مصباح العقل يشتد توهجه
١٩
هذه هي الوقفة الثالثة؛ نقفها على الطريق في رحلتنا الثقافية التي نَرود بها دولة «العقل» في مَظانِّها وعلى رءوس أعلامها، فنختار لأنفسنا أبراجًا للرؤية كلما لحظنا جمعًا من الناس اجتمع على مسألة عقلية أو مسائل، غاضِّين الأنظار — عامِدين — عن زواحف «اللاعقل» وهي تسعى، اللهم إلا أن نَلحظ حركةً لا عقلية تعترض طريقنا بحيث لا نستطيع رؤية العقل وهو يَعمل إلا مِن ثناياها، فعندئذ نقف عندها لحظةً لنفهمَ الدوافع والأهداف، ثم نَمضي في سبيلنا، وإنه لطالما حدث — عند أسلافنا وغيرِ أسلافنا — أنْ نبَت نباتُ العقل في تُربة من اللامعقول؟ ولقد رأينا كيف أثمر لنا سفكُ الدماء عند البصرة وعند صِفِّين بذورًا سرعان ما أنبتَت أفكارًا عقلية في مسائلَ سياسية كالتي رأيناها عند الخوارج، وفي مسائلَ فلسفية كالتي رأيناها في أوائل المعتزلة، بل أنبتَت بحوثًا عقلية مستفيضة في اللغة وقواعدها، وفي الشعر وبحوره.
ولقد اخترنا لوقفتِنا الثالثة هذه مدينة بغداد من القرن التاسع الميلادي (الثالث الهجري)، لكننا لا نكاد ننطق بهذا الاسم اللامع في تاريخ العقل العربي، حتى نسأل: وما بغداد؟ ثم لا نكاد نأخذ في القراءة عن قصةِ نشأتها بأمرٍ من الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، حتى ينشأ سؤالٌ وراء السؤال الأول عن هذه الخلافة العباسية نفسِها؛ كيف جاءت؟ ولولا أن الأمر في هذا وفي ذاك وثيقُ الصِّلة بجذور فكرية، لما جعَلناه موضعَ اهتمامنا هنا؛ لأن الأمر كان عندئذ ليصبح من شأن التاريخ وحده، ولستُ — كما قلتُ في موضع سابق — مؤرِّخًا، لكني في هذا الكتاب «مثقف» عام من أبناء القرن العشرين، أراد أن يُطِل إطلالاتٍ متفرقةً على الحياة العقلية عند أسلافنا؛ لعل هذه الإطلالات أن تنتهيَ بنا إلى طابَع أصيل مشترَك، فيكون هو ما يُؤخَذ من التراث الفكري، كلما أردنا أن نُطعِّم حياتِنا نحن الفكرية بما يَجعلها «عربية» إلى جانب كونها مُسايِرةً لعصرها الحاضر.
كانت الخلافة قد أفلتَت من أيدي عليٍّ وبَنيه، إلى حيث استقرَّت حينًا في الأسرة الأموية، بادئةً بمعاوية، لكن ذلك لم يمنع أن تظل هناك جماعاتٌ من الناس، تتمنَّى لو عادت الخلافة إلى أصحابها من أحفاد عليٍّ، على اختلافٍ بينهم فيمن يكون أحقَّ مِن سواه بين هؤلاء الأحفاد، ثم ما هي إلا أن نشأَت فكرةٌ أخرى، وهي أن تكون الخلافةُ في بَني هاشم، دون أن يكون الأمر في هذا مقصورًا على عليٍّ وأسرته، فمن ذا يكون إلا أبناء العباس بن عبد المطلب، عمِّ النبي عليه السلام، ولم يلبَث أصحاب هذه الفكرة أن اختاروا أحدَ هؤلاء، وفُوتِح هذا في اختياره وصادف الأمرُ في نفسه هوًى، لكنه أراد أن يتريَّث حتى يَخطوَ خطواتِه على أرض ثابتة؛ إذ لم يكن نقلُ السلطان من بيت بني أمية إلى غيره مما يَتم بين يوم وليلة، ولا كان ذلك مما تُؤمَن عواقبه لو حدث في ضوء النهار، وإذن فلا بد من التمهيد للانقلاب بالدعاية التي تَجري تحت جُنح الظلام — لو أمكن استخدام هذه الألفاظ العصرية للفترة القديمة التي نتحدث عنها — ومن هنا أخذَت هذه الجماعة تُدبِّر أمرها بتكوين ما قد يُسمَّى في يومنا «بالخلايا السرية» لِبَثِّ الدعوة إلى أبناء العباس بين الناس، ورُسِمَت الخطة لهؤلاء الدعاة، بأن يدعوا إلى ولاية أهل البيت — دون أن يَذكروا اسمًا معينًا؛ حتى لا يكونَ صاحبُ الاسم موضعَ نقمة الحاكِمين من البيت الأموي.
وبدأت هذه الحركة السرِّية في موطِنَين، ظُنَّ — بحق — أنهما أصلحُ المواطن للدعوة وهي في نشأتها الأولى، وهما الكوفة وإقليم خراسان؛ لماذا؟ لأن الكوفة معروفة بولائها لآل البيت، ولأن خراسان كانت فيما يبدو تعجُّ بالشكوى الخافتةِ مما كان يَلقاه الموالي — وهم الفُرس المسلمون — من ذلٍّ على أيدي الأُمويِّين، فالأمويون كما نعرف عربٌ خُلَّص، أرادوا أن تكون للعرب السيادةُ على غيرهم، حتى لو كان غيرهم من المسلمين، وهذا معناه بعبارة أخرى — وهو المعنى الذي يُهِمنا نحن من الناحية الفكرية — أنَّ تحالف السياسة مع الثقافة لاتفاقهما في الهدف؛ فمن الناحية السياسية كان هناك حزبان يقتتلان على الحكم؛ أحدهما يرى حصر الحكم في أهل البيت وحدهم دون سواهم، فإذا لم يكن عليٌّ كان أحد أبنائه، أو فليكن العباس عم النبي ﷺ أو أحد أبناء العباس، وأما ثانيهما فهو الذي يرى أن تكون الخلافة في ظهرٍ من بني أمية. ومن الناحية الثقافية كذلك كان هناك حزبان أو جماعتان، فكان أحدُ الحِزبَين جماعةً تتعصب للتراث العربي القديم وحده دون ما قد وفد إلى الناس من البلاد المفتوحة مثل فارس، وكان الحزب الآخر، وهو بالطبع مؤلَّف من غير العرب، يهتمون بالثقافات غير العربية كالثقافة الفارسية، ولو أخذنا مجموعة من كلٍّ من الجماعتين وضمَمْناهما بعضًا إلى بعض ليكون من جَمعِهما فئةٌ تُدبِّر لنقل الحكم من بيت إلى بيت، نقله من بني أمية إلى بني العباس، إذن فلنَجْمع شيعة عليٍّ في الكوفة إلى الفرس المتمرِّدين حرصًا على أصولهم الثقافية أن تضيع، وهم أهل خراسان، وهكذا كان.
نجح التدبير، وبُويع أبو العباس بالخلافة سنة ٧٥٠ ميلادية، فصعد المنبر إلى أعلاه، وصعده معه عمُّه، ولكنه جعل نفسَه في موضعٍ دون موضعه، ثم تكلم أبو العباس حتى أعيَتْه وعكة كانت تعتريه آنَئذٍ، فقام عمُّه ليتولى عن ابن أخيه خطابَ الناس، وسنُورد هنا فقراتٍ من الخُطبتَين لنبيِّن كيف صور المتكلِّمان رجال الأسرة الأموية التي دالَت دولتُها؛ لعلَّنا نفيد من هذا درسًا واحدًا، وهو امتناع الكمال على أسلافنا، فهم — مثلنا — يَكذبون ويَكيدون، ويتآمرون ويغتالون، في سبيل الوصول إلى مواضع الرياسة والحكم، فلا حرج علينا أن ننبذ من تراثهم الذي خلَّفوه لنا ما ننبذه، ونأخذ ما نأخذه؛ قال أبو العباس في خطبته عن بني أمية إنهم جاءوا إلى الحكم فابتزُّوا أموال الناس، «وجاروا فيها واستأثروا بها، وظلموا أهلها … فانتقم الله منهم بأيدينا، وردَّ علينا حقَّنا …»
ويَمضي ابنُ الأثير الذي نأخذ من كتابه «الكامل» هذه الصورةَ فيقول: وكان أبو العباس موعوكًا، فاشتد عليه الوعك، فجلس على المنبر وقام عمه فقال: «أيها الناس! الآن أقشعَت حَنادسُ الدنيا، وانكشف غطاؤها، وأشرقَت أرضها وسماؤها، وطلعَت الشمس من مطلعها، وبزَغ القمر من مبزغه، وأخذ القوسَ باريها … ورجع الحقُّ إلى نِصابه في أهل بيت نبيكم، أهل الرأفة والرحمة بكم والعطف عليكم … أيها الناس! … تبًّا تبًّا لبني حرب بن أمية وبني مروان! آثَروا في مدتهم العاجلةَ على الآجلة، والدارَ الفانية على الدار الباقية، فركبوا الآثام، وظلَموا الأنام، وانتهَكوا المحارم، وغشُّوا بالجرائم، وجاروا في سيرتهم في العباد وسُنَّتهم في البلاد، ومرحوا في أعِنَّة المعاصي، وركضوا في ميدان الغيِّ جهلًا باستدراج الله وأمنًا لمكر الله، فأتاهم بأس الله بَياتًا وهم نائمون، فأصبحوا أحاديث، ومُزِّقوا كل ممزَّق، فبُعدًا للقوم الظالمين …»
كان هذا اللقاء في الكوفة، وأهل الكوفة — كما نعلم — هم أشياع أهل البيت، فكان مما خاطبَهم به الخطيبُ يومئذ — وهو عم الخليفة الجديد — قولُه فيهم: «يا أهل الكوفة! إنا والله ما زِلنا مظلومين مقهورين على حقنا، حتى أباح الله شيعتنا أهل خراسان، فأحيا بهم حقَّنا …» فما الذي جعل هؤلاء شيعة أولئك؟ إنها المصلحة المشتركة؛ فأولئك يريدون الحكم، وهؤلاء يردون الانتقام من الأمويين الذين اعتزُّوا بالعروبة وحدها فأذلُّوا مَن لم ينتسب لها حتى ولو كان من المسلمين! فإذا ألحَقْنا السؤالَ الأول بسؤال ثانٍ، هو: وإلى متى سيظل التحالف بين بني العباس وفُرس خراسان؟ سيظل ما بقيَت تلك المصلحة قائمة، حتى إذا ما انقضَت انفرط عِقدها.
وحسبنا في هذا المقام أن نذكر كيف فتَك الخليفة العباسيُّ الثاني — أبو جعفر المنصور — بأبي مُسلمٍ الخراساني الذي كان له أعظمُ الفضل في أن كسَب خراسان إلى جانب بني العباس؛ فمنذ أن كان أبو جعفر المنصور وليًّا للعهد في أيام أخيه أبي العباس السفاح، كان بين أبي جعفرٍ هذا وأبي مسلم كراهيةٌ وازدراء، كراهية الأول للثاني وازدراء الثاني للأول، حتى لقد دار هذا الحديثُ بين أبي جعفر وأخيه الخليفة:
فأمره بقتله، ثم ندم على ذلك، فعاد وأمَره بالكف عن قتله.
فماذا يصنع أبو جعفر بغريمه الخراساني، فور أن بات الأولُ خليفةً للمسلمين بعد موت أخيه؟ لقد انتهز لقتله أولَ فرصة سنحَت؛ إذ جاء به لِيَلقاه، وكان قد أعدَّ نفرًا من حرسه وراء الرِّواق الذي كان به، وأمرهم بأنه إذا صفَّق لهم بيدَيه، فَهِموا من ذلك أن يَخرجوا من مخبأهم ليُعْمِلوا سيوفهم في أبي مسلم الخراساني.
وجيء بأبي مسلم، وكان قد كسب مَعارِكَ لتوِّه من أعداءَ للعباسيِّين، فلما أن مَثُل بين يدَيه، وكان أبو مسلم يحمل نصلًا من نصلَين غَنِمَهما ممن كان يقاتله، فأخذه منه المنصور ليراه، ثم وضعه تحت فِراشه، ولم يكن أبو مسلم يتوقع الغدر، وأخذ الخليفة يُعاتبه على أشياء وقعَت منه، والغيظ تَعلو حِدتُه كلما ذكر له منها شيئًا، وصفق، فخرج الحرس المتخفي وراء الرواق، وما إن أبصر الخراساني مَنيَّته عالِقة على أطراف السيوف، حتى استرحم الخليفة:
وأخذه الحرس بسيوفهم حتى قتلوه وهو يَصيح: العفو!
وتوقع المنصور أن يثور لأبي مسلم الخراساني بعضُ تابعيه، فخطب في الناس قائلًا: «لا تخرجوا من أُنسِ الطاعة إلى وَحشة المعصية، ولا تمشوا في ظلمة الباطل بعد سعيكم في ضياء الحق، إن أبا مسلم قد … رجَح قبيحُ باطنه على حُسن ظاهره …»
ولم يكن لِيَمضيَ قتلُ الخراساني بغير أثر مهما خطَب أمير المؤمنين وأجاد في الخطاب دفاعًا عن فَعلتِه؛ فمنذ نشأَت دنيا الناس، ولعله كذلك إلى أن تنتهيَ هذه الدنيا، والقتالُ على السلطان دائرُ الرَّحى بين الطامعين فيه، فإذا انتصر طامعٌ على طامع، كانت الفضائل كلها للمنتصر، والخبائث كلُّها للمهزوم، وماذا نتوقع لقاتل منتصِر أن يقول؟ أيقول: أيها الناس، قد قتَلتُه وإني لخبيثٌ وإنه لطيِّب؟! فإذا انتزع بَنو العباس أسباب السلطان من بني أمية، كان الحق كلُّه والفضل كله في أيدي العباسيِّين، وكان الشر كله والرذيلة كلها من صفات أعدائهم، وإذا أمسك المنصورُ بالخراساني، كان المنصور هو الذي «يسعى في ضياء الحق» وأما غريمه «فكان حُسن ظاهره إنما يُخفي باطنًا قبيحًا».
٢٠
وإذا كان قيام الدولة العباسية، الذي ارتكز فيما ارتكز على تأييد جبهة فارسية في خراسان، يَقودها أبو مسلم، ثم إذا كان الحُكم العباسي لم يكَد يبدأ حتى انقلَب على مؤيِّده أبي مسلم فقتَله، أقول: إنه إذا كان هذا كلُّه من قَبيل السياسة وما يَلحق بها من معارك، فإن هذه المقدِّماتِ السياسيةَ قد أنتجَت نتائجَ ثقافية لم تكن لأول وهلةٍ تبدو لازمةَ الظهور من تلك المقدمات، ومن هذه النتائج ما هو واقعٌ في صميم النشاط العقلي الذي هو هدفنا الأول من هذا الكتاب، ولكن مِن هذه النتائج أيضًا ما قد أسرف في مُجانَبة العقل وحدوده.
ونبدأ بهذا الجانب اللامعقول الذي أنتجه الصراع السياسي الذي ألمَمْنا بطرَفٍ يسير منه، فنقول: إن ردود الفعل التي ظهرَت بين الفُرس لقتل الخراساني، كانت كثرتها الغالبة عجبًا في عجب من إيغالها في سمادير الوهم والخرافة، لقد أيَّد هؤلاء الفرسُ قيادةَ أبي مسلم في نُصرتها للعبَّاسيين، لا لأنهم صدَروا في ذلك التأييد عن عقيدة بأن بني العباس في ذواتهم هم أفضلُ عنصرًا من بني أمية في ذَواتهم، بل أيَّدوها لأن استبدال أسرة حاكمة جديدة بأسرة حاكمة قديمة، قد يفتح أمامهم أملًا أُوصِدَت أبوابه على أيدي الأسرة القديمة، وهو أن يكون للفارسيِّ المسلم من الحقوق ومن المنزلة ما لزميله العربيِّ المسلم، وها هو ذا الخراساني قد قُتل على أيدي الحكام الجدُد، إذن فليتمرَّدوا بطريقة أخرى، وهي أن يُقاوِموا بثقافتهم الفارسية القديمة ثقافةَ العرب، وكان لهذه المقاومة الثقافية وجهان؛ أحدهما يدخل في باب المعارف العقلية العِلمية، وأما الآخر فهو جهالة يرفضها العقل رفضًا صريحًا لا تردُّد فيه، وحسبُك من هذا الوجه اللامعقول أن تعلم أن المدار في معظم الأحيان كان هو تأليهَ أبي مسلم الخراساني، وأنه بقتله إنما صعد روحه إلى السماء ليعود في رَجعةٍ أخرى، ولم يَمُت على نحوِ ما يتصور الناسُ الموتَ في سائر الرجال.
فلم يكد يسير في الناس نبأُ الخراساني، حتى خرج بخراسان رجلٌ يسمى «سنباد» مطالبًا بدمه، ثم ما هو إلا أن تبعه في ثورته أتباعٌ كثيرون من المجوس، حتى اضطُرَّ الخليفة المنصور أن يُوجِّه إليه جيشًا من عشَرة آلاف، وإنه ليُروى (راجع الكامل لابن الأثير، ج٥، ص٤٨١ من طبعة دار صادر ببيروت) أن هزيمة سنباد أمام جيش الخليفة إنما جاءت نتيجةً لحادث وقَع، فشتَّتَ أعوان سنباد، وذلك أنه لما قَدِم جيشُ الخليفة قدَّم سنبادُ ما بين يديه من النساء السبايا المسلِمات، وكنَّ راكباتٍ على جِمال، فما كِدن يبلغن معسكر المسلمين، حتى قمن على ظهور جِمالهن ينادين: وامحمداه! ذهب الإسلام! وعندئذٍ وقعَت الريح في أثوابهن، فنفرَت الإبل وعادت إلى عسكر سنباد، فتفرَّق العسكر فزعًا، ومِن ثَم كانت هزيمتهم.
ولم يلبَث الخليفة أن قام في وجهه ثائرون آخَرون من أهل خراسان، يَعرفون باسم «الراوَندية» مُطالبين هم كذلك بدم أبي مسلم؛ على أن أهم ما يستوقف النظر في حركتَي سنباد والراوندية، هو دعوتهم إلى عقائدهم الأولى، وإنه لممَّا يَجدر ذِكره بشأن جماعة الرواندية هؤلاء مفارقةٌ تستحق التأمُّل، وهي أنهم — وهم الخارجون على تعاليم الإسلام غيظًا مما نزل بقائدهم أبي مسلم — وقد ظَمِئت نفوسُهم إلى شيء يَروي ميولهم القديمة التي كانت تلتمس دائمًا ذلك الإنسان الربانيَّ الذي يصل لهم ما بين السماء والأرض، فخُيِّل إليهم يومئذ أنه لم يكن بين الناس مَن يستحق هذه المنزلةَ إلا الخليفة المنصور نفسُه، فوفدَت جماعاتهم إلى قصر المنصور يَصيحون قائلون: هذا ربُّنا، وهذا قصره! فغضب المنصورُ وأخذ رؤساءهم وحبسَهم، فحمل أصحابُهم نعشًا خاليًا، ومرُّوا به حتى صاروا على باب السجن فرمَوا به، وحملوا على الناس هناك، ودخلوا السجن عَنوة، وأخرَجوا أصحابهم.
والذي يُهمنا بصورة خاصة من هذه الأحداث وأمثالها، هو أنه لا يُعقَل أن يكون قتل رجل كأبي مسلم الخراساني مبرِّرًا كافيًا لمثل تلك الرِّدة إلى ديانات الفُرس فيما قبل الإسلام، وبمثل تلك السرعة وذلك الاتساع، مما يدل — فيما نرى — دلالة قوية على أن الإسلام لم يكن عند القوم أكثرَ مِن غِطاء خارجي أبعدَ ما يكون عن ثبات الجذور، فكانت تكفيه أقلُّ هبَّة من هواء ليطير فتنكشف العقائد الراسخة من تحته، وإذا قلنا «العقائد» فقد قلنا «الثقافة» أيضًا، وهي كلها مما قد يُرضي شيئًا في وجدانهم، لكنه مبتورُ الصلة «بالعقل» وكلِّ ما يتصل بالنظرة «العقلية» بسببٍ من الأسباب.
كانت حكمة الساسة من المسلمين قد حملَتهم على أن يَعُدوا أتباع المجوسية (الزُّرادشتية) في فارس مُماثلين لأهل الكتاب في أسس التعامل، أي إنهم أحرارٌ في عقيدتهم الدينية ما داموا يَدفعون الجِزية، غيرَ أن كثيرين جدًّا من الفرس قد آثروا اعتناق الإسلام، ثم ما لبثوا أن حاوَلوا تحوير الإسلام بما يتفق مع عقائدهم الأولى، فإذا تعذر عليهم ذلك، أبقَوْا على الإسلام ظاهرًا، وأحيَوْا عقائدهم الأولى باطنًا، حتى إذا ما سنحَت بارقةٌ من أمل أن يكون لهم السلطان، نفَضوا عن أنفسِهم ذلك الظاهر، وأبدَوْا أمام الأعين ما كانوا يُبطنون.
ولم تكن المجوسية (أو الزرادشتية) وحدها هي القائمةَ في بلاد فارس عندما دخلها الإسلام، بل كان هنالك إلى جانبها ديانتان أُخرَيان، هما المانَوية والمزْدَكية، أما الأولى فهي تُنسَب إلى «ماني» (ولد ٢١٦ ميلادية ومات ٢٧٦م)، وأهمُّ مبادئها أن الكون قائمٌ على أساسَين يتنافَسان؛ أحدهما للخير، والآخر للشر، وقد تمثَّلا في النور والظلمة، ثم ذهبوا إلى جانبِ ذلك مذهبَ القائلين بالتناسُخ، وهي عقيدةٌ نقَلوها عن البوذية، وأما الديانة الثانية — أعني المزدكية — فتنسب إلى «مَزْدك» وهي ذات جانبَين؛ جانب ديني يكمل ما قاله به «ماني» من تنافس بين النور والظلمة، بأن يجعل النصر للنور، وجانب اجتماعي يُبيح شيوعية النساء والأموال.
إننا في هذا الكتاب نتعقَّب مسار «العقل» في تراثنا الفكري، فلما أن بلَغ بنا السيرُ أواسطَ القرن الثامن الميلادي، ووقَفْنا وقفة تُمهِّد لنا النقلة من البصرة إلى بغداد، لفَت أنظارَنا ما اقترن بقيام الدولة العباسية عندئذ من مُناصرة الفرس لها على سبيل الانتقام لثقافتهم القديمة التي أُريدَ لها أن تُنسَخ نسخًا، ولقوميتهم التي أُريدَ لها أن تموت أو أن تتراجع إلى الصفوف الدنيا من طبقات المجتمع، ثم لفَت أنظارَنا بعد قليل كيف جاء موت الخراساني بأمر من الخليفة المنصور، بمثابة الضغطة على الزناد، فانفجر القوم يُبْدون من أنفسهم ما كانوا قد أخفَوْه، وكان هذا الذي أخفَوه — كما أشرنا في إشارة عابرة — عقائدَ إلحاديةً لا تتَّسق مع منطق العقل حتى حين يكون هذا المنطق في أدنى درجاته وأيسرها، لكن رُبَّ ضارةٍ نافعةٌ كما يقولون؛ فمن هذا «اللامعقول» نبتَت حركات عقلية نعتزُّ بها إلى اليوم، تمثلَت في فكر المعتزلة ومنطقهم؛ إذ هم يُؤيِّدون بالعقل وحُجته بُنيان الدين، وكان الذين حفَّزهم إلى ذلك هو ما تعرض له هذا البنيانُ من سهامٍ طائشة قذَف بها قومٌ غاضبون، فحجَب سُعارُ الغضب عن أعينهم معالمَ الطريق. لكننا كذلك لا بد أن نُضيف هنا نتيجة أخرى نتَجَت أيضًا عن إحياء فريق من الفرس لدياناتهم الأولى، وهي أن دعوتهم تلك كانت بغير شك مساعِدةً على تقوية النظرة الصوفية عند أصحابها؛ فمهما اختلف المتصوِّفة المسلمون عن جماعات الزنادقة أولئك، فهم يلتقَّون معهم في الركون إلى غير طريق «العقل» في مُحاولتهم اختراقَ حُجب المادة لِيَشهدوا وراءها «الحق»، أو لِيَدمجوا ذواتهم مع ذلك «الحق» دمجًا، ولا عجب أن رأينا الناس يتأرجَحون عند الحكم على المتصوفة، بين أن يَجعلوهم في قمة الإيمان وأن يَجعلوهم مع الملحِدين أو الكافرين.
