زجاجة المصباح
٢٨
لقد اجتَزْنا حتى الآن مِن طريق العقل في تراثنا الفكري مرحلتَين، رمَزْنا للأولى بالمشكاة؛ لأن التفكير العقليَّ فيها كان أقربَ إلى إدراك البديهة الحاضرة منه إلى الحِجَاج المنطقي الذي يُقدِّم المقدمات لينتهيَ منها إلى نتائجها، وإنما أردنا بذلك التفكير الفطري المعتمِد على السليقة السليمة، ما كان في القرن السابع. ثم انتقلنا إلى مرحلة ثانية عقلية، امتدَّت خلال قرنَين، هما الثامن والتاسع، ورأينا أن نقسم تلك المرحلة قسمَين، جعلنا أحدهما للقرن الثامن، ورمَزنا له بالمصباح، وجعلنا ثانيَهما للقرن التاسع الذي رأيناه امتدادًا لمصباح العقل، ولكن وهجه اشتدَّ لمعانًا في هذه الفترة الثانية بالقياس إلى الفترة الأولى من المرحلة نفسِها، وها نحن أولاء ننتقل إلى مرحلة ثالثة من الطريق، نُغطي بها معالم القرن العاشر، وها هنا سيعلو التفكير العقلي من المقدمات المباشرة إلى مقدمات أعمَّ وأشمل، أو بمعنًى آخر، فهو سيعلو من مستوى العلوم إلى مستوى الفلسفة.
ولما كنتُ في هذه الرحلة الثقافية أستهدف ينابيع الثقافة بالمعنى الوسط لهذه الكلمة، فلا هو المعنى الذي يَضيق حتى يكون هو التخصُّص، ولا هو المعنى الذي يتَّسع حتى يشملَ طرائق العيش بأَسْرها، إنما هو معنًى وسطٌ بين الضِّيق والسَّعة، كان تطبيقُ ذلك بالنسبة لتفكير القرن العاشر المتميز بلون فلسفي، هو ألَّا أقف عند «الفلاسفة» الذين تناوَلوا «الفلسفة» بمعناها الاصطلاحي المعروف، كالفارابي وابن سينا، بل أكتفي من أصحاب الفكر الفلسفي عندئذٍ بمن أخَذوا «الفلسفة» بمعنًى أوسعَ قليلًا، كإخوان الصفا، وأبي حيان التوحيدي، وربما أضَفنا إليهما رجلًا يُمثل النقد الأدبي إذا رأينا هذا النقد عنده يرتكز على ما يُشبِه المبادئَ الفلسفية العامة مثل عبد القادر الجُرجاني (وإن لم يكن مُقيمًا ببغداد) ورجلًا آخر يمثل البحث اللغوي من زاوية فلسفية أيضًا، مثل ابن جنِّي.
٢٩
أما «إخوان الصفا وخلان الوفا» فهم جماعة تألَّفَت خُفْية في القرن العاشر الميلادي، وكان موطنها بين البصرة لطائفة منهم وبغداد لطائفة، ولم يُعرَف شيء عن أشخاصهم إلا خمسة يَكتنفهم كثير من الغموض والشك، ذكرهم لنا أبو حيان التوحيدي في «الإمتاع والمؤانسة»، وكما هو واضحٌ من نعتهم، هم جماعة ربَطَت بينهم روابطُ العِشرة الأخوية الصافية المنزَّهة عن الهوى، المبرأة من كل خيانة وغدر، وقد تآلفت قلوبهم على الطُّهر وصدق النية وتبادُل النُّصح الخالص، واشتركوا معًا في وضع مذهب فكري زعَموا له أنه يُقرِّبهم من سعادة الحياة الآخرة، ولعلنا نكون أقربَ إلى الوصف الصحيح لو قلنا عن مضمون تلك الرسائل: إنه «تلخيص» جيد شامل للنظرة العِلمية الفلسفية عندئذٍ، أو قل إنها خلاصة ما قد وصلَت إليه معارفُ القوم في ذلك الحين، لكنهم عرَضوا مادتهم في تلك الرسائل عرضًا شائقًا تخلَّلته القصص الموضِّحة الشارحةُ لِما أرادوه، فكأنهم جماعة من أصحاب الأدب الفلسفي، أو الفلسفة الأدبية، يريدون فلسفة وعلمًا، ويتوسَّلون إلى ذلك بأسلوب الأدب التصويري.
والشائع فيما يكتبه الدارسون عن هذه الرسائل أن عددها إحدى وخمسون رسالة، تُضاف إليها رسالة جامعة تُلخِّص ما ورد في سائرها، لكن كاتب هذه الصفحات، وهو يُطالِع الرسائل في أجزائها الأربعة، قد صادفَته دلائلُ متناقضة مضطربة بالنسبة إلى عدد الرسائل، حتى تعذر عليه آخرَ الأمر أن يعرف كم هي على وجه التحقيق، فأنت إذا تتبعتَ فصولها فصلًا فصلًا، وجدتَها تبدأ بمقدمة تُلخص لك ما أنت واجده في الفصول التالية، ثم تدخل بعد ذلك في أربع عشرة رسالة كلها خاصٌّ بالعلوم الرياضية، وهي كلها في المجلد الأول، وتنتقل إلى المجلد الثاني فإذا أنت مع اثنتي عشرة رسالةً في العلوم الطبيعية، وتنتقل إلى المجلد الثالث فتجده يبدأ بخمس رسائلَ أخرى في العلوم الطبيعية، وإذن فلهذه العلوم سبعَ عشرة رسالة، ثم تنتقل إلى المجلد الثالث فتُطالع فيه عشر رسائل عن العلوم العقلية والنفسية، يتلوها رسالة واحدة في العلوم الشرعية، وبها ينتهي المجلد الثالث، وأخيرًا يأتي المجلد الرابع وفيه عشر رسائل في العلوم الشرعية أيضًا، إذا أضفنا إليها الرسالة الواحدة التي خُتِم بها المجلد الثالث كان عددُها إحدى عشْرةَ رسالة لهذه العلوم الشرعية، وبذلك تنتهي الرسائل كما وردَت في المجلدات الأربعة، فاجمع الأربع عشرة الرياضية، إلى السبع عشرة الطبيعية، إلى العشر العقلية والنفسية، إلى الإحدى عشرة الشرعية، يكُن المجموع اثنتَين وخمسين رسالة، وليس بينها الرسالةُ الجامعة، ولا «رسالة الفِهْرست» التي تَرِد في مطلع الكتاب، والتي تبدأ هكذا: «هذه فِهرست رسائل إخوان الصفا وخِلَّان الوفا … وهي اثنتان وخمسون رسالة في فنون العلم وغرائب الحِكَم وطرائف الآداب وحقائق المعاني عن كلام الخُلَصاء الصوفية … إلخ.»
ولكنك تقع في صلب الرسائل على إشارات كثيرة توقفك موقفَ الحيرة من العدد؛ كم يكون على الحقيقة؟ مثال ذلك: تبدأ الرسالة الأخيرة من الجزء الرابع الأخير، وهي الرسالة الثانية والخمسون، بهذه العبارة: «… إنا قد ذكرنا في خمسين رسالةً تقدَّمَت لنا قبل هذه الرسالة فنونَ العلم وغرائب الحكمة … إلخ»، مع أن الذي تقدم عدده إحدى وخمسون رسالة لا خمسون.
٣٠
ولعل هدفهم الرئيسي من هذه الرسائل على اختلاف موضوعاتها، هو أن يُبيِّنوا في جلاء أن الشريعة الإسلامية والفلسفة اليونانية لا يتعارضان في شيء، وهو — كما نعلم — هدفٌ مشترك للحركة الفلسفية كلِّها إبَّان القرون الوُسطى جميعًا، إسلاميةً كانت في الشرق العربي، أو مسيحيةً في أوروبا، وفي هذا قال أصحاب الرسائل: إن الشريعة قد دنَّسَتها الجهالات، واختلطَت بالضلالات، ولا سبيل إلى غَسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة؛ لأن هذه الفلسفة قوامها الحكمة، فإذا رأينا حِكمة الفلاسفة اليونان قد انتظمَت مع شريعة الدين، كان لنا بذلك كمالٌ ليس بعده أكمل.
ولقد روى لنا أبو حيان التوحيدي في سياق حديثه عنهم في «الإمتاع والمؤانسة» أن أحدهم (وهو المقدسي) قال عن الشريعة والفلسفة ما يأتي: «الشريعة طبُّ المرضى، والفلسفة طب الأصحَّاء، والأنبياء يطبُّون للمرضى حتى لا يتزايدَ مرضهم، وحتى يزولَ المرض بالعافية فقط، وأما الفلاسفة فإنهم يحفظون الصحة على أصحابها، حتى لا يَعتريَهم مرضٌ أصلًا، فبين مدبِّر المريض وبين مدبِّر الصحيح فرقٌ ظاهر وأمر مكشوف؛ لأن غاية تدبير المريض أن ينتقل به إلى الصحة، هذا إذا كان الدواء ناجعًا، والطبعُ قابلًا، والطبيب ناصحًا، وغاية تدبير الصحيح أن يَحفظ الصحة، وإذا حفظ الصحة فقد أفاده كسْبَ الفضائل، وفرَّغه لها وعرَّضه لاقتنائها، وصاحب هذه الحال فائزٌ بالسعادة العظمى، وقد صار مستحِقًّا للحياة الإلهية، والحياة الإلهية هي الخلود والديمومة، وإن كسَب مَن يبرؤ من المرض بطب صاحبه الفضائل فليست تلك الفضائل من جنس هذه الفضائل؛ لأن إحداهما تقليدية والأخرى برهانية، وهذه مظنونة وهذه مستيقَنة، وهذه روحانية وهذه جسمانية، وهذه دهرية وهذه زمانية …»
ولم تكن هذه النظرة من إخوان الصفا، التي تُعلي قدر الفلسفة على قدر الشريعة من حيث الوظيفةُ التي تؤديها كلٌّ منهما، لتقع من كثيرين مواقعَ الرضى، لكن هكذا كانوا أميلَ إلى التفكير العقلي، منهم إلى التقليد وقَبول الرواية، مما أدى بهم إلى ضربٍ من التسامح الديني وسَعة الأفق، بحيث لم يَكادوا يفرقون بين دين ودين، فالأديان كلها سواءٌ في تحقيق الغاية؛ يقولون: «… ينبغي لإخواننا — أيدهم الله تعالى — ألا يُعادوا علمًا من العلوم، أو يهجروا كتابًا من الكتب، ولا يتعصَّبوا على مذهب من المذاهب؛ لأن رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهبَ كلها، ويجمع العلوم جميعها، وذلك أنه هو النظر في جميع الموجودات بأسْرِها، الحسِّية والعقلية، من أولها إلى آخرها، ظاهرِها وباطنها، جليِّها وخفيِّها، بعين الحقيقة من حيث هي كلُّها من مبدأ واحد، وعِلة واحدة، وعالم واحد، ونفس واحدة، محيطةً جواهِرَها المختلفة، وأجناسها المتباينة، وأنواعها المفنَّنة، وجزئياتها المتغيرة.»
