خطة السير
١
كانت عادتي كلما هبطتُ مدينة من سفر — قَصُر مقامي بين ربوعها أو طال — أن أبدأ بالنظر إلى خريطتها؛ لأقسم أرجاءها أقسامًا تتناسب في سَعتِها مع طول المدة التي أنوي إقامتَها، فكلما قَصُرَت مدة الإقامة ازدادَت تلك الأقسام اتساعًا، وكلما طالت المدة ضاقت الأقسام، ثم أخصص لكل قسم نصيبَه من الزمن؛ لأجول مارًّا على تفصيلات أجزائه سائرًا على القدَمَين، لا أستعين بقطار أو سيارة إلا إذا هدَّني التعب هدًّا يَستحيل معه أن أواصل السير؛ ذلك لأني أومن بأن الرؤية المتأنية الفاحصة التي تَرسخ في الذاكرة وتدوم، هي تلك التي تجيء من سائرٍ على قدَمَيه، يُمهِل الخُطى حينًا، ويقف عن السير حينًا، كلما احتاجت منه الأشياء إلى إمهال أو وقوف، وبغير هذا النظر إلى خريطة المكان، لأتصور به أين شرقه من غربه، وأين شمالُه من جنوبه؛ تتمزق الصورة عندي وتتبعثر تفصيلاتها، حتى أخرج من زيارتي وكأنني لم أُحصِّل شيئًا، مهما كثرت عندي أجزاءُ ما رأيتُ وما سمعت، فكأنما أمسكتَ بكتاب ومزَّقتَ أوراقه قُصاصاتٍ قُصاصات، تجمعها أمامك في كومة لا ينساق فيها سطرٌ وراء سطر، ثم قلتَ لنفسك: ذلك هو الكتاب، لم يَنقُص حرفًا! لكنه في الحقيقة قد نقَص كل شيء حين زالت عنه الوَحْدة التي تجمع أجزاءه في كِيان.
النظرة إلى خريطة البلد الذي أُقيمُ فيه هي العمود الفقري الذي يُبقيه في خبرتي كائنًا متَّصلَ الأجزاء، وهكذا الأمر بالنسبة إلى علم أُحصِّله، فمهما امتلأ وِفاضي من حقائقَ مفكَّكة الأوصال عن رجال أو عصور أو مذاهب، فأنا المفلس من العلم المفيد ما لم أجد لنفسي الإطار الذي يَجمع الأشتات في كِيان واحد، أعرف فيه أين يقع الرأس وأين يكون الذَّنَب، وإني لأَغْلو مع نفسي في مطلب التوحيد هذا، حتى لأُحاول في كثير من الأحيان ألا أكتفيَ بمجرد مبدأ نظري أجعله قُطبًا للرَّحى، بل ألتمس لنفسي صورة مجسَّدة أخلقها لنفسي خلقًا، فتُعينني على ترتيب الأجزاء وتنظيمها في نسَق موحَّد.
٢
فلما همَمتُ بالقراءة لهذا الكتاب، طالبتُ نفسي أولًا بخُطَّة للسير؛ فالتراث العربي أوسعُ من المحيط، ولم يَكتب لي الله في أعوامي الماضية أن أعُبَّ منه إلا قطَراتٍ لا تملأ القدَح، فكيف بي وأنا الغريب — أو شِبه الغريب — في هذه الدنيا المدوِّية بمكنونها الضخم، وقد همَمتُ بالسير في أحنائها وثناياها؟ إنني أريد أن أبحث في هذه الدنيا الفكرية الفسيحة الأرجاء، عن طريقٍ واحد دون سائر ما فيها من طرُق ومَفاوز، وهو طريق «العقل» كيف سار وأين؟ فهل أستطيع الخَطْو بقدَم واحدة إذا لم يكن أمامي خطٌّ واضح أسير على هُداه؟!