٢١
ولنترك هذه الرِّدة نحو «اللامعقول» على جانب الطريق؛ كي نَمضيَ نحو معقِلٍ للعقل هو مِن أعتى حُصونه على طول التاريخ، وأعني به بغدادَ وهي في أوْجِها، لكن أين بغداد؟ لقد كنا نتحدث منذ بُرهة قصيرة عن مقتل أبي مسلم الخراساني على يدَيِ المنصور — ثاني خلفاء الدولة العباسية — وما نجم عن ذلك الحادث من نتائجَ في دنيا الثقافة التي خلَّفها لنا السابقون، وكانت بغدادُ عندئذ لم يُنشَأ منها جدار؛ فقد كان المنصور إلى ذلك الحين يُقيم بالكوفة، فلما ثارَت عليه «الراوندية» فيها — على نحوِ ما أشَرْنا منذ قليل — كَرِه الإقامةَ حيث كان يقيم، فخرج بنفسه يرتاد له موضعًا يَسكنه هو وجنده.
وتأبى كتب التاريخ القديم — عندنا وعند سوانا — إلا أن تُحيط كلَّ حدث عظيم بما يتناسَب مع جَسامته من أساطير، حتى لتَكاد الخرافةُ تتناسب تناسُبًا مطَّرِدًا مع جسامة الحدث، والحدث الذي نحن مُقبِلون على الرواية عنه، هو بناء بغداد، وأما الأساطير التي شاعت حول بنائها، فمِنها (ونحن ننقل عن الكامل لابن الأثير) أنه بينما المنصور يُصوِّب هنا ويُصعِّد هناك باحثًا عن مكان يستقر فيه وهو آمن، تصادَف أن تخلف عنه أحدُ جنده لرمَد أصابه، فسأله الطبيبُ الذي يُعالجه عن حركة المنصور؛ ما سببها؟ فأخبره، فقال الطبيب: إن كِتابًا عندهم يَقص قصة عن رجل يُدعى «مِقْلاصًا» يَبني لنفسه مدينة في المكان الفلاني، حتى إذا ما أقام أساسها، وبنى بعضَ دُورها، سمع بثورة عليه في الحجاز، فيقطع بناء مدينته حتى يَقضيَ على تلك الثورة، وما إن عاد إلى مُواصَلة البناء، سمع بثورة أخرى في البصرة، فيَقطع البناءَ مرة أخرى ليقضي عليها، ثم يعود بعد ذلك إلى بناء مدينته فيُتِمه، ثم يُعمَّر عمرًا طويلًا، ويبقى الملك في عَقِبه.
فأسرع ذلك الجنديُّ إلى حيث كان المنصور ليُخبره بما قد سمع من الطبيب، فقال المنصور متفائلًا: إني والله كنتُ أُدعى مِقلاصًا وأنا صبي، وسار من فوره حتى نزل الدير الذي يقَع حذاء قصره المعروف بالخُلد، وجمع بَطارقة الدير يسألهم عن مَواطنهم كيف هي في الحر والبرد والأمطار والوحول والهوام؟ فلما أخبَره كلٌّ منهم بما عنده في إقليمه، وقع اختيارُه على بغداد فاستدعى صاحبَ بغداد يسأله أن يُفصِّل القول في خصائص هذا الموضع، فأخذ الرجل يَذكر له من الخصائص ما أغراه بأن يكون موضعُ بغداد هو مَقصدَه.
وأمر فخُطَّت المدينة، وحُفِر الأساس، وضُرب اللَّبِن، وطُبِخ الآجُرُّ، وكان أول ما ابتدأ به منها أنه أمر بخطِّها بالرماد، فدخَلها من أبوابها وفُصْلانها وطاقاتها ورحابها وهي مخطوطة بالرَّماد، ثم أمَر أن يُجعَل على الرماد حَب القطن ويُشعَل بالنار، ففعلوا، فنظر إليها وهي تشتعل، فعرَف رسمها، وأمر أن يُحفَر الأساس على ذلك الرسم.
وكذلك أمر باختيار قوم من ذَوي الفضل والعدالة والفقه، ومن ذوي الأمانة والمعرفة بالهندسة، فكان ممن أُحضِر أبو حنيفة، الذي طلَب إليه المنصورُ أن يَجعل مهمته عدَّ الآجُرِّ واللبِن، مع أنه قد اختاره أولَ الأمر ليتولى القضاء، فلما أن تلقى أبو حنيفة الأمر بعدِّ الآجرِّ واللبِن، وقف صامتًا، حلف المنصور أنه لن يتركه حتى يؤديَ له تلك المهمة أولًا، فأجابه أبو حنيفة أن يلجأ إلى القصَب في عدِّ ما أراد عدَّه، فكانت هذه أولَ مرة تُستخدَم فيها هذه الطريقة الهندسية من القياس، وكان أن وضَع المنصورُ بيده أول لَبِنة (وعلى نحو ما نفعل اليوم في وضع حجر الأساس) قائلًا: بسم الله، والحمد لله، والأرضُ لله يُورِثها مَن يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين، ثم قال: ابْنوا على بركة الله، وكان ذلك عام ٧٦٥م.
كان خالدُ بن بَرْمك بين مَن شاورهم المنصور في بناء بغداد، وقيل: إنه هو الذي خطها، فاستشاره في نقض إيوان كسرى واستخدامِ نقضه في بناء المدينة الجديدة، فأجابه خالدٌ (وهو فارسي يَنتمي إلى البلد الذي كان يَنتسب إليه الإيوانُ المرادُ هدمه): لا أرى ذلك؛ لأنه علَم من أعلام الإسلام، يَستدل به الناظرُ على أنه لم يكن ليُزال مثل أصحابه عنه بأمر دنيا، وإنما هو على أمرِ دين، ومع هذا ففيه مصلَّى عليِّ بن أبي طالب، قال المنصور: لا، أبَيْتَ يا خالدُ إلا الميل إلى أصحابك العجم! وأمَر بنقض القصر الأبيض، فنُقِضَت ناحية منه، وحُمل نقضه، فوُجِد أن نفقات الهدم ونقل الأنقاض أكثرَ مما لو بُني البناءُ الجديد بالحديد! فدعا المنصورُ خالد بن برمك لِيُعلِمه بذلك، فقال خالد: يا أمير المؤمنين، فقد كنتُ أرى ألا تَفعل، فأما إذ فعَلت فإنني أرى أن تهدم؛ لئلا يُقال: إنك عجزت عن هدم ما بناه غيرك! لكن المنصور أعرَض عن الهدم، ولقد أوردتُ كلام خالد بن برمكٍ لِما أحسَستُه فيه من رنَّة الفخر بأصله الفارسي، والشماتة بعَجز الجديد وتقصيره عن مَجد آبائه.
جعَل المنصور المدينة مُدوَّرة لئلا يكون بعضُ الناس أقربَ إلى السلطان من بعض، سابقًا بفِكرته هذه الملكَ آرثر ومائدتَه المستديرة، وبنى المنصورُ قصره في وسط المدينة والمسجد الجامع بجانبه.
في هذا الحصن الحصين اعتصَم «العقل» حينًا من الزمن غيرَ قصير، فليكن لنا فيه وقفاتٌ هنا وهناك، لننظر إلى الموكب العقليِّ العظيم، يمر على مسرح التاريخ، مُغمِضًا عينَيه عن سخافات اللامعقول التي كانت في تلك الفترة نفسِها تَظهر كصرخات المجانين، تؤلِّه رجلًا هنا، وتفكُّ قيود الأخلاق العامة هناك، ولتكن أولى وقفاتنا في «بيت الحكمة» (٨٣٢م) أيامَ الخليفة المأمون.
جاء في «الفِهرست» لابن النديم أن المأمون قد رأى في منامه كأن رجلًا أبيضَ اللون مُشرَبًا حُمرة، واسِعَ الجبهة مقرونَ الحاجب، أجلح الرأس أشهَل العينَين، حسَن الشمائل، جالسٌ على سريره، قال المأمون: وكأني بين يدَيه قد مُلِئتُ له هيبة:
– من أنت؟
– أنا أرسطاليس.
فسُرِرتُ به، وقلت: أيها الحكيم! هل أسألك؟
– سل.
– ما الحسَن؟
– هو ما حَسُن في «العقل».
– ثم ماذا؟
– ما حَسُن في «الشرع».
– ثم ماذا؟
– ما حَسُن عند الجمهور.
– ثم ماذا؟
– ثم لا ثم!
يقول صاحب «الفهرست»: فكان هذا المنام مِن أوكَد الأسباب في إخراج الكتب؛ فقد كانت بين المأمون ومَلِك الروم مُراسَلات، فأرسل إليه يَستأذنه في مجموعة مختارة من العلوم القديمة المخزونة المدَّخَرة ببلد الروم، فأجابه ملكُ الروم إلى طلبه بعد امتناع، فأخرج المأمونُ جماعة، منهم الحجاج بن مطر، وابن البطريق، وسلَّما صاحبَ بيت الحكمة، فأخَذوا مما وجَدوا ما اختاروه، فلما حمَلوه إلى المأمون أمَرهم بنقله، فنُقِل، وكانت هذه الكتب المختارة في الفلسفة والهندسة والموسيقى والحساب والطب.
إنك لتَعرف اهتمام القوم يومئذ باستخراج ما حوَتْ كتب القدماء في بطونها من شتى صنوف العلم، إذا عرَفتَ كم أخذَت تَشيع الأساطير بين الناس عن الكتب، أين توجد، وكيف يمكن الحصولُ عليها، كأنما هم يبحثون عن مناجم الذهب لِيَستخرجوه مِن مكامنه، فتقرأ — مثلًا — لابن النديم في «الفهرست» روايةً يَنقلها فلان عن فلان أنه كان يَحكي في مجلس عام (ولا يَفوتنَّك هنا أن الحديث كان في مجلس عام مما يدل على اتساع مجال الاهتمام بين الناس) فيقول: إنه وجد ببلد الروم هيكلًا قديم البناء، عليه باب بمصراعَين من حديد، والباب قد بلَغ من العِظَم حدًّا يجعله فريدَ نوعِه فيما عرَف الناس جميعًا، وكان اليونانيون — فيما روى هذا الرحَّالة الذي يقصُّ على الناس حكايته — إذا ما أرادوا أداء الشعائر الدينية في عبادتهم للكواكب والأصنام، يُعظِّمون ذلك البناء، ويَبتهلون فيه إلى معبوداتهم بالدعاء، ويَذبحون فيه الذبائح، ويقول الراوي: فسألتُ ملك الروم أن يفتحه لي، فامتنَع من ذلك، فلم أزَل به حتى فتَحه، فإذا ذلك البيتُ قد أُقيمَ من المرمر الجميل ومِن أنفَسِ الحجر، وعليه مِن الكتابات والنقوش ما لم أرَ ولم أسمع بمِثله كثرةً وحُسنًا، ومن هذا الهيكل مِن الكتب ما يُحمَل على ألف جمل، وكان بعضُ تلك الكتب قد أخلَق، وبعضها أكلَتْه الأرَضة وبعضها لم يزَل على حالة جيدة، قال الراوي: ورأيتُ في الهيكل آلاتٍ للقرابين صُنِعَت من ذهب، وغير ذلك من النفائس، فلما فرَغتُ من رؤية المكان، أغلق ملكُ الروم بابَ الهيكل بعد خروجي، وامتن عليَّ بما فعل … فإذا كانت حكاياتٌ كهذه هي التي يتفتَّق عنها خيالُ القاصِّ ويَستمع إليها جمهورُ الناس، فلا بد أن يكون «الكتاب» وما يرتبط بالكتب مِن معرفة، هو الذي ملَك على القوم عقولَهم وقلوبهم معًا، ولا فرق في هذه الحالة بين أن تكون روايةُ الراوي من واقع الأحداث أو مِن خلق الخيال؛ لأن ما يُهمُّنا نحن في أي الحالتَين هو ما هفَت إليه النفوس في الفترة التي اتخَذْنا فيها موقفَنا لنُلقيَ البصر والسمع إلى أهلها: بماذا يَنشطون وفيم يُفكرون.
ولو دخَلنا «بيت الحكمة» هذا الذي أُقيمَ ليكون مقرًّا لنقل الكتب المحمولة من هنا وهناك إلى اللغة العربية، لوجَدْناه يَرفع أمام أبصارنا على الفور دليلَه الصارخ بما ساد المكانَ من إجلالٍ للعلم ومكانته؛ إذ يَكفي أن نرى بلمحة واحدة رجالًا اختلفَت عقائدُهم الدينية، واختلفَت أوطانهم ولغاتهم ومذاهبهم لكنهم اتفقوا جميعًا على هدف واحد، هو الاشتغال بنقل هذه العلوم التي طُوِيَت في الكتب أمامهم لتصبح بعدَئذٍ علومًا تَجري في لغة عربية؛ تمهيدًا لها أن تتحوَّل على الزمن ثقافةً عربية بعد تهذيبها بالحذف هنا وبالإضافة هنا وبالشرح والتأويل هناك؛ حتى تُلائم روحَ العربي بصفة عامة، والعربي المسلم بصفة خاصة، ولعلنا حين يمتدُّ بنا طريقُ رحلتنا الثقافية هذه مع تراثنا الفكري وهو لم يزَل في مَنابعه وأصوله، أن نرى إلى أيِّ حد استطاع العلمُ المنقول أن يَسريَ في العقل العربي سَريان الزيت في الزيتونة، أم تُرى يَصدُق قولُ مَن قال عن الثقافة اليونانية وما تركَته من أثر حين نُقِلَت إلى العرب، بالقياس إلى أثَرها حين نُقِلَت بعدئذ إلى أوروبا، من أنها وهي في أوروبا صادفَت ناسًا من جنس أهلها، فكأنها أضافَت عددًا إلى أصحابها، وأما وهي بين أيدي العرب فقد صادفَت أناسًا اختَلفوا عن أهلها، وثقافةً تباينَت معها أصولًا وفروعًا، ومِن ثَم كانت كالجسم الغريب يدخل المعدة فلا تهضمه، وتنبذه نبذًا، أو يُفنيها ويُهلِكها، وحسبنا في هذا الموضع من مراحل السفر أن نُلاحظ وأن نُسجِّل بأننا أمام بوتقة وُضِعَت فيها مُختلِف الثقافات القديمة مما جاء من اليونان ومن الهند ومن فارس ومن غيرها؛ لعلها أن تنصهر جميعًا في مزيج واحد، قد يُضاف إلى الثقافة العربية الأصيلة فيَنتج لهم هذا الذي أصبحنا نتلقَّاه عنهم ونُسميه تراثًا عربيًّا.
خطوة واحدة نَخطوها داخل «بيت الحكمة» لِنَلمح قبَسًا مما تَختلِج به تلك الدار من ضروب النشاط، كافيةٌ لِنُبصر ثلاثة رجال من أسرة واحدة مسيحية، مُنكبِّين على الترجمة، هم حنين بن إسحاق وابنه إسحاق بن حنين، وابن أخيه حبيش بن الحسن، ولا شك أن الوالد كان صاحبَ المكانة العليا في ترجمة المؤلَّفات العِلمية من اليونانية إلى العربية، ولقد ترَك لنا سيرةَ حياته مكتوبةً بقلمه، يكشف فيها عن مراحل نُموِّه وأحداث دُنياه، فلقد جاء حنين من الحيرة، كان أبوه صانعَ عقاقير، نسطوريَّ المذهب في عقيدته المسيحية، ولم يتعلَّم حنين اللغة العربية إلا في أواخر سِنِيه، فبعد أن انتقل من موطنه وقصد إلى جنديسابور — وكان فيها مدرسة طبية واسعة الشهرة — حيث استمَع إلى دروس الطبيب العالم ابن ماسويه، حدث خلافٌ بين التلميذ وأستاذه، ترَك حنين على أثره مدينةَ جنديسابور، وذهب إلى بلاد اليونان، وهناك تعلم لغة اليونان وأجادها، وعاد مِن أرض اليونان إلى البصرة حيث تعلَّم اللغة العربية على يدَيِ الخليل بن أحمد، ومن البصرة ذهب إلى بغداد، حيث كانت الخلافةُ عندئذ قد آلَت إلى المأمون منذ عدة أعوام.
فما أن أُقيمَت دار الحكمة لتكون مركزًا لنقل علوم الأوائل، وخصوصًا علوم اليونان، حتى وُضِع حنين في أنسَبِ مكان يُوضَع فيه؛ لِيَعمل أحبَّ عمل إليه، فانكبَّ الرجل على ترجمة المؤلَّفات اليونانية انكِبابًا، حتى إنه في فترة وجيزة كانت العربية قد ظفرَت على يدَيه بالجزء الأكبر من مؤلفات جالينوس، وهيبوقراطس، وبطليموس، وإقليدس، وأرسطو، وغيرهم.
إن رجلًا واحدًا فيه الإخلاص للعلم، ولديه المقدرة على تحصيله أو على نقله، قد يكون نقطةَ تحوُّل ثقافي لأمَّة بأسرها، وأحسب أنْ لو أردنا شَبيهًا لحنين بن إسحاق في ثقافتنا العربية الحديثة، من حيث الدورُ الذي أدَّاه كِلا الشبيهَين، لقلنا: إنه رفاعة رافع الطهطاوي، فإذا كانت بغدادُ قد شَهِدت «بيت الحكمة» مكانًا للنشاط الفكري في عملية الترجمة، فالقاهرة قد شهدت «مدرسة الألسُن» في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وإذا كان حنين بن إسحاق هناك قد تسلَّح بمعرفة اللغة اليونانية المنقولِ عنها ثقافةُ الآخرين، فقد أُتيحَ للطهطاويِّ أن يتزوَّد باللغة الفرنسية في باريس، وكانت ترجماتُ «بيت الحكمة» بمثابة نقطة تحوُّل من ثقافة عربية خالصة، إلى ثقافة مُزِجَت بها ألوانٌ يونانية (برغم أنه كان قد سبَق ذلك بداياتٌ للترجمة قبل عصر المأمون وقبل بيت الحكمة وقبل حنين بن إسحاق) كذلك كانت ترجماتُ «مدرسة الألسن» نقطة تحول من حالة فكرية راكدة، إلى حياة فكرية دبَّ فيها نشاطٌ لم يَفتُر منذ ذلك الحين وإلى يومنا هذا.
على أن الذي يدعونا إلى التساؤل — ونحن ما نَزال في «بيت الحكمة» نُلقي نظرة عابرة إلى جماعة المترجمين ينقلون التراثَ الإغريقي إلى اللغة العربية — أقول: إن الذي يدعونا إلى التساؤل والنظر المتمهِّل هو: إلى أيِّ حد تسربَت هذه المادة العِلمية في شرايين الثقافة العربية بعد ذلك؟ ثم ما الذي دفَع المأمون إلى حركة النقل الواسعة هذه؟ أليس مما يَبعث الحيرة في نفوسنا أن نرى عهدًا من الحكم وثيقَ الصلة بالفرس، من حيث نشأتُه أولًا، وحفظُه وإدارته ثانيًا، وفي الوقت نفسِه الذي شاع فيه بين هؤلاء الفُرس رجوعٌ إلى ديانات لهم قديمة ليس فيها من النظرة العقلية إلا قليل، أن نراه قد سايرَ تلك الحركة الراجعة بحركة أخرى تُبايِنها أشدَّ ما يكون التباين، وهي أن تُنقَل إلى العربية ثقافةُ اليونان بما فيها من فلسفةٍ وعلوم قوامها عقلٌ صِرف ومنطقٌ خالص؟
أما عن السؤال الأول: إلى اي حد تسرَّبَت هذه المادة العِلمية المنقولة في كِيان الثقافة العربية، فقد تَختلف الإجابةُ اختلافَ الضدَّين؛ إذ قد نقرأ لفئة تَذهب إلى أن الثقافة العربية بأسرها — من الشِّعر عن يَمينك إلى الفلسفة عن يسارك — قد تغلغَل فيها أثرُ الفكر اليوناني تغلغُلَ السَّدى من اللُّحمة في نَسْج القماش، وقد نقرأ كذلك لفئة أخرى تُنكِر أن يكون لهذه الثقافة اليونانية أثرٌ في العقل العربي الخالص، الذي يَظهر فيما يُسمَّى «بعلوم العرب»، ولعلي أَسبق خطواتِ رحلتي الثقافية التي أتابعها بفصول هذا الكتاب، إذا دخَلتُ برأسي في النزاع لأُدلِيَ برأي ربما كان بعيدًا عن الصواب بُعدي عن التخصص الدقيق الكامل في تراثنا العربي، وأما الرأي الذي أُدلي به فهو أننا نخطئ الحكمَ الصواب في الأمر إذا نحن لم نُفرِّق بين مجموعتَين من أبناء الأمة العربية في هذا الصدد؛ إحداهما مجموعة قليلة العدد، هي الصفوة الممتازة في ميدان الفكر، والأخرى مجموعة ضخمة هي «جماهير الشعب» — كما اعتاد الكاتِبون أن يَقولوا هذه الأيام — فأما القلة القليلة من الصفوة فقد غاصت في الثقافة اليونانية المنقولة إلى رءوسها — فلا أكتفي بأن يكون الغوصُ إلى الأذقان ولا إلى الآذان — حتى لكثيرًا جدًّا ما تُحِس وأنت تتابع ما كتَبه هؤلاء أنك إنما تقرأ وتُتابِع فكرًا يونانيًّا جرى بأحرف عربية، وأما المجموعة الضخمة من الناس — التي هي الجمهور الواسع — فلا أظنه قد تأثر بأي شيء مما نقَله المترجِمون عن اليونان؛ ولذلك رأينا في وضوح كيف أن المفكِّر العربي أو الكاتب العربي الذي يتنصَّل عمدًا وعلَنًا من آثار اليونان، سرعان ما يكون له مِن الأتباع ما لا يَحلم بمِثله واحدٌ من الصفوة الأولى، وعلى كل حال فيَجمُل بنا أن نُرجِئ القول في هذا إلى مرحلة تاليةٍ من مراحل الطريق.
وأما عن السؤال الثاني، وهو: هل هنالك دوافعُ حقيقية دفعَت خلفاء العباسيِّين إلى تشجيع الترجمة عن اليونان؟ وذلك لأنه يتعذَّر علينا أن نُوفِّق بين خطَّين متوازِيَين بينهما كلُّ هذه الشُّقة البعيدة من التباين؛ فهنا جماعات بعد جماعات من الفرس تتعصب إلى حد القتال لأوهام عجيبة من الشعوذة والتخريف، وهناك تحمُّس شديد لنماذجَ من التفكير العقلي اليوناني، ولا نستطيع أن نقول: وما لخلفاء العباسيين وجماعاتِ المشعوذين التي أشرتَ إليها؟ فيكون الجواب: لأنَّ هؤلاء الخلفاءَ هم صنائعُ أولئك، أو على الأقل صنائعُ القادة من أولئك، ويكفي أن نَذكر مثلًا واحدًا، هو أبو مسلم الخراساني، الذي صنَع ما صنعه في إقامة الدولة العباسية، ثم تربَّص به الخليفةُ المنصور حتى قتَله على صورة هي أقربُ إلى الغدر، فكيف — وهذا هو السؤال — اجتمع في صدر واحد هاتان النَّزْعتان؛ الثقة في أبي مسلم إلى درجة الارتكاز عليه في حربٍ كانت هي الفاصلةَ بين أن يَحكم البيتُ العباسي أو لا يَحكم، وكراهيته إلى درجة الغدر به؟ أيكون ذلك مِن قَبيل ما تُشير إليه الحكمة القائلة: «اتق شرَّ مَن أحسنتَ إليه»، بمعنى أن الفطرة البشرية لو تُرِكَت على سَجيتها بغير قيد يُقيِّدها، فإنها تدفع الإنسانَ إلى الفتك بمن أحسَن إليه حتى لا يَظل هذا المُحسِن شاهدًا محسوسًا على ما كان قد اعتوَر ذلك الإنسانَ من حاجةٍ ومن ضعف استوجب أن يَستعين بهذا الذي أحسن إليه؟ أم يكون ذلك مِن قبيل «الازدواج الوجداني» الذي يتحدَّث عنه علماءُ النفس المعاصرون، وهو أن يَجتمع لدى الفرد الواحد تجاهَ شخص ما — حتى ولو كان أحدَ والِدَيه — مزيجٌ من حب ومن كراهية، ويستحيل في رأيهم أن يكون الحبُّ خالصًا، ولا أن تكون الكراهية خالصة.
