شروط الأسلوب الجيد. وقفات نافذة من الطبيعة البشرية. الحرية وقيمتها الكبرى لكرامة الإنسان. نماذج من كتابته عن الحيوان في كتاب «الحيوان». مناظرة الكلب والديك وما وراءها من هدف خبيء.
-
(٢٧)
خصائص التأليف عند الجاحظ. سيطرته على الثقافتَين العربية الأصيلة والأجنبية المنقولة بالترجمة. تفضيله للأولى عند المفاضلة.
الفصل الخامس: زجاجة المصباح
-
(٢٨)
الرمز هنا للقرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري)، حيث يعلو التفكير العقلي من المقدمات المباشرة إلى مقدمات أعم؛ أي إنه يعلو من مستوى العلوم إلى مستوى الفلسفة. ليس المقصود هنا الفلسفة بمعناها الضيق، بل المقصود هو نوع التفكير الذي يتقصى المبادئ الشاملة وإن لم تكن موضوعات البحث هي ما يتناوله الفلاسفة المتخصِّصون. سنكتب هنا عن: إخوان الصفا، والتوحيدي، والجرجاني، وابن جنِّي.
-
(٢٩)
رسائل إخوان الصفا تلخيص لفكر عصرهم. توسَّلوا في عرضهم بأسلوب الأدب التصويري، فاستخدموا القصص وأجرَوا الأحاديث على ألسنة الحيوان في مواضع كثيرة، عددها إحدى وخمسون رسالة تُضاف إليها رسالة جامعة، وقد يكون العدد اثنتَين وخمسين غير الرسالة الجامعة؛ أربع عشرة للعلوم الرياضية، وسبع عشرة للعلوم الطبيعية، وعشر للعلوم العقلية والنفسية، وإحدى عشرة للعلوم الشرعية، ثم الرسالة الجامعة وهي قائمة وحدها.
-
(٣٠)
الهدف الرئيسي هو بيان الاتفاق بين الشريعة الإسلامية والفلسفة اليونانية، لكنهم وضعوا الفلسفة في منزلة أعلى من منزلة الشريعة؛ فالشريعة تطب للمرضى والفلسفة تطب للأصحاء. التسامح الديني عند إخوان الصفا بحيث لم يفرِّقوا بين دين ودين. تعرُّضهم لسخط الناقدين. أخذهم بالبرهان العقلي المبني على التجربة الحسية. الشَّبه شديد بينهم وبين بعض المدارس التجريبية في الفلسفة الحديثة.
-
(٣١)
أخذ إخوان الصفا فكرتهم عن الرياضة من الفيثاغوريين. تطبيقات منوَّعة للأساس الفيثاغوري القائل بأن حقائق الأشياء أعداد.
-
(٣٢)
مراتب الموجودات في رأي إخوان الصفا. الإنسان صورة مصغَّرة للكون، وفيه المراحل نفسها. الإنسان — كالكون بصفة عامة — وحدة عضوية. تشبيهات كثيرة للوحدة العضوية. العدد يفسِّر ترتيب الموجودات. الترتيب تطوري من المعادن في أسفل السُّلم إلى الإنسان وما فوق الإنسان في أعلى السُّلم.
-
(٣٣)
مُقتطَف طويل من الرسائل موضوعة محاكمة بين بني الإنسان في جهة وأنواع الحيوان في جهة أخرى؛ إذ ترفع هذه الأنواع شِكاتها إلى ولي الأمر من الإنسان وفظائعه، رافضة أن يكون للإنسان عليها فضل.
تشبيه عمل إخوان الصفا في هذا الفصل بما عمله جورج أورويل في كتابه «مزرعة الحيوان» في الأدب الإنجليزي الحديث. تُرى هو رمز إخوان الصفا بتصويرهم ذاك إلى ظلم الحاكمين في الدولة القائمة عندئذٍ؟ الإخوان يمثِّلون النزعة التقدمية في وجه من أرادوا الرجوع بالحياة إلى الوراء. برغم عقلانية الإخوان فلهم لحظات لا عقلية، كموقفهم من السحر والطلسمات.
