مِصباح العقل في مِشكاة التجرِبة
١٢
قدمنا لك في الفصل الأول خُطة السير التي رسَمْناها لأنفسنا؛ لنهتديَ بمعالمها في الْتماسنا لطريق العقل في تراثنا الفكري، وقد جعَلْنا تلك المعالمَ مَدارجَ الإدراك التي رآها الإمام الغزالي عند تأويله لآية النور، والتي هي نفسُها — على وجه التقريب — مَدارجُ الإدراك التي أشار إليها الفيلسوف المعاصر «وايتهد» عند حديثه عن أهداف التربية، وهي درجاتٌ تتَداخل كلما صعدنا سُلَّم النمو، أواخر الدرجة السابقة في أوائل الدرجة اللاحقة، شأنها في ذلك شأن التدرُّج أينما وجَدْناه في ظواهر الطبيعة ومظاهر الفكر على حدٍّ سواء؛ فمن إدراكٍ بالحواسِّ يَستمد ذَخيرته من دنيا الواقع مباشرةً أثناء مُكابدة الإنسان لما يَعتوِره من أزمات وما يَعترضه من مُشكِلات؛ إلى إدراكٍ بالعقل قِوامُه تقنينُ القوانين التي تحمل في طيِّها أحكامًا عامة انتُزِعت من المواقف المفرَدة الجزئية التي خاضها الإنسان في مَعمَعان حياته بكل ما فيها من ضروب الكدِّ والكدح والصِّراع؛ إلى ارتفاعٍ بهذه القوانين العامة نفسها إلى مبادئَ أعمَّ منها، كل مبدأ منها يَطوي تحت جَناحَيه عدة قوانينَ دَفعةً واحدة، جاعِلًا منها أسرة مُتجانِسة؛ إلى محاولةٍ أخيرة للوصول بهذه المبادئ الأولى إلى المعين الذي تدفَّقَت منه في أذهاننا كأنها الومضات التي تُضيء أمام الإنسان طريق الهداية، ولقد بسَطْنا أمام أنظارنا موقفًا معينًا بكثير من تفصيلاته، هو واقعةُ صِفِّين بين عليٍّ ومعاوية؛ لنرى أسلافنا رأيَ العين إذ هم يَخوضون عُبابَ حياتهم الفِعلية الواقعة؛ كيف كانوا يُفكِّرون ويَسلكون، وزعَمْنا أنهم في موقفهم ذاك — فيما رأينا — إنما كانوا مثَلًا واضحًا للمرحلة الإدراكية الأولى، القائمة على أحكام البديهة الفِطْرية، فلم تكن الفكرةُ لديهم وليدةَ قراءة ودَرْس، ولا وليدةَ تأمُّل طويل في صورة مجرَّدة نظرية، بل كانت الفكرةُ لديهم تأتي فورَ لحظتها لِتَردَّ على موقف طارئ، كأنما هي الكُرة يَقذِف بها لاعب لِيَرُدها إليه لاعبٌ آخرُ في غير تَمهُّل ولا إرجاء، وإذن فقد كانت هذه هي الصورة لحياة الإدراك في مرحلتها الأولى من مراحل تراثنا الفكري، وكان ذلك خلال القرن السابع الميلادي (الأول الهجري) على وجه التقريب.
وسبيلنا الآن إلى الانتقال مع تلك الحياة الإدراكية في تراثنا إلى مرحلتها الثانية، التي هي مَرحلة التفكير العقلي الذي نجد قِوامَه في تقعيد القواعد لما قد كان أشتاتًا متناثِرة، أو قُل: إن قِوامه هو في رد التجارِب الجزئية والخبرات المفرَدة إلى أحكام عامة تضمُّها معًا في شمل واحد.
وإن هذا التعميم في أحكامنا — لو أُحسِنَت صياغتُه وسَلِم من الخطأ — لهو في صميم المنهج العلمي، بل هو في صميم العلم ذاتِه، فما العلم؟ إنه لا يُعرَف بموضوع معيَّن؛ لأن موضوعات البحث العلمي قد تتعدَّد، فقد يكون موضوعُ الباحث العِلمي هو تركيبَ المادة أو هو التفاعل بين عُنصرَين أو أكثر من عناصر المادة، أو قد يكون موضوعه هو حركةَ الأفلاك أو مسار الضوء أو سرعة الصوت أو فاعلية الكهرباء، أو قد يكون موضوعه هو غزوة الهكسوس على مصر، أو سقوط المطر أو هبوب الريح، أو قد يكون موضوعُه أوزان الشعر العربي أو خصائص فنِّ العمارة في عصر من العصور، وهكذا وهكذا إلى ما ليس له آخِرٌ من موضوعاتٍ شتَّى يتناولها رجالُ العلم بالبحث، وكلها — على اختلافها الشديدِ الذي تراه — علوم، وإذن فمُحالٌ أن نُعرِّف العلم بنوع الموضوع الذي يَطرحه للبحث، لكننا نكون أقربَ إلى الصواب إذا عرَّفْنا العلم بمنهجه لا بموضوعه، فاختَرْ أي موضوعٍ تشاء، وابحَثْه بطريقة معيَّنة لها شروطُها وحدودها تَكُن من العلماء، ويَكُن موضوعك هذا جزءًا من العلم.
ولهذا المنهجِ الذي يُميِّز العلمَ مما سواه خصائصُ كثيرة، لعل أولها وأهمَّها هو أن نلتَمِس الأحكام العامة من المفردات؛ شريطةَ أن نكون على حذرٍ شديد وعلى دقَّة صارمة؛ لكي تجيء تلك الأحكامُ العامة صورةً صحيحة لما يقع بالفعل في دنيا الوقائع، وبهذا يُمكن تطبيقها على أرض الواقع فتَنطبق، وتصبح أداةً هادية للإنسان في حياته العمَلية.
فإذا كانت المرحلة الإدراكية الأُولى خوضًا في عُباب الحياة كما تقَع لنا مواقفها بالفعل، فإن المرحلة الإدراكية الثانية هي تجريدٌ مِن تلك الحياة الفعلية العمَلية لما عسى أن نُجرِّدَه من قوانينَ ومبادئَ وأحكام، والذي نحن زاعِموه هنا هو أننا إذ ننتقل مع أسلافنا من القرن السابع الميلادي إلى القرن الثامن، فنحن بذلك إنما نَنتقل من إدراك الفطرة والتجرِبة والمعاناة إلى الإدراك العِلمي في أولى درَجاته على الأقل، فقد كان العرب يتكلَّمون لُغتَهم في القرن السابع وما قبل القرن السابع، لكنهم لم يَستخرِجوا لتلك اللغة قواعِدَها إلا حين أخَذوا في التفكير العِلمي، وكان لهم شِعر يَنظِمونه، لكنهم لم يُجرِّدوا من ذلك الشعرِ موسيقاه — أي تَفعيلاته وأوزانه — إلا حين أخَذوا يُفكِّرون على نهج العلم ومنطقه، وهكذا. لقد كانت مرحلتهم الأولى تُقابِل المشكاةَ من مصادر النور، وها هم الآن — مع القرن الثامن — قد بدَءوا مرحلة أخرى تُقابِل المصباح في المشكاة، آخِذين هنا بتأويل الغزالي لآية النور.
١٣
المشكِلات الفكرية تَجيء نابضةً بالحياة حين تَنبت في تُربة الحياة العمَلية نفسِها، كما نُكابدها ونُعانيها، لكنها تَجيء مفتعَلة باردة حين تُنتزع من محيطها انتزاعًا لِتُنقَل إلى محيط آخر لا تتنفَّس هواءه ولا تَحيا تحت سمائه، وأقول هذا وفي ذهني دُنيانا الثقافية التي نعيشها — نحن العرب المعاصرين — اليوم، حيث كثيرٌ من المشكِلات التي يتناولها أئمة هذه الدنيا الثقافية التي يَعيشها العرب المعاصِرون، لا تمتُّ إلينا بسبب واضح، ومن ثَم كان مُثقَّفونا في وادٍ وجمهور الناس في وادٍ آخر؛ فمُثقَّفونا يَقرءون — على الأغلب — لغةً أوروبية، ويُصادِفون في كتبها وصحفها مَسائلَ يطرحها كُتَّاب تلك اللغة؛ لأنها تَعترِضُهم في مَجرى حياتهم، فما هو إلا أن يُصبح الصباح بمثقَّفينا هؤلاء، وإذا تلك المسائل نفسُها بحلولها نفسِها قد سالت على أقلامهم مَقالاتٍ عربيةً في الصحف والمجلات والكتب، ثم يقرأ القارئ المسكين، وقد يَفهم وقد لا يفهم مِحورَ المشكلة المطروحة وطريقة حلِّها، لكنه بدَوره يريد أن يُسلَك في زُمرة المثقَّفين، فسرعان ما يُردِّد مقروءه في المجالس التي يَرتادها، ولو وقَف الأمر عند هذا الحدِّ لهان، لكنَّ نتيجة فادحة تنتج بالضرورة، وهي أن جُمهور الناس من غير المثقَّفين يُعانون في حياتهم مواقفَ بعينها ومشكلاتٍ بذاتها، وكانوا يَودُّون أن يَسمعوا عنها ما يَهديهم سواء السبيل، فلا يَجدون هذه الهداية عند المثقفين، فيَلوذون معذورين بمن يحلُّ لهم مُشكِلاتهم بالخرافات، فيحضر لهم أرواح الموتى لعلها تَهدي برأي، أو يلجأ إلى صاحب كرامات؛ عسى أن يُشير إلى طريق.
لكن ذلك استطرادٌ منا عما كنا بصدد الحديث فيه، فلنَعُد مُسرِعين إلى موضوع الحديث، لنقول مرة أخرى: إن المشكلات الفكرية تنبض عند أصحابها بالحياة حين تَنبُت معهم في أرض حياتهم العمَلية ذاتها، وهكذا كانت الحال مع أسلافنا عندما طُرِحَت أمامهم مشكلةٌ نظرية تريد حلًّا مقنِعًا، ولعلها كانت أولَ مشكلةٍ نظرية تُطرَح أمامهم للبحث النظري، وأعني بها مشكلة الذنوب الكبيرة؛ ماذا يكون الحكمُ السديد بالنسبة إلى مُقترِفيها؟
إنهم لم يَنزِعوا هذه المشكلةَ من الهواء، بل انبثقَت لهم انبثاقًا من أرض الحوادث، وفرَضَت نفسها على عقولهم فرضًا؛ نتيجة لازمةً لواقِعتَيِ الجمل وصفِّين؛ ففي كلتا الحالتين كان نفرٌ من أمة المسلمين يقاتِلون نفرًا من أئمة المسلمين، وإذن فبين الفريقين خلاف احتدَّ إلى درجة القتال وسفكِ الدماء، ولم يكن الأمرُ عندئذ يَعْدو أن يكون أحدُ الفريقين على الأقل على غير صواب، إن لم يكن الفريقان معًا، وأما أن يكون كِلاهما على صواب فضربٌ من المحال، ومعنى ذلك أن أحدَ الفريقَين على الأقل إن لم يكن كلاهما معًا، قد اقترف خطيئةً كبرى في حقِّ مَن قُتِلوا بغير وجه حق، أفليس مِن الطبيعي في هذه الحالة أن يُسائل المرء نفسَه: تُرى ماذا يكون الحكم في مسلم ارتكَب خطيئة كبرى؟ ولقد كانت هذه المسألةُ بالفعل هي أولَ ما عُرِض أمام العقل لِيُوازِن حُجةً بحُجة، ثم يُصدِر حُكمًا يَرضى عنه منطقه، على أن المسألة لم تَقِف عند حدودها الفقهية في الحكم على مؤمن أذنَب، بل ما هي إلا أن تفرَّعَت فروعًا مسَّت أحقية الخلافة لمن تكون، ومِن ثَم رأينا النظرات السياسية تبدأ في الظهور وتتشعَّب بين الناس تياراتٍ ومذاهب.