وطريق العقل في ثقافة عريضة طويلة كالثقافة العربية، لا يَكون قائمًا وحده، بحيث لا يجد السائرُ طريقًا سواه، بل لا بد أن يُخالِطَه كلُّ ما يخالط الطبيعة البشرية من جوانبَ أخرى غير جانب العقل، فالإنسان — فردًا كان أو مجتمعًا — لا يتحرك في حياته مهتديًا ببوصلة واحدة، ذات مؤشِّر واحد، يُشير دائمًا إلى هدف واحد، بل إن طبيعته لتَنطوي على مَنازِعَ متعارضة أحيانًا أشدَّ التعارض؛ فقد يُحدِّد له «العقل» هدفًا بعينه ويرسم أمامه الطريق المؤدِّية إلى ذلك الهدف، ثم تجذبه «العاطفة» نحو هدف آخر وطريق آخر، فلو وصَفْنا إنسانًا فردًا، أو مجتمعًا من الناس، أو عصرًا من العصور، بصفة «العقلانية» فإنما نَفعل ذلك على سبيل التغليب والترجيح، لا على سبيل الحصر والقطع والتحديد.
وإذا أردنا شيئًا من التوضيح الذي يُفرق لنا بين وقفة «عقلية» وأخرى «عاطفية»، فحَسْبُنا — فيما أظن — أن نرتكز على العلامة المميِّزة الآتية؛ فصاحب الوقفة العقلية يُشترَط في خطوات سيره أن تكون الخطوة التالية مُكمِّلة للتي سبقَتْها، ومُمهِّدة للتي تَلحَق بها، بحيث تجيء الخطوات معًا في تضامن يجعلها وسيلة مؤدِّية آخرَ الأمر إلى هدف مقصود، ولا فرق في ذلك بين أن يكون السير سيرًا بالقدمَين على سطح الأرض ليصل السائر إلى مكان يريد الوصول إليه، وأن يكون السير سيرًا عقليًّا يَنتقل به صاحبُه من فكرة إلى فكرة، حتى ينتهيَ إلى حل لمشكلةٍ أراد حلَّها، ذلك هو السير «العقلي» وعلامته المميِّزة. لكنْ ما كلُّ سلوك إنساني على هذا النمط الهادف؛ إذ كثيرًا ما يريد الإنسان شيئًا ويعمل بما ليس يُحقِّق له ما أراد، فإذا سألتَه: كيف؟ أو سأل نفسه، كان جوابه بأنه يُحِس «ميلًا» لا قِبَل له برَدِّه، يميل به نحو جانب مضادٍّ لما ظن بادئ الأمر أنه ما يريد …
الوقفة «العقلية» — بعبارة أخرى — وقفة تتقيَّد بالروابط السببية التي تجعل من العناصر المتباينة حلقاتٍ تؤدي في النهاية إلى نتيجة معيَّنة، سواءٌ كانت تلك الحلقات المؤدية محبَّبةً أو كريهة عند مَن أراد الوصول إلى تلك النتيجة المطلوبة. وأما الوقفة «العاطفية» أو «اللاعقلية» فهي التي يُؤْثِر صاحبُها اختيار الطريق المحبَّب إلى النفس بغض النظر عن تحقيق النتائج.
ويندر جدًّا أن تجد بين الناس إنسانًا خلَص له العقل وحده، لا يأتمر إلا بتوجيهه، كالذي يُقال عن سقراط إنه كان عقلًا صِرفًا، حتى لتعذر عليه أن يتصور كيف يَرى العقلُ رأيًا ثم لا يجد هذا الرأيُ تنفيذًا عند صاحبه؛ فما يراه العقل — كما ذهب سقراط — هو نفسه العلم بحقائق الأشياء، ومن ذا الذي يرفض أن يُعامِل الأشياء على حقائقها؟ ومن ثَم جاءت فكرته القائلة بأن «العلم والفضيلة شيء واحد»؛ يريد بذلك أن ما يدركه العقل (وهذا هو العلم) وما ينبغي على الإنسان أن يفعله (وهذه هي الفضيلة) هما جانبان لموقفٍ واحد، فهناك الإدراك الصحيح، وهنا الفعل الصواب بِناءً على ذلك الإدراك، ولم يتصور سقراط أن يُدرِك الإنسانُ بعقله الإدراكَ الصحيح، ثم يَفعل الفعل المضادَّ مدفوعًا إليه بالميل والهوى، اللهم إلا إذا كان الإنسان عدوًّا لنفسه يُريد لها التَّهلُكة، يرى طريق الحق ويَسلك طريق الباطل، يرى سبيل النجاة ويسلك سبيل الخطر والضياع.