-
(٣٤)
وقفتنا الآن مع أبي حيان التوحيدي في كتابه «الإمتاع والمؤانسة»، وكان هو الذي كشف للناس عن إخوان الصفا. الكتاب صورة حية للثقافة العربية في القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري). بؤس أبي حيان في حياته. يسمر في دار الوزير أبي عبد الله العارض تسعًا وثلاثين ليلة، كان كتاب «الإمتاع والمؤانسة» بعدئذٍ تسجيلًا لما دار فيها من أحاديث، كان لكل ليلة موضوع رئيسي يحدِّده الوزير بسؤال يُلقيه. من أمثلة الموضوعات التي أثيرت: متعة الحديث وخصائص الحديث الجيد، تعليق على أبرز أعلام الثقافة المعاصرين لأبي حيان، حقيقة «النفس»؛ ما هي؟ ضرورة التثقيف لمن يتصدى للكتابة الأدبية. خصائص الأمم: الفرس والروم والصين والترك والهند ثم العرب، مقارنة بين العلوم الرياضية وعلوم البلاغة؛ أيهما أنفع؟ موازنة بين المنطق اليوناني والنحو العربي. وصف لطائفة من صنوف الحيوان. «أنفس» الإنسان الثلاثة: الناطقة، والغضبية، والشهوانية؛ السكينة وأنواعها، حديث فلسفي عن الممكن والواجب والممتنع، وحديث فلسفي آخر عن «العقل» و«الحس»، ثم حديث فلسقفي كذلك عن الجبر والقدر. الحديث عن إخوان الصفا، حديث فلسفي عن الكلي والجزئي وكيفية إدراكهما والعلاقة بينهما، وعن مشكلة «الواحد والكثير» المعروفة في الفلسفة، وموازنة عن النظم والنثر.
-
(٣٥)
ننتقل إلى شخصية أخرى هي «عثمان بن جني» فيلسوف اللغة، كتابه «الخصائص» أي خصائص اللغة العربية. حدة ذهنه وشمول نظره. تفرقته بين «الكلام» و«القول». أتكون اللغة إلهامًا أم اصطلاحًا؟ أهي كلامية أم فقهية؟ أعني هل تخضع قواعد النحو فيها للتعليل العقلي أو هي مسموع لا يعلَّل؟ ابن جنِّي يُجيب عن السؤال الأول بأنها اصطلاحية، وعن السؤال الثاني بأن للقواعد النحوية عِللها العقلية. ابن جنِّي يُقيم الاشتقاق على المنطق الصِّرف؛ بمعنى أن يحدِّد بالفكر المنطقي المجرد كل فروع المشتقات «الممكنة»، سواء ما استعمله العرب منها وما لم يستعملوه. لماذا يكثر الأصل الثلاثي في اللغة العربية؟
-
(٣٦)
أيهما أقرب إلى الطبع العربي: الإيجاز أم الإطناب؟ إذا كان العرب قد عُرفوا بميلهم إلى الإيجاز المكثَّف، فما دلالة ذلك في الكشف عن «خصائص العقل العربي»؟ ميل العربي إلى «التجريد» وإطلاق القول دون الوقوف عند الأفراد والمفردات، وفي هذا فارقٌ يصعب عبوره بين زمانهم وزماننا.
-
(٣٧)
متى يكون الإجماع حجة؟ يقول ابن جنِّي ما معناه إن إجماع العالم بأسره على أمر لا يجعله حجة عليك إذا أردت مخالفته، اللهم إلا إذا اتفق الخصمان أولًا على التسليم معًا بحقيقة معيَّنة، وعندئذٍ ينصرف الجهد إلى إخراج النتائج من تحليل النص الذي اتفق عليه الجميع. يضع ابن جنِّي مبدأً عظيمًا، هو أن كل مفكِّر إمام نفسه إذا هو أحسن النظر والاستدلال، في هذا المبدأ ما يرد على معاصرينا الذين يأتمون بالأقدمين.
-
(٣٨)
أيهما أولى بالعناية: الشكل أم المضمون؟ ابن جنِّي ينفي عن اللغة العربية اهتمامها باللفظ دون المعنى؛ فاهتمامهم بالألفاظ هو نفسه اهتمامهم بمعانيها. الفرق بيننا حين نطرق مشكلة اللفظ والمعنى، وبين ابن جنِّي حين يطرق المشكلة نفسها؛ فهو مشغول بمعنى اللفظة الواحدة ونحن مشغولون بمعنى الثمرة الأدبية المعيَّنة في مجموعها.