لقد رسَمْنا صورةً لما كان في واقعة صفين، فرأينا كيف نبَت الخوارجُ فيها كما يَنبت النبات في تربته، لم يُنقَل إليها نقلًا ولا أُقحِم عليها إقحامًا، ولا بأس علينا هنا في أن نَرسم صورة أخرى لما كان في واقعة الجمل عند البصرة؛ لتزداد لنا الرؤية وضوحًا، فنرى كيف نشأَت أمام العقل العربي أولى مُشكِلاته التي حاول مُعالجتها بمنطق البرهان (راجع ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة، ج١).
لما بويع عليٌّ كتب إلى معاوية في الشام يَطلب منه البيعة، فما كان من معاوية هذا إلا أن كتب بدَوره إلى الزبير يُغْريه بولاية الكوفة والبصرة، على أن تكون هذه الولاية لطلحةَ مِن بعده، قائلًا له فيما قال: «… فدونك الكوفة والبصرة، لا يَسبِقك إليهما ابنُ أبي طالب؛ فإنه لا شيء بعد هذَيْن المِصرَيْن …» ثم حثَّه على أن يُظهِر هو وطلحةُ معه الطلبَ بدم عثمان.
فلما وصل هذا الكتابُ إلى الزبير سُرَّ به، وأعلمَ به طلحة، فلم يَشُكَّا في إخلاص النصيحة من معاوية، وعزَما على أن يَخرجا على عليٍّ بعد أن كانا بايَعاه، ولم تَمضِ أيامٌ حتى جاء الرجلان إلى عليٍّ يَطلبان منه أن يولِّيَهما بعضَ أعماله، فأمهلَهما عليٌّ حتى يرى ماذا هو صانع، فعاد الرجلان مرةً أخرى إلى عليٍّ يستأذنانه في العُمرة، فأدرَك أميرُ المؤمنين ما يَنطوِيان عليه من خديعة، وقال لهما: ما العُمرةَ تريدان.
فحلَفا له بالله أنهما ما يريدان غير العمرة.
فقال لهما: ما العمرةَ تريدان، وإنما تُريدان الغَدْرة ونكْثَ البيعة! فحلَفا بالله ما الخلافَ عليه، وما نكْثَ بيعةٍ يريدان؛ فما يُريدان إلا السفر لأداء العمرة.
فقال لهما: فأعيدا البيعةَ لي ثانية.
فأعادها بأشدِّ ما يكون من الأَيْمان والمواثيق.
فأذن لهما، فلما خرَجا من عنده، قال لمن كان حاضرًا: والله لا ترونها إلا في فتنة يقتتلان فيها.
وقد صدَقَت فراسته فيهما؛ إذ إنهما إذ هما في طريقهما إلى مكة، لم يَلْقيا أحدًا إلا وقالا له: ليس لعليٍّ في أعناقنا بيعة، وإنما بايَعْناه مُكرَهين.
وسار الزبير وطلحة من مكة — ومعهما عائشة — يريدون البصرة، ولقيهم أمير المؤمنين هناك في معركة سُمِّيَت بمعركة الجمل؛ لأن أم المؤمنين عائشة كانت في هودجها على ظهر جملها، تُشارك في مقاتلة عليٍّ وصحبه، ويُساندهم جميعًا فريقٌ من أهل البصرة، ولقد قيل في وصف المعركة: كانت الرماح يوم الجمل قد أشرَعَتْها الرجالُ بعضُها في صدور بعض، كأنها آجام القصب، وقيل: كانت الرءوس تُقطَع عن الكواهل، والأيدي تَطيح من المعاصم، وأمعاء البطن تَنْدلِق من الأجواف، وهم حول الجمل كالجراد الثابتة لا تتحلحَل ولا تتزلزل، حتى لقد صرخ عليٌّ بأعلى صوته: ويلكم! اعقروا الجمل؛ فإنه شيطان! اعقروه وإلا فَنِيَت العرب! لا يزال السيف قائمًا وراكعًا حتى يَهوِيَ هذا البعير إلى الأرض!
فصمد رجالُ عليٍّ للجمل حتى عقروه، فسقط وله رُغاءٌ شديد، فلما ترَك كانت الهزيمة.
كان فريقٌ من أهل البصرة مع عائشة وصاحِبَيها طلحة والزبير، وكان رجالُ عليٍّ من أهل الكوفة، فلما انقشَعَت الواقعة عن هزيمة الأوَّلين، أخذ الفريقان يتعارضان بأراجيز الشعر!
أريدك — أيها القارئ — ألا تنسى أن الحرب كانت بين فريقَيْن؛ في أحدهما أمُّ المؤمنين عائشة، وفي الآخر عليُّ بن أبي طالب الذي كان موقعُه من النبيِّ عليه السلام ما كان! فهل تُصدِّق أن يقوم الزبير وطلحةُ في الناس، يَستحِثُّونهم على استئناف القتال، فيقولا في عليٍّ: إنه لا يُبقي حرمةً إلا أنهكَها، ولا حريمًا إلا هتَكَه، ولا ذُرِّية إلا قتَلها ولا ذواتِ خِدْرٍ إلا سَباهن!
وبعد الهزيمة أخذَت عائشةُ كفًّا من حصًى، فحصَبَت به أصحابَ عليٍّ، وصاحت بأعلى صوتها: شاهَت الوجوه! فقال لها قائل: وما رمَيتِ إذ رميتِ، ولكن الشيطان رمى!
فمَن مِنا — نحن أبناءَ هذا العصر الحاضر، الذين مُلِئَت نفوسهم رهبةً من هؤلاء الأوائل كادَت تبلغ بهم حدَّ التقديس والعصمة من الخطأ — مَن مِنا يرى هذا التقاذُفَ بكلمات هي مِن أغلظ اللفظ، بين ناسٍ هم مَن هم في قلوبنا، ثم لا يأخُذه العجب والذهول؟!
على أن موضوعنا هو أن نضع هذه الصورة أمامنا، فنفهم فَهمًا جيدًا كيف تُستثار العقول يومئذٍ لسؤالٍ يَسأل: إذا كان أحدُ هذَين الفريقَين من صفوة المسلمين على خطأ — ولا بد أن يكون أحدُهما على الأقل على خطأ — وإنه لخطأٌ أنتَج سفْكَ الدماء لعددٍ كبير من الناس، قد يَكونون من الشهداء إذا كانوا مع جانب الحق، وقد يكونون من الضالِّين إذا كانوا مع جانب الباطل، فماذا يكون حكمُ العقل في ذلك كلِّه؟ فأولًا: أيُّ الجانِبَين على حق؟ وثانيًا: ما حُكمُنا فيمن يكون على باطل؟ وثالثًا: أفي مُستطاعنا أن نَهتديَ إلى قاعدة نظرية في أحقِّية الخلافة لِمَن تكون؟
١٤
لقد اخترتُ مدينة البصرة في أوائل القرن الثامن الميلادي (الثاني الهجري) لتكون هي موضعَ الوقفة الثانية التي أقِفُها مع الآباء الأولين؛ لأرى فيمَ كانوا يفكرون وعلى أي نحوٍ يُفكِّرون، وقد كانت وقفتي الأولى معهم في معركة صفِّين — كما بسَطتُ القول في الفصل السابق — وها أنا ذا أنظر فأرى أولَ ما أرى حالةً من التوتُّر العقلي تُثير القلق في نفوس الناس، وتَحول بينهم وبين أن يَستقرُّوا معًا على رأي واحد؛ فقد أحَسُّوا الحيرةَ — كما أحسَستُها أثناء قراءتي عن أحداث تلك الفترة التي أرَدتُ الكتابة عنها — أحسُّوا الحيرة: تحت أية راية ينضَوُون؟ فهذا هو عليٌّ بكل مكانته من حيث هو أولًا، ومن حيث قَرابتُه للنبي عليه السلام ثانيًا، ومن حيث إمارتُه الشرعية على المؤمنين ثالثًا، يُقابله على أرض الخصومة أمُّ المؤمنين عائشة زوجُ النبي، فإلى أيِّ القُطبَين يَذهبون؟ ثم إلى أيِّ الهدفَين يقصدون؛ أيَقصدون إلى الحفاظ على وَحْدة المسلمين فيُحايِدون، أم يَقصدون إلى ولاء معيَّن فيأخذون جانبًا من جانِبَي الصراع؟ وهل يُعلُون من شأن الإسلام باعتباره دينًا للجميع يتخطَّون به حدود الحزازات والمنافسات، أم يُعلون من شأن الانتماء القبَليِّ أولًا، وبعد ذلك يأتي الولاء للعقيدة الدينية؟
فلا عجب أن ننظر إلى أهل البصرة عندئذ، فإذا هم مُنشقُّون على أنفسهم أحزابًا؛ ففريقٌ يؤْثِر مساندة عليٍّ، وفريق آخر يُفضِّل الولاء لعائشة فيُطالبون بما كانت تطالب به وهو الثأر لدم عثمان، وفريقٌ ثالث يَبعد عن المشكلة ويتَّخِذ لنفسه موقفًا مُحايِدًا. فأما الفريق الأول — وهم المساندون لعليٍّ — فمنهم نشأَت «الشيعة»، وأما الفريق الثاني — وهم المؤيِّدون لعائشة — فمنهم تألف حزبُ العثمانية، وأما الفريق الثالث — وهم المحايِدون — فمنهم تكوَّن الزاهدون المتطرِّفون الذين أسمَوْا أنفسَهم ﺑ«الخوارج» ولعلهم هم الذين أوجَدوا حركة الاعتزال (راجع كتاب شارل بلَّا: الجاحِظ، الترجمة العربية للدكتور إبراهيم الكيلاني، ص٢٦٠). ويقول «بلا» في كتابه هذا (في الصفحة المذكورة نفسها): «إذا كان نيبرج على حق حين قال [في دائرة المعارف الإسلامية]: إن ظهور عليٍّ هو الخط الكبير الذي يَفصِل مَجرى تاريخ الإسلام، فإنه بوُسعنا أن نؤكِّد بأن معركة الجمل هي نقطةُ البدء لكل تطور سياسي وديني لاحِقٍ بالنسبة إلى عدد كبير من المسلمين.»
- (١)
فهنالك المتطرِّفون إلى يسار، وهم الخوارج الذين زعَموا أن كل مَن قاتل عليًّا — بمن في ذلك عائشة وطلحة والزبير — فهو كافر، وأن عليًّا نفسَه كان على حقٍّ طوال واقِعتَي الجمل وصفين، إلى أن قَبِل مبدأ التحكيم فعندئذ كفَر هو الآخر مع الكافرين، فها هنا لا وسَط في الأحكام؛ فإما صواب وإما خطأ، وفريق الصواب مؤمن، وفريق الخطأ كافر.
- (٢)
وهنالك المعتدِلون، وهم جماعة المعتزلة كما بدأَت بواصل بن عطاء، الذي فرَّق بين المبدأ النظري من جهة، وأعيان الأشخاص من جهةٍ أخرى؛ فمن الناحية النظرية المنطقية الصِّرف، يمكن القول بأن الضِّدَّين (الكفر والإيمان) لا يَجتمعان معًا في شخص واحد، ولكننا من ناحية التطبيق لا نستطيع تعيين الأشخاص الذين يقَعون تحت هذا الضد أو ذاك، هذا إلى أن المعتزلة لم يرَوْا أن حقيقة الموقف هي: إما أصاب فهو مؤمن، وإما أخطأ فهو كافر؛ إذ هنالك منزلة وُسطى بين الطرَفَين هي منزلة المؤمن العاصي، الذي لا يُخرِجه عصيانه من دائرة المؤمنين لِيُدخله في دائرة الكافرين.
- (٣)
وهنالك المتطرفون إلى يمين، وهم أهل السُّنة والجماعة، الذين قالوا بصحة إسلام الفريقَيْن معًا.