ذلك ما لم يتصوَّرْه سقراط في الإنسان العاقل، قياسًا على نفسه؛ فهو — كما قيل عنه — لم يَشعر في حياته قط بموقف تنازعَتْه فيه الأضداد، فالعقل يشدُّه إلى هنا والعاطفة تجذبه إلى هناك؛ لأن ما يَراه عقلُه هو نفسه ما تَميل إليه عاطفته.
وخطأ سقراط هو في أنه قاس الناس على نفسه؛ لأن الفرد من الناس مركَّب من عقل وعاطفة، فإذا اتفَقا على الهدف والطريق — وكثيرًا ما يتَّفقان بلا عناء — كان خيرًا، وإلا فهما قد يَختلفان، بحيث يكون لكلِّ منهما هدفُه وطريقه وعندئذ يحدث الصراع المألوف في حياتنا بين إملاء العقل وميل العاطفة، وعندئذ أيضًا تكون قِسمتُنا للناس إلى مَن تَغلِب عليهم صفة العقلانية، ومن تغلب عليهم دفعة العواطف، ومن امتزاج الصِّنفَين يتكوَّن المجتمع الإنساني في معظم حالاته.
٣
فإذا الْتمَسنا طريق العقل في الثقافة العربية، كان معنى ذلك أننا نبحث عن خيوط اللُّحمة في نسيج، دون خيوط السَّدى، عالمِين بأن اللُّحمة والسَّدى معًا تشتركان في نسيج واحد، ولماذا أحاول عزل القمح عن الشعير بعد أن كان مُختلِطَين في مزيج واحد؟ أحاول ذلك لسببَين: أولهما: الرغبة في رسم خطة للسير الواضح، على النحو الذي أشرت إليه في أول الحديث، والثاني: عقيدة عندي بأنه إذا أراد الخلَفُ — الذي هو نحن العرب في عصرنا القائم — أن يَجيء امتدادًا للسلَف، فلن يكون ذلك إلا عن طريق الجانب العاقل من حياة السلَف؛ لأن الجانب اللاعاقل من حياة ذلك السلف ربما تعلق بأشياء لم تَعُد ذات شأن في حياتنا، وبالتالي فإنها لم تَعُد تستحق منا أن نسكب عليها هوسَ العاطفة دفاعًا عنها وحفاظًا عليها.
على أن طريق العقل الذي نلتمسه لنسير فيه، ليس هو طريقًا كله المنطق الجاف الذي يصنِّف الكائناتِ أجناسًا وأنواعًا بعد أن يَسلِبَها مَضامينَها الحية، ولا يبقى منها إلا أشكالها الخارجية الفارغة من الغذاء والدسم، لا، بل إن مرادنا هنا هو أن نعيش ثقافتنا القديمة وهي في حالات نبضها، مليئةً بمُشكِلاتها، وكل ما في الأمر هو أننا نريد أن نتخيَّر من تلك الثقافة مواقفها التي عالجتُها بالإدراك السليم، لا بالعاطفة حتى وإن كانت رَضيَّة ودافئة.
وللإدراك السليم في مواجهة المشكلات صور، ليست كلُّها أقْيِسة أرسطيَّة جفَّت في هياكلها عُصارةُ الحياة، بل إن منها ما هو أقرب إلى عَفْوية الطفل في إدراكه، ومنها ما هو مُمتزِج بالسخرية اللطيفة، ومنها ما هو إدراكٌ بالبصيرة النافذة، تصل إلى الحق بلمحة واحدة، ولنا بعد ذلك أن نُقيم على ذلك الحقِّ ما استطعنا من تبرير وبرهان، ولا بد أن يكون في حصاد الثقافة العربية كلُّ هذه الصنوف من الإدراك السليم، في مختلِف المواقف التي تعرضتُ لها.
فالفرق بعيدٌ بين رجلَين صادَفَتهما مشكلةٌ بعينها، ولنَقُل مثلًا إن كلًّا منهما قد أخذَه القلق على عقيدته الدينية، وأراد أن يطمئنَّ على قوتها؛ أما أحدهما فقد جعل طريق اطمئنانه هو أن يَخلق بأوهامه قصصًا يحكيها عن أقطاب من أتباع هذه العقيدة، تدل على أنهم بقوة عقيدتهم تلك استطاعوا أن يَفُكوا عن العالم الطبيعي قيودَ السببية العِلمية الصارمة، فهم يحصلون على ماء بغير مصادره، ويحصدون ثمارًا بغير نبات ينبته وهكذا، وأما الآخر فيبحث لبيان القوة في عقيدته عن أسُس يَقبلها الإدراكُ العِلمي السليم، سواءٌ كانت تلك الأسس قائمة على لمح البصيرة، أو على مشاهَدات البصر، أو على استدلالات العقل لنتائجَ يُخرِجها من مقدِّمات بين يدَيه.