ولو صدق تعليلٌ مِن هذا القبيل، لجاز لنا إذن أن نقول: إنه لا يَبعد أن كان الخلفاء العباسيون في اندفاعهم نحو نقل الثقافة اليونانية العقلية، يُضمِرون الغيظ من شعوذات الفُرس اللاعقلية، فأرادوا مُحاربتَها على أرفع مُستوًى من مستويات الفكر والثقافة، أو لعلهم في اندفاعهم ذاك نحو «العقل» لم يَكونوا يُريدون مُغايَظة الثقافة الفارسية بقدر ما أرادوا مُكايدة الثقافة العربية الخالصة وأصحابها ومؤيِّديها، وهذه هي النتيجة التي أردتُ الوصول إليها، مُستنِدًا في ذلك إلى «انطباعات» أحسَستُها إذ كنتُ أُقلِّب صحائفَ التراث، أكثرَ مما استندتُ إلى مقدماتٍ موثوق بصِدقها لِتُنتج لنا نتائجَ موثوقًا بصدقها أيضًا، وهي على كل حال نتيجةٌ — لو صدَقَت — لرأيناها تُصوِّر موقفًا طبيعيًّا، فماذا تتوقع من حكومة عباسية جاءت لِتَقتلع حكومةً أموية سبَقَتها إلى الخلافة مُعتمِدة على أصولها العربية وعلى تعصُّبها العلني لكل ما هو عربي، بالقياس إلى ما ليس بعربي من الموالي أو من الثقافات الفارسية وغيرها؟ ماذا تتوقع من هذه الحكومة الثانية الظافرةِ بفضل نفرٍ من الموالي، إلا أن تَثأر من سابقتها على الوجهَين معًا؛ الوجه السياسي، والوجه الثقافي؟ فلئن كان الفرسُ المرتدُّون إلى مُتناثِرات شائهة من عقائدهم القديمة، كالمجوسية (= الزرادشتية) والمزدكية والمانوية، يَعتمدون فيما يدَّعونه على مصدر يشبه «الكشف» الصوفي، إذن فالمعرفة اليونانية «العقلية» هي وسيلة الرد عليهم، وهذا هو الوجه السياسي من الموقف، ثم إذا كان الأمويون وأنصارهم يَرتكِزون أساسًا على التعصب للثقافة العربية الأصيلة، إذن فالمعرفة اليونانية «العقلية» هي أيضًا وسيلةُ الرد عليهم، وهذا هو الوجه الثقافي من الموقف، فلأيٍّ مِن هذَين الوجهَين، أو للوجهَين معًا، أراد المأمون — وغيره من خلفاء العباسيين — أن تترجم الفلسفة اليونانية والعلم اليوناني بصفةٍ خاصة، ومع ذلك كلِّه، فلماذا لا نُضيف لتفسير الموقف وجهًا ثالثًا، هو رغبتهم المنزَّهة عن الأغراض الزائلة في تعميق الحياة الفكرية في الأمة العربية؟
٢٢
في مقالة عميقة موحية، للباحث الألماني «كارل هينرش بكر» (نقلها الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه «التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية») يورد الباحث ملاحظاتٍ نافذة؛ فهو يبدأ مقالته بأن يُنبِّه إلى حقيقة هامة، هي أنه إذ نَكون بصدد الحديث عما نقَله فلانٌ عن فلان من ضروب الفكر، ليس المهم هو ماذا أُخِذ عنه؛ لأن مجرَّد بياننا للأفكار المأخوذة لا يَكفي وحده للدلالة على شخصية المتلقِّي من أي نوع هي، فلا بد أن يُضاف إلى ذلك أيضًا ما فعَله المتلقِّي بما نُقِل إليه من أفكار الآخرين؛ لأنك قد تَنقل الثقافة الواحدة إلى رجلَين، فتراها تُنتِج عند كلٍّ منهما أثرًا يختلف عما أنتجَتْه عند الآخر؛ ففي هذه الحالة التي نُريد أن نتناولَها الآن بالحديث، نجد ثقافةً بعينها، هي ثقافة اليونان الأقدَمين، نُقِلَت إلى العرب بلُغتِهم، وإنا لنَعلم كذلك أن هذه الثقافة اليونانية نفسَها قد نُقِلت — عن طريق هؤلاء العرب أنفسِهم بعد ذلك بعدة قرون — إلى أوروبا، وسؤالنا هو: هل أحدَثَت ثقافةُ اليونان الأقدمين في الفكر العربيِّ أثرًا شبيهًا بما أحدثَتْه في أوروبا بعد ذلك؟ نعم، إن الفرق في الحالتَين واسع وعريض؛ فبينما لَقِيَت الثقافة اليونانية عند نقلها إلى العرب أفكارًا تُباين أشدَّ التباين الأفكارَ التي كانت تَحملها تلك الثقافةُ اليونانية المنقولة، نستطيع القول بأنها عندما نُقِلَت — عن طريق العرب — إلى أوروبا، لم تَجد أمامها فكرًا يُعارضها ويُباينها، بل وجَدت ناسًا هم من جنس الناس الذين كانوا مُبتكِري تلك الثقافة اليونانية الأولى وخالِقيها، فكأنما هي في هذه الحالة الثانية قد انتقلَت إلى أسرة أخرى وشيجة الروابط — من حيث وِجهةُ النظر — بالأسرة اليونانية، أما في حالة النقل إلى العرب، فالنقلة جاوزَت مجردَ الانتقال من فرع إلى فرع في شجرة حضارية واحدة، لتكون نقلةً من حضارة تنطبع بطابَع معيَّن إلى حضارة مختلِفة في طابَعِها أعمقَ اختلاف؛ هذه خلاصة واضحة لما أراد أن يَقوله «بكر» في مقارنته بين الحالتَين، وهو فرقٌ يُفصِّله في مقالته لِيُبيِّن أبعاده الكثيرة كيف كانت وإلى أي مدًى؟
لقد كنا في رحلتنا الفكرية هذه، قد استوقَفَنا بيتُ الحكمة في بغداد، فدخَلْناه لنرى القوم مُنكبِّين على ترجمة الفكر اليوناني بفلسفته وعلومه، فجعَلْنا ذلك علامة قوية على نزعة عقلانية تصلح أن تكون أحدَ المعالم البارِزة على طريق رحلتنا، أعني طريق العقل في تراثنا الفكري، وآن الأوان هنا أن نَسأل — قبل أن نُغادر بيت الحكمة هذا — ترى ماذا أحدثَت هذه المادة العِلمية المنقولة من أثرٍ في حياة الناس الفعلية؟ ماذا أحدثَت من أثرٍ في ميادين السياسة، وفنون القتال، ونظُم الاقتصاد، وفي الصناعات، والبحث العلمي، والإبداع الفني، بل وفي المعايير الخلقية، وغيرها وغيرها مِن مقوِّمات الحياة العمَلية؟
إن في حياتنا الراهنة أيضًا حركةً قوية للترجمة عن غيرنا، ولو سألنا الأسئلة السابقة نفسَها عن حركة الترجمة الحاضرة، هل غيَّرَت من أوضاع حياتنا الفعلية، لما تردَّدْنا لحظةً في جوابنا بالإيجاب؛ فالنُّظم السياسية عندنا — على اختلاف صورها في مُختلِف الأقطار العربية — مأخوذةٌ كلُّها من أوروبا وأمريكا، وإلا لما سَمِعنا بشيء اسمه دستور، أو برلمان، أو جمهورية ورئاستها … إلخ، وفنون القتال مأخوذة كلها مما تعلَّمناه عن الغرب؛ إما نقلًا بالكتابة، أو تدريبًا بالمران، ونُظم الاقتصاد كلها مأخوذة من ذلك الغرب أيضًا، وإلا لما سمعنا بشيء اسمه رأسمالية أو اشتراكية أو مَصارف أو شركات للتأمين … إلخ إلخ، وهكذا قُل في كل فرع من فروع الحياة العِلمية التي نَعيشها بالفعل، مما يؤكد أن حركة النقل — بالترجمة أو بالمشاهَدة، ولا اختلاف في الجوهر — الحاضرةَ قد نقلَت معها حياة بأَسْرِها وبكل شِعابها من أرضها الأولى إلى أرضنا، وربما نكون قد تمثَّلنا بعضَ جوانب هذه الحياة المنقولة وعجزنا حتى الآن عن تمثُّل جوانبها الأخرى، ونحن نسأل السؤالَ نفسَه عن الأقدَمين! هل نقَلوا — إذ ترجَموا فلسفة اليونان وعلومهم — نظرةً ثقافية جديدة غير نظرتهم، بحيث ظهرَت آثارُ ذلك في ميادين حياتهم العَملية الجارية يومًا بعد يوم؟ الرأي الراجح عندي الآن هو أنهم لم يَفعلوا إلا إلى حدٍّ ضئيل، وفي ميادينَ قليلة، بحيث مسَّت نفرًا قليلًا من الناس، وبقي الجمهورُ الأكبر على ثقافته العربية وقِيَمِه العربية ونظرته العربية؛ يعطي الأولوية الأولى للشعر وللُّغة، وللدِّين عقيدةً وشريعة.
فمهما قال القائلون بأنْ لا شرقَ ولا غرب في تقسيم البشر، وأن الإنسان هو الإنسان بفِطْرته المشترَكة، تتَّجِه حيث تُوجِّهها، فالمسألة فيما بين الناس من أوجُه الاختلاف الثقافي هي مسألةُ طريقة في التربية، فلا يَنفي هذا القول أن نُقرِّر بأنه قد حدث بالفعل؛ فليس الأمر هنا أمرَ أهواء تَميل بصاحبها نحو اليمين أو نحو اليسار، بل إنه قد حدث بالفعل، والتاريخ شاهد على ما قد حدَث، أن الناس فيما يُسمَّى بالشرق قد وجَّهَتهم التربية وِجهةً ثقافية معينة، تُخالف الوِجهة التي اتجه إليها الناسُ فيما يُسمَّى بالغرب بحكم التربية أيضًا، فبينما الناسُ فيما يُسمَّى بالشرق يتلقَّون «القيم» المسيِّرة لحياتهم من السماء عن طريق الوحي يُوحى به إلى الأنبياء — ولكل مجموعةٍ بشرية أنبياؤها الذين قد تَعترف بهم المجموعاتُ الأخرى أو لا تعترف — نرى الناس فيما يُسمَّى بالغرب يَزعمون أنهم إنما انتهَوْا إلى «القيم» استدلالًا عقليًّا من مبدأٍ افترَضوا صوابه استنادًا إلى ما زعَموه إدراكًا بالبصيرة النافذة، أو «بالحَدْس» كما اصطلح رجال الفلسفة على تسمية هذا النوع من طرائق الإدراك.
فلو جاوَزْنا حدود «القيم» لِنُطلِق الحديثَ بغير حدود، قلنا: إن الناس فيما يُسمَّى بالشرق لم يَنفكُّوا يتصورون فجوة بين الله والإنسان، وسبيل الإنسان إلى السعادة الحقيقية هو أن يلتمَّس الطريقَ جاهدًا، الذي يُعينه على عبور هذه الفجوة؛ لعلَّه يقترب من الله ما وَسِعَته الحيلة، فليست المسألةُ هنا مسألةً «عقلية» تُحَل باستدلال النتائج من مُقدماتها، وإنما هي مسألة وِجدانية روحانية، يُحِس بها الإنسانُ اعتمالًا في نفسه من الداخل، فهو يُصلِّي — مثلًا — مُحاوِلًا في صلاته أن يَقطع كلَّ صلة بينه وبين ما حوله ومَن حوله ليقف أمام ربه كأنما الكون كلُّه قد لُخِّص عندئذ في معبودٍ وعابد، لا يفصلهما بُعدٌ مكاني ولا فترة زمانية، وإن هذه المحاولة المستمرة مِن الإنسان في أن يتصل بربه صلةً مباشرة، لَتبلُغ أبعدَ آمادِها في جماعة المتصوفة على اختلاف وقفاتهم؛ فمِنهم مَن يقول إنه استطاع أن يمحوَ الفارق الذي يَفصله مكانًا وزمانًا عن ربه فإذا هما واحد، ومنهم من يقول إن كل ما استطاعه هو أن يَقترب من ربه بحيث يُتاح له الشهود، ومنهم من يقول إن أقصى ما بلَغه من ذلك هو عِرفانٌ عرَف به ربه، وهكذا.
تلك هي ركائز النظرة «الشرقية» كما يمكن رؤيتها في وضوح في تعبيرهم عن أنفسهم، بل أحسب أن رؤيتها رؤيةً واضحة ما تزال في أيدينا لو أرَدنا — وأعني العرب المعاصِرين أنفُسَهم — لو نظَر الإنسان العربي إلى ما تَمتلئ به نفسُه في حالاته الوجدانية التي يَخلو فيها إلى نفسِه بعد فراغه مِن عمله، ومن هذه الحالات الوجدانية حالاتُ العبادة؛ من صلاة وصوم وحجٍّ وغيرها، فعندئذ سيَرى في جِلاء لا لَبْس فيه أن وِجهة نظره الثقافية التي تلقَّاها بالتربية — عن وعيٍ أو عن غيرِ وعي؛ فذلك لا يُهم — تَميل به ميلًا شديدًا نحو أن يمحوَ المادة الغليظة التي تتجسد بها الأشياء من حوله؛ لِيُحس ما استطاع بأنه لم يَعُد بينه وبين الله مِن حجاب.
وما هكذا فيما نعتقد وقفةُ أولئك الذين يُسمَّون بأهل الغرب؛ مِن اليونان الأقدمين، إلى شعوب أوروبا وأمريكا المعاصرين، إننا بالطبع لم نَدخل جُلودهم لنرى بأعينهم ونُحِسَّ بقلوبهم، ولكننا نَبني الرأيَ على أساس ما نقرؤه من كتبٍ عبَّروا ويُعبِّرون بها عن ذوات نفوسهم، أو ذوات عقولهم؛ فهم — فيما يبدو — لا تَشغَلهم الفجوةُ الفاصلة بين دنيا مَعاشهم اليومي وبين الله، بمِثل ما تَشغَلهم العلاقة بين الأسس العمَلية التي تُبنى عليها حياتهم الدنيوية هذه وبين المبادئ التي اشتُقَّت منها تلك الأسس، أي إن البحث عندهم، بحث «عقلي» صِرف يُحاول أن يردَّ الفروع إلى أصولها، ولك إذا أردتَ أن تُراجع العددَ الأكبر من فلاسفتهم، قديمِهم أو حديثهم، لترى على أيِّ إطار بُنِيَت تلك الفلسفات؟ فأظنُّك واجدًا أن هذا الإطار ما هو إلا رِباطٌ يَربِط فكرةً أعمَّ بفكرة أخص، أي إن الفيلسوف منهم يُريد أن يُبيِّن لنفسه وللناس كيف تولَّدَت أفكارهم التي يَعيشون بها من أفكار أوسعَ منها وأعم، لا أن يُبيِّن كيف ترتبط تلك الأفكار بالرب الذي أوجدَهم وأوجدَها، ولا يَعني ذلك بالطبع أن ما يُسمَّى بالغرب لم يشهد «متصوفة» حاوَلوا الوثوب من دنياهم المحدودة المتناهيةِ إلى الإله اللامحدود واللامتناهي، ولكنه يَعني أن الطابَع العام الذي ساد ما يُسمى بالغرب هو الاستدلالات العقلية على اختلاف مَيادينها — وأهم تلك الميادين هما الفلسفة والعلوم — على حين كان الطابع العام الذي ساد (وما يزال يَسود فيما أرى) ما يُسمى بالشرق هو ربطُ الصلة بين المخلوق وخالقه.
وبعد هذه التفرِقة التي أفَضْنا فيها القول، نعود إلى سؤالنا الذي طاف برءوسنا إذ نحن واقِفون في «بيت الحكمة» نشهد عمَلية الترجمة عن اليونان الأقدمين قائمةً على قدَم وساقٍ كما يَقولون، وهو: تُرى هل أفلَحَت هذه المادة العقلية المنقولة في أن تُغيِّر من الثقافة العربية الأصيلة، بحيث تُحوِّلها من الوقفة «الصوفية» إلى الوقفة «العقلية»؟ أغلب الظن أنها لم تُفلِح في ذلك إلا إلى حدٍّ ضئيل كما أسلَفْنا لك القول، وأترك لك أن تنظر لنفسك كم أثَّرَت فلسفة أفلاطون وفلسفة أرسطو وما نُقِل معهما من علوم اليونان في الحد من مَيل الناس نحو رموز يتَّخِذونها لرأب الفجوة بين الإنسان وعالم الغيب، من سحرٍ وتنجيم وركون إلى الرؤيا وضرب للرمل وفتحٍ للكف، ومِن تمائمَ وأحجِبة وغير ذلك؟ إني لأكاد أتخيَّل الآن أستاذ الفلسفة منا، أو رجلَ العلوم — وأعني المعاصرين منا، ودَعْ عنك آباءنا القدماء — لا يَكاد يَفرُغ من ساعات قليلة يقرأ فيها فلسفة أو يَدرُس علمًا، حتى يرتدَّ إلى دنيا أكثرَ إسعادًا له وأشدَّ انسجامًا مع نفسه؛ إذ يرتدُّ إلى ما هو أدخل في باب السحر والتنجيم وما إليهما من بقية الفروع، لكن لنترك ذلك الآن؛ فقد تَحينُ له مناسَباتٌ تالية.
٢٣
خرَجْنا من «بيت الحكمة» في بغداد، وفي رءوسنا هذه الخواطر عن الأثر الذي يمكن أن تكون ترجمةُ التراث العقلي اليوناني قد ترَكَته على الحياة الفكرية عند العرب، فكانت خطوتُنا التالية بعد ذلك أن نبحث عن مِثل هذا الأثر في مظانِّه، فخطَر لنا — أولَ ما خطر — أن نَزور شيوخ المعتزلة لنرى فيمَ يُفكِّرون وكيف يفكرون؛ لأنهم بحُكم موقفهم العقلي حريُّون أن يكونوا أقربَ الناس إلى التأثر بالثقافة العقلية اليونانية التي نُقِلت إليهم، إن لم يكن مِن حيث مضمونُ الفكر نفسِه، فمن حيث منطقُ السير على أقل تقدير.
ولقد حدَّثناك في الفصل السابق عن معتزليٍّ مبكِّر قابَلْناه في البصرة يُناقِش مشكلة الذنوب الكبيرة ماذا يكون الحكم في أصحابها، وكان ذلك بمناسبة مَن عساهم أن يكونوا على خطأ في الفريقَين اللَّذَين اقتَتلا في موقِعتَي «الجمل» و«صِفِّين»، وها نحن أولاء — وقد انتقلنا إلى مرحلة فكرية أخصبَ وأغنى — نبحث عن «معتزلة» هذه المرحلة الجديدة، و«المعتزلة» — كما تعلم — اسمٌ نشَأ بمعناه الحرفيِّ عندما اعتزل واصلُ بن عطاء أستاذَه الحسن البصري لخلافٍ بينهما في الرأي، لكنه بات اسمًا يُطلَق على نهج فكري ذي طابَع خاص، مؤدَّاه أن يُنظَر إلى مسائل الدين «بالعقل» وما يتبعه مِن بيانِ حُجة وإقامةِ برهان، لا بمجرَّد الاستناد إلى رواية عن القواعد التي وضَعها السلف، لكننا في بحثنا عن معتزلة المرحلة التي نتحدث عنها — القرن التاسع الميلادي، من وقفةٍ نَقِفها في بغداد — علمنا أن كِبار شيوخهم مُقيمون في البصرة، ويَكفي أن يكون مِن بينهم أبو الهذيل العَلَّاف (٧٥٢–٨٤٩م) الذي يُنعَت بأنه «شيخ المعتزلة» والذي يتبعه مذهب يحمل اسمه فيُقال «الهذيلية»، وكذلك تلميذه إبراهيم بن سيار النظَّام (بتشديد الظاء) (ت نحو ٨٤٥م أو قبل ذلك بقليل).
فلم يكن لنا بدٌّ من قطع الوقفة البغدادية لِنعودَ إلى البصرة؛ حتى يُتاح لنا أن نستمع لهؤلاء الشيوخ الأعلامِ قبل أن نستأنف السيرَ على طريقنا المرسوم.
هذا هو شيخ المعتزلة العَلَّاف، ينفرد وحده بعَشْر قواعد — كما يَقول صاحب «الملل والنحل» — نَقرؤها عنه فإذا هي تمسُّ لطائفَ أفكار تكاد تُفلِت منك رؤيتُها لدقة الفواصل فيها ورقتها، وإذن فقد أصبحنا أمام عقل مُرهَف بالمعنى الدقيق لصفة الإرهاف؛ لأنه عقل كحدِّ الموسى، فلا غِلظة في الفكرة المطروحة ولا خُشونة في طريقة تَناوُلها وتحليلها، كأنما المفكِّر هنا يُعالج لفيفةً من خيوط الحرير، يُريد أن تستقيم بين أصابعه تلك الخيوطُ فلا يتداخلَ بعضُها في بعض.
وانظر إلى مسألته الأولى، وهي خاصةٌ بذات الله وصفاته؛ فهو يريد أن يقول أن ليس ثمة وجودٌ حق إلا للذَّات دون الصفات، ولكن ماذا يَقول في هذه الصفات الإلهية؟ ماذا يقول في «العِلم» الإلهي مثلًا، أو «القدرة» الإلهية؟ لقد كان السائدُ فيمن يُؤْثِرون الوقوف عند حرفيَّة النصِّ أنه ما دام هنالك «اسم» فلا بد أن يكون هنالك «المسمَّى» — لِيَلحظ القارئُ أن الشرح في هذا وفيما يأتي هو شرحٌ أُبسِّطه بلُغتي وعلى الطريقة التي فَهِمتُ بها ما يُقال، فإذا ترتَّب عليه خطأٌ في الفَهم أو في تحديد المعاني، فاللوم إنما يقع عليَّ لا على مرجع معيَّن استعنتُ به — وأعود فأقول: إنه كان هنالك فريقٌ يُؤثِرون الوقوف عند حرفية النص، وما دام في النصِّ «أسماء» فلا بد أن يكون لها «مُسمَّيات»، فإذا وردَت «أسماء» مثل «علم» و«قدرة» وغيرهما من أسماء الله الحسنى المعروفة، فلا بد أن يكون هنالك كِيان معيَّن أطلق عليه اسم «العلم» وكيان معين آخر أطلق عليه اسم «القدرة» وهلم جرًّا، ولا يُغيِّر من الموقف شيئًا أن تكون هذه الكياناتُ التي أُطلِق عليها هذه الأسماء، هي نفسها الذات الإلهية، وليست شيئًا سواه! إنني أكتب هذه السطور وأمامي في الغرفة نافذةٌ فيها ثلاثة قوائم من مَعدِن تَقسِم مستطيلًا معدِنيًّا أيضًا ثلاثة أقسام، ويملأ كلَّ قسم منها لوحٌ من زجاج، فلكي أُتابع قولَ الفئة التي ذكَرتُ قولها في صفات الله، قلتُ لنفسي: ربما يكون المقصود هو شيء كهذا: المستطيل المعدِني والقوائم المعدنية الثلاثة وثلاثة الألواح الزجاجية إنما هي كِيانات قائمة بذاتها، ولكن هل منَع ذلك من أن تكون هي نفسُها في الوقت ذاته «النافذة»؟ النافذة هي هي هذه المكونات، وهذه المكونات هي هي النافذة، ومع ذلك فلكلٍّ منها كِيانه الذي نُدركه وهو قائمٌ برأسه؛ ولذلك سُمِّيت هذه الفئةُ من الناس باسم «الصفاتية»؛ لتمسُّكِها بأن تَفهم وجود الصفات الإلهية على هذا النحو الذي بيَّنَّاه.
فماذا يقول العَلَّاف في ذلك؟ يقول: «إن الله تعالى عالمٌ بعلم، وعلمُه ذاته» و«قادرٌ بقدرة، وقدرته ذاته» وهكذا قُل في سائر صفاته؛ فعلى أي وجه نَفهم قولَه هذا؟ نأخذ فكرة «المثلَّث» مثلًا يوضح المراد كما يَفهمه كاتب هذه الصفحات؛ إذا قلنا إنَّ مِن «صفات» المثلث أنه مَحوط بثلاثة خطوط مستقيمة، وكذلك مِن صفاته أن مجموع زواياه الداخلية يُساوي زاويتَين قائمتَين، فهل يَعني ذلك أننا نتصور «الإحاطة بالأضلاع الثلاثة» على أنها كِيان قائم بذاته أم أنها هي نفسُها المثلث؟ أو بعبارة أخرى: إن كلمة «مثلث» وعبارة «مَحوط بثلاثة خطوط مستقيمة» مُترادِفتان، تكونان معادلة رياضية يمكن وضع أحد شطْرَيها مكان الآخر حيثما ورد في سياق الحديث، وإذن فالمثلث إنما هو مثلَّث بكونه مَحوطًا بثلاثة خطوط مستقيمة، والثلاثة الخطوط المستقيمة هي المثلث — وعلى هذا الغِرار نفسِه ما يقوله العَلَّاف حين يقول: إن الله تعالى عالمٌ بعلم، وعلمه ذاته.