فلا عجب أن وجدنا من رجال الدين بعد ذلك من لم يطمئنَّ إلى إخوان الصفا في وقفتهم هذه التي تُسوِّي بين الديانات جميعًا، بل قيل عنهم: إنهم ما دانوا بالإسلام إلا ليتخذوا منه قاعدة تُؤلِّف لهم مذهبَهم الشامل، لا ليعتقدوا بعقيدته من حيث هي عقيدةٌ خالصة متميِّزة، كما هو واضحٌ في الرسالة الرابعة والأربعين، وقد ورد فيها:
«أعلم أيها الأخ البار الرحيم — أيدك الله وإيانا بروحٍ منه — أنَّا نحن — جماعةَ إخوان الصفا — أصفياء وأصدقاء كرام، كنا نيامًا في كهف أبينا آدمَ مدةً من الزمان، تتقلب بنا تصاريفُ الزمان ونوائب الحَدَثان، حتى جاء وقتُ الميعاد بعد تفرُّقٍ في البلاد، في مملكة صاحب الناموس الأكبر، وشاهدنا مدينتنا الروحانية المرتفعة في الهواء … وهي التي أُخرِج منها أبونا آدم وزوجته وذُريتهما لما خدَعَهما عدوُّهما اللعين وهو إبليس، وقال: «هل أدلُّكما على شجر الخُلد ومُلك لا يَبلى؟» واغترَّا بقوله، وحملَهما الحرصُ والعجَلة، فبادرا وطلبا ما ليس لهما أن يتَناولاه قبل استحقاقه في أوانه، فسقطَت مرتبتهما وانحطَّت درجتهما، وانكشفَت عورتهما، وأخرَجاهما وذريتهما جميعًا، بعضهم لبعض عدو، وقيل لهم: اهبطوا منها، ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين، فيها تحيون وفيها تموتون، ومنها تُخرَجون يوم البعث إذا انتبَهتم من نوم الجهالة، واستيقظتم من رَقْدة الغفلة، إذا نُفِخ فيكم بالصور، فتنشقَّ عنكم القبور، وتخرجون من الأجداث سِراعًا …
فهل لك يا أخي … أن تُبادر وتَركب معنا في سفينة النجاة التي بَناها أبونا نوحٌ عليه السلام، فتنجوَ من طوفان الطبيعة قبل أن تأتيَ السماء بدخان مبين، وتسلَمَ من أمواج بحر الهَيُولى ولا تكونَ من المغرَقين؟
أو هل لك يا أخي أن تنظر معنا حتى ترى ملَكوت السموات التي رآها أبونا إبراهيمُ لما جنَّ عليه الليل حتى تكون من الموقنين؟ أو هل لك يا أخي أن تُتمِّم الميعاد وتَجيء إلى الميقات عند الجانب الأيمن، حيث قيل: يا موسى، فيُقضى إليك الأمرُ فتكون من الشاهدين؟ أو هل لك يا أخي أن تَصنع ما عمل فيه القومُ كي يُنفَخ فيك الروح فيَذهب عنك اللومُ حتى ترى الأيسوع (= يسوع) عن مَيمنة عرش الرب، قد قُرِّب مثواه كما يُقرَّب ابن الأب، أو ترى مِن حوله الناظرين؟ أو هل لك أن تَخرج من ظلمة أهرمن ترى اليزدان قد أشرق منه النور في فسحة أفريمون؟ أو هل لك أن تدخل إلى هيكل عاديمون حتى ترى الأفلاك التي يَحيكها أفلاطون، وإنما هي أفلاك روحانية لا ما يُشير إليه المنجِّمون؟»
هكذا رأى إخوان الصفا في فريق واحد متجانس: آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ويزدان المجوسي، وأفلاطون الفيلسوف … كلهم في أعينهم مصدرٌ للهداية على حد سواء، فنفهم إذن لماذا ازْوَرَّ عنهم كثيرون من أهل الرأي كلما ورد ذِكرهم؛ يقول أبو حيان التوحيديُّ عنهم: «قد رأيتُ جملةً من رسائل الإخوان، وهي مبثوثة من كل فن بلا إشباع ولا كفاية، وهي خرافات وكنايات، وتلفيقات وتلزيقات، وحملتُ عدةً منها إلى شيخنا أبي سليمان المنطقي السِّجِسْتاني محمد بن بَهْرام، وعرَضتُها عليه، فنظر فيها أيامًا، وتبحَّرها طويلًا، ثم ردَّها عليَّ، وقال: تَعِبوا وما أغنَوْا، ونصَبوا وما أُجِروا، وحامُوا وما ورَدوا، وغنَّوا وما أطربوا، ونسَجوا فهلهَلوا، ومَشطوا ففلفَلوا.»
كان المدار في الأحكام عند إخوان الصفا هو البراهينَ العقلية وحدها، ومِن ثَم لم يكونوا — بالطبع — ممن يَرضى عنهم كثيرون؛ لأن الكثيرين، بل لعلها الكثرة الغالبة مِن البشر تُقلِقلها أحكام العقل، ويُرضيها أن تَلوذ بالعاطفة والإيمان وما إليهما، نقول ذلك عنهم بالرغم من أنهم كانوا مصدرَ إيحاء في أمور كثيرة عند فِرَقٍ كثيرة في العالم الإسلامي بعد ذلك؛ كالباطنية، والإسماعيلية من هؤلاء بصفة خاصة.
لكن الذي يستوقفنا منهم هو إصرارهم على النظرة العقلية الحسِّية، إصرارًا يكاد يَسلكهم في تيار واحد مع أوغل المدارس الفلسفية في عصرنا هذا نزوعًا نحو تأسيس المعرفة الصحيحة على إدراك الحواسِّ فإدراك العقل بِناءً على ما تُدركه الحواس في دنيا التجرِبة؛ يقولون في البراهين العقلية ومنزلتها: «اعلم أن البراهين هي ميزان العقول، كما أن الكيل والذَّرْع والشاهين مَوازينُ الحواس، وكما أن الناس إذا اختلفوا في حَزْر شيء وتخمينه من الأشياء المحسوسة، رجَعوا إلى حُكم الكيل والذَّرع ورَضُوا بها، وارتفع الخُلف من بينهم، فهكذا العقلاء الذين يَعرفون البراهينَ الضرورية إذا اختلَفوا في حكم شيء من الأشياء التي لا تُدرَك بالحواس، ولا تُتصوَّر بالأوهام، رجَعوا عند ذلك إلى دليل وبرهان وما يَنتج من المقدمات الضرورية، وأقرُّوا بها وقَبِلوها، وإن كانت لا تُدرِكها الحواسُّ ولا تتصورها الأوهام» (ج٣، ص٤٠٣). وهكذا كان الإخوانُ من الحيطة بحيث ترَكوا للفكر هامشًا ربما جاوزَ التجرِبة الحسية، فعندئذٍ يكون البرهانُ العقلي دليلَنا.
لكن هذه الحيطة قليلة الأثر في نظرتهم العامة التي هي نظرةٌ تجريبية في أساسها، نظرة قد تُنادي بها اليوم فتجد من الناس مُقاومة وازْوِرارًا، من ذلك قولهم في صراحة: إن البدن هو وسيلة الإدراك، حتى في دنيا المعقولات، فيقولون في ذلك: «… نبدأ أولًا بذِكر القُوى الحساسة الخمس، إذ كانت هي أولَ قوى النفس التي يَنال بها الإنسانُ العلوم والمعارف، ثم نذكر القوة المتخيَّلة التي مَسكنُها مقدَّم الدماغ، ثم القوة المفكِّرة التي مسكنها وسط الدماغ، ثم القوة الحافظة التي مَسكنها مؤخَّر الدماغ» (ج٣، ص٤٠٤). ولكي يؤكدوا لك أن الأمر كلَّه مرهون بوظائف الأعضاء؛ يَستطردون في القول: «ثم اعلم أن الناس متفاوِتون في الدرجات في هذه القوى بين الجودة والرداءة في إدراكهم المعلومات، تفاوُتًا بعيدًا، وهي أحد أسباب اختلافهم في الآراء والمذاهب؛ وذلك أن مِن الناس مَن يكون حادَّ البصر، يرى الأشياء الصغيرة البعيدة، ومنهم مَن يكون دون ذلك، ومنهم مَن لا يُبصِر شيئًا البتة، وهكذا نجد حالهم في القوة السامعة … وعلى هذا القياس يكون حُكمهم في سائر قوى حواسِّهم من الذَّوق واللمس والشم، وهكذا حكمهم في ذكاء نفوسهم وجودة قرائحهم وصفاء أذهانهم …» (ج٣ ، ص٤٠٥).
فماذا تريد من فيلسوف تجريبي أكثرَ من أن يردَّ لك اختلاف الناس في مذاهبهم إلى اختلاف درجات حواسِّهم في الإدراك؟ يقولون: «اعلم أن هذه التفاوتات … في إدراك صور المعلومات، علَّتها … اختلاف أدواتها، واختلاف آلاتها في الجودة والرداءة؛ وذلك أنه لما كان كل عضو من الجسد هو آلةً وأداةً لقوةٍ من قُوى النفس، وكانت أعضاء الجسد مختلِفةَ الهيئات المتفاوتة في الجودة والرداءة في بعض الناس أو في بعض الأحايين، اختلفَت أفعالُ هذه القوى بحسَب تلك الاختلافات، مثال ذلك «الحدَقتان» فإنهما عُضوان من الجسد، وهما أداتان للقوة الباصرة، فإذا كانتا سَليمتَين من الآفات العارضة … تراءت فيهما صور المرئيات المقابلات لهما، كما يتراءى في المرايا صورُ الأشياء المقابلةِ لها، فأدركَت هذه القوةُ تلك المبصَراتِ على حقائقها … وهكذا أيضًا القوة السامعة … وهكذا أيضًا القوة الشامَّة … وهكذا أيضًا القوة الذائقة … وهكذا أيضًا القوة اللامسة … وهكذا أيضًا حالات القوة المتخيَّلة، فإنه متى كان مُقدَّم الدماغ معتدِلًا سالِمًا من الآفات، تخيلتَ فيه رسوم المحسوسات التي أدَّتها إليها القوة الحساسة بحقائقها … وهكذا أيضًا حكم القوة المفكِّرة المستنبِطة وسط الدماغ، متى كان معتدلًا على الأمر الطبيعي سالمًا من الآفات العارضة كان فكرُ الإنسان ورؤيته وتمييزُه وفَهمُه على ما ينبغي …» (ج٣، ص٤٠٥–٤٠٧).