على أن هذه الشُّعَب الثلاث، وإن تكن قد بدأَت طريقها من هذه المشكلة المحددة الناشئة عن موقف معيَّن، فقد امتدت ونمَت وتطوَّرَت وتكاثرت مشكلاتها وتنوَّعَت، لكن بَقِيَت لكل منها روحُها الأولى وطابَعُها المميِّز، وسوف يكون لنا عودةٌ لها في مواقفَ أخرى وظروفٍ مُبايِنة.
وإنك لتَرى في هذه البداية كيف بدأ «العقل» بحِجاجه واستدلاله، وبهذا نستطيع أن نَفهم قولَ القائلين عن مدينة البصرة في ذلك العهد الذي أوقَفْنا أنفُسَنا وسط حوادثه، إنها تتميَّز بالنظرة «العقلية»، خصوصًا إذا قُورِنَت بمدينة الكوفة وطرائقِ أهلها في تناول المشكلات، فبينما البصريُّون «يعقلون» المسائل بحدود المنطق ومِنهاجه، كان الكوفيُّون يَكفيهم الأخذُ بالراوية عن الأسلاف كما تُروى، بغير حاجةٍ منهم إلى تعليلٍ أو استدلال، أو إن شئتَ فقل: إن البصريِّين أميلُ إلى الواقعية العِلمية التي تَنشُد دليل العقل، على حين كان الكوفيون أقربَ إلى وجدانية أصحاب العاطفة والخيال، فالبصريون يَنقدون ما يُروى لهم نقدًا يُميِّز صحيحه مِن باطله، على حين كان أهلُ الكوفة يُؤمِنون تصديقًا لما يُروى عن السلف، بلا تحليل ولا تشكُّك، وفي ذلك يقول ماسينيون (وأنا أنقل النصَّ عن كتاب شارل بلَّا الذي سبقَت الإشارة إليه، ص١٧٥ من الترجمة العربية): «إن الصفة المميِّزة لمدرسة الكوفة في ميادين الثقافة العربية جميعها هي أصالة الخيال، في حين أن مدرسة البصرة تَستمدُّ قوتها من واقعيةٍ دَءوبٍ ونقدية؛ فهي تُكثِّف النحوَ والتفسير في عددٍ محدود من المعطَيات الثابتة، وإن شعراءها الساخرين الارتيابيِّين ليَعكسون أسلوب المدن، ذلك الأسلوب الذي يتصف به النثر العربي، والذي وُجِد في البصرة، بفضل نُضج الأفكار التي جاءتها من الخارج، ولقد شبَّه الحجاجُ البصرةَ بامرأةٍ عجوز، تزيَّنَت بأنواع الحُليِّ، وشبَّه الكوفة بفتاةٍ بِكر ذات عُنق عاطل» لكن المرأة العجوز التي زيَّنَت نفسها بزينة خارجية، لها مِن تَجاربِها ما يَعصِمُها من أن تَجرِفها أمواجُ العاطفة.
فلا عجب — إذن — أن نتلفَّت حولنا في أنحاء البصرة (ولنذكر أن البصرة هي التي اختَرْناها لوقفتِنا الثانية) فنراها تعجُّ بالمذاهب العقلية جميعًا؛ ففيها نشأ الاعتزالُ على يدَيِ الحسن البصري (تُوفِّي حوالي ٧٢٧ ميلادية)، وفيها نشأَت الدراسات العقلية الأولى للنحو واللغة، التي هي مِن أروع الأمثلة التي نَسوقها برهانًا على حدَّة النظرة العقلية التحليلية في تراثنا الفكري، وحسبُنا أن يكون من تلك الجماعة الأولى سيبويه والخليل بن أحمد؛ الأول بمؤلَّفه «الكتاب» والثاني بمعجَمه «العين»، اللذَين — كما يقول شارل بلَّا — «يُعَدَّان مع كتابَي «البيان والتبيين» و«الحيوان» للجاحظ، مَفخَرة أهل البصرة.»
فلنقف وقفةً قصيرة مع كل جماعة أو رجل مِن تلك الزُّمرة العقليَّة العجيبة، التي مثَّلَت سُلطان العقل في مرحلة مبكِّرة من تُراثنا الفكري، وهي في اعتصامها بالعقل في نظراتها تَجعل من البصرة عندئذٍ أثينا اليونان الأقدَمين، أو باريس الموسوعيِّين خلال القرن الثامنَ عشَر، أو هي والكوفة في تَبايُنِهما، كأنهما كيمبردج وأكسفورد، حيث تميزَت الأولى بدراساتها العقلية من رياضةٍ وعلوم، بينما تميزَت الثانية بدراساتها ذات المَسْحة الفنِّية الأدبية التي تعتمد على ذوقٍ وخيال.
١٥
قلنا: إن المشكلة العقليَّة الأولى التي عرَضَت للأوَّلين، والتي أنشأَتها حوادثُ «الجمل» و«صفِّين»، كانت مزيجًا من دينٍ وسياسة، ألا وهي مشكلة الذين اتُّهِموا باقتراف ما أسماه المتَّهِمون بالذنوب الكبيرة؛ ذلك أن فريقًا من الناس — هم الخوارج — كانوا قد رأَوْا في المتقاتِلين من كِلا الجانِبَين خروجًا على أصول العقيدة؛ ولذلك فهُم في رأيهم من الكافرين، لم يُفرِّقوا في هذا الحكم بين كبير وصغير، ولقد سُمِّي «الخوارج» بهذا الاسم؛ لأنهم خرَجوا على أمير المؤمنين الذي اتفقَت الجماعةُ على إمرته، وقد امتدَّ منهم هذا الخروجُ إلى الماضي حتى شمل اثنَيْن من الخلفاء الراشدين أنفُسِهم، هما عثمانُ وعليٌّ، غيرَ أن ظهورهم الواضح لم يقع إلا أيام التحكيم، حين دعا معاويةُ وأصحابه إلى احتكام المتحارِبين لكتاب الله، ولم يكن عليٌّ بادِئَ الأمر متقبِّلًا بالرضى عن هذا التحكيم، فها هنا خرَج عليه خوارجُ من أتباعه يحملونه على القَبول، قائلين: القوم يدعوننا إلى كتاب الله وأنت تدعونا إلى السيف؟! ثم حمَلوه وهو كاره؛ على أن يَجعل أبا موسى الأشعري نائبَه في هذا التحكيم، مع نائب معاوية وهو عمرو بن العاص، فلما أن تكشَّفَت عملية التحكيم عن خدعة من عمرٍو خُلِع بها عليٌّ من الإمارة وثُبِّت معاوية، اقتنع الخوارجُ بأنهم بقَبولهم التحكيمَ كانوا قد أخطأوا، فتابوا إلى الله من هذا الخطأ، ثم أرادوا لعليٍّ مثلَ هذا الاعتراف بالخطأ ومثلَ هذه التوبة إلى الله، قائلين له: لِم حكَّمتَ الرجال؟ إنه لا حُكم إلا لله! على أن خلاصة موقفهم، وهي التي تُهِمُّنا من حيث هي فكرةٌ سياسية كان ينبَغي أن يكون لها أعمقُ الأثر في حياة الأجيال العربية من بعدهم، لكنها ذهبَت أدراجَ التاريخ بغير أثر في الحياة العمَلية، هي مبدأهم القائل بوجوب الخروج على الإمام، أو الحاكم، أو الزعيم، أو ما شاءت له الأيامُ بعد ذلك من أسماء، إذا أخطأ أو خان أمانةَ الإمامة أو الزِّعامة أو الحكم.
وليس من قَبيل الاستطراد الذي لا يَنفع، أن نقول في هذا الموضع من سياق الحديث: إن موقفًا كهذا هو الذي ثبَّت الحقوقَ السياسية للأفراد في إنجلترا الحديثة؛ وذلك أن فريقًا من الشعب الإنجليزي إبَّان القرن السابعَ عشر اعتقد بأن الملك شارل الأول قد اقترف الآثام في حُكمه وافْتات على حقوق الناس، فما هو إلا أن ثاروا عليه وشقُّوا عصا الطاعة وحكَموا بإعدامه، وتم إعدامه، وهنا نهض فيلسوفان في تاريخ الفكر الإنجليزي؛ أحدهما يدافع عن حق الملك في أن يَحكم كيف شاء، والآخر يُدافع عن حق الشعب في أن يُراقِب الملك ويَعزِله عن الحكم إذا أخطأ، أما أوَّل هذَين الفيلسوفَين، فهو تومس هوبز، الذي أفاض القولَ في أن الملك صاحبُ حقٍّ في ملكه، ولم يكن مَلِكًا بانتخاب الشعب، وإذن فلا معنى لقولنا إنه أخطأ؛ لأن الخطأ إنما يُقاس إلى معيار خارجي عن الفعل الذي نُصدِر فيه الحكم بالخطأ، فأين هو هذا المعيار إذا كان المَلِكُ هو السُّلطةَ العليا التي لا سلطة فوقها؟! إن ما ينطق به وما يَتصرف به إنْ هو إلا القانون والنموذج، مهما يَكُن رأي الناس فيه، وأما الفيلسوف الآخر، وهو جون لوك، فقد أفاض بدَوره في القول بأن الملك إنَّما هو في التحليل الأخير من انتخاب الناس لِيَرعى مصالحهم، فإذا رأى هؤلاء الناس أنه قد ضلَّ سبيله فمِن حقِّهم أن يَعزِلوه لِيُولُّوا عليهم غيره.
فموقف الخوارج في أساسه هو نفسُه موقف جون لوك في القول بحقِّ الشعب في عزل الحاكم إذا ضل سواء السبيل، وفي أن يَختار من شاء من أبناء الأمة ممن يرَونه جديرًا بالثقة، لولا أن الخوارج قد أساءوا إلى هذا المبدأ السياسيِّ العظيم، الذي حدَث لِمَثيله في أوروبا أن يُقيم ثورتَين كُبرَيَين ما نزال نعيش في ظِلالهما إلى حدٍّ كبير، وهما الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية، وكلتاهما في القرن الثامنَ عشر. أقول: إن الخوارج قد أساءوا إلى هذا المبدأ السياسيِّ العظيم بما أحاطوه من تزمُّت ديني وضيقِ أفُق يُجاوِزان حدود المعقول.
والعجب الذي يَلفِت أنظارنا هو أن هذه الفكرة البسيطة في ظاهرها، سرعان ما تشقَّقَت وتشعَّبَت بين الخوارج أنفسِهم، حتى انقسَموا فيما بينهم عِشرين فرقة، كلٌّ منها تختلف عن سائرها في أشياء، وإن اتفقَت جميعُها على أساس واحد، وحتى هذا الأساس الواحد الذي كان موضعَ اتفاق بينهم، قد اختلَف عليه المؤرِّخون بعد ذلك: ماذا عساه أن يكون؟ لكنهم — فيما يبدو — مُجمِعون على أنَّ أحزاب الخوارج كلها تتَّفق على إكفار عليٍّ وعثمان من الخلفاء الراشدين، وإكفار الحكَمَين أبي موسى الأشعري، وعمرِو بن العاص، وإكفار أصحاب واقعة الجمل جميعًا، وإكفار كل مَن رضي بحُكم الحكَمَين، وبوجوب الخروج على السلطان الجائر، وأما الذي اختلَف فيه المؤرخون عند روايتهم عن الخوارج، فهو موقفهم إزاءَ مُرتكِبي ما يُسمَّى بالذنوب الكبيرة، فمنهم مَن يقول: إن مُرتكِبي هذه الذنوب الكبيرة هم في رأي الخوارج من الكفار، ومنهم مَن يقول: بل إن الخوارج تُفرِّق بين ذنب كبير ورَد له اسمٌ معيَّن في القرآن، كالسرقة مثلًا أو الزنا، وفي هذه الحالة لا يُقال عن المخطئ إنه كافر، بل يُقال عنه اسمه الذي ورَد ذِكرُه، كأن يُقال: إنه سارق أو إنه زانٍ، على أن مِن الخوارج فرقةً تقول عن صاحب الكبيرة إنه كافرُ نعمة، وليس هو بكافرِ دِين (راجع في ذلك عبد القاهر البغدادي في كتابه «الفَرْق بين الفِرَق»).