وأما المسألة الثانية عند «العَلَّاف» فهي خاصةٌ بالإرادة عندما تُنسَب إلى الله تعالى؛ فلقد ألِفْنا أن تُنسَب الإرادة إلى مُريد مشخَّص معيَّن، كالفرد الواحد من بني الإنسان، كما ألِفنا أن تتمثَّل هذه الإرادة في عَزمات جزئية، لكل منها ظروفُها المكانية والزمانية، كأن نقول عن فلان الفلاني: إنه عزَم بإرادته أن يُسافر من القاهرة إلى الإسكندرية في الساعة الفلانية من اليوم الفلاني، وأن يَستخدم السيارة وسيلةً للسفر … إلخ، لكننا لو ظَللنا نُقيِّد «الإرادة» في كل حالة من حالاتها بمثل هذه الظروف المكانية الزمانية، لما استطَعنا أن نتصوَّر المقصود بنسبة الإرادة إلى الله تعالى؛ ولذلك حاول «العَلَّاف» أن يُبيِّن كيف تكون هنالك إراداتٌ مُطلَقة من قيود الظروف المحددة هذه، حتى إذا ما فرَغ من إثبات ذلك، جعَل الإرادةَ الإلهية من هذا القَبيل المطلق؛ فهو يُريد ما يريده في غيرِ لحظة معينة من زمان، ولا محلٍّ معين من مكان.
وهذا يَنقلنا إلى مسألته الثالثة، وهي خاصةٌ بأمر «التكوين» الذي يتمثَّل في قوله تعالى «كن» لما يُريد له أن يَكون بين الكائنات؛ فمِثل هذا الأمر هو أيضًا مُطلَق من قيود الزمان والمكان، ومِن ثَم فهو مختلِف عما يُسمَّى بأمر «التكليف» لأن هذا الأخير لا يُفهَم إلا إذا ارتبط بمكلَّف معيَّن عليه أن يؤديَ ما كُلِّف به في لحظة معينة وفي مكان محدد معلوم.
ولما كانت أوامر التكليف قد تُعصى وقد تُطاع، كانت المسألة الرابعة عند «العَلَّاف» هي حرية الاختيار عند الإنسان، فهو — كسائر المعتزلة — «قدَريُّون»، بمعنى أن للإنسان قُدرةً على أن يُطيع الأمر وقدرة على أن يَعصي، ليكون الثوابُ والعقاب بعد ذلك قائمين على أساس عادل، لكن «العَلَّاف» يضيف إلى هذا الموقف المعتزليِّ العام، إضافةً خاصة به؛ إذ يقول إن الإنسان وإن تكن لديه هذه الحريةُ في الحركة وهو ما يَزال في الحياة الدنيا، فهو إذا ما صار إلى الآخرة بات مجبَرًا يتحرك كما يُراد له أن يتحرك، ولستُ أدري ماذا نُفيد بهذه الفكرة العجيبة؟ إننا إذ نَطرح للمناقشة مسألةَ الحرية بالنسبة للإنسان، هنا على هذه الأرض، إنما نَلتمس ما يُبرِّر أو لا يُبرر المسئولية الخلُقية التي تستتبع ثوابًا أو عقابًا، أما أن نطرح الموضوع نفسَه بالنسبة إلى حركات الناس في آخرتهم فضربٌ من الترَف العقلي الذي لا يَشغل — في رأينا — إلا مَن لم يأخذ المشكلةَ أخذًا جادًّا.
ولعل «العَلَّاف» وهو في صدد هذا الجزء من معالجته لمشكلة الإرادة متى تكون حُرة ومتى تكون مقيَّدة، استدرَك أمرًا فاته، وهو الذي جعله مسألة خامسة؛ إذ كأنما أفاق لِيَسأل نفسه قائلًا: وهل تكون في الحياة الآخرة «حركة» على الإطلاق، حتى نقولَ عنها إنها حُرة أو مُجبَرة؟ أليس الصوابُ المعقول هو أن تنقطع الحركة بانقطاع الحياة الدنيوية المادية الطبيعية، لتصير الكائناتُ في آخرتهم إلى «سكون» دائم؟ وبرهانُ ذلك قريب؛ فكل ما ليس له أولٌ لا يكون له آخِر، وأما ما يَتناهى إلى أول يبدأ عنده الظهور والحدوث، فهو أيضًا يتَناهى إلى آخرٍ يَختفي عنده وتبطل حوادثه، فإذا كانت «الحركة» ذاتَ أولٍ بدأَت به، فلا بد أن يكون لها آخِرٌ تقف عنده.
فكأنما الأساس عنده هو «السكون» تَطرأ عليه الحركةُ ثم تَزول عنه، ولا يسَعُنا في هذا السياق إلا أن نُقارن مقارنة عابرة سريعة بين ثقافتَين؛ الأولى — وهي التي سادت خلال القرون الماضية — تجعل «الحركة» فرعًا و«السكون» أصلًا، أي إننا إزاء الحالة السكونية لا نَسأل: مَن الذي أحدَث هذا السكون؟ وأما إزاء الشيء المتحرك، فيَجوز لنا السؤال: مَن الذي بث فيه الحركة؟ وأما الثانية — وهي ثقافةُ عصرنا نحن — فتعكس الوضع؛ فالحركة أصلٌ أصيل لا يَستدعي السؤالَ عن علة، والسكون فرعٌ يطرأ، فنسأل عندئذ: مَن الذي أوقف الحركة؟ وإنه لفرقٌ بعيد عميق بين الوقفتَين؛ في الوقفة الأولى نرى الناس يلتمسون عواملَ التسكين والتثبيت؛ فمِن تجميدٍ للأوضاع وكراهيةِ تغييرها، إلى قوانينَ عُرفية وتقاليدَ تنهض كالأطواد الرواسخ في أوجُه مَن أرادوا تحريكًا وتغييرًا وتطويرًا، وعكس ذلك هو الصحيح بالنسبة إلى عصرنا الراهن.
وننتقل إلى المسألة السادسة عند «العَلَّاف» وفيها تَفرِقة لطيفة بين ما تهفو إلى فعله بقلبك، فتُطاوِعك جوارحك في تنفيذه أو لا تُطاوعك لعلةٍ فيها، وبين ما تتحرك جوارحُك في فعله غيرَ صادرة في ذلك عن توجيهٍ من القلب؛ ففي الحالة الأولى يكون الجانب الجوهري الهامُّ قد تحقَّق لمجرد أن تعلق به الهوى، وأما قدرة الجوارح على التنفيذ الفعليِّ فأمر عرَضي ثانوي، والعكس في هذا غير صحيح، أي إن الجوارح قد تُرغَم إرغامًا على فعلٍ لا يهواه القلب، وعندئذٍ يكون أقربَ إلى حركات الجوامد. الفاعليةُ الإنسانية الحق تتوافر للحالة الأولى، وأما في الحالة الثانية فالذي يتحكَّم في الأمر هو الطبيعة وقوانينها، وهل ترى في إنسان يَسقط من شاهقٍ شيئًا أكثرَ مِن حجر يَسقط بفعل قانون الجاذبية؟ فالإنسان إنسانٌ بخوالجه ونَواياه ومُيوله، لا بما تُؤدِّيه جوارحه أداءً آليًّا لا دخلَ له هو فيه، الجوارح بالنسبة إلى القلوب أدواتٌ للتنفيذ، فإن أدَّت فِعلها كان خيرًا، وإلا فقد فرَغ الإنسان مِن تَبِعته إذا ما صحَّت عزيمةُ قلبه؛ شيء كهذا هو ما أراد «العَلَّاف» أن يقوله، إذا كنتُ قد أحسنتُ فَهمه، وهو موقفٌ لا أظنُّنا نُفيد منه كثيرًا لو أحَييناه في عصرنا، وأقلُّ ما نُعلِّق به على ذلك تعليقًا عابرًا، هو أن «الفرد» في عصرنا قد جاوزَ جدران فرديته لِتَربِطه الأواصرُ العضوية بجماعة يَنتمي إليها، أريد أن أقول: إن مفهوم «الفردية» قد تغير، وأصبح الفردُ بلا وجود حقيقي وإنساني ما لم يَكتمل بسِواه، فإذا هو قد اختزن نواياه في قلبه، لم تُخرِجها له الجوارحُ أفعالًا تصبُّ في الوعاء الاجتماعي المشترَك، فماذا تكون جَدواه؟ بل على أيِّ وجه يجوز القول عنه إنه موجود؟ قد تقول لي: لكنك تتحدث من زاوية علاقة الإنسان بالإنسان، على حين كان «العَلَّاف» — وكل الأقدَمين — إنما يتكلَّمون من زاويةِ علاقة الإنسان بربه، فأجيب: نعم، إني أعلم ذلك؛ ولهذا قلتُ إن للعلاف ومُعاصِريه زمانَهم، ولنا نحن زماننا.
وكانت المسألة السابعة عند «العَلَّاف» هي عن وجوب أن «يَعرف» الإنسانُ ربَّه معرفةً قائمة على العقل وأدلته؛ لأن ذلك وحده ما يَستلزم أن يَعلم ما يجوز فعله وما لا يجوز عِلمًا لا يتوقَّف على مجرد الرواية المسموعة، فإذا لم يُحصِّل الإنسانُ مثلَ هذه المعرفة كان مسئولًا عن جهله، وهو موقفٌ شبيه بقولنا اليوم إن جهل المواطنين بالقانون لا يعذرهم في ساحات القضاء، فالعلم هو الحالة المفروض قيامُها، ومعنى قول «العَلَّاف» في هذا الصدد، هو أن الإنسان إذ يَسلُك السلوكَ الفاضل، فإنما يَتبع في ذلك إملاءَ عقله قبل أن يتبع تكليفًا مفروضًا عليه، برغم كون التكليف وإملاء العقل شيئًا واحدًا نعرفه عن أحد الطريقَين أو عن الطريقَين معًا.
والمسألة الثامنة عند «العَلَّاف» هي قوله في الآجال بأنها لا تَزيد ولا تَنقص، وأحسب أن قائل هذا القول لو كان صادقًا مع نفسه فيه، لما أخذ الحذر من المهلِكات، ولستُ أدري كيف يُمكن التوفيق بين أن يكون الأجَلُ غيرَ قابل لزيادة أو نقصان وبين الأمر بألا أُلقِيَ بنفسي إلى التَّهلُكة، ويُخيَّل إليَّ أنه لو كان هذا القول مقصودًا بمعناه الظاهرِ في لفظه لما كانت هنالك حِكمةٌ في بحوث طِبِّية نُجريها؛ لِنُجنِّب الإنسانَ بعض المواقف التي مِن شأنها أن تَجلب الموت لو تُرِكَت لِتَفعل فعلها بغير وقاية قائمة على علم، لكن هذا استطراد منا قد لا يَكون واردًا في موضعٍ مناسب من سياق الحديث.
ومسألتُه التاسعة خاصة بالإرادة الإلهية أتكون هي نفسُها ما يتعلق بها من الأشياء، بمعنى ألا يَكون ثمة فاصلٌ يَفصل الإرادةَ عن الشيء المراد، أم يكون لها كِيانها المنفصل المستقلُّ غيرُ المرتبط بعمَلية معينة من عمليات الخلق التي تَرتبط بها وتترتب عليها؟ عن ذلك يُجيب «العَلَّاف» بأن إرادة الله لخلق يخلقه هي نفسُها خلقُه له، لكن خلقه للشيء ليس هو الشيءَ نفسه؛ إذ الخلق عند الله أمرٌ مطلَق لا يتحيز في مكان معين، على خلاف الشيء المخلوق، فهو مُجسَّد متعين ذو مكان وزمان معلومَين محدودَين. وكاتب هذه الصفحات لا يتصوَّر كيف تكون «إرادة» قائمة برأسها غير موصولة بما يُراد؟ إن ذلك كقولنا: رؤيةٌ بغير شيء تَراه، وسمعٌ بغير صوت تَسمعه، فمهما علَوْنا بفكرة «الإرادة» من المتعين إلى المجرَّد ومن النِّسبي إلى المطلَق، فسوف تظل الفكرة مبتورة مستعصية على الفَهم حتى نتصوَّر الصلة الرابطةَ بينها وبين ما تَستحدِثه وتخلقه، وإلا فلو أصررنا على أن يكون التجريد والإطلاق على درجةٍ من الانفصال عن الخلق الفعلي المنصبِّ على مخلوقات بأعيُنِها، بحيث نُطالب بأن نتصوَّر إرادة لا تُريد وخلقًا لا يَخلق، ورؤية لا تَرى وسمعًا لا يسمع، ومشيًا لا يمشي، وقولًا لا يَقول … وهكذا، كنا نُردِّد «ألفاظًا» لا تُسمَّى لا أفكارًا ولا أشياء، كأنها الأصابعُ التي تُشير إلى خلاء، ومع ذلك، فما الذي نُفيده من زعمنا بأن لله تعالى إرادةً منفصِلة عما يُراد، أعني أن له إرادةً لا تُريد بالضرورة، إلا حين «يريد» لها أن تريد؟
وأما المسألة العاشرة والأخيرة مِن المسائل التي يذكرها صاحب «الملل والنحل» ليميز «العَلَّاف» بها دون سائر المعتزلة، فهي مسألةٌ منهجية؛ إذ يَشترط «العَلَّاف» للحجة المقامة على صِدق زعمٍ يَزعمه لنا زاعم، أن تَستند لا إلى رأيٍ تَواتر بين الرواة مهما كثر عددهم، بل إلى وليٍّ من أولياء الله المعصومين عن الخطأ، أو بعبارة أخرى، لا تكون الحُجة المُقامة على حكم مقبولةً إلا إذا كانت بدَورها إلهامًا من الله تعالى يخصُّ به رجالًا بأشخاصهم. ويُخيَّل إليَّ أن هذه القاعدة المنهجية وحدها كفيلةٌ بهدم البُنيان العقلي الذي كان «العَلَّاف» يُحاول إقامته بالطريقة التي ناقش بها المسائل المشكلة؛ إذ فيم العقلُ ومنطقه إذا كان التصديق آخِرَ الأمر مرهونًا بوحيٍ يوحى به إلى وليٍّ معصوم؟
أما بعد، فقد أطلتُ الوقوف مع «شيخ المعتزلة» أبي الهُذيل العَلَّاف؛ لعلِّي أعود منه بزادٍ عقلي أُقدِّمه لأبناء عصري، يُدخِلونه في زادهم الفكري، فيَكونون به وارِثين لسلف عظيم، لكني أخدع نفسي وأخدع أبناءَ عصري، لو توهَّمتُ وأوهمتُهم أنَّ في الموروث عن «العَلَّاف» إرثًا ذا بال يَنفع مَن أحاطت به مُشكِلات عصرنا، اللهم إلا إذا اجتزَأْنا نتفًا من هنا ومن هناك، مِن أهمها الإيمان بقدرة الإنسان على الاختيار الحرِّ المسئول؛ إذ نحن أحوجُ ما نكون إلى بثِّ هذا الإيمان في أنفُس المعاصرين، ليفعلوا ويفعلوا، أفعالًا تتَّسِم بالنشاط المبتكِر الخلَّاق، لا يحدُّ من نشاطهم المغامر خوفٌ من تَبِعة، فإنسانية الإنسان مرهونةٌ بإرادة الاختيار في خلقه الأفعالَ والأشياءَ خلقًا يتصدَّى به الإنسان الحرُّ لكل ما يترتَّب على ذلك مِن تبعات.
٢٤
وهل نترك البصرة لنعود إلى بغداد فنَستأنف السيرَ على طريقنا المرسوم، قبل أن نمرَّ على معتزليٍّ آخر، لَصيقٍ ﺑ«العَلَّاف» من وجوه كثيرة؛ فهو مِن ذَوي قُرباه الأقربين، ثم هو من تلاميذه المقرَّبين، وذلك هو «إبراهيم بن سيَّار النظَّام»، ويبدو أن التلميذ تفوَّق على أستاذه تفوقًا ظاهرًا، لم يُخطِئْه المعاصرون لهما، وهذا هو الجاحظ — وقد عاصَرهما في البصرة قبل أن ينتقل إلى بغداد — يقول عن «النظَّام»: «كان الأوائلُ يقولون: في كل ألف سنة رجلٌ لا نظيرَ له، فإن كان ذلك صحيحًا فهو النظَّام» (والقول مأخوذٌ من رواية المرتضى في «المنية والأمل»، ص٢٩).
إن كاتب هذه الصفحات لَيُقدر الجاحظ تقديرًا لا يكاد يكون له حدود، فإذا وجَده يقول قولًا كهذا في «النظَّام» كان خليقًا به أن يَأخذ أُهبتَه، ويَشحذ قريحته؛ لِيَلتقيَ ﺑ«النظَّام» وهو في أعلى قدراته، فماذا كانت أفكارُ النظَّام الأساسية، بِناءً على ما ذكَره الشهرستاني في «الملل والنحل»؟ إنه يَذكر لنا ثلاثةَ عشر موضوعًا، تميز بها «النظَّام»، فلنستمع إلى هذا المفكِّر، الذي لا يَجود بمثله الزمانُ إلا مرة واحدة كلَّ ألف عام في تقدير الجاحظ، لنستمِعْ إليه وهو يَعرض موضوعاته تلك بما يَرى فيها من رأي، وقد استبَحْنا لأنفسنا أن نتقمَّصه لننوبَ عنه في العرض على نحوِ ما صنعنا مع «العَلَّاف».
كانت مسألتُه الأولى عن القدَر — أي حرية الإرادة الإنسانية في الاختيار — فذهب إلى ما ذهَب إليه المعتزلةُ جميعًا من أن الإنسان مريدٌ لما يَفعل، ومسئول عما يَفعل، لا فرق في ذلك بين خيرٍ يأتيه أو شرٍّ يَقترفه، ولو أخذنا برأيٍ غير هذا الرأي لتعذَّر علينا أن نَفهم كيف يكون الإنسان مسئولًا، وعلى أيِّ أساس عادل يُثاب على خير يفعله ويُعاقَب على شر يَجني به على نفسه وعلى الناس؟ ولكن «النظَّام» يُضيف إلى هذا القول المشترك بين سائر المعتزلة، بُعدًا يتميَّز به، وهو أن الله لا يَجوز وصفه بالقدرة على فعل الشر والمعصية، وليست الشرورُ والمعاصي مقدورةً له بأية صورة من الصور، وهذا مذهبٌ نَقبله من «النظَّام» قَبولًا مطلقًا وبغير تحفُّظ؛ لأنه مذهب إذا حُوكِم أمام العقل كان مقبولًا، وإذا حُوكِم بالإحساس العام كان مقبولًا كذلك، وإننا لنَعجب من قوم عارَضوه — وكانوا نفرًا كثيرًا — بحُجة أن هذا يحدُّ من قدرة الله المطلَقة، كأنما «القدرة» يمكن فَهمها فهمًا صحيحًا إذا نحن عزَلْناها عن طبيعة الذات القادرة، وإلا فهل تُشِع الشمس ظُلمة؟ هل يُخرج الماء نارًا؟! إننا إذ نَصِفُ الله بالقدرة المطلقة، فإنما نتصوَّرها قدرةً فيما هو به إله؛ إننا إذ نقول عن فنان: إنه قادرٌ على إبداع فني من هذا النوع أو ذاك، لا يَحِق لنا أن نقول عنه إنه كذلك قادرٌ على تحطيم الأثر الفني بعد إبداعه! نعم إنه يَستطيع ذلك، لكنه يستطيعه لا مِن حيث هو فنان، وكذلك قل إن الله تعالى قادرٌ على خلق ما يتَّفق مع كونه إلهًا، وأما أنه قادرٌ كذلك على فعل الشر وإتيان المعاصي فقولٌ يتضمَّن أنه بمثل هذا الفعل يُبطِل أن يكون إلهًا، وفي ذلك من التناقض ما فيه، ثم ماذا يفيده القائلون بقول كهذا؟ ما الذي يستقيم به في حياتهم مهما تنوعَت تلك الحياة من عبادة إلى صناعة وتجارة وزراعة؟ أم هي لَجاجةٌ عمياء تَضر ولا تفيد؟
كان «النظَّام» على حق، وكان مُعارِضوه على باطل، حين قال هو: إن الله قادرٌ على فعلِ ما يَعلم أنَّ فيه صلاحًا لعباده، وليس هو بقادر — من حيث هو إلهٌ — على أن يفعل بعباده في الدنيا ما ليس في صالحهم وصلاحهم، وحين قال المعارضون بأن ذلك يَجعل الله مُجبَرًا على ما يفعله؛ إذ القادر — عندهم — هو مَن يستطيع الفِعل والترك، أيًّا كان ذلك الفعل، وإننا اليوم لنُحيِّي «النظَّام» حين ردَّ على مُعارضيه بما قد يردُّ به مفكر يعيش في عصرنا؛ إذ قال ما معناه: ما الفرق بين أن أقول: إن الله غير قادر على فعل الشر، وبين أن أقول: إنه قادر على ذلك لكنه لا يفعله؟ أليس هو في كِلتا الحالتين لا يفعله؟ وهو ردٌّ يأخذ فيه «النظَّام» معانيَ العبارات بما تتضمنه من الجوانب العمَلية وحدها، وما لا يستحيل أن يتحوَّل إلى عمل فهو — في الحقيقة — بغير معنًى.
وننتقل مع «النظَّام» إلى مسألته الثانية، وهي خاصة بالإرادة الإلهية، فنراه يقول فيها قولًا شبيهًا بما قُلناه عند تعليقنا على رأي «العَلَّاف»، إذ قال ما معناه: إن الله لا يُوصَف بالإرادة إلا وهو يَخلق ما يخلقه ويفعل ما يفعله، أما أن نتصور إرادته قائمة بغضِّ النظر عن كل مجالٍ للخلق والفعل، فأمرٌ يتعذَّر عليه وعلينا، ومهما يكن من أمر فهذا وحده هو القولُ الذي قد يُفيد ويَهدي؛ إذ أين وكيف تكون الهداية لنا في مواقفِ حياتنا إذا صدَرْنا عن عقيدة بأن إرادة الله صفةٌ تصف ذاتَه دون ما يوجِب استخدامها في خلق الأشياء وتسييرها؟
وأما المسألة الثالثة عند «النظَّام» ففيها لفتةٌ تكاد — لو أحسنَّا فَهمها واستخدامها — أن تضَعه معنا في عصرنا، فمن أهم ما يُميز عصرَنا بغير نزاع وجهةُ النظر الآخذة بمبدأ الحركة والتغير بدلَ النظرة التي سبَقَت ذلك مِن أن الأصل في حقيقة الكون سُكونٌ إلى أن يُحرِّكه ما يُحركه، إننا إذا وضَعنا مِنظارَ عصرنا هذا على أعيننا لترى، لمَا فرَّقنا بين «عقل» و«جسم» من حيث إن كِلَيهما قِوامُه «حركة» وفعل ونشاط، لقد كان يمكن للسابقين أن يتصوَّروا العقل كائنًا متأمِّلًا في سكون، وأما البدن فهو وحده الذي يَلزم أن يضطرب مع سائر الأشياء الجوامد في تيارات الحركة الدافقة خلال الكون، أما نحن اليوم فلا نَعلم كيف تكون «فكرة» إلا أن تكون ضربًا من الفاعلية يؤدِّيها هذا العضو أو ذاك من أعضاء البدن.
وشيءٌ كهذا يقوله «النظَّام» — لو كنتُ قد أحسنتُ فَهم ما يُريده — حين يقول ما معناه إنه ليست الأفعالُ البدنية وحدها هي التي تتألَّف من «حركة» بل كذلك «العلم» و«الإرادة» — وكان يمكن أن يُعمَّم القول ليشمل كلَّ جوانب الإنسان في حياته الفكرية والوجدانية — ﻓ «العلم» حركة تَنتقل بها النفسُ من حالةٍ إلى حالة، وكذلك قُل في الإرادة، وإن هذا القول ليَصدُق حتى إذا فَهِمنا «الحركة» لا على أنها نقلة من مكان إلى مكان، بل فَهِمناها على أنها تغيُّر من حالة إلى حالة أخرى.