«النفس هي مزاج البدن» (٤٠٧)، «أما الإلهيُّون فيرَون خلاف ذلك» (٤٠٨). أرأيتَ إذن إلى أيِّ حد أراد إخوانُ الصفا أن يَقِفوا عند «البدن» وحده، بما فيه من أعضاء للحسِّ وأجزاء للدماغ؟ فهذه وحدها هي أدواتُ المعرفة، إذا اختلفَت قدراتها عند أفراد الناس اختلفَت بالتالي معلوماتهم، ثم اختلفَت آخِرَ الأمر عقائدُهم ومذاهبهم.
ولقد يُقال لهم ما يُسارِع أغلبُ الناس عادةً إلى قوله، وهو أن الحواسَّ قد تخدع، فترى حقًّا ما ليس بحق، فكيف نجعلها مصدرَ العلم؟ وللتجريبيِّين المعاصرين لنا دفعٌ لهذا الرد، وهو أن الحواسَّ لا تخطئ أبدًا فيما تراه أو تسمعه، وإنما يَجيء الخطأ من أحكامنا التي نُرتِّبها على ما تُدرِكه الحواس، نقول مثلًا: إن العين ترى قرص الشمس صغيرًا مع أنه في حقيقته عالم ضخم، والجواب على ذلك هو: إن قرص الشمس في رؤية العين هو صغير كما تراه، فإذا عنَّ لك أن تستدلَّ من هذه الرؤية البصرية حكمًا عن حجم الشمس في حقيقتها الخارجية، فأنت الذي أخطأ (راجع ما يقوله في ذلك الفيلسوف الإنجليزي المعاصر «آير» في كتابه «أسس المذهب التجريبي»). وإنما سُقتُ للقارئ هذه اللمحةَ عن فيلسوف معاصر، لأُعقِّب عليها بما قاله إخوان الصفا في خداع الحواس؛ ليتبيَّن كم كانوا تجريبيِّين في مذهبهم الفلسفي بروح تكاد تكون شبيهةً بالتجريبيين المعاصرين، يقولون:
«اعلم أن لكل حاسة مدرَكاتٍ بالذات ومدرَكات بالعرَض، وهي لا تخطئ في مُدرَكاتها التي لها بالذات، وإنما يَدخل عليها الخطأُ والزلل في المدرَكات التي لها بالعرَض، مثال ذلك البصَر، فإنَّ الذي له من المدرَكات بالذات هي الأنوار والظلمة، وهي لا تُخطئ في إدراكها في جميع الأوقات البتة، فأما إدراكها الألوانَ والأشكال والأوضاع والأبعاد والحركات وما شاكلَها فهي تُدرِكها بتوسُّط النور والضياء على الشرائط التي ذكَرناها، وقد يَدخل عليها الخطأ والزلل في ذلك إذا نقصَت الشرائط التي تحتاج إليها … ثم اعلم أن لكل قوةٍ من هذه الحواسِّ الخمس خاصيةً ليست للأخرى، ولكن الخاصية التي تعمُّها هي أنها لا تخطئ في مدرَكاتها إذا تمت شرائطها، ولم يَعرِض لها عائق، وخاصة أخرى: أنها لا تدرك كل واحدة منها محسوسات أخواتها التي لها بالذات، مثال ذلك البصر؛ فإنه لا يدرك الأصواتَ ولا الروائح ولا الطعوم، وهكذا أخَواتها، ولكن بما تشترك في المحسوسات اللاتي لهن بطريق العرَض مثل الحركة، فإنها تُدرَك وتُعلَم بالبصر واللمس والسمع جميعًا» (ج٣، ص٤١١-٤١٢).
تجريبيون حسِّيون ماديون هؤلاء الإخوان في تَصوُّرهم لعمَلية المعرفة كأشدِّ ما يكون التجريبيون اعتمادًا على مادة الأبدان وخصائصها، يقولون: «العلة في تفاوُت الناس في القدرة على التصور الذهني ليست مِن اختلاف جواهر نفوسهم، ولكن مِن أجل اختلاف تركيب أدمغتهم واعتدال أمزِجتها أو فسادها وسوء مزاجها» (ج٣، ص٤١٨).
ونمضي مع إخوان الصفا في حديثهم الممتع هذا، الذي هو جديرٌ بأن يُذكَر لمعاصرينا — لا أقول من عامة الناس — بل لمعاصرينا من الأجلَّاء أساتذة الفلسفة في الجامعات، الذين شالوا الدنيا وحطوها من الغضب حين سايَر كاتبُ هذه الصفحات شعبةً من الفلسفة المعاصرة أرادت أن تَقصُر المعرفة العِلمية على الحواس فالعقل، فهم حَريصون على أن يكون للغيب المبهَم المجهول من طبيعة الإنسان كلُّ الأثر في علم الإنسان، حتى إذا كان هذا العلمُ علمًا بالطبيعة! … نمضي مع هؤلاء الإخوانِ في حديثهم عن تحليل المعرفة ومصادرها، فهم يقولون: أما تحكيم القوة المفكِّرة فيما ينشب بين العقلاء «مِن المنازعات والخصومات في الآراء والديانات والمذاهب؛ فهي لا تَحكم لأحد بين الخصمَين بالصواب ولا بالخطأ إلا بعدما شهد شاهدان من الحواس الخمس، أو نتائج مقدِّمات جزئية من أوائل العقول.»
آه! هكذا ربما صاح في وجهي أنصار «الجوانية» من أساتذة الفلسفة المعاصِرين لنا في مصر بالذات، سوف يقولون: أرأيت؟ إنهم يُعلِّقون العلم أيضًا على «أوائل العقول» وهي عبارة يَقصِدون بها ما قد اصطلَحْنا نحن على تسميته بالمعرفة «القَبْلية» (أي المعرفة التي نُدرِكها قبل ممارسة التجرِبة بحواسنا)، ولما كانت المعرفة القَبْلية هذه مستقلةً عن دنيا التجرِبة، فهي عندهم دليلٌ على أن الحواسَّ ليست المصدرَ الوحيد، بل ليست المصدر الهام في تحصيل المعرفة، وأن المعوَّل الأول هو على الصور العقلية الفطرية «الأولانية» التي تكون للعقل بحكم أنه عقلٌ وكفى، وهي هي ما يسميه إخوانُ الصفا بعبارة «أوائل العقول»، لكن هؤلاء الإخوان لا يَتركوننا قبل أن يُحددوا ما يريدون بعبارتهم هذه، فيقولون: «ثم اعلم أنَّ كثيرًا من العقلاء يظنون أن الأشياء التي تُعلَم بأوائل العقول مركوزة (أي فطرية) فنسيَتْها لما تعلَّقَت بالجسم، فهي تحتاج إلى التَّذْكار، ويسمُّون العلم تذكُّرًا، ويَحتجون بقول أفلاطون: «العلم تذكُّر»، وليس الأمر كما ظنوا، وإنما أراد أفلاطون بقوله: «العلم تذكُّر» أن النفس علَّامة بالقوة، فتحتاج إلى التعليم حتى تصير علَّامة بالفعل، فسُمِّي العلم تذكُّرًا، ثم إن أول طريق التعاليم هي الحواس، ثم العقل، ثم البرهان، فلو لم يكن للإنسان الحواسُّ لما أمكنه أن يَعلم شيئًا، لا المبرهَنات ولا المعقولات ولا المحسوسات البتَّة» (ج٣، ص٤٢٤).
إننا لنقرأ لإخوان الصفا النص الآتي، فيُخيَّل إلينا أننا إنما نقرأ نصًّا مقتبَسًا من «هيوم» الذي قد يُعَد أبًا للتيار التجريبي كلِّه في فلسفة أوروبا الحديثة والمعاصرة، فاقرأ معي قولهم: «إن كل ما لا تُدرِكه الحواسُّ بوجه من الوجوه لا تتخيَّله الأوهام، وما لا تتخيله الأوهامُ لا تتصوره العقول، وإذا لم يكن شيءٌ معقول فلا يمكن البرهان عليه؛ لأن البرهان لا يكون إلا من نتائجِ مقدِّمات ضرورية مأخوذة من أوائل العقول، والأشياء التي هي في أوائل العقول إنما هي كليات أنواع وأجناس ملتقَطة من أشخاص جزئية بطريق الحواس، والدليل على ذلك: الصبيُّ، لولا أنه قدَّر أن عشر جوزات أكثرُ من خمس، أو خشبة طولها عشَرة أذرع أطولُ من أخرى لها ستة أذرع، فمن أين كان يمكنه أن يَعلم أن الكل أكثرُ من الجزء؟» (ج٣، ص٤٢٤).