وفي التراث العربي هذان الصِّنفان من الرجال؛ الصنف الذي لا يُقيِّد نفسه بالشواهد في مواجهة مُشكِلاته، والآخر الذي يواجه تلك المشكلات بأسلوب عاقل، لا يجد أبناءُ الثقافات الأخرى، أو أبناءُ الأجيال القادمة، بأسًا في تتبعه واقتباسه.
٤
لم أكَد أضع الأمر لنفسي على هذه الصورة التي تُفرِّق بين موقفَين؛ أحدهما يتحدَّى الوقائع وحدودها، وبالتالي فهو يتحدَّى العلم وطرائقه، والثاني يجعل الوقائع مَداره، ثم يُعالجُها على أي نحو يَطيب له؛ شريطةَ أن يصون لسلامة الإدراك مُقوِّماتها، أقول: إني لم أكد أضع الأمر لنفسي على هذه الصورة، حتى قفزَت إلى ذهني آية قرآنية كريمة ووِجْهة نظر في تأويلها، فوجدتُها هي الآيةَ التي ترسم لي خطة السير فيما أردتُ السير فيه، وأعني بها آيةَ النور، ووجهة نظر الإمام الغزالي في تأويلها؛ لأنه يُؤوِّلها في كتابه «مشكاة الأنوار» على نحوٍ يجعلها مبينة لدرجات الإدراك السليم، التي ربما كانت هي الدرجاتِ التي يتدرج بها الفرد الواحد في نُموِّه العقلي، وتتدرج بها الأمةُ الواحدة، أو الثقافة الواحدة في طريق نُضجها، وعندئذ يُمكِنني أن أتابع تراثنا الفكريَّ مهتديًا بتلك الدرجات الإدراكية، وملتمسًا لكلِّ درجة منها عصرًا تمثلَت فيه، ورجالًا تمثلَت فيهم، وكتاباتٍ تجلَّت فيها، فإذا وجَدتُني أسير مع هذه الدرجات في طريق موصول خلال عصور الثقافة العربية، كنتُ بذلك قد وقعتُ على خريطة الواقع، وخُطةٍ للسير في شِعابه.
تقول الآية الكريمة:
اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ.
فالنور هنا هو قوة الإدراك، ومن السهل على خيالنا أن يتصوَّر في الإدراك نورًا وفي الغفلة ظلامًا، وإن أسماء الله تعالى لتَحتوي على عدد كبير يدل على إدراكه لكل دقائق خلقه، ما ظهر منها وما بطن؛ فهو العليم، السميع، البصير، وهو اللطيف الذي يَعلم دقائق المعاني وغوامِضَها، ما دقَّ منها وما لَطُف، وهو الخبير الذي لا تغرب عنه الأخبار الباطنة، ولا يَجري في مُلكه شيء إلا ويكون عنده خبَرُه، وهو الحكيم، وهو الشهيد العالِم بعالَم الغيب وعالَم الشهادة، أي إنه تعالى عليمٌ بما بطَن من الأمور وما ظهر، يقول الإمام الغزالي في شرح أسماء الله الحسنى: إن اسم «العليم» يُشير إلى العلم على إطلاقه، فإذا أُضيف علمه تعالى إلى الغيب فهو «الخبير»، وإذا أُضيف إلى الأمور الظاهرة فهو «الشهيد»، وهو الحق بالمعنى المطلَق للحق، أي إنه تعالى حقٌّ بذاته غيرُ مُستنِد إلى شيء سواه، وأما كل حقيقة أخرى فحقُّها نسبي مضاف إلى غيره، فأحقُّ الموجودات بأن يكون حقًّا هو الله، وأحق المعارف بأن يكون حقًّا هو معرفة الله، وهو المحصي لأن علمه تعالى محيطٌ بالمعلومات جميعًا، ففي عِلمه ينكشف لكل معلوم حدُّه وعددُه ومَبلَغُه، وهو النور أي إنه هو الظاهر بذاته الذي يكون به كلُّ ظهور سواه، وهو الرشيد الذي يَنساق تدبيره إلى غاياته على سَنَن السَّداد.