وننتقل مع «النظَّام» إلى مسألته الرابعة، وكأنما أراد بها أن يضع تعريفًا يُحدِّد الإنسان، فكان هذا التعريفُ عنده هو أن الإنسان إنسانٌ بنفسه وروحه، وأما البدن فهو آلةُ التنفيذ، كما أنه هو وسيلةُ التشكُّل، وما النفس أو الروح في هذا السياق إلا جملةَ الاستعدادات التي يتهيَّأ بها للإنسان أن يَفعل ما يفعله، فهي ليست هذه الجزئيةَ الخاصة أو تلك الجزئية الخاصة من جزئيات العلوم، أو من جزئيات السلوك، أو من حالات القدرة أو حالات الإرادة، بل هي هذه القُوَى عندما تكون في عالم الممكِن، قبل إخراج هذا الممكن ليكون واقعًا، كاليدَين — مثلًا — «يمكن» أن تَقبِضا على الأشياء، دون تحديدٍ لشيء معيَّن قد قبَضَتا عليه بالفعل، أو قل: إن النفس أو الروح — التي هي هي الإنسانُ في أكمل معانيه — هي «وظائف» يمكن أن تؤدَّى، فإذا ما أُدِّيَت بالفعل كانت هي الأفكارَ المعيَّنة أو الأفعالَ المعينة التي يتألَّف منها تاريخ الفرد الإنساني على هذه الأرض، وبالطبع قد يتفاوت الأفراد في أشواط هذه القدرات الممكِنة، وبالتالي في آماد ما يَفعلونه، ولستُ أعلم بماذا يجيب «النظَّام» لو سألناه: كيف يكون البعثُ لروحٍ كلُّ صفتها أنها مجموعةُ استعدادات وقدرات؟ إن نظرة «النظَّام» إلى النفس أو الروح على أنها قدرات، قد تلتئم الْتِئامًا كاملًا مع تيار الفكر في عصرنا نحن، ولكني ما زِلت أتساءل: كيف كان وقعُها في محيط عصرها؟ أم تُراني لم أُحسِن فَهمه في هذا الصدد؟!
وأما المسألة الخامسة فقد أراد بها أن يُبيِّن الحدودَ الفاصلة بين ما هو من قدرة الإنسان وما هو مِن قدرة الله، والفكرة على طَرافتها ولطافتها، لا أظنها تُفيدنا شيئًا، فهو يقول ما معناه: إن الإنسان إذ يتَناول بفعله شيئًا ما، فإن ما يقع في حدود فِعله هذا إنما هو من قدرته، غير أن الشيء لا تقف حركتُه عند هذه الحدود وحدها، بل يُجاوزها، فيَكون هذا القدرُ الذي جاوز به هو مِن قدرة الله، أفرض أنني قذفتُ بحجر، فعندئذٍ تكون حركةُ الحجر نتيجةَ فِعلي ومقدورة بقدرتي، لكن الحجر لا يظل عالقًا في الهواء، بل إن طبيعته تَقتضيه أن يسقط على الأرض بفعل الجاذبية، فهذا السُّقوط وهذه الجاذبية الأرضية لم يَكونا جزءًا من فِعلي، ولا مقدورةً بقدرتي، إنما هما لازمان عن طبائع الأشياء ذاتها، ولما كانت هذه الطبائعُ هي مِن خلق الله وصنعه، كانت الأفعال التي تقع من الأشياء — بعد استِنفاد نتائجِ قدراتنا نحن — هي مِن فعل الله وبقدرته، هذا ما يقوله «النظَّام»، وفاتَه — فيما يبدو — أنْ لا فرقَ في حقيقة الأمر بين الشطر الذي نسَبه لفعل الإنسان والشطر الذي نسَبه لفعل الله؛ لأنه لو كانت سَقطة الحجر وجاذبية الأرض قد جاوزَت حُدود فعلي، فتحتَّم علينا أن نَنسبها إلى طبيعة الحجر وطبيعة الأرض، أو بعبارة أخرى، نَنسبها إلى فعل الله؛ لأن هذه الطبائع هي مِن فعله، فإن قدرة الذِّراع على القذف، واستجابة الحجر بانقذافه، هما كذلك مِن طبيعة الذراع البشرية ومن طبيعة الحجر، ففيمَ التفرِقة إذن؟ لقد كان «النظَّام» ليكون أدنى إلى الصواب إذا هو ردَّ الحركةَ كلها؛ ذراعًا بشريةً كانت هي المتحرِّكة، أو حجرًا منقذِفًا، أو حجرًا ساقطًا منجذبًا للأرض، أو أرضًا جاذبة، إلى قوانين، وليقل إذا شاء: إن هذه القوانين من فعل الله، فلا يُغيِّر ذلك من الأمر شيئًا؛ لأن الذي يَبقى بين أيدينا هو قوانينُ يمكن أن نَفهم بها ما يَحدث، وأن نتنبَّأ على أساسها بما عَساه أن يَحدث، ومع ذلك فإن التفرِقة التي يُميِّز بها «النظَّام» جزءًا من الفعل عن جزء، جاعلًا أحدَ الجزأين مقدورًا للإنسان، والجزء الآخر محتومًا بحُكم طبائع الأشياء، تفرِقةٌ تدعو إلى إمعان النظر.
ولو أفَضْنا القول في المسألتَين السادسة والسابعة، لوجَدْنا أنفُسَنا نتحدث بلغة إحدى المدارس الفلسفية المعاصرة، التي تَجعل حقيقة الشيء في مجموع ظواهره، وهو مذهبٌ يمكن القول — مع قليل من التجوُّز — إن بادِئه في الفلسفة الأوروبية الحديثة هو ديفيد هيوم في القرن الثامن عشر، وخلاصته إنكارٌ لأنْ يكون للشيء المعيَّن جوهر مغيَّبٌ وراء ظواهره التي تَبدو منه للحواسِّ المدرِكة له، فليست البرتقالة — مثلًا — إلا لونٌ وطعم ورائحة وشكل وملمس … إلخ، اجتمعَت معًا مرتبِطًا بعضُها ببعض بطائفة من علاقات، فإذا طرَحْنا هذه الصِّفات الباديةَ من حسابنا واحدةً في إثْر واحدة، كان باقي الطرح لا شيء؛ على حينِ كانت وِجهة النظر الأخرى تقول: إن الذي يَبقى في أذهاننا بعد طرح هذه الصفات البادية هو «جوهر» البرتقالة، وها هو ذا «النَّظام» يَذهب إلى أن الجواهر — جواهر الأشياء أو حقائقها — مؤلَّفة من أعراض اجتمعَت، وليس وراءها شيء.
والذي يَستثير سؤالَنا في هذا الموضع هو: تُرى هل قصَر «النظَّامُ» قولَه هذا على الأشياء الجوامد دون الأحياء؟ أو هل قصَره على الأشياء الجوامد والأحياء دون الإنسان وحده؟ ولستُ أظنُّه قد بلغَت به الجُرأة الفكرية حدًّا يجعله يُوسع هذا القولَ ليشمل الإنسانَ مع سائر الأشياء والأحياء، كما فعَل هيوم في الفلسفة الأوروبية الحديثة؛ وذلك لأن تطبيق القول على الإنسان، يجعل الإنسانَ في حقيقته حُزمةً من صفات لا تَرتكز على جوهر داخلي، لكن هذا القول يَنفي وجود نفسٍ أو روح، مما كانت تَستلزمه العقيدة الدينية والرأي العامُّ في آنٍ معًا، لقد استطاع هيوم أن يَشمل بالفكرة كلَّ شيء؛ إنسانًا وغير إنسان، فلم يَحُل بينه وبين ذلك عقيدةٌ ولا رأي عام شائع بين الناس، ولا أظن «النظَّام» قد أراد هذا الشمولَ الواسع للفكرة، وعلى كل حال فحتى هذه النظرة المبتورة المجزوءة في إنكاره ﻟ«الجوهر» واكتفائه ﺑ«الظواهر» عند الإشارة إلى حقائق الأشياء، كفيلةٌ له عندنا بإحلاله محلًّا رفيعًا في دنيا «العقل» والعقلاء.
لكننا — وا أسفاه — لم نكَد نُنزِله هذه المنزلةَ العقلية الرفيعة لحصره حقائقَ الأشياء في ظواهرها، حتى نَجده في المسألة الثامنة قد نقَض نفسه بنفسه، ونسَخ بيُسراه ما كانت خطَّتْه يُمناه؛ لأنه حين انتقل إلى مسألته الثامنةِ قدَّم لنا فكرةً تُذكِّرنا بفلسفة ليبنتز بأوروبا في القرن السابع عشر، فما ظنُّك برجل واحد يَعرض عليك في آنٍ واحد أفكارًا، بعضُها يحملك على أن تضَعه مع هيوم — الفيلسوف الإنجليزي التجريبيِّ المعروف — في زُمرة واحدة، وبعضها الآخر يَحملك على أن تضَعه مع ليبنتز — الفيلسوف الأوروبي العقلاني — في زمرة واحدة أيضًا؟ اللهم إلا إذا كنتُ قد أخطأتُ فَهم ما قصَد إليه «النظَّام»، ولنوضح هذا التناقض بين الرأيَين فنقول:
لا بد لنا بادئ ذي بَدْء أن نُلقيَ للقارئ ضوءًا يُبيِّن له معانيَ زوجَين من المصطلحات الفلسفية التي يَكثُر وُرودها عند الفلاسفة المحْدَثين والمعاصِرين لنا بصورة خاصة، أما أول هذَين الزوجَين فهو التبايُن القائم بين «الجوهر» و«العرَض»، وأما ثانيهما فهو بين «العلاقات الداخلية» و«العلاقات الخارجية» (ويُفضِّل بعضُ الكاتبين في الفلسفة من زملائنا أن يَقول «الإضافات» بدل «العلاقات»؛ جريًا على طريقة العرب الأقدَمين في التسمية، كما يفضل أن يقول «المحايثة» بدل «الداخلية»)، والآن فلنستأنف الحديث:
كان الفلاسفة الأقدَمون، وكثيرٌ من الفلاسفة المعاصرين، عندما يُحلِّلون حقائقَ الوجود الظاهرة لِيَردُّوها إلى أول أصولها، يَنتهون إلى فكرة شديدة الشَّبه بما كان لِيَقوله عامةُ الناس بفطرتهم السليمة لو أنهم أُوتوا القدرةَ على التعبير الفلسفي عن وِجْهات نظرهم، وذلك أنهم إذ يرَون الأشياء من ظواهرها البادية، كألوانها وأشكالها وأصواتها … إلخ، لا يتصوَّرون أن تكون هذه الظواهرُ البادية للحواسِّ مُعلَّقة في الخلاء بغير حامل يَحملها أو دعامة تسندها، فكيف تكون حقيقةُ هذا «القط» مثلًا هي مجموعةَ صفاتٍ وحركات؟ وهل إذا ما اختفى القطُّ عن مجال إدراكي له بحواسِّي، بحيث اختفَت صفاته وحركاته الظاهرة، أقول عنه إنه انعدَم ولم يَعُد له وجود؟ أئذا تغيرَت صفاته وحركاته أقول إنه قطٌّ آخَر غير القط الذي رأيتُه منذ حين؟ لا، إنه لا بد أن يكون له جانبٌ آخر ذو ثبات، هو الذي يَخلع عليه هُويتَه الثابتة، فيَظل هو هو القط بعينه مهما تغيرَت صفاته، أو اختفى عن مجال إدراكي الحسِّي، وإن الأمر ليزداد تعقيدًا وعُسرًا إذا ما وضَعنا الإنسان موضعَ النظر، فقد يَسهل علينا أن نتصور فَناء القط فناءً تامًّا إذا ما اختفَت عن حواسِّنا صفاتُ بدنه وحركاته، لكنه لا يكون بهذه السهولة كلها إذا ما كان «الإنسان» هو موضعَ أنظارنا، فهل يَسهل علينا أن نقول عن رجل نعرفه على مدى أعوامٍ طِوال، اعتوَرَته خلالها تغيراتٌ كثيرة. إنه ليس رجلًا «واحدًا»، بل هو عددٌ من الرجال يكثر بمقدار ما كثرَت تغيراته؟ وإذا قلنا بل إنه «واحد» كان علينا أن نبحث فيما ربط كثرته ربطًا خلَع عليه هُويَّة واحدة وتظل واحدة ما عاش، بل ربما تظل واحدة كذلك بعد موته، بدليل أنه سوف يُبعَث يوم البعث للحساب.
ومن أجل هذا كله؛ وجَد الفلاسفة الأقدمون وكثيرٌ من المعاصرين ألَّا مفرَّ من «افتراض» وجود «جوهر» وراء هذه الظواهر البادية، هو الذي يَحمل تلك الظواهرَ، وهو الذي يظل ثابتًا وذا دوام؛ ولذلك فهو الذي يُضْفي على الكائن الواحد وحدانيتَه وهُويته، وأما الظواهر التي تَظهر آنًا وتَختفي آنًا، تجيء وتذهب، فيكون الكائن المعيَّن على صفة معيَّنة اليوم وعلى غيرها غدًا، فهي «أعراض» تَعرِض لذلك الكائن دون أن تكون جزءًا ضروريًّا من حقيقته الواحدة الثابتة.
وأمام هذَين الطرَفَين: الجوهر والعرَض، ترى أصحاب المذاهب الفلسفية على اختلاف، فمنهم مَن يجعل الجوهرَ مِن الشيء أو من الكائن هو كلَّ حقيقته، ولا مُعوَّل إطلاقًا على الأعراض الطارئة، وهؤلاء هم الفلاسفة «المثاليون»، ومنهم مَن يتخذ الموقف المضاد، فيقول إن حقيقة الشيء أو الكائنِ هي ما أدركه منه، فإذا كان هذا الذي أدركه هو صفات تتبدَّل وتتغير وتظهر وتختفي، كانت هذه الصفاتُ هي حقيقتَه، فإذا سألتَهم: وما الذي يُكسِب الكائنَ الواحد هُويتَه الواحدة؟ أجابوك: ليس لكائنٍ ما هُويةٌ واحدة، إلا ما تُعطيه إياها مجموعةُ العلاقات التي تَربِط تلك الصفاتِ الظاهرة، ولما كانت الصفات الظاهرة تُجاوِز الحصر، كانت العلاقات التي تربطها بعضَها ببعض تُجاوِز الحصر أيضًا، ومِن ثَم أمكَنَنا أن نتصور تركيبة منها تَختلف عند كلِّ فرد عنها في سائر الأفراد، وهنا تَكمُن ما نُسمِّيه «بالهوية» الواحدة.
وها نحن أولاء قد مَسَسنا بالحديث فكرة «العلاقات»؛ فالفلاسفة قديمهم وحديثهم على السواء يُفرِّقون فيها بين نوعَين؛ داخلية، وخارجية. أما الأولى فهي التي تَنبثق من طبيعة الشيء نفسه أو من طبيعة الفكرة نفسِها، ولا تفرض عليها مِن الخارج فرضًا موقوتًا، فالعدد (١٢) — مثلًا — تنبثق منه نفسِه عدةُ علاقات تَربِطه بسواه، ولا يكون للحوادث الجارية دخلٌ في ذلك؛ فهو «ضِعف» العدد (٦) وهو «ثلاثةُ أمثال» العدد (٤) وهكذا. إن علاقته بالعدد (٦) وبالعدد (٤) نابعةٌ من حقيقته، بحيث لا يمكن القول إنها علاقة قد تَظهر اليوم وتَختفي غدًا، ومثل هذه العلاقات النابعةِ مِن حقائق الأشياء أو الأفكار، يُعمِّمه الفلاسفة المثاليون ليشملَ كلَّ كائن في الدنيا وكلَّ فكرة عقلية كائنة ما كانت، ولِمَ لا؟ أليس عندهم أن لكل شيء «جوهرًا» ثابتًا هو حقيقته؟ إذن فمن هذا الجوهر تَلزم بعضُ العلاقات لزومًا منطقيًّا اقتضَتْه طبيعته، ولم يكن للحوادث العابرة دخلٌ فيها.
لكن فريق التجريبيِّين من الفلاسفة لا يَذهب هذا المذهب، نعم، إن لكل شيء ولكل فكرة علاقاتٍ تَربطه أو تربطها بسواها، لكنها علاقاتٌ تطرأ عليه ولا تنبعث منه، فإذا كانت الورقة التي أكتب عليها الآن هي «فوق» المنضدة، و«على يمين» النافذة، و«تحت» المظلَّة، فكل هذه العلاقات قد تتغيَّر إذا ما تغير وضعها، فلا مانع عند منطق العقل أن أرى الورقة في لحظةٍ أخرى وقد أصبحَت «تحت» المنضدة لا فوقها، و«إلى يسار» النافذة لا إلى يَمينها، و«فوق» المظلَّة لا تحتها، وهم يُسمُّون أمثال هذه العلاقات القائمة بحكم الظروف المحيطة، والتي تتغيَّر إذا تغيرَت الظروف دون أن تتغير حقيقة الشيء، يُسمُّونها بالعلاقات الخارجية.
ونعود بعد هذا الاستطراد الطويل إلى صاحبنا «النظَّام»؛ فلقد أسلَفْنا له قولًا يَذهب به إلى أنَّ حقائق الأشياء هي «أعراضٌ اجتمعَت» وليس «للجوهر» معنًى إلا هذه الأعراض المجتمِعة، هذا جميل، إذن فأنت يا صاحبي أميَلُ إلى التجريبيِّين من طراز الفيلسوف الإنجليزي هيوم، لكنه لا يلبث في المسألة التالية أن يَأخذ برأيٍ آخَر، يجعل الكائنات «كامنًا بعضُها في بعض»، وتأخُّر كائنٍ منها عن كائن هو تأخرٌ في تاريخ الظهور وحده، أي إن أول كائنٍ خلقه الله لو كان قد أُتيحَ لنا أن نُحلِّل مضموناته، لوَجْدنا كامنًا في هذه المضمونات كل الكائنات التي ظهرَت بعد ذلك، فليس في الأمر أكثرُ مِن أن نتصور ذلك الكائن الأول وكأنه شريط الْتفَّ حول نفسه، ثم أخذ على مرِّ العصور ينبسط لِتَظهَر كوامنه، فهذا الظهور وإن تأخر وقوعه، إلا أنه من حيث «الوجود» نفسُه قد كانت تلك الكوامن موجودة منذ وُجِد الكائن الأول، وما دام «النظام» قد أخذ بهذا الرأي، فهو فيه لم يَعُد فيلسوفًا تجريبيًّا من طراز هيوم، بل إنه يصبح بهذا الرأي فيلسوفًا مثاليًّا عقلانيًّا من طراز ليبنتز، وإنه لمن العجب أن نَرى «النظَّام» هنا يَذكر مثالًا على سبيل التطبيق لفِكْرته، هو نفسُه المثال الذي يَضربه ليبنتز على سبيل التطبيق كذلك، وهو مثَلُ آدم وبَنيه الذين هم أفراد الإنسانية جميعًا، فكِلا الرجلَين يعتقد أن لو حلَّلنا آدم — من حيث هو أصل — لوجَدْنا مُتضمَّنًا فيه كل فرد إنساني ظهر بعد ذلك على مدار الدهر، تمامًا كما نجد نتيجةَ القياس المنطقي في مُقدِّماته، وفي ذلك يقول «النظَّام» إن خلق آدم عليه السلام لم يتقدَّم خلْقَ أبنائه؛ لأن هؤلاء الأبناءَ فروع لَزِمَت عن أصلها، كانت في حالة الكُمون أولًا ثم انتقلَت إلى حالة الظهور بعد ذلك.
وموضع المؤاخذة هو أن «النظَّام» قد جمَع في أقواله رأيَين، هما باختلاف منطقهما لا يَجتمِعان في عقلِ رجل واحد؛ لأنه إذا كانت حقائقُ الأشياء هي «ظواهرَها»، فمعنى ذلك أن تختفيَ الأشياءُ فور اختفاء تلك الظواهر، وإذا كانت حقائقُ الأشياء هي «جواهرَ» خافية عنَّا بذاوتها، باديةً لنا فيما يتعلَّق بها من ظواهر، إذن فبَعد اختفاء الظواهر وزوالها تبقى الجواهرُ قائمة وَلودًا، فأي هاتَيْن الوقفتَين يريد «النظَّام»؟ في ظني أنه لو خُيِّر لتحتَّم أن يَختار — باعتباره مسلمًا يؤمن بالبعث، والبعثُ يَقتضي أن يكون هنالك جوهرٌ يدوم ولا يَفنى — أقول إنه لو خُيِّر لتحتَّم باعتباره مسلمًا أن يختار الوقفة التي تَنفي أن تكون حقائقُ الكائنات مقصورةً على ظواهرها، وأما أن يَجمع بين الرأيَين معًا فأمرٌ يَمتنع على المنطق العقليِّ السليم.
ثم ننتقل مع «النظَّام» إلى المسألة التاسعة، وهي خاصة بإعجاز القرآن؛ ما مصدره؟ فنرى «النظَّام» يَردُّ الإعجازَ إلى مصدرَين معًا، فهو — أولًا — مُعجِز لأنه يُنبِئ عن أخبار الماضي وعن أخبار الآتي، وبديهيٌّ أنه إذا كان هذا الإنباء دليلَ إعجاز، فمعناه أنه ليس في وُسعِ بشر أن يُنبئ بمثل هذه الأخبار عن الماضي والآتي، وربما كان ذلك لأن الماضيَ الذي يُخبِر عنه سابق على كل تسجيل، والآتي الذي يُخبر عنه مُجاوز لكل استدلال يمكن الاهتداءُ إليه استنادًا إلى الواقع الحاضر، أو إلى الماضي المعلوم للناس؛ لأنه لو كانت أخبارُ الماضي الواردةُ في القرآن مما «يجوز» أن نجد له أثرًا في وثيقة، ثم لو كانت أخبار الآتي الواردةُ فيه مما «يجوز» استدلاله استدلالًا عقليًّا مما قد وقع بالفعل، لما قلنا إن ذلك الإخبارَ مُعجِز للبشر. وأما المصدر الثاني لإعجاز القرآن عند «النظَّام» فهو في أن الله تعالى قد صرَف الناس عن مُعارَضته ومُحاكاته؛ لأنه لو لم يَصرِفهم هذه الصِّرْفة عنه «لكانوا قادِرين على أن يأتوا بسورةٍ مِن مثله بلاغةً وفصاحة ونظمًا»، وهنا كذلك نلاحظ تناقُضًا في موقف «النظَّام»؛ لأن التعليل الثانيَ لا ينفي «قدرة» البشر على أن يأتوا بمثل القرآن، لولا أن الله تعالى صرَفهم عن هذه المحاولة، على حين أن التعليل الأول يتضمَّن نفي هذه القدرة عن البشر؛ صرَفهم الله عن ذلك، أو لم يصرفهم.
وأما المسألة العاشرة فخاصة بماذا يكون، أو بمَن ذا يكون حُجة علينا في قَبول ما تَعنيه النصوص القرآنية؟ هَبْنا قد وقَفنا عند حكمٍ شرعي نختلف على إسناده إلى نصٍّ من القرآن، فمَن ذا يكون فيصلًا في هذا الخلاف؟ أنَقبل إجماع الناس على أحد الرأيَين حُجةً مقبولة؟ لا، هكذا يُجيب «النظَّام»؛ فليس الإجماع عنده بحجة على أحد. إذن هل نستند إلى القياس، بحيث نَحكم على القضية المطروحة بما حكَمْنا به على قضية أخرى شبيهةٍ بها؟ لا، هكذا مرةً أخرى يُجيب «النظَّام»؛ فمِثل هذا القياس لا يصلح في الأحكام الشرعية. وأما الحُجة الحاسمة — في رأيه — فهي أن يكون لنا «إمام» معصوم من الخطأ، عصمةً مردُّها إلى أن أحكامه مُوحًى بها إليه مِن الله تعالى؛ وعلى ذلك فلا مَحيص للناس عن مثل هذا الإمام المعصوم، وهو نفسُه مذهب الشيعة، لا سيما فريق «الإمامية» منهم، وإنا لنلحظ — مرةً أخرى — تناقضًا واضحًا في هذا الموقف من «النظَّام»، أيُريد أن يستند إلى «العقل» أم لا يريد؟ لقد ظننَّا في المعتزلة جميعًا — «نظَّامًا» وغيرَ نظَّام — أنهم أصحابُ منطق عقلي، وهكذا وجَدناهم في معظم الحالات، وإذن فلا حرج من أن نقف موقفَ المتردِّد أمام «النظَّام». وموضعُ التناقض — فيما نرى — أنه لو كانت الحجة تَستلزم قيام إمام معصوم يُلهَم الفكرة السديدة من الله تعالى، ثم يَنقلها إلينا لنكون على هدًى، فأين فاعلية «العقل» هنا؟ ومن جهة أخرى، لو كان سنَدُنا في الأحكام هو الأدلةَ «العقلية» فما حاجتُنا عندئذٍ إلى إمام؟
لقد كان أبو العلاء المعري أصفى نظرًا حين أدرك أن الركون إلى إمامة والاحتكامَ إلى عقل هما ضِدَّان لا يجتمعان، وذلك حين قال:
ولقد استطرد «النظَّام» في حديثه عن «الإمام» حتى انتقل به إلى المسألة الحادية عشْرة من مسائله؛ وذلك أن القائلين «بالإمامة» يومئذ، لم يَكونوا جميعًا على رأيٍ واحد في الأساس الذي يُقيمون عليه ذلك الرأي، فكان بعضُهم يَشترط أن يكون أمام الناس نصٌّ فيه تعيينٌ ظاهر مكشوف لمن ذا يكون هو الإمام؛ لأنك قد تَقبل فكرة «الإمامة» ثم تَختلف في صاحب الحق فيها، وكان «النظَّام» ممن يَشترطون قيامَ نصٍّ واضح يُبيِّن شخص الإمام، فأخذ مع مَن أخذ بأن ثمة نصًّا معيَّنًا منسوبًا إلى النبي عليه السلام، يجعل الإمامة لعليٍّ، وكان الصواب أن يكون عليٌّ هو الخليفةَ الأول بعد موت النبي عليه السلام، لولا أن عمر بن الخطاب قد كتَم هذا النص عن الناس؛ لِتتمَّ البيعةُ لأبي بكر يوم السَّقيفة (!).