هكذا يقف إخوان الصفا من ردِّ الأصول العقلية كلِّها من تصورات عامة إلى ما يُطلَق عليه أحيانًا اسم «البديهيات»، ردِّها إلى انطباعات حسية تأثرَت بها حواسُّ الإنسان بمؤثرات جاءت إليها من مصادر الأشياء الخارجية، وهو موقف قوي صريح، لم نعهَدْه بهذه القوة والصراحة والوضوح إلا في أعلام الفلسفة التجريبية المحْدَثين والمعاصرين، من «هيوم» إلى «جون ستيوارت مِل» إلى أصحاب الوضعية المنطقية في زماننا، فإذا رأينا هذا عَجِبْنا أشدَّ العجب من نفر من الزملاء، سواءٌ فيهم مَن جعل تدريس الفلسفة في الجامعات العربية حِرفتَه، أو مَن اكتفى بثقافة عامة، سمعوا مِن مؤلف هذا الكتاب دفاعًا عن موقفٍ كهذا في تحليل المعرفة العِلمية، فاتهَمه بالكفر مَن اتهَم، وبالجهل آخَرون، دون أن يُكلِّفوا أنفسهم عناء ساعات قلائلَ يقضونها في قراءةٍ تَصِلُهم بأصول هذه الفكرة وفروعها، فماذا نقول أكثرَ مما قاله إخوانُ الصفا في ذلك السياق نفسِه من رسائلهم؛ إذ قالوا:
«إن أشد بليَّة على الصناعة [يقصد التخصص العِلميَّ في فرع معين من فروع العلم] وأعظم مِحنة على أهلها، هو أن يتكلم عليها مَن ليس من أهلها، ويَحكم في فروعها ولا يعرف أصلها، فيُسمَع منه قوله، ويُقبَل منه حُكمه، وهذا الباب من أجلِّ أسباب الخلاف الذي وقع بين الناس في آرائهم ومذاهبهم، وذلك أن قومًا من القُصَّاص وأهل الجدل يتصدَّرون في المجالس ويتكلمون في الآراء والمذاهب، ويُناقضون بعضها بعضًا وهم غير عالمين بماهياتها، فضلًا عن معرفتهم بحقائقها وأحكامها وحدودها، فيَسمع قولَهم العوامُّ ويحكمون بأحكامهم، فيَضِلون ويُضِلون وهم لا يشعرون» (ج٣، ص٤٣٨).
٣١
لكننا نخطئ لو سبَق إلى أوهامنا ظنٌّ بأن هؤلاء «الإخوان» قد اطَّرَدَت معهم الوقفة التجريبية العِلمية في كل ما تعرَّضوا له من مسائل، إننا لو توقَّعنا منهم شيئًا كهذا لفاتتنا — إذن — روح عصرهم، فكيف نتجاهل حقيقةً كبرى في روح الثقافة التي أحاطت بهم من أنها ثقافةٌ استمدَّت روافدها من عيون مختلفة، فلما صبَّت تلك الروافدُ ماءها في وعاء واحد، امتزج بعضُها ببعض امتزاجًا عضويًّا متكاملًا آنًا، وتَنافر بعضها مع بعض فكانا أقربَ إلى العناصر المتجاورة منهما إلى العناصر الممتزِجة.
وها هم أولاء أصحابنا «الإخوان» يَميلون مرة نحو النظرة التجريبية الحسية، كالتي رأينا نموذجًا منها في الصفحات السالفة، ثم يَميلون مرة أخرى نحو نظرة عقلانية الأسس، فلا تقوم على حسٍّ ولا تَجرِبة، سواءٌ شعروا بتلك المفارقات أو لم يَشعروا، فربما كانوا على وعيٍ بمُفارقاتهم تلك، لكنهم آثَروا أن يقفوا من كل مجال فكري الموقفَ الذي يُناسبه، دون أن يُكلِّفوا أنفسهم شططَ التوحيد الشامل الكامل في نظرة واحدة متسقة أصولها مع فروعها، وكُلياتها مع جزئياتها.
فقد جعَلوا القسم الأول من رسائلهم للفكرة الرياضية التي نقَلوها نقلًا عن الفيثاغوريين الأقدَمين، وإذا قلنا «الفكرة الرياضية» هنا، فكأننا قلنا إن النظرة أساسها عقلاني، ثم تَجيء التجرِبة على سبيل التطبيق المؤيِّد، لا على سبيل الينبوع الذي نشتقُّ منه ونَستقي، فنحن نعلم أن فيثاغورس وأصحابَه قد جعلوا «العدد» أساسًا لتفسير الكون بكلِّ ما فيه من كائنات، بمعنى أن الأشياء «صُنِعَت» صنعًا من العدد تمامًا كما نقول مثلًا إن هذه المنضدة مصنوعة من الخشب، وذلك المِفْتاح مصنوع من حديد، كيف؟ ابدأ النظر كما بدأ فيثاغورس بأن تنظر إلى الأشياء نظرةً «هندسية»، واجعل المميِّز الذي يُميِّز شيئًا من شيء هو «الشكل» الذي صِيغَ فيه، فعندئذٍ لا يكون الفارق بين كتابي هذا وقلمي أن الكتاب من ورق والقلم من مَعدِن، بل يكون الفارق هو أن الكتاب مستطيل الشكلَ والقلم أسطواني، فإذا بدأت هذه البداية ونظرتَ إلى الأشياء هذه النظرة، سَهُل عليك بعد ذلك أن تُصنِّف الأشياء على أساس «الأشكال» الهندسية، فمنها ما هو «نقطة» ومنها ما هو «خط» ومنها ما هو «سطح» ومنها ما هو «مثلث» أو «مربع» أو «مستطيل» أو «دائري» إلى آخر الأشكال التي يمكن أن تتفرَّع من هذا الأصل، إن كان لهذه الأشكال آخر.
فالأساس — كما ترى — عقلي صرف، ثم تجيء بعد ذلك ممارستنا التجريبية للأشياء الواقعة، فنردُّها إلى تلك الأقسام العقلية النظرية، ولعل الغلطة «الرياضية» الأولى التي وقع فيها الفيثاغوريون، والتي تتابعَت منها بقية الأغلاط الفرعية، هي أنهم وحَّدوا بين وَحدة الهندسة (التي هي النقطة) ووحدة الحساب (التي هي الواحد)، ومِن ثَم جعَلوا فكرة «النقطة» وفكرة «الواحد» مترادِفتَين، فإذا وضَعنا نقطةً إلى جوار نقطة أخرى، نشأَ — هندسيًّا — خط، وهنا يقفز الفيثاغوريون من مستوى الهندسة إلى مستوى الحساب، فيقولون: إن الخط هو اثنان، وهكذا دواليك في سائر الأشكال؛ كل شكل يُقابله عدد، فإذا رأينا شيئًا على شكل مثلَّث — هندسيًّا — رمَزوا له هم بالعدد ثلاثة، على أساس أن أقلَّ عدد يمكن أن يكون منه النِّقاط على شكل مثلَّث هو الثلاثة، بأن تجعل اثنَين منها قاعدة، ثم تضع الثالث عليهما ليكون رأسًا للمثلث، وهكذا.
أخذ إخوان الصفا هذه الفكرة وتبنَّوها لأنفسهم، ولا غرابة؛ فطريقة تكوينهم نفسِه من حيث هم جماعةٌ من الخِلَّان الأوفياء بعضهم لبعض، هي كطريقة الفيثاغوريين حين ألَّفوا من أنفسهم أول الأمر جماعةً من الإخوان تَربِطهم الصداقة والطهر وخلوص النصح وصفاء النية، فكان أن جعل إخوانُ الصفا «العدد» أصلًا للأشياء، كما فعل الفيثاغوريون سواءً بسواء، ورتَّبوا على ذلك نتائجَهم، سواءٌ بالنسبة إلى الأمور الطبيعية أو الأمور الروحانية بغير تمييز.
وهم يعترفون بتبَعيَّتهم للمذهب الفيثاغوري صراحة، فتراهم يقولون: «نقول على رأي فيثاغورس الحكيم: إن طبيعة الموجودات بحسب طبيعة العدد، فمَن عرف العدد وأحكامَه، وطبيعته وأجناسه، وأنواعه وخواصَّه، أمكَنه أن يَعرف كمية أجناس الموجودات وأنواعَها» (ج٣، ص١٧٨)، «فلما كان الباري هو مُبدِعَ الموجودات، فهو الواحد بالحقيقة» وإن جميع الأشياء تتجانس من حيث الهيولى — أي من حيث مادتُها — فإذا اختلفَت بعد ذلك وتباينَت، فإنما يكون ذلك من حيث الصورة، والصورُ تختلف بين شيء وشيء، بحسَب مقادير الشكل فيهما، فهنالك مِن الأشياء ما هو ثنائي، وما هو ثلاثي، أو رباعي، وهكذا.
فمن الثنائيات: الهيولى والصورة، الجوهر والعرَض، العلة والمعلول، البسيط والمركَّب، المظلِم والمنير، المتحرِّك والساكن، العالي والسافل، الحارُّ والبارد، الرَّطْب واليابس، الخفيف والثقيل، الخير والشر، الصواب والخطأ، الذكر والأنثى؛ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
ومن الثلاثيات: الأبعاد الثلاثة؛ الطول والعرض والعمق، والمقادير الثلاثة؛ الخط والسطح والجسم، والأزمان الثلاثة؛ الماضي والحاضر والمستقبل، ودرجات الحق؛ الواجب والممتنِع والممكِن، والعلوم الثلاثة؛ الرياضية والطبيعية والإلهية.
ومن الرباعيات: الطبائع الأربع؛ الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، والأركان الأربعة؛ النار والهواء والماء والأرض، والأخلاط الأربعة؛ الصفراء والدم والبلغم والسوداء، والفصول الأربعة؛ الربيع والصيف والخريف والشتاء، والجهات الأربع؛ الشرق والغرب والشمال والجنوب، ومراتب العدد؛ آحاد وعشرات ومئات وألوف.
ومن الخماسيات: الخمسة الأجناس من الحيوان؛ الإنسان والطير والسابح والمشَّاء ذو الرجلين وذو الأربع، والذي ينساب على بطنه، والخمسة الأجزاء الموجودة في النبات؛ الأصل والعروق والورق والزهر والثمر، والخمسة الأيام الملقَّب أسماؤها بالعدد؛ الأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، والصلوات الخمس، والخمس القواعد التي بُني عليها الإسلام، والحروف المستعمَلة في أوائل السور القرآنية، فمِنها ما هو من حرف واحد، وما هو من حرفَين … إلى خمسة أحرف.
حتى إذا ما وصل «إخوانُ الصفا» في ذلك إلى العدد سبعة، وأخَذوا يَذكرون الأشياء «المسبِّعة» ذكَروا المسبِّعة أو السبعية من غُلاة الشيعة الذين ذهَبوا إلى أن النُّطقاء بالشريعة سبعة، وهم: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، ثم محمد المهدي سابع النُّطقاء (وهو عندهم الإمام)، وبين كل اثنَين من النطقاء سبعةُ أئمة.
واستطرد «الإخوان» هنا لِيُبينوا كيف جاءت الفِرَق الدينية كلُّها على أساس «العدد»، فهنالك الديانة الثنَوية كالمانوية التي جاءت مُصدِّقةً للمذهب الزرادشتي الذي يجعل للكون إلهَين: إله النور وإله الظلمة، وهما لذلك إله الخير وإله الشر، وإله للنهار وإله لليل، وهنالك الديانة المثلثة عند النصارى، وبالطبع هنالك الموحِّدون وهم المسلمون (ج٢٣، ص١٧٨–١٨٢).