لكن هذا الإدراك في خبرات الناس يكون على صور مُتباينة هي التي رمزَت إليها الآية الكريمة — على تأويل الغزالي للآية — فأما أُولى هذه الصور الإدراكية فهي المحسوسات التي تُدركها حواسُّ الإنسان؛ من بصرٍ وسمع ولمس وغيرها، وتلك هي التي رمزَت إليها الآيةُ بالمشكاة، وماذا بداخل المشكاة؟ بداخلها مصباحٌ في زجاجة، أما المصباح فهو العقل الذي يُدرِك المعانيَ؛ إنه لا يقف عند حدود ما تُورِده الحواس، بل يُجاوز تلك الحصيلةَ الحسِّية إلى دنيا المعاني المجردة، والذي يُعينه على فاعليته هذه هي الزجاجة التي تحيط به، والزجاجة هنا تَرمز إلى الخيال، ويُقصَد بالخيال هنا القدرة على حفظ ما تورده الحواسُّ مخزونًا، حتى يُعرَض على العقل عند الحاجة إليه، فلئن كان العقل يجاوز ما تجيء به الحواس من العالم المحيط، إلا أنه يَرتكز على المحسوسات ليتمكَّن من الوثوب إلى ما وراءها، وبالطبع لا يَستخدم العقلُ كلَّ الوارد الحسي دَفعةً واحدة، إنما هو في كل لحظة من لحظات فاعليته يَنتقي ما ينفعه، وإذن فلا بد له من حافظٍ يَصون له المدَّخَر من خبرة الماضي، فيكون له كالخازن الذي يُمِده في كل لحظة بما يُريد، وتلك هي الزجاجة المحيطة بالمصباح.
لكن قوة الخيال هذه — الزجاجة — مِن أين تأتيه؟ نعم، إنه موصوف في الآية بأنه كالكوكب الدُّري لمعانًا، لكنَّ لهذا الضياء الساطع مصدرًا، فهو يُوقَد من شجرة مباركة، والشجرة هنا — في تأويل الإمام الغزالي — هي الروح الفكري الذي يؤلِّف بين العلوم العقلية، إنه بغير تأليفٍ وتنسيق ثم انتقاءٍ واختيار، تظلُّ المعلومات أشتاتًا لا تنفع، فلنقل إذن إن الشجرة المباركة هنا هي «المبدأ»، أو جملةُ المبادئ التي تُوحِّد الشَّتِيت ليصبح نورًا هاديًا، أعني لِيُصبح عِلمًا يَكشف عن الحق، فإذا استَطْرد السائل ليسأل: ومِن أين للشجرة نفسِها هذه القوة؟ أجابت الآية الكريمةُ بأنها قوة ذاتية لا تُستمَد من شيء آخر؛ إذ هي إنما تُضيء بزيتها هي، وزيتها هذا يَكاد يُضيء من تلقاء نفسه، ولو لم تمسَسْه نار، وإذن فهو المصدر الإدراكي الأخير الذي يَقوم بذاته، ثم يكون منه المددُ لغيره من صور الإدراك. هو أقربُ شيء إلى ما نُسمِّيه في المصطلح الفلسفي «بالحَدْس» أو الإدراك بالفطرة أو بالبصيرة؛ لأنه إدراكٌ يَلمَع دَفعةً واحدة، يُبرهِن على غيره، لكنه هو نفسُه لا يحتاج إلى برهان؛ إذ هو مباشر غير مسبوق بما يُمهِّد له أو ما يُولِّده ويُنتِجه، وإن شئتَ فقل عن مثل هذا الإدراك الأوليِّ المباشر: إنه إلهامٌ أو وحي من الله.
على هذا النحو يتصاعد النور، أو تتدرَّج صورُ الإدراك؛ حِسًّا، فعقلًا يَصونه خيال، فبصيرةً يُوحي إليها، فتَهتدي إلى الحقِّ بالفطرة الملهَمة.