أعود فألاحظ أن ما يَلفِت أنظارَنا — من الناحية العقلية التي هي موضوعنا — أن يَنشقَّ الخوارجُ على أنفسهم عشرين فرقة في مثل هذا المبدأ البسيط؛ إذ ما معنى هذا التبايُن الواسع؟ معناه دقَّة في التحليل؛ فقد تختلف الفِرقة منهم عن الفرقة الأخرى في جانبٍ هو في دِقة الشعرة، حتى ليَفوتنا إدراكُه ونحن نستعرض آراءَ هذه الفِرَق العشرين.
وكانت «الأزارقة» — وهم أتباعُ نافعِ بن الأزرق — أكثرَ فِرَق الخوارج عددًا وأشدَّهم بأسًا، ومِن أهم ما يُميز مبدأَهم قولُهم بأن مَن خالَفوهم مُشرِكون، وكان الخوارج الأولون يَكْتفون بالقول عن مُخالفيهم بأنهم كُفار، لا مُشرِكون، ثم يُميِّز الأزارقة — ثانيًا — قولهم عن «القَعَدة» (أو المحايِدين بلُغة العصر الحاضر؛ إذِ القعَدة هم الذين قعَدوا عن نُصرة عليٍّ وعن مُقاتلتِه) أقول إن ما يُميز مبدأَ الأزارقة كذلك قولُهم عن القعَدة بأنهم أيضًا مُشرِكون، برغم أن القعَدة هم مِن الخوارج من ناحية المذهب النظَري، لكن الاكتفاء بالاقتناع النظري، دون مُلاحقته بالتنفيذ العمَلي كفيلٌ — في رأي الأزارقة — أن يَسلُك صاحبَه في زُمرة المشركين، ولقد عُرِف هؤلاء الأزارقة — شأنهم في ذلك شأن كثير من الخوارج الآخرين — بنوعٍ من القسوة وغِلْظة القلب، لا يكاد المرء منا يُصدِّق معه أنهم كانوا حقًّا من المسلمين، فقد كانوا لا يتردَّدون في قتل أسراهم ممن يُخالفونهم في الرأي — مع أن الأسرى مُسلِمون — بل إنهم إذا ما جاءهم أحدٌ يدَّعي لهم أنه يُريد أن ينضمَّ إلى جماعتهم، امتحَنوه بأن يُقدِّموا له رَجلًا من الأسرى، ويَطلبون منه — أي من العضو الجديد — أن يَقتله، فإذا فعَل في غير مُبالاة كان جديرًا بعُضوية حزبهم، وإذا تردَّد، عرَفوا أنه مُخالِف لهم، وبالتالي فهو مُشرك، وقتَلوه! ولقد بلَغَت بالأزارقة ضَراوةُ الطبع حدًّا استباحوا معه لأنفسهم ألَّا يَكتفوا بقتلِ مَن خالفَهم في الرأي، بل إنهم ليَقتلون معه مَن كان ينتمي إليه مِن نساء وأطفال، زاعِمين أن نساء المشركين وأطفالَهم هم كذلك مُشرِكون ومُخلَّدون في النار، فتلك — إذن — جماعةٌ لا نَكاد نُعجَب بمبدئها السياسي الذي يَجعل حقَّ الحكم للأصلح أيًّا كان نسَبُه، حتى نبرأ إلى الله منهم أن يَكونوا أسلافًا لنا في وجهة النظر وفي أسس السلوك.
ولقد بَرِئ منهم في زمانهم فريقٌ آخرُ مِن الخوارج يُسمَّى بالنَّجَدات (نِسبةً إلى نَجْدة بن عامر) إذ خالَفوهم في إشراك القعَدة (المحايِدين) الذين أبَوْا على أنفسهم أن يُشارِكوا في فعل تلك الشنائع، برغم مُوافقتهم على المبدأ السياسيِّ الذي يَجعل الحُكم للأصلح لا لصاحب النسَب، كما خالَفوهم كذلك في قتل النساء والأطفال لمجرَّد كونِهم ينتمون إلى رجالٍ ظنُّوهم مُشرِكين لِمُخالفتِهم لهم في الرأي.
ومِن فِرَق الخوارج كذلك فئةٌ يُطلَق عليها «الصُّفْرية» (بضمِّ الصاد وسكون الفاء)، وإنما سُمُّوا بهذا الاسم إما نسبةً إلى صُفْرة وجوههم من أثَر ما تكلَّفوه من السهر والعبادة، وإما نسبةً إلى جمع الأَصْفر الذي هو أبو زياد، الذي تُنسَب إليه هذه الجماعة، وهي جماعةٌ تَذهب إلى ما ذهَب إليه الأزارقة في أن أصحاب الذنوب مُشرِكون، غير أن الصُّفْرية لا يرَوْن قتل أطفال مُخالِفيهم ونِسائهم كما كان يفعل الأزارقة، وكان مِن رأي الصُّفرية أيضًا ألا يُوصَف بالكفر ولا بالشِّرك رجلٌ اقترَف إثمًا اختصَّه الكتابُ باسم خاص، كالسارق والزاني والقاتل عن عمد؛ فهؤلاء يُوصَفون بأوصافهم هذه بلا زيادة، دون أن يَكونوا من الكفَرة أو المشركين، أما مَن يحكم عليهم بكفرٍ أو بشِرك، فهُم أصحاب الذنوب التي لم تَرِد فيها حدودٌ كترك الصلاة والصوم.
وكان مِن جماعات الخوارج العِشرين، فرقةٌ يُطلَق عليها اسم الإباضية (لقولهم بإمامة عبد الله بن إباض) ويُميِّزها مذهبُها القائل عن مُخالِفيهم إنهم في منزلةٍ وُسطى بين الإيمان والشِّرك، فلا هم مُؤمنون ولا هم مشركون، ولكنهم كفار، ولقد حرَّموا دماءهم في السرِّ وإن يكونوا قد استَحلُّوها في العَلانية! ثم أجازوا شهادتهم ومُصاهَرتهم والتوارُثَ منهم، فإذا وقَع منهم أسرى، استحلَّ الإباضيةُ بعض أموالهم دون بعض؛ إذِ استحلُّوا الخيل والسلاح، فأما الذهب والفضة فإنَّهم يردُّونهما على أصحابهما عند الغنيمة (راجع في كل هذه الجماعات من الخوارج، وما بينَهما من فروق وما لكلٍّ منها من فروع، كتاب «الفَرق بين الفِرَق» لعبد القاهر البغدادي).
وإنه لَمِما يُلاحَظ عند تتبُّعِ الفِرَق المختلفة التي تتابَعَت على مذهب الخوارج، أنها تَزداد مَيلًا نحو التسامح كلما تقدم معها الزمن؛ فأوَّلُهم ظهورًا هو أشدهم تزمُّتًا، وأواخرهم أكثرُهم تَساهلًا في مُعاملة مُخالِفيهم؛ فبينما «الأزارقة» تُضيف في الحكم بقتل المخالف نِساءه وأطفاله، تَرى «الصُّفرية» مِن بعدهم لا يُقِرُّون أخذ النساء والأطفال بجريرة الرجل المخالِف، كما ترى كذلك قَصْر الذنوب الكبيرة التي تستدعي الحكم بالكفر أو بالشِّرك على تلك التي لم يَرِد بشأنها حدٌّ في الكتاب، وتأخذ فرقة «النَّجَدات» بتسامح «الصفرية» وتُضيف إليه تسامحًا آخر، وهو ألا يُتهَم المذنب بالكفر أو بالشرك إلا في حالة تُجمِع عليها الأمة، أما إذا ما اختلف الرأيُ فعندئذ يُترَك أمر المذنِب لاجتهاد الفقهاء، وأخيرًا تَجيء «الإباضية» بتسامُح جديد، حين قالت عن صاحب الذنب الكبير — مع إيمانه بالله وبكتابه — إنه كافرُ نعمة وليس هو بكافرِ دين.
على أن الوقفة المتسامحة التي تَليق بصاحب الإيمان، سواءٌ كان من السلف أو من المعاصرين، فهي وقفةُ فريقٍ آخَر عارَض الخوارجَ في تزمُّتهم، وأعني به فريق «المُرجِئة» الذي دعا أصحابُه إلى وجوب إرجاء الحكم على أصحاب الذنوب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يجوز أن يُقْضى عليهم بحكمٍ في هذه الدنيا، على أن الإرجاء الذي مِن أجْلِه سُمِّيَت المرجئة بهذا الاسم، قد فُهِم على معنيَيْن — كما يقول صاحب «المِلَل والنِّحَل» — أحدهما: بمعنى التأخير، والثاني: بمعنى إعطاء الرجاء، والمعنَيان معًا مُطابِقان من الناحية الفعلية لجماعة المُرجئة؛ إذ هي بالمعنى الأول جماعة تَرى وجوب تأخير الحكم على الناس إلى يوم الحساب، وقيل كذلك: إنها أيضًا ترى تأخيرَ العمل عن نية العمل، وأما بالمعنى الثاني: فالمرجئة جماعةٌ تَعتقد بمبدأ هو أنه «لا تَضرُّ مع الإيمان معصية، كما لا تَنفع مع الكفر طاعة»، أي إن المؤمن بالله وكتُبه ورسله واليوم الآخر، لا يُخرِجه عن هذا الإيمان معصيةٌ يقترفها، كما أن الكافر بهذه الأشياء لا تُدخِله في زُمرة المؤمنين طاعة.
وواضحٌ أنه إذا خرجَت خوارجُ على عليٍّ، فلا بد أن يكون هنالك مَن يُشايِعونه، وهؤلاء هم «الشيعة» التي دعَت إلى إمامته وخلافته؛ إما لأنَّ ثَمةَ نصوصًا تُحتِّم ذلك، وإما لأن النبي عليه السلام قد أوصى بخلافته، واعتقد هؤلاء المشايِعون لعليٍّ بأنه إذا مات، فلا يجوز أن تَخرج الخلافة من أولاده، فإذا خرَجَت كان ذلك إما لأن آخرين قد اقترَفوا في حقِّه ظلمًا، وإما لأنه هو أو أحد أولاده قد آثَر التقيَّة، وكذلك اعتقدَت الشيعة بأن قضية الإمامة ليست قضيةَ مصلحةٍ تُناط باختيار العامة، بل هي قضية تَمسُّ أصول العقيدة، ومن ثَم فهي عندهم أحدُ أركان الدين، (راجع المِلَل والنِّحَل للشهرستاني، الجزء الأول) وللشيعة فروعٌ كثيرة قد نَعود إليها في وقفة أخرى.
١٦
نُذكِّر القارئ بأننا ما زِلْنا في وقفتنا الثانية على خطِّ تُراثِنا الفكري، وهي وقفة اختَرْناها في مدينة البصرة خلال القرن الثامن الميلادي (الثاني بعد الهجرة)، حيث أخذَت الآراء تتفرَّع وتتشعَّب حِيالَ المشكِلات العقلية الأولى، التي نبتَت للناس عندئذ نباتًا طبيعيًّا من حوادث المعركتَين — معركتَيِ الجمل وصِفين — اللَّتَين دارَتا حول حقِّ الخلافة لمن يَكون، ثم سِرْعان ما نجَم عن هذا الخلاف مسألةٌ خاصة بالمخطئ الذي ارتكَب الذنب؛ إذ لا بد أن يَكون من الفريقَيْن المتحارِبَين فريقٌ واحد على الأقل قد أخطأ؛ لأنه لو كان الفريقان على صواب لما نشب بينهما قتال، وعندئذ كان الحرجُ كلُّ الحرج على مَن أراد أن يقضيَ في هذه المسألة برأي؛ لأن كِلا الفريقين المتحارِبَين فيه مِن صحابة الرسول، لكن المشكلة ألحَّت على العقول، بحيث لم يتَراجع أُولو الرأي أمام هذا الحرج، فرأينا الخوارجَ يُكفِّرون مَن أذنب باختياره الموقفَ الباطلَ مِن وجهة نظرهم، ثم رأينا خلافًا بين الخوارج أنفُسِهم يتَراوح بين التزمُّت واصطناع شيء ولو يسير مِن الاعتدال، ثم رأينا المرجئة وهي تُخفِّف من حِدَّة الخوارج في تزمُّتِهم، فجعَلوا الحكم في الذنوب لله تعالى يوم يكون الحساب، كما رأَينا جماعة الشيعة التي وقفَت إلى جانب عليٍّ أمام هجمة الخوارج الذين شقُّوا عليه عصا الطاعة.