«فما مِن عدد من الأعداد إلا وقد خلَق الباري جل ثناؤه جنسًا من الموجودات مطابقًا لذلك العدد؛ قلَّ أو كثر» (ج٣، ص٢٠٥).
٣٢
ونترك هذا الجانب الرياضي من وقفة إخوان الصفا، وهو جانبٌ — كما رأيتَ — امتزَج فيه الأساسُ العقلاني بالتهاويم الخرافية الشاطحة، وننتقل إلى جانبٍ آخر يصحُّ أن نقول عنه إنه جانب بيولوجي من وجهة النظر عندهم؛ وذلك أنهم حاوَلوا أولًا أن يُرتِّبوا الوجود إلى مراتبه العليا والسفلى، ثم أن يرَوا بعد ذلك الطريقةَ التي يَخلُص بها الأدنى من الأعلى آنًا، والأعلى مِن الأدنى آنًا آخر.
فمراتب الوجود الهابطة من أعلى إلى أدنى هي عندهم: أولًا الله الذي قالوا عنه إنه «الواحد» بلغة الرياضة التي قرَءوا بها الكون، ومن الواحد الأعلى خرج جوهرٌ روحاني بسيط في تكوينه، وهو ما أسموه بالعقل الفعال، وثالث المراتب مرتبة النفس التي صدرَت عن العقل الفعَّال، ولك أن تُسميَها كذلك بالعقل المنفعِل؛ لأنها قابلةٌ لتلقِّي الصور التي يُلهِمها إياها العقل الفعال كما يتلقى طالب العلم تعاليم أستاذه، ومن هذه النفس الكلية برَزَت مرتبة رابعة هي المادة الخالصة التي لم تتشكَّل، واسمها عندهم — كما هي تُسمَّى عادةً في مجال الفلسفة الناقلة عن أرسطو — «الهيولى»، ثم جاءت المرتبة الأخيرة وهي التي صِيغَت فيها تلك الهيولى الأولى في مقاديرَ معينة من حيث الطولُ والعَرضُ والعمق، فصارت بذلك جسمًا مطلقًا، أي إنه بعدئذٍ يكون قابلًا للتشكيل في مختلِف الأجسام التي نراها من حولنا.
ذلك هو الكون بمراتبه المتتالية هبوطًا، ولقد جاء الإنسان ليمثِّل — بمقياس مصغَّر — تلك المراحلَ نفسَها التي اجتازها العالم في نشأته، ومِن ثَم جاز لنا أن نُسمِّيَ الإنسان عالَمًا صغيرًا، او أن نسميَ العالَم كلَّه إنسانًا كبيرًا؛ لأن كلًّا منهما يعكس بحقيقته حقيقةَ الآخر، ومن أجل هذا التقابُلِ بين الجانبَين قيل إن الإنسان إذا أراد دراسة الكون، فما عليه إلا أن يَبدأ بدراسة نفسه؛ لأنه واجدٌ فيها نموذجًا مصغَّرًا (ج٣، ص١٨٩).
فإذا هممنا بدراسة كهذه، كان أول ما يلفت النظر، هو أن الإنسان — ومثله الكونُ في جُملته — وَحدةٌ عضوية يستحيل علينا أن نُحلِّلها إلى أجزاء مستقلٍّ بعضُها عن بعض وإلا بطَل وجوده على حقيقته، وفي ذلك يقول إخوانُ الصفا:
«ومن يريد أن يفهم حِكمَ العالم ومَجاريَ أموره في فروع الموجودات التي في العالم من أصولها، تلك الأصول من أصول أُخرَ قبلها، إلى أن تنتهيَ إلى أصل يجمعها كلَّها، كمثل شجرة واحدة لها عروق وأغصان، وعليها فروع وقضبان، وعلى تلك الفروع والقضبان أوراقٌ وتحتها نَوْرٌ وثمار لها لون وطعم ورائحة …
كمجرى حكم جنس الأجناس الذي تحته أنواع … وتحت تلك الأنواعِ أشخاصٌ كثيرة مختلِفة الصور والأشكال، والهيئاتِ والأعراض …
كمثل قبيلة لها شعوب ولشعوبها بطون، ولبطونها أفخاذ، ولأفخاذها عمائر، ولها عشائرُ وأقارب …
كمجرى حكم شريعة واحدة فيها مَفروضاتٌ كثيرة، ولتلك المفروضات سننٌ مختلفة، ولتلك السننِ أحكامٌ مُتبايِنة، ولتلك الأحكام حدودٌ مُتغايِرة يجمعها كلَّها دينٌ واحد، لأهله مذاهبُ مختلفة، ولكل أهل مذهب مقالاتٌ متغايِرة، وتحت كل قالةٍ أقاويلُ كثيرة مفنَّنة …
كمجرى حكم دُكَّانٍ لصانع واحد، وله فيه أدوات وآلات مختلِفة الصور، وله بها ومنها أفعال وحركات مفنَّنة، ومصنوعاتها مختلفات الصور والأشكال والهيئات، وقوة نفسه سارية فيها كلِّها، وحكمُه جارٍ عليها بحسَب ما يَليق بواحد واحدٍ منها …
كمجرى حكم دارٍ، فيها بيوت وخزائنُ، وفي تلك الخزائن آلاتٌ وأوانٍ وأثاثٌ لرب الدار، وله فيها أهل وخدم وغِلمان، وحُكمُه جارٍ فيها وفيهم جميعًا …
كحكم مدينة حولها أسوار، وفي داخلها محالُّ وخاناتٌ ونَواحٍ فيها شوارعُ وطرقات وأسواق، في خلالها منازلُ ودُورٌ فيها بيوت وخزائنُ فيها أموال وأمتعة وأثاث وآلات وحوائج، يملكها كلَّها ملكٌ واحد، له في تلك المدينة جيوشٌ ورعية وغلمان وحاشية وخدَم وأتباع، وحكمُه جارٍ في رؤساء جنده وأشرافِ مدينته …» (ج٣، ص٢١٢–٢١٦).
وأظنه وصفًا أبرعَ ما يكون الوصفُ من الناحية الأدبية، تصويرًا لفكرة الوحدة العضوية التي تضمُّ الكون كلَّه في كائن واحد، تَجري فيه نفسٌ كلية واحدة غير منقسمة، برغم ما ينشعب عنها من فروع، فهي — هذه النفس الكلية الواحدة الشاملة — «كجنس الأجناس، والأنفس البسيطة كالأنواع لها، والأنفس التي دونها كنوع الأنواع، والأنفس الجزئية كالأشخاص، مرتَّبةً بعضُها تحت بعض كترتيب العدد؛ فالنفس الكلية كالواحد، والبسيطة كالآحاد، والجنسية كالعشرات، والنوعية كالمئات، والأنفس الجزئية الشخصية كالألوف، وهي التي تختصُّ بتدبير جزئيات الأجسام» (ج٣، ص٢١٦).
وما الذي جعل النفس الجزئيةَ آخِرَ الأمر تَدخل جسمًا فتكون به شخصًا معينًا محدَّدًا بمكان وزمان، بعد أن كانت حرةً طليقة؟ هنا نجد لفْتةً جميلة من إخوان الصفا، يُفرِّقون بها بين إنسان صغير القدر وإنسان آخرَ ذي همة وقدرٍ عظيمَين؛ فقد كان المألوفُ — في علاقة النفس بجسَدِها — أن يُقال إن الجسد سجن والنفس سجينة فيه تُريد الفكاك، أما إخوان الصفا فيفرقون في ذلك بين حالة وحالة؛ «فليس كل نفس ورَدَت إلى عالم الكون والفساد تكون محبوسةً فيه، كما أنه ليس كلُّ ما دخل الحبس يكون محبوسًا فيه، بل ربما دخل الحبسَ مَن يقصد إخراج المحبوسين منه، كما أنه قد يَدخل بلادَ الروم مَن يستنقذ أسارى المسلمين، وإنما وردَت النفوسُ النبوية إلى عالم الكون والفساد لاستنقاذِ هذه النفوس المحبوسة في حبس الطبيعة الغريقة في بحر الهيولى، الأسيرة في الشهوات الجسمانية» (ج٣، ص٢١٨).
ومرة أخرى يعود إخوان الصفا إلى «العدد» يُفسِّرون به — في تسلسله — ترتيب الموجودات في هذا الكون الأرضي ترتيبًا يُخرج أعلاها من أسفلها، مما يحقُّ لنا تسميته بنظرية للتطوُّر عندهم؛ يقولون:
«الموجودات … مرتَّبة بعضها تحت بعض، متصلٌ أواخِرُها بأوائلها كترتيب العدد …
بيان ذلك أن المعادن متصلةٌ أوائلها بالتراب، وأواخرها بالنبات، والنبات متصل آخره بالحيوان، والحيوان متصل آخره بالإنسان، والإنسان متصل آخره بالملائكة …
وأما أواخر المعادن مما يَلي النباتَ فهو الكَمْأة والفِطْر وما شاكلَ ذلك، وذلك أن هذا الجنس مِن الكائنات يتكوَّن في التراب كالمعدِن، ثم ينبت … كما ينبت النبات، ولكن مِن أجل أنه ليس له ثمرة ولا ورقة، ويتكون في التراب كما تتكوَّن الجواهر المعدنية وعلى أشكالها، صار يُشبِه المعادن، ومن جهةٍ أخرى يُشبِه النبات …
وأما النبات، فأقول: إن هذا الجنس من الكائنات متصلٌ أوله بالمعدن … وآخره بالحيوان …
والنخل آخر مرتبة النباتية، ما يلي الحيوانية، وذلك أن النخلَ نباتٌ حيواني؛ لأن بعض أفعاله وأحواله مُبايِن لأحوال النبات وإن كان جسمه نباتيًّا، بيان ذلك أن القوة الفاعلة فيه منفصلة من القوة المنفعلة، والدليل على ذلك أن أشخاص الفحولة منه مباينة لأشخاص الإناث … وأيضًا فإن النخل إذا قُطعَت رءوسها جفَّت وبطَل نموُّها ونشوءها وماتت …
وأول مرتبة من الحيوانية متصلة بآخر النبات … فأَدْون الحيوان وأنقصه هو الذي ليس له إلا حاسة واحدة فقط، وهو الحلَزون … فليس للحلزون سمعٌ ولا بصر ولا شم ولا ذوق، إلا اللَّمْس فحَسْب … لأن الحكمة الإلهية لا تُعطي الحيوان عضوًا لا يحتاج إليه في جرِّ المنفعة أو دفع المضرَّة … فهذا النوع (أي دودة الحلزون) حيواني نباتي؛ لأنه ينبت جسمه كما ينبت بعض النبات، ويقوم على ساقه قائمًا، وهو من أجل أن يحركه حركة اختيارية حيواني، ومن أنه ليست له إلا حاسة واحدة فهو أنقصُ الحيوانات رتبة في الحيوانية …
مرتبة الحيوانية مما يلي الإنسانية، ليست من وجه واحد، ولكن مِن عدة وجوه؛ وذلك أن رتبة الإنسانية لما كانت مَعدِنَ الفضائل، وينبوع المناقب، لم يستوعبها نوعٌ واحد من الحيوان، ولكن عدة أنواع، فمنها ما قارب رتبة الإنسانية بصورة جسده مثل القرد، ومنها بالأخلاق النفسانية كالفرس …
وأدْوَن رتبة الإنسانية مما يلي الحيوانية هي رتبة الذين لا يَعلمون من الأمور إلا المحسوسات، ولا يَعرفون من الخيرات إلا الجسمانيات …» (ج٣، ص٢٢٤–٢٢٩).