•••
سألتُ نفسي: أتكون هذه هي نفسها المراحل التي تَنمو بها مَدارك الفرد الواحد من الناس؛ تَمتلئ حواسُّه بما يَرى ويسمع ويلمس، فتَغزُر خبراته بما حوله، فيَتناولها العقل بالتنظيم، مُهتديًا في ذلك بمبادئَ جُبِلَت في فطرته؟ بل سألتُ نفسي: أفيَبعُد أن تكون هذه الدرجات الإدراكية هي نفسها ما تميَّزَت به عصور الثقافة الإنسانية؛ فعصرٌ ثقافي كانت تَسودُه التَّجارِب الأولية بالعالم المحيط وظواهره، فكان تَعليله عند أهله بالأساطير، تلاه عصرٌ انخرَط فيه الفكرُ لِيَنصبَّ في قوالبَ وأطُرٍ هي التي يُطلِقون عليها اسم «العقل»، وكان ذلك عند اليونان الأقدَمين، ثم أعقب هذا وذاك وحيٌ بالمبادئ والقيم التي تُمسِك بثمرات العقل في شجرة واحدة، وكان ذلك في ديانات الشرق الأوسط التي انتهَت إلى الإسلام؟
وإذا كانت هذه المراحلُ الإدراكية أمرُها كذلك، فهل يَجوز لي أن أترَسَّم مَدراجها في تتبُّع مسار العقل في التراث العربي؟ بمعنى أن ألْتمس ذلك العقل في خواطر البداهة أولًا، ثم في مُحاجَّات المنطق ثانيًا، ثم في حَدْس الصوفية ثالثًا؟ وقد تعود الدورة على هذا النحو مرةً بعد مرة؛ وفرةٌ في الحصاد، فتنظيمٌ لذلك الحصادِ الوافر، فتأمُّلٌ فيما يُجاوزه ويَعلوه.
٥
إن للفيلسوف البريطاني المعاصر ألفرد نورث وايتهد كتابًا صغيرًا هاديًا ومفيدًا، عن «أهداف التربية»، وقد حاول في كتابه هذا أن يقَع على أُسس مُقنِعة يقوم عليها تقسيمُ التعليم إلى مراحلَ يَتلو ويُكمل بعضُها بعضًا، فبحَث أولًا عما يُميِّز الإدراك الإنسانيَّ في كل مرحلة عُمرية، حتى إذا ما وجَد تلك المميزات، جعلها مَدارات للتربية، كل منها في مرحلته الخاصة، وبعد شيء من التحليل الدقيق الذي نَعهده في كلِّ ما أنتَجه وايتهد من فكر، انتهى إلى مُميزات ثلاثة تتعاقَب على الناشئ في مراحل نموه؛ ففي البداية يكون التحصيلُ عند الطفل متميزًا بعقوبة خلَّاقة، تمتد أصابعُه لكل ما يُصادِفه، يحطم ويهشم لِيَملأ حسَّه بكل جوانب الشيء الذي يقَع عليه؛ يلمس، ويذوق، وينظر، ويُنصِت، يجري هنا وهنا ويتعثَّر ويَستقيم، حتى إذا ما خرج من طفولته العفوية تلك، هدأ قليلًا ليجمع القواعد التي تنظم له حصاده الغزير المهوش، وما إن تجتمع له مجموعة كافية من تلك القواعد في بضع سنين، تراه عندئذ يَصبو إلى صعودٍ فوقها إلى المبادئ العامة التي تَطْويها.
ومِن ثَم فقد كان الرأيُ التربوي عند وايتهد، أن تُخصَّص المرحلة الدراسية الأولى لما يُشبِه التحصيل العشوائي الذي يتَبدَّى في فطرة الطفولة، ثم تُخصَّص المرحلة الوسطى (الثانوية) لما يُشبِه تقعيد القواعد، أعني إدراج الحصيلة الأولى تحت قواعد العلوم وقوانينها، وأخيرًا تأتي المرحلة الأخيرة مُتمثِّلة في التعليم الجامعي، فتصب اهتمامها، لا على العلوم المختلِفة من حيث هي مجموعاتٌ من قواعدَ وقوانين، بل على المبادئ الأعم التي تَشمل تلك العلومَ كتطبيقات لها، فالمبادئ العامة وحدها هي التي تُتيح للفكر أن ينظر إلى المشهد كلِّه بنظرة شاملة، تُمكِنه من أن يُجاوِيَ ويَعلوَ عليه بما هو أكثرُ تقدمًا وتطورًا.