-
(٣٩)
وقفة مع ابن جنِّي في نظرته إلى أنواع الكلمة: الأسماء والأفعال والحروف، وأي هذه الأنواع كان أسبق من أيها؟ الرأي عنده هو أن اللغة نشأت بهيكلها كاملًا دفعة واحدة، ثم أخذ الهيكل يزداد مع الزمن امتلاءً. مناقشتنا لابن جنِّي في وجهة نظره.
-
(٤٠)
ملاحظات عن عبقرية اللغة العربية في الأداء.
-
(٤١)
رحلة فرعية نترك بها بغداد قاصدين إلى «جرجان»، حيث عبد القادر الجرجاني. برتراند رسل ومباحثه في نوع الترتيب اللفظي الذي يُعطي للجملة معناها. عبد القاهر الجرجاني في كتابَيه «أسرار البلاغة» و«إعجاز القرآن» صنع ما صنع برتراند رسل، كلاهما يرى أن المعنى كائن في طريقة ترتيب المفردات لا في المفردات من حيث هي كذلك. الفرق بين الرجلين أن رسل ينظر من زاوية المنطق والجرجاني ينظر من زاوية اللغة والنحو. قول الجرجاني في «أسرار البلاغة» إن ترتيب اللفظ يؤدي ما يؤديه لالتزامه ترتيب المعاني في ذهن المتكلم، والمعاني ترتب بحسب ما يقتضيه العقل؛ أي المنطق. تعليق لنا على قول الجرجاني في ذلك. الجرجاني يسأل سؤالًا آخر هو: ما الذي يخلع على الجملة الأدبية جمالها؟ الجواب هو نفسه الجواب بالنسبة للمعنى، وهو: ترتيب المفردات. المفردات نفسها عنصر مُحايد. هل يريد الجرجاني أن ما يوفِّر للجملة معناها هو نفسه الذي يوفِّر لها جمالها؟ عندئذٍ يكون من فلاسفة الجمال القائلين بأن جمال الشيء هو في أدائه لوظيفته خير أداء.
-
(٤٢)
إذا كانت الجملة العلمية تصف الوقائع وصفًا مباشرًا، فالجملة الأدبية تصفها بطريق غير مباشر، وذلك بأن تجسِّدها في صورة ذهنية تُوازيها. الجرجاني يُحاول التعليل، والتعليل عملية عقلية. عقلانية الجرجاني في وجهة نظره. التفرقة بين المحسوس والمعقول. أُسُس المفاضلة بين صورة فنية وصورة فنية أخرى.
-
(٤٣)
كتاب «دلائل الإعجاز» يبدأ بدفاع عن الشعر. وجوب أن يكون النقد الأدبي موضوعيًّا خالصًا. موقف من مواقف حياتنا الأدبية المعاصرة ذو علاقة بقواعد النقد عند الجرجاني. المعوَّل في الحكم عند الجرجاني هو المعنى وحده. الترتيب الذي يقتضيه النحو هو نفسه الترتيب الذي يقتضيه العقل، ويقتضيه المعنى، ويقتضيه الجمال الأدبي. لم يذكر لنا الجرجاني أساس المفاضلة بين عبارتَين لمعنًى واحد التزمت كلتاهما ترتيب النحو، كما ننثر بيتًا من الشعر، من ذلك كله يستنتج الجرجاني بأن إعجاز القرآن هو في معانيه لا في صياغته اللفظية. عدة براهين يقيمها للتدليل على صواب هذه النتيجة.