ولم يكن الصِّراع الفكري حينئذ مقصورًا على هذا التضادِّ بين الخوارج من ناحية والشيعة من ناحية أخرى، ولا مَقصورًا على تضادٍّ آخرَ بين المرجِئة التي دعا أصحابُها إلى إرجاء الحكم ليتولَّاه إلهُ الناس، وبين الوعيديَّة من جماعة الخوارج الذين رأَوْا أن يكون الحكمُ هنا والآن، تأسيسًا على ما قد ورَد في كتاب الله من أحكام فَهِموها على طريقتهم. أقول: إن الصراع الفكري حينئذ لم يكن مقصورًا على هذَين الفرعَين من التضاد، بل شمل كذلك فرعَين آخَرَين، أولهما تضادٌّ بين المعتزلة والخوارج في مسألة الذنوب الكبيرة، وبين المعتزلة أيضًا والصِّفاتية (من أهل السُّنة) في مسألة صفات الله تعالى وكيف يَنبغي أن تُفهَم، وأما التضادُّ الثاني فهو بين القدَرية الذين يجعلون للإنسان إرادةً حُرة مسئولة (وهم أيضًا مِن المعتزلة) وبين الجَبْرية الذين لم يَترُكوا للإنسان حريةً في فعله؛ لأن كل فعل هو بمشيئة الله تعالى وحده، فلْنَقِف وقفةً قصيرة من هذَين الفرعَين الأخيرَين، كما وقفنا فيما سبق عند النوعَين الأوَّلَين من التضاد.
إني أحبُّ لنفسي وللقارئ معي أن نَستحضر في أذهاننا أنواعَ المسائل التي طرَحَتْها أمام الرعيل الأول من آبائنا العرب الأقدمين حوادثُ حياتهم عندئذ — وما زِلنا نَعيش معهم في أعوام القرن الثامن الميلادي — لِنَرى بأجْلى وضوحٍ أن أمثال هذه المسائل لم يَعُد مطروحًا أمامنا نحن المعاصرين؛ لأن الحوادث التي ولدَتها لم تَعُد شبيهةً بحوادث حياتنا، والمسائل التي طُرِحَت يومئذ تتلخَّص في أربعٍ رئيسية، هي: ماذا يَكون موقفنا من علي؛ أنؤيِّده أميرًا للمؤمنين أم نَخرج عليه بسبب حادثة التحكيم؟ قال الشيعة: نُؤيِّده، وقال الخوارج: نَخرج عليه، والمسألة الثانية هي: ماذا نَصنع بمَن نَجِده مسئولًا عن القتال الذي مزَّق المسلمين في واقِعَتَي الجمل وصفِّين، أنُنزِل بهم ما يستحقونه من عقاب، أم نُرجِئ ذلك إلى يومِ يُبعَثون أمام ربِّهم؟ قال الوعيدية من الخوارج: نتولَّى عِقابهم هنا والآن، وقال المرجئة: بل نَتركهم إلى ربِّهم يومَ الحساب، والمسألة الثالثة هي: ما دُمنا نتحدث عن المسئولية والعقاب، فهل للإنسان حريةُ اختيارِ ما يفعله فيكون مسئولًا عنها، أو الإنسان مكتوبٌ عليه منذ الأزل أن يَفعل ما يفعله؟ يقول القدرية وهم مِن المعتزلة: بل هو حرٌّ ومسئول، ويَقول الجبرية: إن ما يَفعله الإنسان إنما هو بمشيئة من الله، والمسألة الرابعة تتعلَّق بفِكْرتنا عن الذات الإلهية وصفاتها، فهل هذه الصفات جزءٌ من الذات لا يتجزَّأ، بحيث يكون الله تعالى عالِمًا بذاته وقادرًا بذاته وهكذا، لا بعِلم وقُدرة نتصوَّرهما مُنفصِلين عن ذاته، كما قد نتصوَّر الذاتَ مستقلَّة عنهما؟ يقول المعتزلة إنه ليس أزليًّا سوى الذات الإلهية التي هي نفسُها صفاتها، ويقول «الصفاتية» بل الصفات تُشارك الذات في أزليتها، فهنالك الذاتُ الإلهية وهنالك عِلمُها وقُدرتها إلخ.
ولقد سبَق لنا أن عرَضْنا القول في المسألتَين الأُولَيَين، وبقي أن نُضيف شيئًا عن المسألتَين الأُخريَين؛ لِتَكتمل لنا صورةُ النشاط الفكري إبَّان الفترة التي جعَلْناها موضعَ النظر والتعليق، مع ملاحظةٍ عابرة أبدَيْناها، وهي أنني لا أتصوَّر زائرًا يعود بالزمن القهقَرى مع القرن العشرين قافلًا إلى القرن الثامن؛ ليقف مع الناس متفرجًا متعقِّبًا، كأنه الصحفي أراد أن يَنقل إلى صحيفةٍ صورةً عن مَعاركَ أرسلَتْه الصحيفةُ ليُصوِّرها، أقول: إنني لا أتصور زائرًا كهذا يستطيع مهما حاول أن يتقمَّص هذه المشكلات ليجعلها مُشكِلاتِه، اللهم إلا واحدة ربما وجَدها ذات صلة بحياته الراهنة لم تنقطع، وهي الخاصة بإرادة الإنسان في فِعله ومدى ما يقَع عليه من تَبِعةِ ما قد فعل.
إنه لم تكَد تُطرَح على الناس إبَّان القرن الثامن مسألةُ الفعل الإنساني وتَبِعاته، حتى أجمع فريقُ «المعتزلة» على أن الإنسان ذو قُدرة على خَلْق أفعاله، خيرِها وشرِّها على السواء، ومن ثَم استحقَّ إما العقاب وإما الثواب على ما قد فعَل؛ إنْ خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، وبغير هذا لا تَقوم «للعدل» قائمةٌ ولا يَكون له معنًى مفهوم، وكان واصلُ بن عطاء (٧٠٠–٧٤٩م) ذلك الغزَّال الألْثَغ، أولَ مَن اتخَذ هذا الموقف من وقوع التبِعة على فاعل الفعل؛ لأنه كائنٌ حرُّ الإرادة، يَستطيع أن يختار لنفسه ما يَفعله وما لا يفعله.
فقد حدَث إذ هو جالسٌ في حلقةِ شيخه الحسَن البصري، أنْ طرَح السؤال عن مُرتكِب الذنب الكبير ماذا يكون الحكم في أمره، أنَعُده مؤمنًا برغم ذنبه، أم نَعدُّه كافرًا؟ — وهي مشكلة كانت تملأ الجوَّ الفكري كله كما بيَّنَّا — فظهَر واصلُ بن عطاء برأي وسط جديد، هو القول بالمنزلة بين المنزِلتَين؛ فصاحبُ الكبيرة ليس مؤمنًا كلَّ الإيمان، ولا كافرًا كلَّ الكفر، بل هو في موضعٍ وسَط بين الطرَفَين؛ إذ ليس الإيمانُ صفةً واحدة وحيدة، إما أُضيفَت إلى الشخص أو رُفِعَت عنه، بل الإيمانُ مؤلَّف من مجموعةٍ كبيرة من خصال الخير، إذا اجتمعَت كلُّها لشخص، كان مؤمنًا كلَّ الإيمان، وإذا امتنَعَت كلُّها عن شخص، كان كافرًا كل الكفر، أما إذا توافرَت له بعضُ تلك الخصال دون بعض، فهو عندئذٍ لا هو بالمؤمن على إطلاق المعنى ولا هو بالكافر على إطلاق المعنى، وهكذا يكون الرأيُ فيمَن ارتكَب ذنبًا من الكبائر، أفلَيس عنده مِن أركان الإيمان الشهادةُ؟ ألم يَعمل في حياته أعمالًا كثيرة مما يُعَد خيرًا؟ إنه إذن مؤمنٌ بهذه الجوانب، ولا تُذهِب الكبيرةُ التي اقترفها هذا الإيمانَ عنه، لكن لما كانت الآخرةُ ليس فيها إلا طريقان، ولا وسط؛ طريقٌ لأهل الجنة، وآخرُ لأهل النار، ففي أيِّ الطريقَين يا تُرى نضَع صاحبَ الكبيرة؟ أيكون مِن أهل الجنة كأنما لا ذنب، أم نضَعه بين أهل النار كأنما لا شهادة ولا أعمال خير أخرى أتاها؟ الرأي عند ابن عطاء في هذا، هو أن صاحب الكبيرة إذا خرَج من الدنيا على كَبيرته هذه مِن غير توبة، فهو مِن فريق السعير على أن يُخفَّف عنه عذابُها فلا يَكون في منزلةٍ واحدة مع الكافرين — رأي لم يُعجِب أستاذه الحسنَ البصري، فابتعَد ابنُ عطاء عن حَلْقة الدرس بِضْعَ خطوات ليجلس وحدَه، وليتبعه مَن أراد، فقال الحسن: لقد اعتَزل عنَّا واصل، ومِن ثَم جاءت كلمة «المعتزلة»، أو على الأقل هذا أحدُ التعليلات التي يُفسِّرون بها اسم «المعتزلة»، وهي كثيرة.
ولقد جاء هذا الحكم من «واصل»، تأسيسًا على مبدأ أخذ به، وهو قوله «بالقدَر»، أي بحُرِّية الإنسان في اختيار فعله (لاحظ أن معنى كلمة «القدر» الصحيحَ هو نقيضُ ما قد جرى به العُرف بين الناس؛ إذ تُقال كلمة «قدر» كلما كان الموقف أو الحدَثُ بحيث لا تكون للإنسان حيلةٌ فيه)؛ ذلك أنَّ واصلَ بنَ عطاء قد رتَّب حُجتَه على نحوٍ كهذا: إن الله تعالى حكيمٌ عادل، ولا يجوز أن يُضاف إليه شرٌّ ولا ظلم، وإذن فلا يجوز أن يُريد مِن عباده شيئًا غيرَ ما يأمر به، أو أن يُحتِّم عليهم شيئًا ثم يُجازيَهم عليه؛ وعلى ذلك فالعبد هو الفاعل للخير وللشرِّ على السواء، أي إنه هو الفاعل لما يَسلُكه مع المؤمنين أو مع الكافرين، فإذا جُوزِيَ فإنما يُجازى على فعله، ولقد أقدرَه الله تعالى على ذلك كلِّه.
لكن مَسألة الفعل وجزائه حين طُرِحَت، لم تكن مسألةً نظرية مجرَّدة تَلوكها الألسُن في نِقاش مَبتور الصِّلة بالحياة الجارية مِن حول الناظِرين والمتناقِشين، إنما طُرِحت المسألة على المفكِّرين؛ لأن هنالك موقفًا بعينه وأشخاصًا بذَاوتِهم يُراد فيهم الرأي السديد والحُكم المنصِف، فلقد كان مما يُؤرِّق الناس عندئذ هو ما يُمكِن أن يُحكَم به على الفريقَين من أصحاب الجمل وأصحاب صفِّين، فماذا يَقول واصلُ بن عطاء فيهما؛ تطبيقًا لمبادئه النظرية التي أسلَفْناها؟ يقول: إن أحدَهما مُخطِئ لا بعَينِه، أي إنه من الوِجْهة النظرية الرياضيَّة البَحْتة، لا بد أن يكون أحدُ النقيضَين هو الصوابَ دون الآخر؛ لأنه لا يَجتمع على صِدقٍ نَقيضان، ولما كان على غير علم يَقيني أيُّ الفريقَين هو المصيب؛ ليكون الفريقُ الآخر هو المخطئ، لم يَستطِع أن يُحدِّد تطبيقًا لحكمه، ومن ثَم فلا يجوز قَبول الشهادة مِن أيِّهما، أو على حدِّ قوله: إنه لا يجوز قَبولُ شهادة عليٍّ وطلحةَ والزبير على باقةِ بَقْل (تذكَّر أن عليًّا في وِجْهة، وطلحة والزبير في وِجْهة أخرى، كانا في مكان القيادة مِن الفريقَين المتحارِبَين في واقعة الجمل)؛ فلقد جوَّز واصلٌ أن يكون عليٌّ على خطأ، وكذلك فعَل بالنسبة لعثمان، ولم يرَ استحالةً لا منطقية ولا فِعلية في أن يقَع الخطأ مِن أمثال هؤلاء على رِفْعة مكانتهم من المسلمين.