٣٣
وأعتذر للقارئ عن وقفة طويلة عند موضعٍ من رسائل إخوان الصفا، جذبَني إلى قراءته جذبًا؛ لما فيه من طَلاوة عرضٍ وجِدَّة فكرة، فلئن كان العرض ذا طابَع فنيٍّ يُحيله إلى قطعة من الأدب الفلسفي، فإن الفكرة عقلية موغِلة في عقلانيتها، ولا يَستطيعها إلا مَن أُوتوا رجاحة العقل التي تُمكِّنهم من تحطيم المألوف ليتسنَّى لهم النظر الموضوعيُّ الخالص.
وإنما قصدتُ تلك الصفحاتِ الطِّوالَ من الجزء الثاني، تلك الصفحات التي أجرى فيها كاتبوها مُحاكمة بين بني الإنسان وأنواع الحيوان؛ إذ تَرفع هذه الأنواعُ الحيوانية شَكاتها إلى وليِّ الأمر مما تُعانيه من الإنسان، رافضةً أن يكون للإنسان فضلٌ عليها من حيث إنها هي وهو معًا صَنعة الله، فيسأل وليُّ الأمر بني الإنسان ماذا يقولون دفاعًا عن أنفسهم، ويُجيبون بما يظنُّونه مؤيدًا لموقفهم من آيات القرآن الكريم، لكن الحيوان سرعان ما يجد التأويلَ لهذه الآيات تأويلًا يُبين أن الإنسان قد جاوز حدود الحق حين فهمها على الوجه الذي فهمها به، وأما وليُّ الأمر هنا فلا هو إنسان ولا حيوان، ليكون محايِدًا في نظره وحُكمه بين الطرَفين؛ إذ هو ملكٌ من الجان يُقال له «بيراست الحكيم».
وتبدأ الصورة الأدبية الرائعة هذه، بأن جعلَت مقر «بيراست الحكيم» جزيرة في وسط البحر الأخضر مما يَلي خطَّ الاستواء، وهي طيِّبة الهواء والتربة، فيها أنهار عذبة وعيون جارية وأشجار مختلِفة ألوانُها وثمارها، وحدث ذاتَ يوم أن طرحَت الرياحُ العاصفة مركبًا من سُفن البحر إلى ساحل تلك الجزيرة، وكان على المركب قومٌ من التُّجار والصناع وأهل العلم، فخرجوا من مركبهم إلى أرض الجزيرة وطافوا بها، فرأَوا فيها من ضروب النبات ومن صنوف الحيوان من بهائمَ وأنعام، وطيورٍ وسباع، ووحوش وهوامَّ وحشرات، وكان الكل يألف الكلَّ ويأنس له، فاستطاب القوم الجزيرة وما عليها، واستوطنوا بها، وأخذوا يَبنون ويُعمرون وينشطون بحياتهم على نحوِ ما اعتادوا في بلادهم أن يفعلوا، وعندئذٍ لم تأخذهم رِيبة من أنفسهم حين تعرَّضوا لما استطاعوا أن يتعرضوا له من صنوف الحيوان ليستخدموها ولِيَركبوها، حتى فزعت صنوف الحيوان لهذه المصيبة التي نُكِبَت بها من حيث لا تدري، لكن هؤلاء الناس تعقَّبوها حتى أمسَكوا بها وأعادوها معهم لتكون مُسخَّرة لأغراضهم.
فجمَعَت البهائم والأنعام زعماءها وخطباءها، وذهبَت إلى «بيراست الحكيم» — ملك الجن — وشكَت إليه ما لقيت من جَور بني آدم، وتعدِّيهم عليها، واعتقادهم فيها بأنها عبيد لهم، فبعث ملك الجن رسولًا إلى أولئك القوم ودعاهم إلى حضرته، فذهبَت منهم طائفة عدادها نحوُ سبعين رجلًا، اختاروهم ممن ينتمون إلى بلدان شتى، فلما مَثُلوا بين يدَيْ ملك الجن، قال لهم على لسان ترجمان: ما الذي جاء بكم إلى بلادنا؟
قال قائل منهم: دعانا ما سَمِعنا من فضائل الملك وعدله، وها نحن أولاءِ بين يديه ليحكم بيننا وبين عبيدنا الآبِقين من صنوف البهائم والأنعام.
فقال الملك: بيِّنوا ما تريدون.
قال زعيم الإنس: نقول إن هذه البهائمَ والأنعام والسِّباع والوحوش أجمعَ عبيدٌ لنا، ونحن أربابها، لكننا نراها إما هاربة آبقة عاصية، وإما مطيعة وهي كارهة منكِرة لحقوقنا فيها.
قال الملك: وما حُجتك فيما زعَمت للإنس من سلطان عليها؟
قال الإنسيُّ: لنا على ذلك دلائلُ شرعية سمعية على ما قلنا، وحجج عقلية تؤيد ما زعمنا.
[هنا يَمضي النص فيقول: قام الخطيب من الإنس من أولاد العباس، ورَقِي المنبر، وخطب الخطبة، وقال: … مما يؤكد أن الصورة الرمزية كلها إنما صِيغَت من قَبيل الثورة على حُكم العباسيين وما يلقاه الناس منهم من صنوف الجور، وكأنما هؤلاء الناس عبيد لهم (راجع ج٢، ص٢٠٦ وما بعدها).]
وبالطبع كان مما أورده المتكلِّم تأييدًا لزعمه السيادةَ على الحيوان قولُ الله عز وجل: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وقوله تعالى: وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وقوله تعالى: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ وقوله: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً … آيات كريمة تدل كلُّها على أن صنوف الحيوان إنما خُلِقَت للإنسان ومن أجله.
فتوجَّه الملك بالسؤال إلى جماعة الحيوان: قد سمعتم يا معشرَ البهائم والأنعام ما قال الإنسيُّ من آيات القرآن، فاستدل بها على دعواه، فماذا تقولون في ذلك؟
فقام عند ذلك زعيمها — وهو البغل — وقال: ليس في شيء مما قرَأ هذا الإنسيُّ من آيات القرآن دلالةٌ على ما زعم من أنهم أربابٌ لنا ونحن عبيدٌ لهم، إنما هي آيات تُذكِّرهم بما أنعم الله عليهم به، فقال لهم: سَخَّرَهَا لَكُمْ كما قال: «سخر الشمس والقمر والسحاب والرياح» أفترى أيها الملك بأنها قد أصبحَت بذلك عبيدًا للإنسان؟ وأن الناس هم أربابها؟ ألا إن الله تعالى خلق كل ما في السموات والأرض، وجعلها مُسخَّرةً بعضها لبعض، إما لجلب المنفعة أو لدفع الضرر.
واستطرد زعيم البهائم ليقول: أيها الملك! كنا نحن وآباؤنا سكانَ الأرض قبل خلق آدم أبي البشر، قاطِنين في أرجائها، تذهب وتجيء كلُّ طائفة منا في بلاد الله طلبًا للعيش، كلٌّ منا مقبل على شأنه في مكان يُوافِق مآربه من برِّيةٍ أو أجَمة أو جبل أو ساحل أو تِلال أو غياض أو رمال، آمِنين في أوطاننا، مُعافَين في أبداننا، ومضَت على ذلك الدهورُ والأزمان، حتى جاء بنو آدم، وانتشروا في الأرض برًّا وبحرًا وسهلًا وجبلًا، وضيَّقوا علينا الأماكن والأوطان، وأخذوا منا مَن أخذوا أسيرًا، من الغنم والبقر والخيل والبغال والحمير، وسخَّروها واستخدموها وأتعَبوها بالكدِّ والعناء في الأعمال الشاقة، من الحمل والركوب والشدِّ في الدواليب والطواحين بالقهر والضرب والهوان وألوانٍ من العذاب طول أعمارنا، فهرَب منا مَن هرب في البراري والقفار ورءوس الجبال، لكنَّ بني آدم تعقَّبونا حتى وقع في قبضتهم منا من وقع، فشدوه بالغُلِّ والقيد، والقنص والذبح والسلخ، وشق الأجواف وقطع المفاصل، ونتف الريش وجزِّ الشعر والوبر، ثم نار الطبخ والوقد والتشوية، وألوان من العذاب لا يبلغ الوصفُ كُنهَها.
فسأل الملك زعماء الإنس (بعد أن حصَّن نفسَه بأعوانه وجنده من قبائل الجن): ما تقولون فيما تَحكي هذه البهائمُ والأنعام من الجَور، وما يَشكون من الظلم والعدوان؟
فقال زعيم الإنس: نقول إن هؤلاء عبيدٌ لنا ونحن مَواليها، ولنا أن نتحكَّم عليها تحكُّم الأرباب.
فقال الملك للإنسي: إن الدعاوى لا تصحُّ عند الحكام إلا بالبينات، ولا تُقبَل إلا بالحجة الواضحة.
فقال الإنسيُّ: إن لنا حُججًا عقلية ودلائلَ فلسفية تدل على صحة ما قلنا.