الفصل السادس: الكوكب الدري
-
(٤٤)
عرضنا في الفصل السابق مَشاهد من الفكر العربي إبَّانَ القرنَين التاسع والعاشر (الرابع والخامس بالتاريخ الهجري)، ولكننا الآن نعرض ما فيهما من حوار. الفاعلية الفكرية لعصر معيَّن يدل عليها ما بين رجاله مِن تفاعل. كان المعتزلة هم الذين تصدَّوا للمشكلات الناشئة بتحليلاتهم العقلية. بلغ المعتزلة أوجهم في أوائل الخلافة العباسية ثم أخذ نجمهم يخبو. ظهور الفئات المكبوتة كأهل السنة والروافض. اختلف المعتزلة مع أهل السنة في مسألة صفات الله، واختلفوا مع الروافض في قبول «التجسيم» لله تعالى، فهم يرفضونه والروافض يقبلونه. الأصول الخمسة عند مذهب الاعتزال. وكيف نتبين من كل منها مواضع الاختلاف بين المعتزلة وأعدائهم. الجاحظ يُخرِج كتابه «فضيلة المعتزلة»، فيرد عليه ابن الراوندي بكتابه «فضيحة المعتزلة». ابن الراوندي محور لحركة فكرية. اتهامه بالإلحاد ثم تعليل إلحاده. استعان أهل السنة بما قاله في نقد المعتزلة برغم عداء أهل السنة له ولإلحاده. هل كان ابن الراوندي كاتبًا مأجورًا يكتب لمن يُجزِل له العطاء؟ رأي الطبري في ابن الراوندي. كتاب ابن الراوندي «التاج» ومداره أن الله لم يخلق العالم من عدم. وفي كتابه «الزمردة» يُبرهِن على إبطال رسالات الرسل. وفي كتابه «الفرند» يطعن نبي الإسلام عليه السلام. وكذلك له «اللؤلؤة» و«الدامغ» و«القضيب» وكلها كتب كفرية. أبو العلاء المعري يسخر من ابن الراوندي في رسالة الغفران.
-
(٤٥)
نختار من كتبه كتاب «الزمردة» لنقِف عنده، يقول ابن الراوندي في دحض الرسالة: إنها إذا جاءت مؤيِّدة للعقل وأحكامه فيكفينا العقل دونها، وإذا جاءت مناقضة للعقل وأحكامه فهي مرفوضة لذلك. قالوا في الرد عليه بأن العقل ظل كامنًا في الإنسان حتى أيقظته الرسالات، يقول ابن الراوندي عن شعائر الدين، كالصلاة وغسل الجنابة ورمي الحجارة والطواف حول البيت، كلها مما لا يتفق مع أحكام العقل. قالوا في الرد عليه بل هي كلها وسائل لإخراج الناس من عاداتهم الطبيعية إلى عادات أفضل. يقول عن المعجزات إنها روايات يجوز على رواتها الكذب. ويقول عن القرآن إنه لم يكن مستحيلًا على واحد من العرب الذين عُرفوا بالفصاحة أن يبلغ هذا المدى في فصاحته. قالوا في الرد عليه إن الإعجاز إنما هو في المعاني إلخ. الذي يهمنا من ذلك كله حدة الحوار في ذلك العصر، في ذلك العصر أخذت العقيدة الإسلامية صورتها الكاملة من الناحية العقلية الجدلية. أبو القاسم الصقلي يرى الطريق مع الإسلام هابطًا من كمال الصورة إلى نقصها، لا صاعدًا من نقص إلى كمال.
-
(٤٦)
أبو الحسن الأشعري يقف موقفًا وسطًا بين نوعَين من التطرف، ليس العقل وحده هو المقياس. الغيب يستعصي على البراهين العقلية. أعلام كثيرون بعد ذلك اختاروا الموقف الأشعري الذي يجمع بين العقل والإيمان. الأشاعرة يرفضون أن يكون خلق الله العالم عن طريق الفيض، وكذلك يرفضون مبدأ السببية في تفسير الخلق.
-
(٤٧)
أبو العلاء المعري يُهاجم الأشعري في رسالة الغفران. أيكون موضع الهجوم هو منهج الأشعري في أن يجعل جانبًا للعقل وجانبًا آخر للإيمان المُطلَق بغير عقل؟ أم يكون هو موضوعًا من موضوعات اعتقاده؟ تلخيص لهذه الموضوعات.
-
(٤٨)
القرن التاسع والقرن العاشر هما عصر الفلاسفة. هذا الكتاب لا يغوص في موضوعات التخصص برغم كونها مُستنِدة كلها إلى عقل. يكتفي بالهوامش الثقافية العامة التي تدل على روح العصر. شذرات من رسائل الكندي. الصورة التي رسمها الجاحظ للكندي في كتاب «البخلاء».