وكان من الطبيعي ألا يَمضيَ رأي ابن عطاء في حرية الإنسان من حيث إرادتُه وفعله، بغير مُعارِض يتصدَّى له، وكان ذلك المعارضُ هو جَهْمَ بن صَفْوان (ت٧٤٥م) وإليه تُنسَب «الجهميَّة» التي هي الفرقة القائلة بمبدأ الجَبْرية، والجَبرُ معناه: نفيُ الفعل في حقيقة أمره عن العبد، وإضافته إلى الله تعالى.
ولقد صدَر جَهمُ بن صفوان هذا في حُكمه عن مبدأٍ أخَذ به، وهو أنه لا يجوز أن يُوصَف الباري بصفةٍ يُوصَف بها عبادُه، فإذا كان مِن صفاته تعالى أنه قادرٌ وفاعلٌ وخالق، وجب ألا يكون لأحدٍ مِن عباده قدرةٌ ولا فعلٌ ولا خلق، ومِن ثَم كان الإنسانُ — من وجهة النظر الجهمية — غيرَ قادر على شيء يَفعله هو، وليس له الاستطاعةُ في أن يفعل، فإذا رأَيناه يفعل شيئًا فإنما هو مُجبَر على فِعله، لا قدرة له بذاته، ولا إرادة، ولا اختيار؛ الله تعالى هو الذي يَخلق الأفعالَ فيه كما يَخلقها في سائر أنواع الجماد، ولا تُنسَب الأفعالُ إلى الإنسان إلا مَجازًا، كما تُنسَب أفعالُ الجمادات إليها مَجازًا كذلك، كأن يُقال: أثمرَت الشجرة، وجَرى الماء، وتحرَّك الحجر، وطلعَت الشمسُ وغابت، وغامَت السماء أو أمطرَت، وإذا كان ذلك هو الشأن في أفعال الإنسان، كان ثوابُه أو عقابه متعلِّقَين بمشيئة الله وحده، فهو الذي يُدخِل الإنسانَ الجنة أو النار كما يُريد، فالأمر كلُّه في هذه الدنيا أو في الحياة الأخرى هو لله وحدَه، وليس للإنسان فيه إلا أن يُطيع.
بقيت المسألة الرابعة مما عرَض للفكر العربي إبَّان القرن الثامن الميلادي، نوجِز القول فيها ولا نُطيل، ولعلها مسألةٌ قد تأخَّر ظهورُها بعضَ الشيء عن المسائل الثلاث الأخرى؛ لأنها لم تكن كهذه المسائل الثلاث وثيقةَ الصِّلة بأحداثِ يومهم المباشرة، بل هي مِن درجةٍ أوغلَ في عالَم الفكر الفلسفيِّ المجرَّد، وأعني بها مسألةَ الصفات الإلهية، كيف نَفهمها بالنسبة إلى الذات الموصوفة بها؟ أنفهمها قائمةً وحدها، أزَلية، وكل ما في الأمر أنها تَصِف الباريَ سبحانه وتعالى؟ يُجيب المعتزلة من فِرقة واصلِ بن عطاء بالنفي؛ لأن ذلك — في رأيهم — معناه تعدُّد الآلهة، وإنما هذه الصفات هي الذاتُ نفسُها، لكن فريقًا آخر، يُؤثِر أن تُؤخَذ آيات القرآن الكريم بظاهرِ مَعانيها، وإذن يجوز لنا القول بأن لله صفاتٍ غيرَ ذاته، وإن تَكُن أزلية فله علمٌ وله قدرةٌ وله حياة … إلخ؛ من أجل هذا سُمِّي هذا الفريق «بالصفاتية» على حين يُسمَّى المعتزلة أحيانًا «بالمعطِّلة» أي الذين يَنفون وجود الصفات وجودًا منفصِلًا عن الذات الموصوفة بها.
١٧
ما زلنا من طريق سيرنا عند «المحطة» الثانية، التي اخترنا الوقوفَ عندها؛ لِنُطلَّ على الحركة العقلية في البصرة إبَّان الفترة التي هي الآن موضعُ حديثِنا، وأعني القرنَ الثامن الميلادي، ولقد فرَغْنا لتوِّنا من متابعة أصحاب المذاهب العقلية من فريق المعتزلة، ماذا اعترضَهم عندئذٍ من مُشكِلات نبتَت لهم من صميم حياتهم اليومية الجارية، وها نحن أولاء نتَّجِه بأبصارنا إلى صِنْف آخر من الرجال، كان له نصيبٌ موفور في إقامة الحياة العقلية العِلمية من تُراثنا الفكري، وأعني بهم رجالَ اللغة والنحو.
ولستُ أنا الكاتبَ الذي يَستطيع أن يُحدِّث القُرَّاءَ بشيء من التفصيل المفيد عن هذه الحركة في دراسة اللغة ونَحوِها وصرفها، لكنَّني أترك حقلًا عجيبًا في دقَّته العقلية، غزيرًا في خُصوبته وثماره، إذا أنا ترَكتُ حقل الدراسات اللغوية وما يَدور حولها من أبحاث كادَت تبلغ مبلغ الدقَّة الرياضية في دقة التحليل وفي سلامة الاستدلال، وأولُ ما نُلاحظه في هذا الصدد، هو الصِّلَة الحميمة الوثيقة بين بحوث الباحثين وبين حياة الناس العمَلية، حتى في مِثل هذا المجال اللغوي، الذي قد يَبدو لعينِ القارئ العربيِّ اليومَ وكأنه مبتورُ الصلة عن تلك الحياة؛ جريًا منه على ما قد أَلِفَه في عصره هذا من بُعد الشُّقَّة في كثيرٍ جدًّا من الحالات بين رجال اللغة من جهة، وضُروبِ النشاط العَملي من ناحية أخرى، حتى لقد سار فينا سرَيانَ الأمثال أن يكون رجلُ اللغة العربية ونحوِها ومعاجِمها ومصادرها وتصاريفها، رجلًا غريبًا على مسرح الحياة اليومية، لا تُسيغ سمْعَه الآذان، إذا حرَص على ضبط اللغة مقروءةً أو مكتوبة.
لا، لم يكن رجالُ البحث اللُّغويِّ إبَّان الفترة التي نتحدث عنها مَبتوري الصِّلات عن مجرى الحياة العمَلية ومُشكِلاتها، ومِن ثَم كانت منزلتُهم العليا من الناس، فلقد كانت المشكلات الدينية عندئذ — والدينُ الإسلامي في أولى مراحل تطبيقه على دنيا العمل والنشاط — هي ما يَستوقف الأنظارَ ويَسترعي الانتباهَ ويُثير السؤال، وقد رأَينا فيما أسلَفْناه من حديثٍ كيف تمَخَّض القتالُ في «الجمل» وفي «صِفِّين» عن سؤال ضخم خاص بالذنوب الكبيرة؛ ماذا يكون الحكمُ في أصحابها؟ لِيَعلم الناسُ مصيرَ مَن تقع عليه التَّبِعة في سفك الدماء في تَيْنِك الموقِعَتَين، وواضحٌ أنه لم يكن بُدٌّ أمام مَن أراد محاولة الجواب مِن الرجوع إلى الكتاب الكريم؛ ليهتديَ بهَدْيه في مواجهة ذلك السؤال؛ فما هي بعد ذلك إلا خطوةٌ جِدُّ قصيرة عند مُراجعة المفكِّرين لكتابهم ابتغاءَ الهداية، حتى يَجِدوا أنفُسَهم مُضطَرِّين إلى الوقوف قليلًا أو كثيرًا عند مادة النصوص القرآنية من حيث ألفاظُها وطرائقُ تركيبها، ثم خطوةٌ جِدُّ يسيرةٍ بعد ذلك، فإذا هم — على أيدي نفَرٍ ممتاز بحِدَّة الذكاء ودقة التحليل، فضلًا عن قلبٍ مشغوف بهواية البحث والنظر — يتناولون اللُّغةَ مِن جذورها الأولى، ومصادرها الأولية، يتعقَّبونها تحليلًا وتمحيصًا، وجمعًا وتبويبًا، ومقارنةً وتأسيسًا لقواعدها وأركانها، وحسبُك أن تَرى في نظرة واحدة رجُلَين من هذه القامات العملاقة التي نَراها في الخليل بن أحمد وتلميذِه سيبويه.
عاش الخليلُ بن أحمد على طول ثلاثة أرباعِ القرن الثامن الميلاديِّ الأخيرة، وكان أهمَّ ما شغلَه في أعوامه النشيطة مِن حياته نظراتٌ فاحصة نافذة عميقة مستوعِبة، في اللغة العربية وفي نَحوِها، وفي الشِّعر العربي وبُحوره، وإنَّ الواحد منا — نحن أبناءَ القرن العشرين — إذا ما كرَّ راجعًا لِيَقع منه البصرُ على رجل في عِلم الخليل وفي عِلميَّة نظره، ثم في بساطة عَيشه، لتَأخُذه الدهشةُ مما يرى؛ فمِثل هذا الذكاء الخارق، وهذه المنهجيَّة في النظر والتصنيف، والوصولِ إلى القواعد الصحيحة، لو كان هذا كلُّه في عصرنا نحن، لأصبح الرجلُ بغير أدنى شكٍّ من أئمة عُلماء الذَّرَّة أو أعلام التكنولوجيا، فالعبقرية أداةٌ فعالة في أيِّ مُناخ وضَعْتَها فيه، فإذا وضعتها في عصر تَشغَلُه المسائل الفلسفية كما كانت الحال في مُناخ اليونان القديمة، كان لك بذلك أفلاطون أو أرسطو، وإذا وضَعتَها في عصرٍ تَشغله مسائلُ العلم الطبيعي، كما كانت الحالُ في أوروبا خلال القرن السادسَ عشر وما بعده، كان لك بذلك جاليليو أو نيوتن، ولقد وُضِعَت هذه العبقرية في البصرة خلال القرن الثامن، حيث المناخُ الفكري مشحونٌ بمسائلَ دينية بُنِيَت حلولُها على دراساتٍ لُغوية، فكان لنا رجلٌ كالخليل.