وينتقل النظَّام إلى المسألة الثانية عشرة، فإذا هو «عقل» صِرف! وذلك لأنه زعم أنه لو لم يكن هناك وحيٌ يَهدينا إلى معرفة الذات الإلهية، لكان في وُسع المفكِّر بمحض عقله أن يُحصِّل تلك المعرفة عن طريق الاستدلالات المنطقية وحدها.
وختَم «النظَّام» مسائلَه بعرضٍ لمشكلة «الوعد والوعيد» التي تمس فكرة «العدل» الإلهي، أفيكون أو لا يكون عدلًا من الله أن يُفلِت مرتكِبُ الذنب مما توعده الله به من عقاب، وأن يُحرَم المطيع مما وعَده الله به من ثواب؟ ففي هذا يأخذ المعتزلة جميعًا بأن الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب واقعان حتمًا كما أراد لهما الله، وإلا لانتفى العدل، على حينِ عارضهم آخَرون بقولهم إنه ليس من حق الإنسان أن يُحدد معنى العدل الإلهي بمقولات بشرية، فهو تعالى مُطلَق العلم ومطلق القدرة، لا تحد علمَه أو قدرته حدود.
أما بعد، فها نحن أولاء قد ترَكْنا بغداد — في رحلتنا — بعد أن شهدنا بها نشاط الترجمة عن علوم اليونان وفلسفتهم، وتَلفَّتْنا حولنا لنرى أحدًا من أصحاب «العقل» عندئذ، لنعلم إلى أي حد تأثَّروا في نظراتهم بالمنقول عن اليونان، فلما عَلِمنا بوجود علَمَين من أعلام المعتزلة — وهم مَن هم مِن نظر عقلي إلى المسائل المعروضة — في البصرة، وهما «العَلَّاف» شيخ المعتزلة، و«النظَّام» الذي تتلمذ عليه لكنه تفوق، أقول إننا لما عَلِمنا بوجود هذَين العلَمَين في البصرة، آثرنا أن نقطع الرحلة برجعة قصيرة الأمد، نرجع بها إلى البصرة، فنلتقي بهذَين الرجلَين، نستمع إلى شيء مما يقولانه، فلما ألمَمْنا إلمامةً موجزة بما كانا يَشتغِلان به، ترَكْناهما والذِّهن يملؤه سؤالان يريدان الجواب؛ أولهما: كم عند هذَين الرجلَين من زاد عقلي يمكن الرجوع به إلى عصرنا الراهن لنُقدِّمه إلى أهله؟ وثانيهما: كم تأثر هذان الرجلان بما نقله الناقلون عن فلسفة اليونان الأقدمين؟
لستُ أريد لأحدٍ أن يأخذ عني الرأي، لكن ذلك لا يَمنعني من عرضه سريعًا موجزًا، وهو أنني لم أشعر أثناءَ قراءتي لهذَين الرجلَين أنهما يُسعِفانني بشيء أعالج به مسائلَ عصري، كما أني لم أجد عندهما إلا قليلًا من زاد اليونان المنقول، برغم علمي أن ما يُشبِه الإجماع بين الباحثين في هذا الميدان من مُعاصِرينا، يُقرِّر تسرُّب هذا الزاد اليوناني إلى شرايين الفكر المعتزلي، وأيًّا ما كان الأمر، فليس هو مِن قبيل الامتياز لهم، ولا هو من قبيل النقص الذي يُؤخَذ عليهم، أن تكون مسائلُهم الشاغلةُ لعقولهم مختلفةً أشدَّ اختلاف عن مسائلنا التي تَشغَل عقولنا، أو أن يكونوا قد تزوَّدوا بزاد يوناني أو لم يتزودوا، لكنه انطباع انطبعتُ به وأردتُ إثباته، وللقارئ أن يعتقد في كل ذلك بما يشاء.
لكني لو أفرغتُ وقفة المعتزلة كما وجدتها عند «العَلَّاف» و«النظَّام» من مضمونها الفكري، أعني لو أفرَغتُها من المسائل المعينة التي شغلَتهم فعرَضوها، لبقي لي «إطار» هو إطارُ النظر العقلي، الذي يحاول أن يَحتكم إلى الاستدلال المنطقي الذي لا تَشوبه الأهواء، وعندئذ سيكون هذا الإطار العقلي هو أنفَسَ ما أعود به إلى معاصِريَّ من أبناء القرن العشرين، ألسنا نبحث عن الرِّباط الحيوي الذي يرتبط به الأبناءُ مع الآباء؟ إنه — فيما أزعم — هو النظرة العقلانية المنزَّهة عن الهوى، كلما كان الأمر المعروض للبحث ضاربًا بجُذوره في أسس الحياة، لا مجردَ فروع نامية على السطح مما يجوز أن يتمايز به الأفراد.
٢٥
لقد آن لنا أن نعود إلى بغداد، بعد أن وقفنا هذه الوقفة مع معتزلة البصرة عندئذ، لكننا نؤثر أن تكون عودتنا من البصرة إلى بغداد في صحبة «الجاحِظ» (٧٧٥–٨٦٨م)، فلقد قضى أبو عثمان عمرُو بن بحرٍ الجاحظ الشطر الأول من حياته في البصرة حتى صهَرَته تلك المدينة صهرًا بما كانت تعجُّ به أحياؤها من نشاط فكري مبدِع عجيب، ثم انتقل لِيَقضيَ الشطر الثانيَ من حياته في بغداد، وإنني لأضع الجاحِظ من فكر عصره حيث يُوضَع عمالقة الفكر جميعًا بالنسبة إلى عصورهم الفكرية وذلك على امتداد التاريخ، فماذا يكون عملاق الفكر في كل العصور وفي مُختلِف الثقافات، إذا لم يكن هو الرجلَ الذي امتصَّ ثقافة عصرِه بأسرها، من أصولها إلى فروعها، لا لكي يتلقَّاها راضيًا شاكرًا حامدًا، بل لكي يتناولها ناقدًا ساخرًا؛ ابتغاءَ تحويرها وتبديلها، ولكم شهدنا رجالًا أُجهِضوا إجهاضًا في ولادتهم الفكرية، حتى جاء تكوينهم مبتورًا شائهًا، فترى أحدهم إما اجتزَأ ثقافة عصره اجتزاءً فحصَّل منها جانبًا وفاتَه جانب، وإما حصَّل ما حصَّله في سلبية لا تُحرِّك ساكنًا ولا تُغيِّر قائمًا، فأما عمالقة الفكر فتراهم يقفون في ميدان عصرهم الثقافي وقفةَ المحور تدور حولَه الأفلاك، ثم إلى جانب ذلك تراه يُصوِّر ما يُصوره لينقده أو يُعدِّله، ومن هذا القبيل الضخم كان الجاحظ في عصره.
إنني في هذا الكتاب أسير على طريق «العقل» من تراثنا الفكري، فإذا كنت قد وقفتُ على الطريق لأستمع إلى الجاحظ، فإنما وقفتُ لأستمع إلى رجل هو أقربُ الناس إلى فولتير في سخريته النافذة، وفي عقلانيته الصارمة، إنه هو نقطة التحول في الثقافة العربية كلِّها، من ثقافة كان مِحورها الشعر، إلى ثقافة محورها النثر، وإذا قلنا ذلك فقد قلنا إنه تحوُّلٌ من نظرة وجدانية إلى أخرى عقلية؛ فبعد أن كانت الثقافة العربية قبل الجاحظ تُخاطِب الأذن بالجرس والنغم، أصبحَت بعد الجاحظ تُخاطِب العقل بالفكرة، إنه انتقالٌ من البداوة وبساطة استرسالها مع المشاعر، إلى حياة المدينة وما يكتنفها من وعي العقل ويقظته، فيَلتفت إلى الدقائق واللطائف التي تُميز الأشياء والأفكار بعضَها من بعض، لقد قرأتُ مرة لكاتب مُعاصر لنا يُحاول تعريف «المثقَّف»، من طبقةِ ما يُسمَّى «بالأنتلجنسيا» — أو طائفة المفكرين — فيقول إنه هو مَن استطاع تحديد الفوارق الدقيقة بين رقائق الفكرة الواحدة، أو هو مَن استطاع رؤية الظلال المتدرجة الخفيفة، إذ ما أيسر على غير المثقف أن يَقبل الأفكار على غِلظتها بغير تحليل، دون أن يُحِس أنه بهذا لا يكاد يُدرِك مِن تلك الأفكار شيئًا، تقول له — مثلًا — أفكارًا كالحرية أو الديمقراطية أو المساواة، وما إليها من أفكار تمتلئ أجوافها بشتى الكائنات، فيقبلها على لبسها هذا بغير قلق يُساوِره، وهكذا تكون بساطة البداوة في إرسال القول، حتى إذا ما انتقل الأمر إلى المدينة وجدتَ العامَّ قد أخذ يتشقق إلى خواصَّ، وكل خاص بدوره يتفرع إلى فروع، وهلم جرًّا.
لقد تُصادِف فيمن يكتبون عن التراث الفكري الذي خلَّفه لنا الآباء، فيَصفونه بفقرٍ في المضمون الفكري نفسِه، لكن يُغطِّيه بريقٌ خاطف من لفظ مصقول، حتى لتعمى العينُ بهذا البريق فلا تُدرِك كم هو خَواءُ ما يحمله اللفظ من معنًى، أو يصفونه في بعض حالاته بالغِنى الغزير في المضمون الفكري، لكن اللفظ الذي صِيغَ فيه ذلك المعنى يَنوء بما يحمل، فتثقل العبارة على قارئها ثقلًا ربما دفَعه إلى تركها إلى غير رجعة، أو يصفونه في معظم حالاته بأنه تراث مُفعَم بالشواهد حتى لتضيع فيه الفكرةُ التي جيءَ بتلك الشواهد لِتَشهد على صوابها، كما يضيع الفكر وتَذوب شخصيته ذوبانًا كاملًا فلا تراه. لكن هذه الأوصافَ الثلاثة التي يمكن أن يُوصَف بها تراثنا في هذا الجانب منه أو في ذلك، تنتفي كلُّها أمام الجاحظ، فيوشك هذا الرجل أن يبدأ لنا صفحة جديدة كل الجِدة في تاريخنا الفكري؛ فالفكرة على يديه غنية غزيرة الغنى، ومِن ثَم فهي لا تحتاج إلى بريقِ لفظ يَستر منها فقرًا، واللفظ عنده ميسورٌ كلَّ اليسر كأنه الشراب السائغ، لا توقفك فيه عقبة كائنة ما كانت، ومِن ثم فلا ثِقَل يُنفِّرك منه، فتَمضي في القراءة ما وسعَتْ ذلك ساعاتُ الفراغ، وطريقة العرض وذِكر الشواهد لا تُخفي من شخصية الكاتب شيئًا؛ فالجاحظ هناك ماثلٌ أمام عينَيك وفي مِسمعَيك عند كل فِقرة من كل صفحة مما كتب.
إنك مع الجاحظ إنما تقف بإزاء رجل واضح النظرة العقلية، فهو إذا ما تناول موضوعًا بالبحث، جمع الآراء المتضاربة كلَّها، ليعرض أمام عقله الفكرةَ ونقيضها، ويدافع عن كلٍّ منهما دفاعًا يكاد يوهِمك أنها هي الفكرة التي يتبنَّاها لنفسه، لكنك سرعان ما تجد الحرارة نفسها في دفاعه عن نقيضها، فتراه يكتب في ذم الشيء وفي مدحه بدرجة واحدة من القوة، وقد يخلق لنفسه أشخاصًا يُحاورهم ويحاورونه — كما فعل أفلاطون في محاوراته — وذلك لِيُسبِغ شكلًا مقبولًا على الحوار، فكأنما لكل جانب من الجانبَين مؤيِّد يُؤيد جانبًا ويعارِض الجانب الآخر.
كان الجاحظ في كل هذا يَنشُد اقترابًا من اليقين فيما هو بصدد بحثه، عن طريق الشك فيما يُقال عن ذلك الموضوع المطروح للبحث؛ يقول الجاحظ بعد أن روى ما كان سمعه عن نوعٍ من الحية أنها تلد، وعن نوع من الوعول أن أُنثاه تلد مع كل ولدٍ تضعه أفعى، «لم أكتب هذا لتُقِرَّ به، ولكنه رواية أحبَبتُ أن تَسمعها، ولا يُعجِبني الإقرار بهذا الخبر، وكذلك لا يُعجِبني الإنكار له، ولكن ليكن قلبُك إلى إنكاره أميَل، وبعد هذا فاعرف مواضعَ الشك وحالاتها الموجبةَ له، لتعرف بها مواضع اليقين والحالاتِ الموجبة له، وتَعلَّمِ الشك في المشكوك فيه تعلُّمًا؛ فلو لم يكن في ذلك إلا تعرُّف التوقف ثم التثبُّت، لقد كان ذلك مما يُحتاج إليه، ثم اعلم أن الشك في طبقاتٍ عند جميعهم، ولم يُجمِعوا على أن اليقين طبقاتٌ في القوة والضعف، ولما قال أبو الجَهْم للمكِّي: أنا لا أكاد أشك، قال المكِّي: وأنا لا أكاد أوقِن، ففخَر عليه المكِّي بالشكِّ في مواضع الشك، كما فخَر عليه ابنُ الجهم باليقين في مواضع اليقين» (الحيوان، ج٦، ص١٠).
إن رجلًا كالجاحظ جديرٌ أن يُستمَع إليه؛ فربما كانت الطريقة المثلى هنا هي أن ندَعه يتكلم بألفاظه، بادِئين بقليل مما ورد في بعض «رسائله» ومُنتَهين إلى شيء مما ورد في كتابه الموسوعي الضخم «الحيوان» الذي لا يتقيَّد موضوعُه بحدود عنوانه، وإن يكن الحديث عن الحيوان هو أوسعَ من الحديث عن أي موضوع آخر مما ورد فيه، وقد نتطرَّق من «الحيوان» إلى رائعته الأخرى، وهي «البيان والتبيين».
يقول الجاحظ في «رسالة المعاش والمعاد» — وهي في أساسها نصح وتوجيه في الأخلاق المحمودة، خاطب به محمد عبد الملك الزيات، وفي رواية أخرى أنه خاطب به محمد بن أبي داود الذي تولى قضاء بغداد في عهد المتوكل — «اعلم أن الله جل ثناؤه خلَق خلْقَه، ثم طبَعهم على حب اجترار المنافع ودفع المضارِّ وبُغض ما كان بخلاف ذلك، هذا فيهم طبعٌ مركَّب، وجِبلَّة مفطورة، لا خلاف بين الخلق فيه، موجود في الإنس والحيوان» (رسائل الجاحظ، ج١، ص١٠٢) — فأرجو أن يتمهل القارئ معي عند القول بأن حب المنافع ودفع المضارِّ هو موقف يُمليه الطبع، تُمليه الفطرة البشرية، وأن الأساس في هذا واحدٌ في «الإنس والحيوان» جميعًا، فإذا كان مقطوعًا بأن الجاحظ في تراثنا الفكري عَلَم شاهق، فإننا لا نُجاوِز حدود التراث إذا أخذنا بمذهب أخلاقي في عصرنا الراهن هذا، يجعل الأخلاقَ قائمة على أساس «المنفعة» وحدها، فليس مِن الأخلاق المحمودة ما تُثبِت تَجارِب الحياة على طول السنين أنه ضار، وبهذا المبدأ وحده تزول عن التقاليد قُدسيتها أو ما يشبه القدسيةَ عند كثير من مُواطنينا المعاصرين، فليست أولويةُ القَبول لما قد جرى به عُرف الأقدمين، بل الأولوية هي لما يَثبت أنه جالبٌ للمنافع دافعٌ للمضار، ولما كانت المنافع تتغير بتغير الظروف عصرًا بعد عصر؛ وجَب أن تُراجَع مبادئ الأخلاق عصرًا بعد عصر كذلك، أو قُل تُراجَع حضارة بعد حضارة، ولقد ذهب كاتبُ هذه الصفحات هذا المذهب النسبيَّ في القيم على اختلافها، فقامت عليه القيامة كأنه خرج بهذا القول عن مبادئ تراثنا المجيد! نعم، قد نجد في الموروث رجلًا آخرَ غير الجاحظ، يجعل مبدأ الأخلاق الْتزامَ «الواجب» الذي أُمِرْنا به، لا «المنفعة» التي تقتضيها ظروف المعاش، لكن النقطة الهامة هنا، هي أنه إذا جاز للأسلاف أن يَختلفوا في ذلك مذهبًا، فهل يَحرُم علينا نحن المعاصرين مثلُ هذا الاختلاف في المذهب؟
ونمضي مع الجاحظ في هذه الرسالة عينِها «رسالة المعاش والمعاد» لنسمع: «واحذر كلَّ الحذر أن يختدعك الشيطان عن الحزم، فيُمثِّل لك التوانيَ في صورة التوكل، ويَسلُبك الحذر، ويورثك الهوينا بإحالتك على الأقدار؛ فإن الله إنما أمر بالتوكل عند انقطاع الحِيَل، والتسليم للقضاء بعد الإعذار!» (الرسائل، ج١، ص٩١) — فماذا يقول مفكر عقلاني معاصر لنا أكثرَ من هذا التحذير، إذا أراد لنا أن يكون «العقل» وحده هو الحكَمَ في أمورنا؟ إنها خدعةٌ من الشيطان أن يَخلِط لنا في أوهامنا بين حالتَين، نظنُّهما متشابِهتَين، وبينهما من التباين ما بين الأرض والسماء، وهو نفسُه التباين الذي يفرق بين أمة تقدَّمَت وأخرى تخلفَت، فليس «التواني» هو «التوكُّل»؛ الأول هو اللامبالاة — إذا استخدمنا لغة عصرنا — ومن أبرز نتائجه أن نُحيل على الأقدار تصاريفَ الحياة، ثم ننتظر في رخاوة فاغِري الأفواه كمن سُلِبَت إرادتهم وأفلَتَ زِمامهم، وأما الثاني — «التوكل» — فأمر لا مَحيصَ لنا عنه، ولكن بأي معنى؟ بالمعنى الذي يجعلك تبذل كل جهد ممكن، وتَلجأ في قضاء حاجاتك إلى كل حيلةٍ مُمكِنة، ثم تترك ما يجاوز حدود جهدك وحيلتك للأقدار، هذا أمر واضح؛ لأن الجملة هنا جملة «تحليلية» كما يقول رجال المنطق، أي أنها جملة تُفسِّر شطرَها الأولَ بشطرها الثاني، ولا تُضيف إليه معنًى جديدًا؛ لأنني إذ أطالب إنسانًا بأن يبذل في أموره كلَّ جهده، ويُحاوِل حلَّ مُشكِلاته بكل ما يسَعه من حيلة، كان متضمنًا في هذا القول أنه لا قِبَل له فيما يُجاوز جهده وحيلته، وإذن فلا مَناص له من ترك هذا إلى عواملَ أخرى تصرفه.
ويَمضي الجاحظ ليُكمِل القول السابق بهذه الفقرة: «… واجب على كل حكيم أن يُحسِن الارتياد لموضع البُغية، وأن يُبيِّن أسباب الأمور ويُمهِّد لعواقبها؛ فإنما حُمِدَت العلماء بحسن التثبُّت في أوائل الأمور، واستِشْفافهم بعقولهم ما تَجيء به العواقب، فيعلمون عند استقبالها ما تَئول به الحالاتُ في استدبارها، وبقدر تفاوُتهم في ذلك تَستبين فضائلهم، فأما معرفة الأمور عند تكشُّفها وما يظهر من خفيَّاتها، فذاك أمر يَعتدل فيه الفاضل والمفضول، والعاملون والجاهلون» (نفس المرجع السابق).
- (١)
المهمة الأولى في كل عملية فكرية هي أن تُحسِن تحديد الهدف، وهو ما يسميه الجاحظ: «موضع البُغية»؛ لأنه على هذا التحديد الواضح لما نَبتغيه تتوقف خطوات السير على الطريق المؤدي إليه، تريد — مثلًا — أن تُزيل الفقر من أمتك بأن يكون الحدُّ الأدنى لدخل الفرد الواحد هو كذا في العام، إذن فاجمَعِ الأرقام الدالةَ على عدد الأفراد وعلى مجموع الموارد القائمة، وانظر كم يكون الفرقُ بين ما هو قائم وما هو مُرتجًى، ثم انظر كيف تُقام الموارد الجديدة الكفيلة بتغطية هذا الفرق، وهكذا يجيء الهدف — أو «البُغية» — أولًا؛ ليستقيم لك منهج التفكير، إنه بغير هدف واضح لا يكون تفكير بأي معنًى من معانيه، فضلًا عن أن يكون هنالك منهج يُنظم العملية الفكرية تنظيمًا منتِجًا.
- (٢)
أما وقد حددنا «موضع البُغية» فالخطوة التالية هي أن أنظر في موضوع بحثي نظرةً ألتمس بها الروابط السببية التي تصل مراحله بعضَها ببعض؛ فلكل موضوع مقدِّماته ونتائجه — أو «أسباب وعواقب» بلغة الجاحظ في العبارة السابقة — ولنعد إلى مثَلِنا السالف، وهو البحث في رفع مستوى العيش لأمة من الأمم، فها هنا يحدثنا رجال الاقتصاد أي الجهود تنتج كم من الحصيلة، فقد تكون «الأسباب» هي مشروعات للري تكون «العواقب» امتدادًا للأرض المزروعة، أو إكثارًا من المحصول، فواضح من هذا النظر الذي يلتمس الروابط بين «الأسباب» و«عواقبها» أن الأمر يحتاج إلى الدارسين المتخصصين في كل موضوع على حِدَة؛ لأنهم هم وحدهم القادرون على ربط العوامل بنتائجها، ويقول الجاحظ إن العلماء إنما يتفاوتون مقدارًا بتفاوتهم في «حسن التثبت في أوائل الأمور واستشفافهم بعقولهم ما تجيء به العواقب.»
- (٣)
وانظر بدقة إلى هذه العبارة الأخيرة، تَجدْها تعبيرًا عن عملية «التخطيط» فما «التخطيط»؟ هو رسمٌ لخطة السير رسمًا يمكنك منذ البدء معه معرفةُ النتائج قبل وقوع تلك النتائج وقوعًا فعليًّا، والتخطيط السديد هو الذي يُبنَى على الواقع لا على الأوهام، افرض أن حاكمًا زجَّ بأمته في حرب مُقدِّرًا لها نتائجَ معينة تَنْبني على واقع معيَّن قائم، فإذا بهذه النتائج تنعكس مُخالِفة لما توقع، وإذا بذلك الواقع الذي افترضه لم يَزِد على أوهامه وأحلامه، وقل لي: كم يقترب أو يبتعد مثل هذا الحاكم عن طريق العقل الذي يرسمه الجاحظ وغير الجاحظ من أصحاب الفطنة وحسن النظر؟ ولم نقل شيئًا بعدُ عن حاكم آخر لم يَصدُر في السير بأمته عن خطة مرسومة لها أوائلُ ولها أواخر، بل أراد لها أن تسير وأن تسير؛ ليرى ماذا عسى أن تكون النتائج، وبعبارة أخرى نستخدم فيها ألفاظ الجاحظ، إنه أراد أن يُرجِئ معرفته للأمور حتى تتكشف له النتائج، وتظهر له الخافيات، أي إن هذه النتائج وتلك الخافيات ظلت مجهولة له وغيرَ مُقدَّرة حتى نبتَت أمام عينَيه وكأنها برزَت من دنيا العدم بغير مقدمات، فذاك أمر — كما يقول الجاحظ — «يعتدل فيه الفاضل والمفضول، والعالِمون والجاهلون.»