ففي المرحلة الأولى فاعليةٌ حرة مُطلَقة السَّراح، وفي المرحلة الثانية تحديدٌ للملامح والقسمات، وفي المرحلة الثالثة اتِّساع في الأفق وبُعدٌ في مرمى النظر، في الأولى إدراكٌ بالجملة على شيء من إبهامٍ وغموض، وفي الثانية تفصيلٌ للأجزاء وربطٌ بينها بالعلاقات، وها هنا يكون التحليل لما هو مُجمَل، والضبط لما هو مُنساب على فِطرته، والسير على مِنهاج يُقيِّد الخطوات، أما في الثالثة فارتفاعٌ إلى مبادئَ يَضم كلُّ مبدأ منها قوانينَ أشتاتًا تفرَّقَت بين مختلِف العلوم، ومن ثَم تنشأ فكرة المعرفة الموحَّدة، والكون الموحَّد ويكتمل عند الإنسان مبدأ التوحيد.
بعبارة أخرى، يبدأ التحصيل بمشاهدة الوقائع لذاتها لا لدلالاتها، ثم يُنظَر إلى كل واقعة من حيث هي مَثلٌ لقانون عِلمي يَطْويها مع أشباهها في مجموعة واحدة، وأخيرًا يُلحَق هذا القانون مع قوانينَ أخرى تتصل به بمبدأ يَحتويها جميعًا، كأنها أفرادُ أسرة واحدة.
ولعل أوضحَ مثل لهذا التدرُّج في الإدراك كما يراه وايتهد هو اللغة، وكيف يُحصِّلها المتكلِّم بها، فيبدأ الطفل في الْتِقاطها مفرَداتٍ وجُملًا لا يَعرِف لها أصلًا ولا فصلًا، فهو يَسمع ويُحاكي، ثم يتعلَّم بعد ذلك القواعدَ التي تَضبط ما كان قد الْتُقِط، حتى إذا ما اكتمل نُضجه أمسك بتلك اللغة إمساكَه للكائن الحي، يَعرف كيف يَستخدمه ويصرف أموره على النحو الذي يريد.
•••
والشَّبه — على وجه الجملة — واضحٌ بين مراحل الإدراك كما تحدث عنها وايتهد في بحثه التربوي، ومراحل الإدراك كما لمحها الغزالي عند تأويله لآية النور، ففي الحالتَيْن تكون مراحل الإدراك في مَدارج صعوده بادئةً بالعفوية النشيطة الحية، ومعقبة عليها بالتنظيم والتنسيق وتقعيد القواعد، ثم مُنتهية بإدراك المبادئ الأشمل والأعم، لولا أن الغزالي يُضيف إلى ذلك مرحلةً رابعة يكون عندها تأمُّل مسدَّد بقوة الإلهام.
وسأجعل هذه المدارجَ نفسَها معالمَ طريقي عندما أشُقُّ لنفسي طريقًا في دنيا تراثِنا الفكري، باحثًا عن «العقل» كيف بدأ وكيف نما، وفي أي اتجاه استقام به السيرُ أو انْعرَج.
وإنه ليُخيَّل إليَّ — بعد نظرةٍ إلى تاريخنا الفكري من أعلى — بأن القرن السابع الميلاديَّ (الأول الهجري) قد شهد مرحلة الومضات العفوية الخلَّاقة، وأن القرنَيْن الثامن والتاسع هما اللَّذان قد شهدا التنظيم والتقسيم وتأصيلَ القواعد والاستدلالَ منها، وأن القرن العاشر قد جاوز القواعد المجزَّأة المفرَّقة إلى المبادئ الفلسفية الكاملة الشاملة، ثم جاء القرنُ الحادي عشر، فلجَأ إلى الحَدْس ليلتمس الحقَّ في لمحة التصوف، وأما بعد ذلك — فباستثناء حالاتٍ تَلفت النظرَ — كان نشاطُنا الفكري على الأعم الأغلب تدويناتٍ وتجميعات لما كان، بغير إضافة جديدة، هذا في المشرق. وأما في الأندلس فقد سارت الخطوات على غِرار الدورة نفسِها؛ تنظيمٌ وتقسيم، ثم تتويجٌ لذلك بنظرات فلسفية شاملة، ثم آخِرَ الأمر تصوفٌ يريد أن يختصر الطريق إلى الحق بشهود مباشر.