وما ظنُّك برجلٍ يضع للُّغة العربية أولَ معجم (لقد قيل إن معجم «العين» المنسوبَ إلى الخليل، والذي نتحدث عنه الآن، هو في الحقيقة من عمل تلميذه «اللَّيث» ونُسِب خطأً إلى الخليل — راجِعْ في ذلك الدكتور شوقي ضيف في كتابه «البحث الأدبي»، ص٧، ٢١٨، ٢٧٣ — لكننا نُؤثِر هنا أن نَجريَ على العُرف الأشْيَع، فالمهم في موضوعنا هو الكتاب لا الكاتب)، ويَستخرج للشِّعر العربي للمرة الأولى بُحورَه؟! إنك قد تمرُّ على حقائقَ مذهلةٍ كهذه مُغمض العينَيْن، فلا ترى أبعادها الفَلكية إذا جاز لنا هذا التعبير عند الحديث على قدرة العقل البشري ومَداها، فلقد ألِفَت عيناك أن ترى للُّغات مَعاجمها، فقد تقول لنفسك عندئذ: وماذا في معجم؟! كما أَلِفَت أذناك الحديثَ عن تفعيلات الشِّعر وأوزانه، فرُبَّما قلتَ لنفسك هنا أيضًا: وماذا في حصرٍ لتلك التفعيلات والأوزان؟! ولكن قِفْ لحظةً عند قولنا: «أول» و«للمرة الأولى»! قارِنْ بين رحلةٍ يقوم بها في يومنا هذا مسافرٌ على طائرة تَعبُر به المحيط الأطلسيَّ في سُوَيعات إلى أمريكا وبين رحلة كولمبس وهو يَعبُر ذلك المحيطَ «لأول مرة»! فها هنا في رحلة كولمبس نَجِد المغامرةَ والقدرة وعظَمة الكشف العِلمي من دياجير المجهول، وأما هناك في رحلة المسافر العصري على الطائرة فلا مُغامَرة ولا قدرة ولا كشف؛ فالخليل بن أحمد وهو يَجمع ألفاظ اللغة العربية لِيُصنِّفَها في معجم «لأول مرة» وأنت إذ تَمدُّ ذِراعَك إلى رف مكتبتِك لِتَشدَّ معجمًا تبحث فيه عن بُغْيةٍ لك ثم تُعيده، إنما يَفصِل بينكما ما يَفصِل كولمبس عن مُسافر الطائرة.
لأول مرة في التاريخ يَجمع الخليلُ أشتاتَ المفرداتِ اللغوية بقدرِ ما مكَّنَته الظروف، ولأول مرةٍ رتَّبَها في معجم، وليس قبلَه مُعجمٌ يَحتذيه، ثم نزداد ذُهولًا لهذه القدرة الفائقة، عندما نجد الرجلَ «يبتكر» — وأرجوك ألَّا تدَع هذه الكلمةَ تَمضي أمامك وأنت مُغْمض العينَين — يَبتكر طريقةً فريدة في ترتيب الألفاظ في معجمه؛ فلقد وجَد الخليلُ بين يدَيْه طريقتَين معروفتَين في ترتيب أحرف الهجاء؛ فهنالك الطريقة التي تُسمَّى بالأبجدية، وهي التي تُرتِّب الحروفَ على غِرار ما تَرِد في هذه الكلمات: أبجد هوَّز حطِّي كَلَمُن سَعْفص قرَشت ثَخذ ضَظَغ؛ وهنالك أيضًا الطريقة الأخرى التي تُرتِّب الحروفَ على هذا النحو: أ ب ت ث ج ح خ … إلى آخر هذه الحروف؛ على الترتيب الذي نَألَفُه ويألَفُه أطفالنا إلى اليوم، فلا أخَذ الخليلُ عند تصنيفه لمعجمه بالطريقة الأولى ولا أخذ بالطريقة الثانية؛ إذ لعلَّه لم يجد فيهما أساسًا عِلميًّا، ويَكفي أنهما تُرتِّبان الحروفَ ترتيبَين مُختلِفَين؛ لِنَعلم أنَّ فيهما عشوائيةً لم تَرْضَها نظرتُه المنهجية.
«وابتكَر» الخليلُ لنفسه طريقةً ثالثة تُقام على أساس علمي لا مجال فيها لاختلاف النظر؛ وذلك أنه رتَّب الحروفَ بحسب مَخارِجها عند النطق، فأقصاها مَخرجًا يَرِد أولًا في الترتيب، وأدناها إلى الشفتَين يرد آخِرًا، وما بين الأقصى والأدنى تُرتَّب الحروف بحسَب المخارج المتعاقِبة، فكان أنْ وجَد لها هذا الترتيب: ع ح ﻫ خ غ ق ك ج ش ض ص س ز ط د ت ظ ذ ث ر ل ن ف ب م و ا ي.
وإني لأَدْعوك أيها القارئ مرةً أخرى إلى النظرة المتمهِّلة لئلَّا تفوتَك هذه النظراتُ العِلمية الجانبية، فكم مِن دقة النظر، وكم مِن موهبة في إدراك الصوت، يحتاجه إنسانٌ ليتعقَّب الحروف المختلفة إلى مَخارجها عند النطق بها؛ ليرى أيُّها أقصى مِن الحلق وأيها أدنى.
ثم ماذا بعد فراغه مِن الترتيب؟ يَجيء بعد تحديده لمواضعِ الحروف في سلسلة التعاقب خلال مُعجَمه، استقصاءً للألفاظ؛ ليُصنِّفها، وحتى هنا لا تَراه يُكدِّس الألفاظ بعضَها إلى بعض كأنها الغِلال المكوَّمة، بل يَحصرها أولًا في أنواعها من حيث مَبناها — وهو هنا يَستعين بما ذكَره الصرفيُّون مِن قبله في حصرهم لأبنية الكلمة، فهي إما ثُنائية، أو ثلاثية، أو رباعية، أو خماسية — شأن العلماء في أخذ النتائج الصحيحة بعضِهم مِن بعض؛ حتى لا يبدأ كلُّ عالم من الصفر، وكأن لم يَسبِقه عِلم ولا عُلماء.
وبعمَليَّة رياضية بارعة، استطاع أن يَحصُر — من الوجهة النظرية الرياضية الصِّرْف — كم صورةً لفظية يمكن أن تُنتِجَها لنا هذه الأبنِيَةُ الأربعة في تَباديلها وتَوافيقها؛ فالعدد الناتج هو حصرٌ كامل لصُورِ اللفظ العربي، من حيث الإمكانُ النظري، حتى ولو لم يتحوَّل هذا الإمكان النظريُّ في بعض الحالات إلى واقع فعلي، بمعنى ألَّا نجد له لفظًا مما قد استعمَله العربُ بالفعل، ثم أخذ يضَع في هذه الأقسام ما قد تجمَّع له من ألفاظٍ مُستعمَلة، مرتَّبة بحسَب مخارج الحروف كما ذكَرناه، ولما كان الحرفُ الأول في هذا الترتيب، هو حرفَ «العين»، أسمى مُعجَمه «بالعين».
وهنا قد تسأل: وما جدوى الأقسامِ التي لا يقَع فيها لفظٌ مما ورد في استعمال العرب؟ والجواب: جَدْواه هو عند استخدام القياس المنطقي في صلاحية لفظةٍ مستحدَثة أو عدم صلاحيتها، فبِحُكم كونها مُستحدَثة لأسبابٍ حضارية طرأَت على حياة العرب، لا يكون لها سابقة، وعندئذٍ نكون في حاجةٍ إلى قاعدة نَحتكِم إليها، هل تَنْساق اللفظةُ المستحدَثة مع اللسان العربي أو لا تنساق، والاحتكام في هذا يكون للأبنية النظرية التي أسلَفْنا ذِكْرَها، وفي هذا وَحده هدايةٌ كافية لنا، نُدرِك معها المعنى المقصود، حين يَصِف المؤرِّخون مدينةَ البصرة في تلك الفترة من التاريخ، خصوصًا كلما أرادوا مُوازَنةً بينها وبين الكوفة، فيقولون: إنها «عَقلانيَّة» المنحى، تعتمد على «القياس» المنطقيِّ في أحكامها، ولا تَقصُر نفسها — كما فعَلَت مدرسةُ الكوفة — على المسموع والموروث.
وكما اقتضَت ظروف الحياة العمَلية ومُشكِلاتها آنَئذٍ جمْعَ مفردات اللغة وتبويبَها والنظرَ في طريقة بنائها وتصريفها، فقد اقتضَت كذلك جمعًا «للشواهد» من الأدب العربي القديم؛ لِيستدلَّ منها على طريقة استخدام اللفظة عند أصحاب اللغة الأوَّلين؛ إذ لا يكفي لمعرفة معنى اللفظة الواحدةِ أن تراه وهو في المعجم مَعزولًا وحده عن السِّياق الذي يُبيِّن استعمال تلك اللفظة، وإنه ليَجدُر بي في هذا المقام أن أُحيلَ القارئَ إلى بحوث فلسفية في عصرنا هذا، وفي إنجلترا بصفة خاصة، تفرَّعَت كلُّها عن تيارٍ فلسفي معاصر يَرى أهم مُهمة للفلسفة في أن تقف عند بِنْية اللغة العِلمية كيف تُقام، بدل أن تشطح في مسائلَ ميتافيزيقيَّة ليس لها حلول، ولو وقَفْنا عندها إلى أن يَبيدَ الدهر، لا لأنها مسائلُ صعبة مستعصيةٌ على الأفهام، كما كان شائعًا بين الناس، بل وبين الفلاسفة أنفُسِهم، بل لأنها — كما كشف بذلك فلاسفةُ التحليل اللغوي الذين أحيلُ القارئَ إلى بحوثهم المستفيضة — صِيغَت في عبارات مِن اللغة لم يُحكَم بناؤها، وبالتالي جاءت تركيباتٌ من لفظ لا تَحمل معنًى، ومِن ثَمَّ استحال أن نَجد جوابًا لسؤالٍ صِيغَ مثلَ هذه الصياغة الخاليةِ من المعنى، أقول: إنه ليَجدر بي في هذا المقام أن أُحيلَ القارئ إلى بحوثٍ فلسفية في عصرنا هذا، يُدافع أصحابُها عن وجهة النظر التي تقول: إن معنى اللفظة لا يتحدَّد إلا وهي في عبارة مِن ذوات المعنى، وأما إذا أُفرِدَت وحدَها، فهي رمزٌ بغير معنًى.
وأحسب أننا على ضوء أبحاثٍ كهذه، نَستطيع رؤيةً أوضحَ للقيمة العلمية الكامنة في مُحاولات الباحثين الذين أرادوا تحديد معاني المفردات بالشواهد التي يَجمعونها من كلام الأسَبقين أصحابِ اللغة الأوَّلين، وأين عساهم أن يَجِدوا تلك الشواهدَ إلا في أبياتٍ من الشعر القديم؟ لقد كان الشعرُ هو الأداةَ الطبيعية التي يَصوغون بها كلَّ ما أرادوا قوله، فأيُّ غرابة أن نَجد العقليةَ الرياضية الرائعة عند رجلٍ كالخليل، يَستوقِفُها منزلةُ الشعر في العَملية العِلمية التي كانت تدور رَحاها في شوارع البصرة مُحْدِثةً دَوِيَّها الهائلَ الذي ملأ أسماعَ الناس من عامة الجمهور، فكيف بمِسْمَعَي الخليلِ بن أحمد، بكل ما فيهما من حساسية مرهَفة للصوت والنَّغم والإيقاع؟!