قال الملك: ما هي؟
قال الإنسيُّ: حُسنُ صورتنا، وتقويم هيكلنا، وانتصاب قامتنا، وجودة حواسِّنا، ودقة تمييزنا، وذكاء نفوسنا، ورجحان عقولنا.
فقال الملك لزعيم البهائم: ما تقول فيما قال الإنسيُّ؟
قال: ليس شيء مما قال بدليل على ما ادعى.
قال له الملك: كيف؟ أليس انتصابُ القيام واستواء الجلوس من شِيَم الملوك، وانحناء الأصلاب والانكباب على الوجوه من صفات العبيد؟
قال زعيم البهائم: إن الله — جل ثناؤه — ما خلَقَهم على تلك الصورة لتكون دالَّة على أنهم أرباب، ولا خلَقَنا على هذه الصورة لتكون دلالة على أننا عبيد، ولكن لعلمه واقتضاء حِكمته بأن تلك البِنْية هي أصلحُ لهم، وهذه أصلحُ لنا، وبيانُ ذلك أن بَني آدم عُراة بلا ريش على أبدانهم، ولا وبر ولا صوف على جلودهم يَقيهم الحرَّ والبرد، ولما كانت أرزاقهم من ثمر الأشجار، ودِثارهم من أوراقها، وكانت الأشجار منتصبة في جوِّ الهواء؛ خُلِقَت قامة بني آدم منتصِبةً ليسهل عليهم تناولُ الثمر والورق منها، وأما نحن فلأن أرزاقنا من حشيش الأرض، فقد جُعِلَت أبداننا منحنِية؛ ليسهل علينا تناولها، وإذن فلا أحسنَ ولا أردأ في هذا الاختلاف، بل هي طبيعةُ العيش في كلتا الحالتين وما تَقتضيه.
فقال الملك لزعيم البهائم: وماذا تقول في قول الله عز وجل: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ؟
فقال الزعيم: الآية تَعني أنه خلَقه في تناسُب تام مع ظروفه، فلم يجعله طويلًا دقيقًا، ولا قصيرًا لزيقًا، بل ما بين ذلك، وكذلك الأمر معَنا؛ فنحن من هذه الناحية سواء.
قال الإنسيُّ لزعيم البهائم: من أين لكم اعتدالُ القامة واستواءُ البِنْية وتناسب الصورة، وقد نرى الجمل عظيمَ الجثة، طويل الرقبة، صغير الأذنَين، قصير الذنَب، ونرى الفيل عظيم الخِلقة، طويل النابَين، واسع الأذنَين، صغير العينَين؟ …
فأجاب زعيم البهائم: ذهب عليك — أيها الإنسيُّ — أحسَنُها، وخفي عليك أحكمُها، أما علمتَ أنك لما عِبتَ المصنوع فقد عِبت الصانع؟ أوَلا ترى بأن هذه كلَّها مصنوعاتُ الباري الحكيم، خلَقها بحكمته لعللٍ لا يعلمها إلا هو والراسخون في العلم؟ فإذا كان الجمل طويلَ الرقبة، فلكي يكون ذلك مناسبًا لطول قوائمه لينال الحشيش من الأرض، وليبلغَ مِشفَرُه إلى سائر أطراف بدنه فيحكَّها، وأما خُرطوم الفيل فعِوَضٌ عن طول الرقبة، وكِبر أذنيه ليذبَّ البق والذباب عن مآقي عينَيه وفمه، إذ كان فمه مفتوحًا أبدًا لا يمكنه ضم شفتَيه لخروج أنيابه منه، وأنيابه سلاحٌ له يمنع بها السباعَ عن نفسه … وأما الذي ذكرتَ — أيها الإنسيُّ — من حسن الصورة، وافتخرتَ به علينا، فليس فيه شيء من الدلالة على ما زعمتَ بأنكم أرباب ونحن عبيد، فإذا كان حُسن الصورة شيئًا مرغوبًا فيه لِتنجذب ذكورُكم إلى إناثكم، وإناثكم إلى ذكوركم، فلنا كذلك ما يُنتج هذا التجاذب بين ذكورنا وإناثنا.
وأما الذي ذكرتَه من جودة حواسكم ودقة تمييزكم، وافتخرتم به علينا، فليس ذلك لكم خاصةً تنفردون به دون سائر الحيوان، لأن فيها ما هو أجودُ منكم حاسةً وأدقُّ تمييزًا، فالجمَل يرى موضع قدَمَيه في الطرقات الوعرة في ظُلَم الليل، مما لا يرى أحدكم إلا بسِراج، وترى الفرَسَ الجواد يَسمع وطْء الماشي من البُعد في ظلمة الليل، حتى إنه ربما نبَّه صاحبَه من نومه بركضه رِجلَه حذرًا عليه من عدوٍّ أو سَبُع …
وأما الذي ذكرتَه من رجحان العقول، فلسنا نرى له أثرًا أو علامة؛ لأنه لو كان لكم عقولٌ راجحة لما افتخَرتم علينا بشيء ليس هو من أفعالكم، وإنما العقلاء يَفتخرون بأشياء هي أفعالهم؛ من صنائعَ وأفكار، وعلومٍ ومذاهب، ومن استقامةٍ وعدل.
قال ملك الجن للإنسيِّ: قد سمعتَ من زعيم البهائم جوابه، فهل عندك شيءٌ غير ما ذكرتَ؟
فقال الإنسيُّ: نعم، هنالك مَناقبُ غير ما ذكرتُ، تدلُّ على أننا أرباب وهم عبيد لنا؛ فمِن ذلك بيعنا وشراؤنا لها، وإطعامُنا وسَقيُنا لها إذا مَرِضَت، وندفع عنها السباع أن تَفترسها …
قال زعيم البهائم: أما قوله إنا نبيعها ونشتريها، فهكذا يفعل أبناءُ فارس بأبناء الروم، وأبناء الروم بأبناء فارس، إذا ظفر بعضُهم ببعض، أفترى أيهم العبيد وأيهم الموالي والأرباب؟ وهكذا قل في أبناء السِّنْد مع أبناء الهند، وفي أبناء الحبشة مع أبناء النوبة، وفي الأعراب والأكراد والأتراك، فأيُّ هؤلاء وأولئك العبيد؟ وأيهم الموالي بالحقيقة؟ وهل هي إلا دولٌ ونُوَبٌ تدور بين الناس؟ وأما الذي ذكره الإنسيُّ بقوله: إنا نُطعِمها ونسقيها وبقية ما ذكره من سائرِ ما يفعلون بنا، فليس ذلك لشفقةٍ علينا منهم، بل مخافةَ أن نَهلِك فيَخسَروا أثماننا وتَفوتهم منافعُنا لهم.
وهنا تكلم الحِمار ليؤيد البغل زعيم البهائم، فقال: أيها الملك! لو رأيتَنا ونحن أسارى في أيدي بني آدم، موقَرةٌ ظهورُنا بأثقالهم، وبأيديهم العصا والمقارع يضربون أدبارنا بحنَقٍ وعنف وضجر، لرَحِمتَنا، فأين الرحمة بنا التي زعَمها الإنسيُّ؟
وعقب الثور فقال: لو رأيتنا أيها الملك مَشدودين في دَواليبهم وأرْحِيتهم مغطَّاةً وجوهُنا، وهم مع ذلك يضربوننا، لرَحِمتَنا، فأين الرأفة منهم علينا التي زعَمها الإنسيُّ؟
ثم تكلم الكبش فقال: لو رأيتَنا — أيها الملك — وبنو آدم يأخذون صغارنا، فيفرقون بينها وبين أمهاتها، لِيَأخذوا ألبان الأمهات لأولادهم، وليجلعوا أولادَنا مشدودةً أرجلُها وأيديها، محمولة إلى المذابح والمسالخ، جائعة عطشانة، تَصيح فلا تُرحَم، وتصرخ وتستغيث فلا تُغاث، ثم نراها مذبوحةً مسلوخةً مشقوقةً أجوافها، مفرَّقةً أعضاؤها ورءوسها وكروشها ومصارينها وأكبادها في دكاكين القصَّابين، مقطعةً بالسواطير مطبوخةً في القدور، مشويةً في التنُّور، ونحن سُكوت لا نبكي ولا نشكو! فأية رحمة علينا منهم كما زعم الإنسيُّ؟
وبمثل هذا تكلم الجمل، وتكلم الفيل، وتكلم الفرَس، ثم تكلم كذلك البغلُ زعيمهم …
فلما فرَغ البغل من كلامه، الْتفتَ الجمل إلى الخنزير، فقال له: قم وتكلم واذكر ما تلقَوْن — معشرَ الخنازير — من جَور بني آدم.
فقال حكيمٌ من حكماء الجن: لا، لعَمْري ليس الخنزير من الأنعام بل مِن السباع، ألا ترى أنَّ له أنيابًا ويأكل الجِيَف؟ وقال قائلٌ آخرُ من الجن: بل هو من الأنعام، ألا ترى أنَّ له ظِلْفًا ويأكل العُشب والعَلف؟ ثم قال ثالث: بل هو مركَّبٌ من السباع والأنعام والبهائم، مثل الزرافة، فهي مركَّبة من الحمار والجمل.
فقال الخنزير للجمل: والله ما أدري ما أقول، من كثرة اختلاف الرأي في أمرنا، ألم تسمع كيف اختلف فينا حُكماء الجن؟ وأما الإنس فهم أكثر اختلافًا؛ فالمسلمون يقولون إنا مَمسوخون ويَستقذرون لُحومنا، وأبناء الروم يتَنافسون في أكل لحومنا، واليهود يَلعنوننا من غير ذنب منا إليهم، لكن لعداوةٍ بينهم وبين النصارى …
هكذا لبث الحوار قائمًا وممتعًا، حتى إذا ما فرَغ الفريقان مما أرادا قوله، سأل ملكُ الجن مُستشاريه من الحكماء، فكاد الرأيُ يلتقي عند فكرة رأوها عادلة، وهي أن الحق هو في جانب صنوف الحيوان، وأن بَني آدم جائرون بالحيوان ظالمون، وإذن فالصواب هو أن يأمر الملكُ البهائمَ والأنعام الأسيرة في أيدي بني آدم أن تهرب كلُّها في ليلة واحدة، وتبعد من ديار بني آدم كما فعلت حُمر الوحش والغزلان والسباع.