-
(٤٩)
مع الفارابي في تصنيف العلوم. طبيعة «الشعر» عند الفارابي.
-
(٥٠)
مع ابن سينا في «حي بن يقظان».
الفصل السابع: الشجرة المباركة
-
(٥١)
الإدراك هنا مصدره نبعٌ باطني ذاتي، وهو إدراك المتصوفة. سنكتفي في هذه المرحلة بالوقوف مع رجل واحد، هو الإمام الغزالي. إخلاصه لنفسه في القول والعمل. صاحب هذا الكتاب يشعر بالقلق إذا ما اعتزم توجيه النقد إلى الغزالي؛ لشعوره بعظمة الغزالي وعمق نظرته وعلمية منهجه، لكنه في الوقت نفسه يراه في عصره قوة رجعية أثَّرت على العصور من بعده. ربما كان الغزالي من أقوى العوامل التي جمدت مجرى تاريخنا الفكري. كتابه الضخم «إحياء علوم الدين» يرسم للمسلم حياته بالمسطرة والفرجار، فيُوصِد أمامه أبواب التلقائية الحرة، لكن الغزالي هو «الشجرة المباركة» التي تنمو بمدد من فطرتها دون سند خارجي. في «المُنقِذ من الضلال» تحليل لتيارات الفكر في عصره، يرفض منها ثلاثة ويقبل الرابع وهو طريق الصوفية.
-
(٥٢)
هو صاحب منهج علمي يكاد يجمع كل أطراف المنهج الرياضي عند ديكارت والمنهج التجريبي عند بيكون. نصوص مختارة تدل على رأيه في منهج البحث. جاء في «المُنقِذ من الضلال» أن العلم اليقيني لا تنقضه المعجزات. النتائج المستدلة من مقدمات يقينية لا ينفيها خبر يُنقَل عن نبي. جاء في «تهافت الفلاسفة» أن الدين لا يجوز أن نحتج به على العلم. يضع الغزالي هيكلًا عامًّا للمنهج الاستنباطي هو نفسه الهيكل الذي أقامه ديكارت من بعده؛ مبدأ الشك عند الغزالي.
-
(٥٣)
فكرة اليقين تشغل الغزالي كما شغلت ديكارت من بعده، جاء في «ميزان العمل» قوله بوجوب ألا ينصاع المرء لمذهب بعينه. في «المُنقِذ من الضلال» تحذير للناس بألا يعرفوا الحق بالرجال، بل الأجدر بهم هو أن يعرفوا الرجال بالحق. في «معيار العلم» رسم لطريقة الوصول إلى النتائج اليقينية من مقدمات يقينية. وفي «محك النظر» يبيِّن لنا كيف يحدث الخطأ لنتجنب الطريق المؤدي إلى ضلال.
-
(٥٤)
معانٍ مختلفة ﻟ «العقل» عند الغزالي.
-
(٥٥)
من رأي مؤلف هذا الكتاب أن الغزالي خطَّط منهجًا عقليًّا للبحث، لكنه لم يلتزم هذا المنهج في أيٍّ من كتبه. الغزالي يقف من الفكر اليوناني موقف الرفض كما يظهر ذلك في كتاب «تهافت الفلاسفة». اتهامه للفلسفة الأرسطية بالتهافت. في هذا الكتاب — «تهافت الفلاسفة» — يطرح الغزالي عشرين مسألة يراها موضعًا لمؤاخذة الفلاسفة، كان من بينها مسألة السببية. موضع الشَّبه وموضع الاختلاف بينه وبين الفيلسوف الإنجليزي هيوم في مسألة السببية. ابن رشد يتصدى للغزالي بكتابه «تهافت التهافت». «العقل العربي يُحاوِر بعضه بعضًا».
-
(٥٦)
برغم عقلانية الغزالي وانطلاق فكره فقد رسم للمسلمين طريقة للحياة وكأنما صبَّهم في قوالب من جديد. أغلق الغزالي باب الفلسفة أمام العقل العربي فلم يُفتَح ثانية إلا بعد ثمانية قرون. نموذج من التحديد الذي قيَّد به الغزالي سلوك المسلم: «آداب الأكل»، كما ورد ذلك في «إحياء علوم الدين».
-
(٥٧)
لمحطة خاطفة في دنيا أبي العلاء المعري.