وللجاحظ ربطٌ جميل — في هذه الرسالة نفسها، رسالة «المعاش والمعاد» — بين تلك الفكرة العاقلة التي تُطالِبنا بتوضيح الأهداف ثم التخطيط المدروس لبلوغها، وبين «الشجاعة» متى تجوز ومتى لا تجوز، فإذا كانت خُطتك واضحةَ المعالم، أواخرها بَيِّنة، وأوائلها مُؤدِّية إلى تلك الأواخر تأديةً لا موضع فيها لخطأ الحساب، فعندئذٍ لا مجال «للشجاعة»؛ إذ أمامك خطُّ السير وما يؤدي إليه، فكأن الأمر كله عملية حسابية تخضع لقواعد الحساب، لكن هنالك مواقف كثيرة قد يتعذر فيها هذا التخطيط المحسوب الواضح، بحيث يكون بها هامش ضيق أو عريض لما هو مُحتمل الوقوع، لا ما هو مُتيقَّن الحدوث، فها هنا يكون الأمر مرهونًا بالترجيح، ثم تكون «الشجاعة» ضرورية، لتحثَّنا على الإقدام الذي ربما استتبَع المغامرة والمخاطرة، لكن ما حيلتُنا إذا أردنا العملَ المنتِج في حالة كهذه؟ أنؤثر العافيةَ والسلامة ثم لا نَفْع؟ أم نَشجُع ونُغامِر ما دمنا نرجح الوصول حتى ولو لم نَستيقِن منه كاملَ اليقين؟ يقول الجاحظ: «وليست تكون الشجاعةُ إلا في كل أمر لا يُدرَى ما عاقبتُه، يُخاطَر فيه بالأنفس والأموال، فإذا أردتَ الحزم في ذلك فلا تُشجِّعن نفسك على أمر أبدًا إلا والذي ترجو من نفعه في العاقبة أعظمُ مما تَبذل فيه في المستقبل، ثم يكون الرجاء في ذلك أغلبَ عليك من الخوف» (المرجع السابق، ص١١٤).
وقد يَجمُل بنا قبل أن نترك رسالة «المعاش والمعاد»، أن نَقتبِس منها فقرة عن «الصداقة»، فربما انتفع بذِكْرها كثيرون، يقول: «… فلا تَكونن لشيء مما في يدِك أشدَّ ضنًّا، ولا عليه أشد حدَبًا، منك بالأخ الذي قد بلَوته في السرَّاء والضراء … فإنما هو شقيق روحك، ومُستمَدُّ رأيك، وتوءم عقلك، ولستَ منتفعًا بعيشٍ مع الوحدة، ولا بد من المؤانَسة … ثم لا يُزهِّدنك فيه أن ترى منه خُلقًا أو خُلقَين تكرههما؛ فإن نفسك التي هي أخص النفوس بك لا تُعطيك المقادة في كلِّ ما تريد، فكيف بنفس غيرك؟» (المرجع السابق، ص١٢٢) وأنا أوصيك بخُلق قلَّ مَن رأيتُه يتخلَّق به … ألَّا يُحْدِث لك انحطاطُ مَن حطت الدنيا من إخوانك استهانةً به … ولا يُحدِث لك ارتفاعُ مَن رفعَت الدنيا منهم تذللًا وإيثارًا على نظرائه من الحفظ والإكرام (ص١٢٨).
وننتقل مع الجاحظ إلى رسالة أخرى من رسائله؛ لنُنصِت إلى حكمة العقل وقد بلوَرَت تَجارِبَ الحياة في نظرات نافذات إلى الطبيعة البشرية، ألا وهي رسالة «كتمان السر وحفظ اللسان»؛ يقول فيها:
«ليس مَلومًا على تضييع القليل مَن قد أضاع الكثير، ولا يُسام إصلاحَ يومه وتقويمَ ساعته مَن قد استحوذ الفسادُ على دهره، ولا يُحاسَب على الزلَّة الواحدة مَن لا يعدم منه الزلل والعثار، ولا يُنكَر المنكَر على مَن ليس من أهل المعروف؛ لأن المنكر إذا كثر صار معروفًا، وإذا صار المنكر معروفًا صار المعروف منكرًا، وكيف يُعجَب ممن أمره كله عجب؟! وإنما الإنكار والتعجب ممن خرج عن مَجرى العادة، وفارق السُّنة والسَّجية» (رسائل الجاحظ، ج١، ص١٣٩).
في أي عصر كتَب هذا الرجلُ ملاحظته تلك؟ أكتَبها حقًّا في بغداد القرن التاسع، أم كتبها في العواصم العربية في النصف الثاني من القرن العشرين؟! إن في هذه الفقرة لأحكامًا لم أَكتب حكمًا منها إلا وقفَز إلى ذهني حالةٌ بعينها صادَفتُها في حياتي متمثِّلةً في رجل، بل في عشَرة رجال، بل في مائة أو ألف، أيحكم الجاحظ إذن على عصره دون سائر العصور؟ أم يحكم على الخلُق العربي أنَّى كان وأينما ظهر؟ وإذا كان ذلك كذلك فهل نأخذ لعصرنا هذه القطعةَ من تراثنا لنعرف منها مَن نحن وبأي الخصال نتميز؟ فلقد شهدتُ رجالًا في مواضع الزعامة من شعوبنا أضاعوا على الناس الكثيرَ الكثير الكثير، فكانوا بعدئذٍ إذا ضيَّعوا عليهم القليل قال الناس: «ليس مَلومًا …» ولقد شهدت رجالًا ونساءً يُعَدون بالمئات والألوف، خَلُصت نياتهم لإصلاح أوطانهم، حتى إذا ما همُّوا بالتنفيذ أقعدَهم الحِمل الثقيل، وأيأسهم أنهم كلما أصلَحوا جزءًا عاد هذا الجزء وازداد فسادًا، فسرعان ما تراهم يتساءلون وقد ثُبِّطت منهم العزائم؛ «لا يُسام إصلاح يومه وتقويم ساعته مَن قد استحوذ الفسادُ على دهره»، ثم كيف في عصور الفساد الشامل تميز بين المخطئ والمصيب؟ إن الحكم بالصواب أو الخطأ لا يكون إلا منسوبًا إلى قاعدة قائمة، كما تحكم على مَن يَنصب الفاعل ويَرفع المفعول بالخطأ؛ قياسًا على القاعدة النحوية بأن يُرفَع الفاعل ويُنصَب المفعول، وهكذا قُل في أفعال الناس بصفة عامة؛ فهنالك «معروف» أي إن هنالك للسلوك قواعدَ تَعارف عليها الناس، فيُميزون بها متى يَجيء سلوك السالك صوابًا ومتى يُخطئ ويَضل سواء السبيل، أما حين يعم الفساد، فالناس يتنكَّرون «للمعروف»، للقواعد التي تواضَعوا عليها وتعارفوا على التزامها، ويصبح المستمسِك بالمعروف في أعينهم مغفَّلًا فاتَته روحُ زمانه، فلا يعود الشاذُّ عند الناس هو مَن خرج على قواعد العُرف القائم، بل يكون الشاذُّ هو مَن تخلَّف عن الرَّكب ولبث قابضًا بكِلْتا يدَيه على قواعدَ سلوكية فات أوانها، فكما يقول الجاحظ بحق: «أن المنكر إذا كثر صار معروفًا، وإذا صار المنكر معروفًا صار المعروف منكرًا» ولقد صدَق بالنسبة إلى عصرنا، ولا أعلم إن كان كذلك قد صدَق بالنسبة إلى عصره.
يريد الجاحظ للإنسان أن يُقيِّد نفسه فلا يَنفلِت منه الزِّمام، وبالقيد المنظم وحده يكون «العاقل» عاقلًا، «وإنما سُمِّي العقل عقلًا وحَجْرًا … لأنه يزمُّ اللسان ويَخطِمُه، ويَشكُله ويَربُثه (الربث هو الحبس)، ويقيد الفضل ويعقله عن أن يَمضي فُرُطًا في سبيل الجهل والخطأ والمضرَّة، كما يُعقَل البعير، ويُحجَر على اليتيم» (المرجع السابق، ص١٤١).
وبعد ذلك التمهيدِ فيما يَقتضيه الصوابُ من قيود وما يُصاحب الخطأَ من انسياب على غير هدًى، ينتقل الجاحظ إلى تناول موضوعه وهو عن «كتمان السرِّ وحفظ اللسان» فيقول: إن الصمت أسهلُ على الناس مِن القول المحكَم الصائب، أما إذا أطلقنا اللسان بما يجوز وما لا يجوز، فعندئذٍ يكون مثل هذا القول السائب أيسرَ مِن حفظ اللسان. ثم يقول: «ومما يؤكد كَرْب الكتمان وصُعوبته على العقلاء فضلًا عن غيرهم، ما روَوْه عن بعض فقهائهم أنه كان يَحمل أخبارًا مستورة لا يحتملها العوام، فضاق صدرُه بها، فكان يبرز إلى العراء فيحتفر بها حَفيرة يُودِعها دَنًّا، ثم ينكبُّ على ذلك الدَّن فيُحدثه بما سمع، فيُروِّح عن قلبه، ويرى أنه قد نقل سره من وعاء إلى وعاء» (المرجع السابق، ص١٤٥).
وكان الأعمش (المُحدِّث المعروف) إذا ضاق صدرُه بما فيه، وتطلعَت الأخبار إلى الخروج منه، يُقبِل على شاة كانت له، فيُحدِّثها بالأخبار والفقه، حتى كان بعضُ أصحاب الحديث يقول: «ليت أني كنتُ شاةَ الأعمش» (نفس المكان السابق).
«والسر إذا تجاوز صدر صاحبه وأفلتَ مِن لسانه إلى أذنٍ واحدة، فليس حينئذٍ بسِرٍّ، بل ذاك أولى بالإذاعة … وإنما بينه وبين أن يَشيع ويستطير أن يُدفَع إلى أذن ثانية، وهو مع قلة المأمونين عليه وكَرْب الكتمان حريٌّ بالانتقال إليها في طرفة عين، وصدرُ صاحب الأذن الثانية أضيَق، وهو إلى إفشائه أسرع … ثم هكذا منزلة الثالث من الثاني، والرابع من الثالث، أبدًا إلى حيث انتهى» (المرجع نفسه، ص١٤٦-١٤٧). «هذا إذا كان المؤتمَن على السرِّ عاقلًا، فكيف به إذا كان بطبعه نمَّامًا؟ فاللوم إذ ذاك على صاحب السر أوجَبُ؛ لأنه كان مالكًا لسرِّه فأطلق عِقالَه وفتح أقفاله» (ص١٤٧).
واقرأ هذه اللفتة الجميلة عمن تُودِعه سرَّك كيف يكون أميلَ إلى إفشائه كلما ازددتَ أنت تحذيرًا له: «… من أكثر الأعوان على إظهار السرِّ … التحذير من نشره؛ فإن النهي أغرى، لأنه تكليفُ مشقة، والصبر على التكليف شديد، وهو حَظْر، والنفس طيَّارة متقلِّبة، تعشق الإباحة وتُغرَم بالإطلاق» (ص١٥٤).
ثم ننتقل مع الجاحظ إلى رسالة أخرى، لِنستمع إلى مختاراتٍ منها، فنزداد إيمانًا بأننا حيالَ كاتب عقلاني من الطِّراز الأول يستشفُّ الحجب ليواجه النفس الإنسانيةَ عارية، والرسالة هذه المرةَ هي «في الجِدِّ والهزل» يقول فيها عن الغضب:
«الغضب يُصوِّر لصاحبه مثلَ ما يُصوِّر السُّكْر لأهله، والغضبان يُشعِله الغضب، ويَغلي به الغيظ، وتَستفرغه الحركة، ويمتلئ بدنه رِعدةً، وتتزايل أخلاطه، وتنحلُّ عُقَده، ولا يعتريه من الخواطر إلا ما يَزيده في دائه، ولا يسمع مِن جليسه إلا ما يكون مادةً لفساده، وعلى أنه ربما استُفرِغ حتى لا يسمع، واحترق حتى لا يُفهَم … وليس يُصارِع الغضبَ … شيءٌ إلا صرَعه، ولا يُنازِعه قبل انتهائه وإدباره شيءٌ إلا قهَره، وإنما يُحتال له قبل هيجه، ويُتوثَّق منه قبل حركته، ويتُقدَّم في حسم أسبابه وفي قطع عِلله، فأما إذا تمكَّن واستفحل، وأذكى نارَه واشتعل، ثم لاقى ذلك مِن صاحبه قدرة، ومن أعوانه سمعًا وطاعة، فلو سعَطْتَه (أي أدخلتَ في أنفه بالمسعط) بالتوراة، ووجَرْتَه بالإنجيل (أي أدخلتَه في فمه بالميجر) ولدَدْتَه بالزَّبور (أي صبَبْته بالمسعط في أحد شِدقَي الفم) وأفرغتَ على رأسه القرآنَ إفراغًا، وأتيتَه بآدم عليه السلامُ شفيعًا، لما قصَّر دون أقصى قوته ولَتمنَّى أن يُعار أضعافَ قدرته» (رسائل الجاحظ، ج١، ص٢٦٠-٦١).
فماذا تريد من أديب مفكِّر لَمَّاح لخصائص النفس البشرية أدقَّ مِن هذا التصوير وأعمق إنسيَّةً؟ ثم لنقرأ معًا هذه العبارةَ التالية التي تتضمَّن تأكيدًا شديدًا على وجوب أن يكون للفظ ما يشير إليه — هو المعنى — وإلا كان «كالظرف الخالي» الذي تفضُّه بُغيةَ أن تُخرِج منه ما يحتويه فإذا هو فارغ لا يُعطيك شيئًا، سبحانك ربي! لقد استخدم كاتبُ هذه الصفحات هذا التشبيهَ بعينه للألفاظ التي يتَداولها الناس، ويَظنون أنهم فهموا دلالتها حتى إذا ما ظهر بينهم رجلٌ أخذَتْه الرِّيبة من قدرتها على الإشارة إلى مدلولاتٍ بعينها، ثم أخذ يُحلِّلها ليرى ماذا في جوفها، فإذا هي فارغة، كان كاتبُ هذه الصفحات قد أخذَتْه الحماسة المشتعلة ذات حين معتقدًا أن الناس عامةً، والأمة العربية خاصةً، قد ملأت لغتها بألفاظ لا تدل، بأسماء لا تُسمِّي، فكانت النتيجة أنهم كتَبوا وكتبوا، وقالوا ثم قالوا، لكن حصيلة الفكر أضأَلُ جدًّا من هذا الدويِّ الهائل الذي أحدَثوه! ولقد أورد هذا الكاتبُ تشبيه «الظرف الخالي» في كتاب له صدر سنة ١٩٥٣م وعنوانه «خرافة الميتافيزيقا» فقامت جماعة من الناس ظنَّت أن في جماجمها ثقافة، وكتب أحدُهم وقد ظن أن أعوامًا قضاها في أوروبا قد زودَته بالسلاح المرهَف الذي يردُّ به على «الكفرة»، فكان أنْ علَّق هذا الرجل على هذا التشبيه بعينه لِيُبين للناس إلى أي حدٍّ ذهب الضلال بصاحب «خرافة الميتافيزيقا» … مسكين أنت يا أبا عثمان يا ابن بحر يا جاحظ، لو كان حظُّك قد شدَّك من زمنك في القرن التاسع لتعيش مع «المعاصرين!» لنا في القرن العشرين! فماذا قال الجاحظ في اللفظ ومعناه؟ قال:
«ولا يجوز أن يُعلِّمه [كان هذا القول تعليقًا على تعليم الله لآدم عليه السلام الأسماء كلَّها] الاسمَ ويدَعَ المعنى، ويُعلِّمه الدلالة ولا يضَع له المدلول عليه، والاسم بلا معنًى لغوٌ، كالظرف الخالي، والأسماء في معنى الأبدان، والمعاني في معنى الأرواح؛ اللفظ للمعنى بدنٌ، والمعنى للفظ روح، ولو أعطاه الأسماء بلا معانٍ لكان كمَن وهب شيئًا جامدًا لا حركة له، وشيئًا لا حِسَّ فيه، وشيئًا لا منفعة عنده، ولا يكون اللفظُ اسمًا إلا وهو مضمَّنٌ بمعنًى، وقد يكون المعنى ولا اسم له، ولا يكون اسم وليس له معنًى» (رسالة في «الجد والهزل»، رسائل الجاحظ، ج١، ص٢٦٢).
٢٦
وصلنا إلى بغداد مرة أخرى، قادمِين من البصرة، وكنا هذه المرة في صحبة الجاحظ، الذي أخذ يقرأ لنا مختاراتٍ من رسائله، فكان لا بد لهذا الرجل فورَ بلوغه بغدادَ أن يقف ذاهلًا أمام حركة الترجمة عن تراث اليونان الأقدمين، والتي أشَرنا إليها عند زيارتنا «لبيت الحكمة» في بغداد؛ فكأنما قال لنفسه: لئن كان العجم قد عُرفوا في حضارتهم بالبنيان، والعرب قد عُرفوا بالشعر، فهؤلاء اليونان قد عُرفوا «بالكتاب»، ويبدو أن الكتاب أخلدُ من البنيان، فهو — كما نرى — أَولى بتخليد مآثرِ الحضارات من «بنيان الحجارة وحيطان المدَر؛ لأن مِن شأن الملوك أن يَطمِسوا على آثار مَن قبلهم، وأن يُميتوا ذِكر أعدائهم» (الحيوان، ج١، ص٧٣).
فماذا — إذن — عن شعر العرب بالقياس إلى «كتب» اليونان؟ الجواب عنده باختصار، هو أن عيب الشعر في تخليده لأصحابه أنه لا يُترجَم فتَعرِفه الشعوب المتكلمة بلغات أخرى، على حين أن «الكتب» المحتويةَ على فكر وعلم وفلسفة يمكن ترجمتها — كما نرى — فتتَّسِع دائرةُ مَن يعرفونها؛ يقول في ذلك:
«وفضيلة الشعر مقصورة على العرب (!) وعلى من تكلم بلسان العرب، والشعر لا يُستطاع أن يُترجَم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حُوِّل تقطَّع نظمه، وبطل وزنه، وذهب حُسنه، وسقط موضع التعجُّب … وقد نُقِلَت كتب الهند، وتُرجِمَت حِكمُ اليونانية، وحُوِّلت آداب الفُرس [ليلحظ القارئ أن الجاحظ قد لخص في هذه العبارة الأخيرة مواردَ نقل الثقافات الأجنبية إلى اللغة العربية كما شهد ذلك بعينَيه في بغداد] فبعضُها ازداد حسنًا، وبعضها ما انتقص شيئًا، ولو حُوِّلَت حكمة العرب [الواردةُ في شعرهم] لبطَل ذلك المعجِز الذي هو الوزن، مع أنهم لو حوَّلوها لم يَجدوا معانيَها شيئًا لم تذكره العجَمُ في كتبهم» (الحيوان، ج١، ص٧٥).
ويَمضي الجاحظ في حديثه عن حركة الترجمة التي شهدها أمامه قائمة على قدمَين وساقَين، فيقول:
«إن الترجمان لا يؤدي أبدًا ما قال الحكيم، على خصائصِ معانيه، وحقائقِ مذاهبه، ودقائق اختصاراته، وخفيات حدوده، ولا يَقدر أن يوفينَّها حقوقها، ويؤدي الأمانة فيها، ويقوم بما يَلزم الوكيل ويجب على الجَريِّ (الجَري هو كالوكيل)، وكيف يقدر على أدائها وتسليم معانيها، والإخبارِ عنها على حقها وصدقها، إلا أن يكون في العلم بمعانيها، واستعمال تصاريف ألفاظها وتأويلات مخارجها، مثلَ مؤلِّف الكتاب وواضعِه» (الحيوان، ج١، ص٧٦).
فهذا القول من الجاحظ عن الترجمة عمومًا، من استحالةِ أن تؤدِّيَ ما في الأصل بلا نقص أو زيادة، هو كالذي نَقوله اليوم من أن الترجمة مهما جادت وحَسُنَت، فهي تخون الأصلَ خيانةً ليس في وُسعِها اجتنابُها ولو حرَصت، وهو قول حق بلا ريب، لكن تُرى ما الذي دعا الجاحظَ إلى هذا التعليق؟ أيكون قد لاحظَ نقصًا وتشويهًا فيما قرأه مما نقل المترجِمون إلى العربية، لا بمراجعته الترجمةَ على الأصل؛ لأنه فيما أظن لم يَعرف إلا العربية وحدها، بل باستدلاله ذلك من نصوص الترجمة التي تعذَّر فَهمُها لرداءة لغتها، فرجَّح ألا يكون الأصلُ بهذه الركاكة، وأن يكون المترجمون قد بذَلوا جهدهم، لكن القصور منشؤه طبيعة الترجمة نفسها، ولقد تداعَت المعاني في رأس الجاحظ وهو يَكتب هذا، فمضى يتصوَّر للتَّرجمان الجيد شروطًا وخصائصَ حتى يُؤتمَن على هذه العملية الخطيرة في نقل الثقافات من أمة إلى أمة؛ يقول:
«ولا بد للترجمان من أن يكون بيانُه في نفس الترجمة، في وزن عِلمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلمَ الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها؛ حتى يكون فيهما سواءً وغاية، ومتى وجَدْناه أيضًا قد تكلَّم بلِسانَين، علمنا أنه قد أدخَل الضَّيم عليهما؛ لأن كل واحدة من اللغتَين تجذب الأخرى، وتأخذ منها، وتعترض عليها، وكيف يكون تمكُّن اللسان منهما مُجتمِعَين فيه، كتمكُّنه إذا انفرد بالواحدة؟ وإنما له قوة واحدة، فإن تكلم بلغة واحدة استُفرِغَت تلك القوة عليها، وكذلك إن تكلم بأكثرَ من لغتَين، على حساب ذلك تكون الترجمة لجميع اللغات، وكلما كان الباب من العلم أعسرَ وأضيق، والعلماء به أقل، كان أشدَّ على المترجم، وأجدرَ أن يُخطئ فيه، ولن تجد البتَّة مترجمًا يَفي بواحد من هؤلاء العلماء» (الحيوان، ج١، ص٧٦-٧٧).
مرة أخرى نُحِس يأس الجاحظ من أن يجد في المادة المترجَمة إلى العربية صورةً مطابِقة للأصل الذي نُقِلَت عنه، فإذا كان هذا هكذا والمادة المنقولة علمٌ وفلسفة مما يَسهل نقله نسبيًّا، فماذا نقول إذا أردنا ترجمة القرآن الكريم وترجمة الشعر العربي؟ إنه عندئذ يكون ضربًا من المحال، ولما كان العرب أصحابَ دين وشعر، فلا أمل في أن يَعرف فضلهم غيرُ العرب.
ويترك الجاحظ حديثه عن الترجمة، الذي نُلخصه في أنه لم يَسترح إليها من وجهَين، فهي من جهةٍ يستحيل عليها أن تَنقل الأصولَ نقلًا أمينًا، ومن جهة أخرى فهي يَستحيل عليها أن تنقل ثقافة العرب من دينٍ ومن شعر لغير العرب، وإني لأقف هنا متأملًا متسائلًا: فيم كان عناء الترجمة وما أُنفِق عليها من أموال، إذا كان هذا رأي أعلام المثقَّفين عندئذ فيها؟ تُرى هل نكون على حق في الريبة التي أحسَسنا بها، وأشرنا إليها فيما سبق، من أن يكون لها هدف سياسي تخفَّى وراء ظاهرها الثقافيِّ النزيه؟ وإذا كان الأمر كذلك، فماذا يكون ذلك الهدف السياسي إلا محاربةَ الثقافة العربية الصميمة من دين ومن شِعر معًا، وذلك بأن تُوضَع إلى جانبها ثقافةٌ أخرى من صنف آخر، فأقلُّ ما تفعله هذه المجاورة هو أن تُحدِث في النفوس بلبلة، ويتشقَّق إيمان الناس بقيمة ما يعتزُّون به، ولنذكر دائمًا أن القائمين على حركة الترجمة وهي في عزِّها وعُنفوانها هم خلفاء الدولة العباسية الذين هم الأعداء الألِدَّاء لخلفاء الدولة الأموية التي سبقَتهم إلى الحكم، فإذا كان هؤلاء الخلفاء الأمويُّون ذَوي نُعَرةٍ قومية تُشيد بالعروبة الخالصة، أفلا نتوقع من خلفاء بني العباس أن يَلتمسوا السبُل الممكنة — في دهاء وفي خفاء — التي من شأنها أن تُلقِيَ ظلًّا كثيفًا على موضع اعتزاز أعدائهم؟ فإذا أضَفتَ إلى هذا أن العباسيين قد جاءوا إلى الحكم بمعونة الفُرس — جيوشًا وقادة — حين كانت نفوسُ هؤلاء الفُرس قد أُصيبَت بغثَيان شديد لما لاقَوْه على أيدي الأمويين من زراية واستخفاف برغم إسلامهم، لا لشيء إلا لأنهم من غير الأَرومة العربية الخالصة، عرَفتَ أن خلفاء بني العباس إذا كانوا يحاربون النُّعرة العربية مرةً لغرضٍ في نفوسهم، فقد كان وراءهم صفوف كثيفة من الفرس أرادوا هم كذلك أن يُحاربوا تلك النعرة العربية ألف مرة … هذه كلها تأملات توحي إلينا بها علاماتٌ كثيرة نراها، منها ما ذكَرناه لتوِّنا من وقفة الارتياب التي وقفها الجاحظُ إزاء حركة الترجمة التي شهدها عندما انتقل من البصرة إلى بغداد.