فلينظر — إذن — في الشعر العربي كيف بَناه بانوه وبَنوه، كما نظر في لغة العرب كيف بُنِيَت ألفاظها وكيف يَنبغي أن تُبنَى؟ فما هو إلا أن يَستخرج من الشعر صُورَه بعد تفريغها من مادتها، فإذا هذه الصورُ ما نَعلمه من أوزانِ الشعر العربي وبُحوره، فبأيِّ الرجال تَقيس الخليلَ في عمَله ذاك، إلا أن تَقيسه إلى قمةٍ شامخة مثل أرسطو اليوناني، حين استعرض الأقوالَ العِلمية التي تُديرها حوله ألْسِنةُ العلماء في مُختلِف الميادين فإذا هو يُفرغ تلك الأقوالَ من مادتها لِيَقع على صورها، وإذا هذه الصورُ هي «المنطق» الذي لَبِث عمادُ الدنيا المفكِّرة بأسرها، منذ أيامِ واضعه اليونانيِّ وإلى عصرٍ حديث، قريبٍ جدًّا من عصرنا الراهن، حين لمحَ الرياضيون المحْدَثون في صياغات العلم الحديث صورًا أخرى تُبايِن الصورَ الأرِسطيَّةَ الأولى، وهكذا صنَع الخليلُ للشعر العربي حين أفْرَغه من مادته ليرى على أيِّ الصور العروضية رُكِّبَت تلك المادة، ولقد قيل عنه فيما قيل: إنه حدث ذات يوم أنْ سَمِع في بعض طريقه وقْعَ مِطرَقةٍ على طَسْت، وكان عندئذٍ يُردِّد لنفسه بيتًا من الشعر، فإذا المقارنةُ بين إيقاع المطرقة وبين إيقاع ألفاظ البيت الشعري في مِسمعَيه، تلمع في ذهنه كالقبس، وهكذا جاءت الفكرةُ بأن يُقطِّع الشعر تقطيعًا أدى به في نهاية الأمر إلى حصرِ بُحور الشعر! فاللهم إن كان الذكاء قِوامه — كما يتفق على ذلك عدد كبير من علماء النفس اليوم — لمح التَّشابُه والتباين بين الأشياء والأفكار والمواقف، فماذا نقول في ذكاءٍ لمح مثلَ هذا التشابه بين صوتِ مِطرَقة على طَسْت، وبين وَزْن بيتٍ من الشعر يُردِّده، بحيث كان ذلك فاتحةً لتأسيس علمٍ أشبهَ بالعلوم الرِّياضية في صورته ودِقته ودَوامِ صوابه على امتداد القرون؟
١٨
في وقفتنا هذه التي اختَرْنا أن نقِفَها في مدينة البصرة خلالَ القرن الثامن، لنرى كيف أخذَت النظرةُ العقلية مأخذَها عند أصحاب الفكر عندئذ، بعد أن رأينا في الفترة السابقة علمًا يَنْساب مع الفطرة بغيرِ مُحاولة التعريف والتقسيم، والتبويب والترتيب، أقول: إننا في وقفتنا الثانية هذه على طريقِ رحلتنا الثقافية في تُراثنا الفكري، لو أننا اكتفَيْنا برجال النحو وحدهم، لرأَيْنا ما يَقطع بنُضج النظرة العقلية وارتقاء المنهج العلمي؛ إذ نرى عُلماء في هذا الميدان أرادوا أن يُخضِعوا اللغة لشكائمِ القواعد، حتى لقد غالَوْا في التمسُّك بالقواعد وبطريقة القياس عليها تمسُّكًا جعَلَهم — كلما وجَدوا عند العرب الأقدَمين استعمالًا لا يَجري مع القاعدة التي صاغوها — يَعُدُّونه شاذًّا ينبغي البحثُ له عن مُبرِّر يُجيز إدراجَه تحت هذه القاعدة أو تلك — فكأنهم في ذلك «بروقرسطس» الذي وردَت عنه أسطورةٌ فَحْواها أنه أعَدَّ للمسافرين نُزلًا في بعض الطريق، لكنَّ حُب النظام والتناسق أغراه بأن يَصنع الأسِرَّة كلَّها في نُزلِه على طول واحد، فإذا مرَّ به نزيلٌ أقصرَ قامةً من طول السرير، مطَّه مطًّا حتى تتساوى قامتُه مع هذا الطول، أو جاءه نزيلٌ أطولُ قامةً من طول السرير، جذَّ ساقَيْه حتى يَظفر بالتساوي الذي يَنشُده!
كانت البصرة في الفترة التي نتحدث عنها هي موطنَ «العقل» الذي يُحاول ألا يَنثنيَ مع عاطفة أو تزمُّت أو عصبية، فلا غرابة أن وجدناها سبَّاقة إلى صبِّ الفكر في قوالِب المنطق، أو إن شئتَ فقل: صبه في أطُر رياضية (والمعنى واحد)، وكان اهتمامهم بعلم النحو، أي بالْتِماس القواعد التي يُطوَّع لها كلام العرب، سواءٌ تحقق لهم هذا التطويع على صورة طبيعية، أم افتعلوه افتعالًا بقَسْرهم الشاذِّ — والشواذُّ عن قواعدهم كانت أكثرَ مِن أن تُهمَل أو يُغضَّ عنها النظر — على أن يجد إلى القاعدة طريقًا حتى ولو كان طريقًا غيرَ مباشر، وفيه كثيرٌ من التكلف والتعسُّف، فما استحال معهم أن يجد طريقه إلى قواعد النحو حتى عن هذا الطريق الملتوي المعتسَّف، قالوا إنه لا يَصلح أن يُقاس عليه؛ لأنه خطأ.
وكان إمام البصرة في هذا كله هو سيبويه — تلميذ الخليل بن أحمد — ويُسمَّى كتابه في النحو «الكتاب» بأداة التعريف، على اعتبار أنه العلَمُ الذي لا يحتاج إلى تمييزه مما سواه باسمٍ خاص، وكان يَكفي أن يتفاهم الدارسون بعضُهم مع بعض بقولهم: قرأتُ كذا وكذا في «الكتاب»؛ لِيَعلم السامع أنه كتاب سيبويه، وإنه لممَّا يدعو إلى العجب أن نرى مثلَ هذا الكتاب العملاق في موضوعه قد ظهَر فجأة وكأنه نبات شيطاني لم تَسبِقه المقدمات الكافية التي تُبرِّر ظهوره، مما يُغري مؤرِّخي الفكر العربي بافتراضِ سوابقَ له تدرجَت مع الزمن حتى استطاع علم النحو أن يبلغ هذه القامة السامقة التي بلَغها في «الكتاب»، وهو موقف يُذكِّرنا بما يُقال في أشباهٍ كثيرة لهذا الظهور المفاجئ لكِيان ضخم؛ فهكذا يُقال — مثلًا — عن تمثال أبي الهول وأهرامات الجيزة بمصر، وغيرِها من آثار الفترة الأولى التي هي بمثابة الفجر من تاريخ مصر القديمة؛ إذ يتساءل علماء المصرلوجيا: كيف أمكن أن يكون بدءُ الحضارة بهذا الوليد الرشيد الواعي؟ لا بد أن تكون هنالك مراحلُ سابقة تدرَّج فيها الصعود بخطوات لم يُثبِتها لنا التاريخ، حتى وصلَت إلى هذا النضج كلِّه دَفعة واحدة، وهكذا أيضًا يُقال في الأدب الألماني على يدَيْ جوته في أوائل القرن التاسع عشر؛ إذ ليس هنالك في تاريخ هذا الأدب سوابقُ تُفسِّر هذا الوجود العظيم المفاجئ، والأمثلة كثيرة في تاريخ الفكر والفنِّ والحضارة بصفة عامة.
نعم، إن سيبويه في «كتابه» يُحيل الدارسَ على أسلاف له في مواضعَ كثيرة، لكن البناء من حيث هو وَحدةٌ متَّسِقة، مُلِئت بالتعليلات العقلية والاستدلالات المنطقية، ودقة الموازنة بين رأي ورأي، ثم الترجيح لرأي دون آخرَ ترجيحًا بصيرًا، هو الذي يَلفِت النظر بشموخه وشموله، مهما يَكُن في ثناياه من إحالات على هذا الرأي أو ذاك، ومع هذا النضج كلِّه، والعمق كله، والإلمام الواسع كله، فقد مات سيبويه وله من العمر نيِّفٌ وثلاثون عامًا! فمتى وكيف أُتيحَ له هذا التحصيل الغزير، وهذه الأحكام السديدة في موضوعه؟ ألَا إنه — كأستاذه الخليل — رجلٌ تجسَّدَت فيه العبقرية، التي — كما أسلَفْنا القول — تتقمَّص العبقريَّ فتُوجِّهه الوِجهةَ التي يريدها العصر، وكان الذي أراده عصرُ سيبويه هو دراسة اللغة والنحو؛ لِيَقوم فَهمُ الناس للقرآن على أساس متين.
وبرغم اختيارنا للبصرة مكانًا لازدهار «العقل»، فأظنه من الملائم في هذا السياق أن نَذكر كيف اقتضَت عقلانيةُ البصرة المتشدِّدةُ في الْتِزام القواعد وتطبيقها، ورفض ما لا ينساق معها من لغة العرب أنفسِهم، إذا استعصى على الانطواء تحت هذه القاعدة أو تلك من قواعد النُّحاة؛ أقول: إن هذه العقلانية المتشددة كان لا بد لها أن تَستثير جانبًا آخرَ يُعارِضها لِيُحدِث التوازن، وكان أن ظهرَت المدرسة المعارضةُ لعقلانية البصرة، في الكوفة، وعندئذٍ قام التناظرُ بين المدينتَين على نحوٍ لا يتحقَّق إلا إذا تحققت للناس فاعليةٌ فكرية مُستعِرة.
فبينما البصريُّون يدعون إلى «العقل» وما يَصوغه من قواعدَ تُنظِّم السير على طريقٍ منهجي، جاء الكوفيون بدعوة مضادَّة، وهي أن يكون الحكم للسابقة، لا للقاعدة العقلية، فإذا وجَدْنا العرب الأقدَمين يَستخدمون لفظة أو عبارة بطريقة معيَّنة، كانت هي النموذجَ الذي نَحتذيه، ولا معنى لأن يُقال لأصحاب اللغة وخالِقيها: لقد أخطأتم هنا، وأصَبتم هناك. بل إن ما قالوه، بالصورة التي قالوه بها، أيًّا كانت هذه الصورة، هو مِعيار الصواب الذي يُقاس إليه كلام اللاحقين، والذي لا يَخضع بدوره لمعيار آخر، والمعيار لا يَقيس نفسه، وإنما يقيس ما عداه، فإذا تخيَّلنا سيبويه في البصرة يُنادي ويُردِّد النداء: العقل العقل، والقاعدة القاعدة، تخيَّلْنا معه مُناظِرَه في الكوفة، «الكسائي» يُنادي ويردد: السابقة السابقة، وكل سابقة هي أصل يُقاس عليه، وليس بين السابقات ما يَجوز أن يُوصَف بالشذوذ.
وهل يمكن أن تتعارض هاتان المدينتان هذا التعارُضَ الفكري الشديد في كل ميدان، دون أن يكون لذلك علةٌ من سياسة؟ فمَن ذا الذي يعتزُّ بكل قول قاله العرب الأقدمون، بحيث يجعله القاعدةَ التي يُقاس عليها، إلا قومًا أخذ الماضي بلُبِّهم أخذًا، وأرادوا أن يكونوا «عربًا» قبل أن يكونوا أيَّ شيء آخر؟ ثم مَن الذي يَعتزُّ بمقاييس العقل وحدها، حتى لَيُخطِّئ القدماءَ أنفسَهم إذا ورد لهم قول لا يَجري مع تلك المقاييس، إلا قومًا يَنزِعون نحو ألا يكون ثمة فارقٌ بين سابق ولاحق، أو بين قديم وحديث؟ فإذا جاز للقدماء أن يتحكَّموا في المحْدَثين، جاز كذلك لهؤلاء المحْدَثين أن يتحكَّموا بدَورهم في القدماء. وأحسب أن مَن تشبَّث بأفضلية العرب الأقدمين على «المسلمين» المحدَثين (فكلُّ الأقدمين في مجال اللغة العربية هم مِن العرب، وأما المحدَثون فهم مسلمون، عربًا كانوا أو غيرَ عرب) لا بد أن يكون منتميًا إلى أَرومة عربية خالصة، وأما مَن أراد إزالة الفوارق، فالأرجح أن يكون مِن أصول غير عربية، وهو نزاع بين هاتَين الفئتَين اشتد واتَّسع حتى أصبح ظاهرةً لا يُخطِئها البصرُ في تاريخ تلك الفترة من حياة الأسلاف، وقد نُفيض فيها القولَ بعض الشيء في موضع مُناسِب من هذا الكتاب، ولو أنها بحكم ما يَطبَعُها من عصبية تَندرِج في الجانب «اللاعقلي» من التراث، وإنما جعَلْنا هدفَنا الرئيسي هو الجانبَ «العقلي» من الطريق، فلا نورد اللاعقلي — إذا أوردناه — إلا لِيَزداد الضوءُ على المرئيِّ فيزدادَ وضوحًا للرائي.