أُعيدُ القول بأن الجاحظ يَترك الحديث عن الترجمة ليكتب عن قيمة الكتب في حد ذاتها، وعن الأسلوب الجيد كيف يكون؛ فالكتاب عنده أعزُّ من الولد؛ لأن لفظه أقربُ نسَبًا إلى كاتبه من ابنه إليه، ولأن ذلك اللفظ ومعانيَه أمَسُّ بالكاتب رَحِمًا من ولده، وكيف لا يكون الأمر كذلك والكتابة شيء أحدثَه من ذات نفسه، فكأنما العبارة المكتوبة كانت جزءًا من صميم نفس الكاتب وجوهره ثم انفصلَت لتقوم وحدها على صحيفة، أما الولد «فكالمخْطة يتمخَّطها، والنُّخامة يَقذفها، فهل يتساوى إخراجُك شيئًا لم يكن جزءًا من حقيقة وجودك، مع إظهارك معنًى في لفظ، ما كان ليكون لولا انبعاثُه من عين جوهرك؟» (راجع الحيوان، ج١، ص٨٩).
ذلك هو الكتاب وقيمته، وأما الأسلوب الجيد عند الجاحظ فشرطه الأساسي أن يبسط الكلام ليُفهَم؛ «فليس الكتاب إلى شيء أحوجَ منه إلى إفهام معانيه» (ص٩٠)، ويَستطرد الجاحظ ليُفصِّل رأيه بعض الشيء، فيقول إن الكاتب المُجيد في أسلوبه هو الذي لا يتعقَّب ألفاظه تهذيبًا وتنقيحًا وتصفية وتزويقًا حتى يحذف منها كلَّ ما ليس مطلوبًا لأداء المعنى المراد لها أن تؤديَه؛ وذلك لأن الكاتب الذي لا يُبقي من لفظه إلا ما يَنطق بلُب اللب، حاذفًا فضوله مُسقِطًا زوائدَه، يتعذَّر فَهمه على القارئين «لأن الناس كلَّهم قد تعودوا المبسوط من الكلام، وصارت أفهامهم لا تَزيد على عاداتهم» (ص٩٠).
وإنما جودة الأسلوب تتطلب حذف زوائد اللفظ بالقدر الذي لا يَكون سببًا في إغلاق المعنى على الناس، وبعد ذلك تكون الإطالة مما يَعيب الأسلوب، على أن الجاحظ يَعود فيتحوَّط فيقول إن مِن ضروب القول ما يَطيب فيه الإسهاب، ومنها ما يَطيب فيه الإيجاز (ص٩٣)، ثم يُنبِّهنا الجاحظ هنا إلى ملاحظة طريفة، حين يقول (ص٩٤): إن العرب يَميلون إلى الإيجاز، على حين أن غيرهم يحتاجون إلى الإطناب؛ لأن العرَب تَكفيهم الإشارة الخاطئة لِيَفهموا، ولا كذلك سواهم، ولذلك — وهنا موضع الطرافة الذي أشرتُ إليه — «رأينا الله تبارك وتعالى، إذا خاطب العربَ والأعراب، أخرج الكلام مُخرَج الإشارة والوحي والحذف، وإذا خاطبَ بني إسرائيل أو حكى عنهم، جعله مبسوطًا، وزاد في الكلام.»
لا شك أن دهشةً تأخذ الآن بالقارئ منذ انتقلتُ به إلى الحديث عن كتاب «الحيوان» للجاحظ، فطَفِقت أنقل عنه نظرات في الترجمة وفي الكتابة وأسلوبها وغير ذلك، أين «الحيوان» في هذا كلِّه؟ لكن هذا هو الكتاب، أغلبه عن الحيوان، لكن تناثرَت في غضونه وقفات فكرية كثيرة جدًّا عن مُختلِف الموضوعات بغير تحديد، شأن «التأليف» في منهج العرب الأقدمين؛ إذ ترى مؤلف الكتاب يُرسِل الحديث إرسالًا وكأنه يَسمُر مع أصدقائه، فهنالك موضوع رئيسي، لكن هذا الموضوع الرئيسي لا يَحول دون الاستطراد وراءَ كل فكرة تلمع على الطريق، وسأقدم للقارئ نماذجَ غايةً في الإيجاز؛ حتى يتبين على أي نحو كان الجاحظ يتحدث عن صنوف الحيوان، غير أني أرجئ ذلك قليلًا لتتاح لنا فرصة أوسعُ نورد فيها مزيدًا من أفكار الجاحظ التي سِيقَت في هذا الكتاب الضخم الموسوعيّ العظيم.
لعله من أبرز ما نادى به فلاسفةُ التربية في عصرنا رأي يقول بضرورة أن يجد الناشئُ فرصة كافية ومُواتية لِيُخرِج كوامن طبيعته؛ لأنه إذا فُرض على النشء محصول فكري معين، بغض النظر عن قدراتهم واستعداداتهم، فالأرجح أن يُفلِتَ من أيدينا طاقةٌ خلَّاقة لو تُرِكَت لتُنفِّس عن نفسها لتغيَّر وجه الأرض ولسَعِد الإنسان، تُرى هل يكون هذا المعنى هو ما عناه الجاحظ حين قال: «… قد زعم أناسٌ أن كل إنسان فيه آلةٌ لمرفق من المرافق، وأداةٌ لمنفعة من المنافع، ولا بد لتلك الطبيعة من حركة وإن أبطأت، ولا بد لذلك الكامنِ من ظهور، فإن أمكنه ذلك بعَثه، وإلا سرى إليه كما يَسري السمُّ في البدن» ويستطرد الكاتب لِيُشبِّه ذلك بالبذور الكامنة في أرحام الأرض كيف تكون إذا أُسعِفَت بما يُخرِج كوامنها، وكيف تصبح إذا حيل بينها وبين النَّماء (الحيوان، ج١، ص٢٠١).
وللجاحظ وقفات عجيبة إزاء الطبيعة البشرية كلما عرَض له موضوعُها أثناء الحديث، فعندئذ ترى الفكرة النافذة الصائبة؛ يَعرِض له موضوع الخير والشر، لماذا لا يكون الخير صِرفًا لا تَشوبه شائبة من الشر؟ فيُجيب بما معناه أن وجودهما معًا يَستلزِم من الإنسان أن يَختار، ولكي يختار فلا بد له من تدبُّر وموازنة، أما إذا فرَضنا أنه ليس أمام الإنسان إلا الصوابُ وحده — مثلًا — بحيث لا يَجد ما يَدْعوه إلى الوقوف ليبحث عن مواضع الصواب فيُميزها من مواضع الخطأ، فماذا يَبقى بعد ذلك من التفكير ومن العلوم؟ (ص٢٠٤).
ثم يَمضي في ذلك قائلًا وموضحًا: «… مَن لم يعرف كيف الطمعُ لم يَعرف اليأس، ومن جهل اليأسَ جهل الأمن، وعادت الحالُ من الملائكة الذين هم صفوةُ الخلق، ومن الإنس الذين فيهم الأنبياء والأولياء، إلى حال السبُع والبهيمة … وإلى حال النجوم في السُّخرة، فإنها أنقَصُ من حال البهائم في الرَّتْعة، ومَن هذا الذي يَسُره أن يكون الشمسَ والقمر والنارَ والثلج، أو برجًا من البروج أو قطعةً من الغيم، أو يكون المجرَّةَ بأسْرِها، أو مِكيالًا من الماء أو مقدارًا من الهواء؟» (ص٢٠٥).
رحمك الله يا جاحظ! هلا عدَدتَني من أتباع أتباعك في هذا الإصرار على أن تترك للإنسان حُريته! فلا حرية، بل ولا كرامة لإنسان إذا قُدِّم له الطريق جاهزًا؛ لأن كل حريته وكل كرامته في أن يَختار لنفسه بنفسه طريق السير؛ إنه لا يُغْريه أن يكون شمسًا ولا قمرًا ولا نجمًا، بل لا يُغريه أن ينقلب مجرَّةً بأسرها إذا كان ثمن ذلك هو أن يُخطَّ له مَساره ويُسلَب اختياره، حتى لو تعرَّض اختياره للخطأ والضلال، فيَكفيه أنه هو الذي قرَّر لنفسه وهو الذي يحمل تَبِعات ما قرره، لكن مَن ذا تُخاطب بهذا القول؟ أتخاطب قومًا لا يَطيب لهم العيش إلا في ظل قيادة وزعامة تُفكِّر نيابة عنهم وتَختار نيابة عنهم كأنهم هم الحجَر الأصم لا يتحرك بذاته فيَنتظر اليد القوية التي تُحركه حيث تريد هي وحيث لا يعلم هو! ولست مِن الرومانسيين عبَّاد الماضي؛ إذ ما أسرع ما يَطير الوهم ببعضنا إلى الظن بأن فقدان الحرية بالنسبة للأفراد، والحرية شِبْه المطلقة لمن يتصرف بإرادته الواحدة في هؤلاء الأفراد، أقول: إنه ما أسرعَ ما يطير الوهمُ ببعضنا فيظن أن هذا حالنا نحن وفي عصرنا، أما عصر الجاحظ الذي كتب هذا فقد كان الناس أحرارًا ذَوي أكتاف عريضة قوية قادرة على حمل التبِعات، ولكني أقولها — على سبيل الترجيح — أنه لولا أن الجاحظ قد رأى أفراد الناس من حوله تُسيَّر كالجوامد ولا تَسير كالأحياء الحرة الطليقة، لَمَا قذف بكلام كهذا في كتاب خصَّ به عالم الحيوان!
أأقول إنه خلُق عربي متأصِّل فينا — لا فرق بين أقدَمين ومُحدَثين — أن يتحكَّم بعضُنا في رقاب بعض كلما وجد إلى ذلك طريقًا؟ إن للسلطان عندنا شهوةً أين منها كل ما في الدنيا من صنوف النعيم، مادية كانت أو معنوية تلك الصنوف؟! إننا نحب الجبروت حبًّا لا يعلو عليه حبٌّ لشيء آخر، ومع الجبروت إذا ظفرنا به يقل فيا العدل ويَكثر الظلم، حتى ظنَّ المتنبي قديمًا أن هذا الظلم ليس مقصورًا علينا، بل هو من شيم النفوس، «فإن تَجِد ذا عفة فلِعلة لا يَظلم»، فليس السؤال عندنا هو لماذا ظلَم مَن ظلم؟ لأن ظُلم الظالم هو القاعدة السارية التي تعمُّ الجميع، ولكن السؤال عندنا هو: كيف حدث أن توافرت العفةُ لفلان وكان في مُستطاعه أن يَظلم ولا يعَف؟ إننا نسأل هنا عن «العلة» لأنه هو الوضع الشاذ الذي يتطلب التعليل؛ يقول الجاحظ:
«… وأين تقع لذة دَرْك الحواسِّ الذي هو مُلاقاة المطعم والمشرب وملاقاة الصوت المطرِب، واللون المونق، والملمسة الليِّنة، من السرور بنَفاذ الأمر والنهي، وبجواز التوقيع، وبما يوجب الخاتَم من الطاعة ويُلزِم من الحجة» (الحيوان، ج١، ص٢٠٥). وأرجو أن يُلاحِظ القارئ معي الجملةَ الأخيرة من هذه العبارة؛ جملة «… يُلزِم من الحجة»! إن «الحجة» تكون مُلزِمة إذا وقَّعها صاحبُ الأمر والنهي فينا، وختَم بخاتَمِه عليها، وليذهب إلى جهنم عقلٌ يَقيس إلزام الحجة بمقاييس منطقه، ليرى أين تكون المقدمات العقلية التي تُلزِم بالنتيجة!
أراد الجاحظ لكل فرد من الناس كرامةً موفورة كاملة، فليتَفاوت الناسُ في كل شيء؛ ليتفاوتوا في ارتفاع المناصب وانخفاضها، في كثرة المال وقِلته، لكن المساواة بينهم في الكرامة الإنسانية أمر ليس عنه مَحيص؛ يقول في ذلك هذه العبارةَ الآتية التي تريد منا وقفة المتأمِّل المعتبِر:
«فسبحان مَن … جعل في الجميع تمامَ المصلحة، وباجتماعها تتمُّ النعمة، وفي بُطلان واحد منها بطلانُ الجميع … فإن الجميع إنما هو واحدٌ ضُمَّ إلى واحد، وواحد ضُمَّ إليهما، ولأن الكل أبعاضٌ، ولأن كل جثة فمِن أجزاء، فإذا جوَّزتَ رفع واحد — والآخرُ مثله في الوزن، وله مثلُ علته وحظِّه ونصيبه — فقد جوَّزتَ رفع الجميع، لأنه ليس الأولُ بأحقَّ من الثاني … ألا ترى أن الجبل ليس بأدلَّ على الله تعالى من الحَصاة، وليس الطاووسُ المستحسَن بأدلَّ على الله تعالى من الخنزير المستقبَح؟ والنار والثلج — وإن اختلَفا في جهة البرودة والسخونة — فإنهما لم يَختلِفا في جهة البرهان والدلالة … فلا تذهب إلى ما تُريك العين، واذهب إلى ما يُريك العقل» (الحيوان، ج١، ص٢٠٦-٢٠٧).
وحسبُنا هذا القدر القليل من أمثلة نَسوقها للَّمحات الفكرية التي يُرسلها هذا الرجل إرسالًا لا تُحسُّ فيه إعناتًا لعقله، فكأنه يلهو برمال الشاطئ يكومها ويَهدمها بغير عناء، وليتَ دارسًا يجمع لنا أفكارَ الجاحظ ويُرتبها في شيء من التصنيف المنظَّم لتسهل رؤيتها واستخدامها؛ إذ لو ترَكْناها مبعثَرة في ثنايا الصحف — فلا هي الموضوع الرئيسي للكتاب فنَهتدي إليها، ولا هي واردةٌ في مواضعها على نسَق معلوم — لضاع علينا كَنزٌ نفيس.
ولْنَنقُل من كتابته عن الحيوان نموذجًا واحدًا، وليكن مُختارًا نقبسه مما قاله الجاحظ في جُزأيه الأول والثاني من كتاب «الحيوان» عن الكلب والديك! يقول شارل بلَّا في كتابه عن الجاحظ: إنه قد قصَد بحديثه الطويل المستفيض عن الموازنة بين الكلب والديك رمزًا يُشير به إلى رجلَين معيَّنَين من رجال عصره، وإني لأرجِّح هذا الرأي ترجيحًا شديدًا، على أية حال فهاك بضعة أسطر مما قاله في الكلب وما قاله في الديك، مع ملاحظة أنه جعَل المناظرة وكأنها تَدور بين شيخين من شيوخ المعتزلة؛ أحدهما يُدافع عن الكلب، والآخر يدافع عن الديك، مما يُرجِّح لنا أن الكلام كله رمز لِما لستُ أعلمه من شئون عصره، وسألت بعض رجال التخصص في هذا الميدان لعلِّي أهتدي وما اهتديت.
هاك نبذة قصيرة مما يقوله في الكلب:
فيه خليط من طباع السباع كأكل اللحوم، ومن طبائع البهائم كإلْفه للإنسان، غير أنه إذا سَمِن فقد يُهاجم صاحبه، وفي المثل: سَمِّن كلبك يأكُلْك، وهو «حارس محترَسٌ منه، ومؤنِسٌ شديد الإيحاش من نفسه، وأليف كثير الخيانة على إلفه، وإنما اقتنَوْه على أن يُنذِرَهم بموضع السارق، وهو أسرقُ مِن كل سارق … فهو سرَّاق، … وهو نبَّاشٌ، وآكل لحوم الناس، ألَا إنه يجمع سرقة الليل مع سرقة النهار، ثم لا تجده أبدًا يمشي في خِزانة أو مطبخ أو عَرْصة دار، أو في طريق أو في بَراريَّ، أو في ظهر جبل، أو في بطن وادٍ، إلا وخَطْمه في الأرض يتشمَّم ويَستروِح، وإن كانت الأرض بيضاءَ حصَّاء … حرصًا وجشعًا، وشرهًا وطمعًا، نعم، حتى لا تجده أيضًا يرى كلبًا إلا اشتمَّ استَه، ولا يتشمم غيرها منه، ولا تراه يُرمى بحجر أيضًا أبدًا إلا رجَع إليه فعض عليه؛ لأنه لما كان لا يكاد يأكل إلا شيئًا رمَوْا به إليه، صار يَنسى — لِفَرط شرَهِه وغلَبة الجشع على طبعه — أن الراميَ إنما أراد عَقْره أو قتله، فيظن لذلك أنه إنما أراد إطعامه والإحسان إليه …» (الحيوان، ج١، ص١٩٣).
«والكلب على ما فيه يَعرف صاحبه، وهو والسِّنَّور يَعرفان أسماءهما، ويألفان موضعهما، وإن طُرِدا رجَعا، وإن أُجيعا صبَرا، وإن أُهينا احتملا» (ص١٩٦).
وفي العبارة الموجزة الآتية نقدم نموذجًا لما يقول عن الديك، وخلاصة القول فيه (انظر الحيوان، ج١ ، ص١٩٣–١٩٦): إنه ليس مما يُطرَب بصوته، ولا مما يُمتِع الأبصارَ حُسنُه، ولا هو مما يطير، فهو طائر لا يطير، وبهيمة لا يَصيد، ولا هو مما يكون صيدًا فيُمتِع من هذه الجهة، والديك لا يألف منزله، ولا يحنُّ إلى ولَده، وهو أبلَهُ لا يعرف أهل داره، ومبهوتٌ لا يثبت وجه صاحبه …
٢٧
أما بعد: فماذا نأخذ وماذا ندَع من هذه الموسوعة الضخمة التي هي كتاب «الحيوان» الذي يقَع في سبعة مجلدات (في إحدى طبعاته) امتلأَت صفحاتها بما يَقطع بما كان لهذا الرجل من اطلاع واسع، وتنوُّع في الاهتمام؛ كأنما كان كلُّ معرفة عنده واجبةَ التحصيل جديرةً بالحفظ، وبرغم أن معظم حديثه في هذا السِّفْر الموسوعي هو — بالطبع — عن صنوف الحيوان، إلا أنه قد تخلَّلَته من صنوف المعارف الأخرى ما يمكن أن يُضَم بعضه إلى بعض، فيُكوِّن صورة فكرية تشفُّ عن وجهة نظره، ولعلك لمستَ من النماذج القليلة التي قدَّمناها لتمثل كتابته عن الحيوان، أنه يكتب عنه وكأنه يكتب عن جماعات بشرية؛ وذلك لأنه يتناول موضوعه تناوُلَ أديب أكثرَ مما يتناوله تناولَ عالِم.
كان الجاحظ قارئًا ممتازًا كما كان كاتبًا ممتازًا، فحياته عاشها في عالم الكتب بأدقِّ معنًى لهذه العبارة، لا يكاد يبعد عن الكتاب قارئًا إلا لِيَنشر أوراقه كاتبًا، وكان من حسن حظه أن قامت حركة الترجمة عن الثقافات الأخرى على النحو الذي أسلَفْناه، برغم أنه قد ذكَر لنا عن حركة الترجمة هذه ما يدل على رِيبته في تمام نفعها، كما أوردنا لك في الصفحات السابقة؛ ففي كتابه الحيوان — وغيره — تَرِد أسماءٌ لأعلام الفكر الأجنبي من أمثال أرسطو وأفلاطون وأبقراط وبطليموس وجالينوس، بل إن مادة كتابه الخاصةَ بالحيوان نفسِه قد تجد من الدارسين مَن يظن أنها مأخوذة في قدر كبير منها عن أرسطو.
وجَد الجاحظ أن كتابه قد طال، وخشي أن يَملَّه القارئ لطوله هذا، فأورد دفاعًا عنه كشف به لنا عن طريقته في كتابته، فهو يقول: «ينبغي لمن كتب كتابًا ألا يكتبه إلا على أن الناس كلهم له أعداء، وكلهم عالمٌ بالأمور، وكلهم متفرِّغ له، ثم لا يرضى بذلك حتى يدَع كتابه غُفلًا، ولا يرضى بالرأي الفطير؛ فإن لابتداء الكتاب فِتنةً وعُجبًا، فإذا سكَنَت الطبيعة وهدأَت الحركة، وتراجعَت الأخلاط، وعادت النفسُ وافرة، أعاد النظر فيه، فتوقَّف عند فصوله توقُّفَ مَن يكون وزن طبعه في السلامة أنقصَ من وزن خوفه من العيب»، ثم يُردِف هذه العبارةَ المنهجية الجميلة التي كنت أتمنى لو قرأها عددٌ كبير ممن يتصدَّوْن اليوم للكتابة قبل أن ينضجوا لها؛ فلعلهم إذا رأَوا في سَعة اطِّلاع الجاحظ وحدَّة ذكائه وسيطرته على القلم، أن هذا كله لم يمنَعْه — كما يقول — من التردد والحرص قبل أن يَعرض ما يكتبه على الناس، أقول: لعل ذلك يردعهم بعضَ الشيء عن سرعة الجري إلى الطابِع والناشر بكل غثٍّ يَرِد على خواطرهم … يُردِف الجاحظُ عبارته المنهجية السابقة بعبارة أخرى تُبيِّن في وضوح طريقَه في السير، إذ يقول: «فرأيتُ أن جملة الكتاب وإن كثر عدد ورقه، أن ذلك ليس مما يُمِلُّ ويُعتَد عليَّ فيه بالإطالة؛ لأنه وإن كان كتابًا واحدًا فإنه كتبٌ كثيرة، وكل مصحف منها فهو أمٌّ على حِدَة، فإن أراد قراءةَ الجميع لم يَطُل عليه الباب الأول حتى يَهجم على الثاني، ولا الثاني حتى يهجم على الثالث، فهو أبدًا مستفيدٌ ومُستظرِف، وبعضه يكون جِمامًا لبعض، ولا يَزال نشاطه زائدًا، ومتى خرَج مِن آيِ القرآن صار إلى الأثر، ومتى خرَج من أثرٍ صار إلى خبَر، ثم يخرج من الخبر إلى شعر، ومن الشعر إلى نوادر، ومن النوادر إلى حِكَم عقلية ومقاييسَ سداد، ثم لا يترك هذا الباب ولعله أن يكون أثقلَ والملالُ إليه أسرع، حتي يُفضيَ به إلى مَزحٍ وفُكاهة، وإلى سخف وخرافة، ولستُ أراه سخفًا إذ كنتُ إنما استعملتُ سيرة الحكماء وآداب العلماء.»
إن الصورة التي لا تبرح ذهني إذ أراني أقف مع القوم أرقب ما يَنشطون به في عالم الفكر، هي هذه العصبية الثقافية التي فرَّقَتهم فِرقتَين، تتعصب إحداهما للتراث العربي الأصيل ومعظمه كما نعلم لغة وشعر، وتتعصب الأخرى للمنقول من ثقافات الآخرين، وربما تَبادر إلى الذهن عن الجاحظ — لهذا الإلمام الواسع بالثقافتَين معًا — أنه يقف من هذا الصراع موقفًا مُحايِدًا؛ فكتاب واحد مثل «البيان والتبيين» كفيلٌ له بأن يُوضَع في مقدمة الفريق الأول، وكتاب واحد أيضًا مثل «الحيوان» كفيلٌ له بأن يُوضَع في مقدمة الفريق الثاني، لكنه مع ذلك أشدُّ حنينًا إلى الجانب العربي الخالص، يدلنا على ذلك موقفُه من حركة الترجمة الذي أسلَفْنا لك ذِكره، كما يدلنا عليه أقوالٌ له صريحة، منها ما ورد في كتاب الحيوان من أن كل ما ورَد في كتب العلماء واردٌ في أشعار العرب، إذ يقول: «وقلَّ معنًى سمعناه في باب معرفة الحيوان من الفلاسفة، وقرأناه في كتب الأطباء والمتكلِّمين، إلا ونحن قد وجَدْنا قريبًا منه في أشعار العرب والأعراب، وفي معرفة أهل لغتنا ومِلَّتنا.»
لقد كان بوُدي أن أصحب الجاحظ في «البيان والتبيين» كما صَحِبته في بعض «الرسائل» وفي «الحيوان»، لكن وقفتي معه قد طالت، فضلًا عن أن رحلتي هي على طريق العقل، و«البيان والتبيين» أكثرُه معتمد على «ذَوق» الأديب.