لكن رئيس الحكماء نبَّه الحاضرين إلى أمر يجعل ذلك الهرب مستحيلًا؛ لأن الآدميِّين يُقيِّدون ما في حوزتهم من بهائمَ وأنعام، أثناء الليل، ويُغلِّقون دونها الأبواب، فاقترح أحدهم أن يَبعث الملك بقبائلَ من الجن يفتحون الأبواب المغلقة ويفكون القيود ويَخبِلون حُرَّاسها إلى أن تبعد البهائم وتنجو.
•••
هذه صورة واحدة قبستُها للقارئ لأُقدِّم له بها صورةً عن طريقة إخوان الصفا في استخدامهم للحيوان رمزًا يرمزون به إلى ما يُريدون أن يقولوه، وهي طريقة تجدها شائعةً في رسائلهم، وخصوصًا في الجزء الثاني الذي نقلنا عنه هذه الصورة التي قدَّمْناها، وأول ما يتبادر إلى ذهن القارئ هنا، أن إخوان الصفا أرادوا شيئًا كالذي أراده «جورج أورويل» — الأديب الإنجليزي المعاصر — في كتابه «مزرعة الحيوان»، ففي هذا الكتاب يَجمع الكاتبُ حيوان المزرعة لتتبادل الرأي فيما بينها عما عساها فاعلة تجاه صاحب المزرعة الذي يَستغلُّها لنفسه أبشع استغلال؟ فلماذا لا يكون لها رأيٌ في حياتها، فتؤدي ما توافق هي على أدائه، وتمتنع عما تريد أن تمتنع عنه؟ وواضحٌ من الكتاب أن «أورويل» يَسخر من الشيوعية في تصوُّرها بأن العُمَّال يجب أن يَثوروا على صاحب المصنع، كما يجب أن يكون لهم الرأيُ الأول في إدارة ذلك المصنع؛ إذ لا مُبرِّر على الإطلاق أن يكون كلُّ الجهد المبذول جهدَها، وكلُّ الثمرة العائدة لصاحب المال الذي لا يُحرِّك ساعِدَيه بعمل … وربما أخطأ «أورويل» فيما تصوره وصوَّره، وربما أصاب؛ فليس هذا موضوعنا الآن، لكن ما أردنا الإشارة إليه هو هذا الشبَه الشديد بين الصورة التي رسمها «الإخوان» لمجتمع الحيوان وهو يشكو ظلم الإنسان به واستغلالَه له، وبين تلك التي رسَمها «أورويل» لهذا المجتمع الحيواني وقد أخذَت أفراده تتشاور فيما تصنعه إزاء ظلم صاحب المزرعة.
ولئن كان «أورويل» قد رمز بصورته تلك إلى أوجُه النقص في مذهب الشيوعية، فليس لدينا شكٌّ في أن إخوان الصفا كذلك رمَزوا بصورتهم التي قدَّموها إلى أوجه الجَور والعسف في حكم بني العبَّاس، فقد وردَت إشارةٌ تكاد تقطع بذلك — ولقد جذَبْنا انتباهَ القارئ إليها في حينها — والذي يَبقى على دارسي التاريخ العربي والأدب العربي، هو أن يتقصَّوْا لنا معانيَ الرموز التفصيلية إن كان لها مِن معانٍ، فمن ذا الذي يَرمزون إليه بالبغل، وهو كما رأينا في الحوار السابق زعيمُ البهائم والناطق باسمها، ثم مَن يكون الحمار؟ والثور؟ والكبش؟ والجمل؟ والفيل؟ والفرَس؟ والخِنزير؟ … ألَا إننا لو فكَكْنا هذه الرموز لنطَقَت لنا الصورةُ الأدبية بما يُفصِح عن دخائل الحياة العربية عندئذ (القرن العاشر الميلادي) والحياة السياسية منها بوجهٍ خاص.
وأيًّا ما كان الأمر، فكم كنا نوَد لِوقفتنا مع إخوان الصفا أن تَطول أكثرَ مما طالت، لكنَّ قطرة من البحر قد تُغني بطعمها عن البحر كلِّه، ويكفينا أن هذه الجماعةَ من الأصدقاء كانت في عصرها لِسانًا مُعبِّرًا عن أشياء كثيرة حولها، فأولًا: قد لخَّصَت لنا أجودَ تلخيص حياةَ العلم والعلماء في عصرها، وثانيًا: يمكن اعتبارُها طليعة تقدُّمية إذا قِسْناها بتيارات كثيرة حولها أرادت أن تشدَّ الناس شدًّا إلى الوراء، وحسبُنا هذه الوقفة من الحيوان التي وقَفها «الإخوان» والتي ربما قصَدوا بها إلى تمجيد الحياة كائنًا ما كان لَبُوسها، أو إن شئتَ فقل: تمجيد الباري في كل كائن مِن خلقه، فكل كائن حي هو في ذاته آيةٌ تستحق التمجيد، ولا يَفوتني في نهاية الحديث عن «الإخوان» أن أُشير إلى أسلوب الرمز الذي كان مألوفًا عند الباطنية والصوفية والشيعة، فهؤلاء جميعًا لم يُريدوا أن يأخذوا الأمورَ من سطحها الظاهر، بل كانوا أميلَ إلى «تأويل» كل ما يُصادِفهم من آيات الكتاب الكريم في إشارتها إلى كائنات الأرض والسماء، وكثيرًا ما يدل استنطاقُ الرموز وتأويلُها لتكشف عن حقيقتها المستورة، على ذكاء شديد ممن يَضْطلع بالمحاولة، وهكذا كانت الحالُ عند إخوان الصفا كلَّما رمَزوا بقصةِ عما يُريدونه، وكلما أولَوْا رموزًا لِيَكشفوا عما وراءها.
كانت نظرةُ الإخوان إلى كثير من المسائل نظرة عقلية فيها نفاذٌ ودقةُ تحليل، لكن ذلك لم يَمنع من ورود لحظات كثيرة جدًّا قد تُنبئ بأنهم لم يَكونوا من العقلانيين الخُلَّص، بل مزَجوا عقلانيتهم بكثيرٍ من النظرات اللاعقلية القائمة على احترام ما هو كائنٌ بين أيديهم من التقليد؛ لأنه كائنٌ وكفى، فانظر — مثلًا — إلى موقفهم من «السحر والطَّلْسمات» جاعِلين إياها «عِلمًا» من العلوم! بل إنهم ليَعجَبون ممن تنكَّر لها بين مُعاصِريهم، فقد ورد عن السحر والطلسمات (الجزء الرابع، ص٢٨٤ وما بعدها) كلامٌ كثير يَسوده التصديق، ويبدأ حديثُهم في هذا الموضوع هكذا: «واعلم أيها الأخُ — أيدك الله — أننا رأينا اليوم أكثرَ الناس المتغافِلين إذا سمعوا بذكر السحر، يَستحيل واحد منهم أن يُصدَّق به، ويتكافرون بمن يجعله من جملة العلوم التي يجب أن يُنظَر فيها أو يُتأَدَّب بمعرفتها، وهؤلاء هم المتعالِمون والأحداث من حكماء دهرنا المتخلِّفين والمدَّعين بأنهم من خواص الناس المتميِّزين؛ وذلك لأنهم لما رأَوا بعض المتعامِلين بهذا العلم، والخائضين في طلبه من غير معرفةٍ له إمَّا أبلهُ قليل العقل، أو امرأة رَعْناء، أو عجوزًا خَرِفة بلهاء، فرفَعوا أنفسهم عن مشاركةِ مَن هذه حاله، إذا سمعوا بذكر السحر والطلسمات، أنفةً منهم؛ لئلا يُنسَبوا إلى الجهل وإلى التصديق بالكذب والخرافات»، ألا ليتهم ترفَّعوا كما ترفَّع أولئك الذين وردَت الإشارة إليهم دون أن نعرف مَن هم! ولكن «إخواننا» صورة «لعقل» عصرهم بما شابَ ذلك العصرَ من قوة وضعف.
٣٤
كان أبو حيان التوحيدي، الذي عاش في النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي — في كتابه «الإمتاع والمؤانسة» هو الذي كشَف للناس عن شخصيات إخوان الصفا؛ إذ لبثوا في طيِّ الكتمان حتى أذاع هو سِرَّهم، وإذن فمِن الملائم — وقد ختَمْنا لقاءنا مع هؤلاء الإخوان — أن نقابل هذه الشخصيات الفذة، أبا حيَّان التوحيدي، وليكن لقاؤنا معه، أساسًا، على صفحاتِ مؤلَّفِه ذي الأجزاء الثلاثة في طبعته الحديثة: «الإمتاع والمؤانسة»، وسوف نرى أننا إذ نتحرك مع هذا الكتاب صفحةً بعد صفحة، وموضوعًا بعد موضوع، أننا إنما نتحرك في صميم الحياة الثقافية العربية حينئذ، فنَلقى القوم في اهتماماتهم الفكرية، وفي طريقة معالجتهم لتلك الاهتمامات.
كان أبو حيان التوحيديُّ بائسًا في حياته وبعد مَماته، أما في حياته فقد عاش فقيرًا، وأما بعد موته فلم يَجِد من المؤرِّخين مَن يُترجِم له ترجمة وافية، وذلك برغم اتِّساع آفاقه وعُمق أغواره، حتى لَيُعد الفيلسوفَ الأديب المعبِّر عن ثقافة النصف الثاني من القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، فاسمَعْ هذه الرسالةَ الحزينة التي يَختم بها الجزء الثالث من كتاب الإمتاع والمؤانسة، موجِّهًا إياها إلى صديقه أبي الوفاء المهندس، الذي كان له فضلُ تقريبه من الوزير أبي عبد الله العارض، وهو الوزير الذي قِيلَت في حضرته أحاديثُ السمر الثقافي التي جُمِعَت في كتاب الإمتاع والمؤانسة هذا؛ فهو يقول في رسالته تلك: «خلِّصْني أيها الرجل من التكفُّف، أنقذني من لبس الفقر، أطلِقْني من قيد الضر، اشتَرِني بالإحسان، اعتبِدْني بالشكر، … اكفِني مَئونة الغداء والعشاء، إلى متى الكُسَيرة اليابسة، والبُقَيلة الذاوية، والقميص المرقَّع …؟ إلى متى التأدُّم بالخبز والزيتون؟ … اجبُرني فإنني مكسور، اسقني فإنني صَدٍ، أغِثْني فإنني ملهوف، شهِّرني فإنني غُفْل، حَلِّني فإنني عاطل، قد أذلني السفر من بلد إلى بلد، وخذَلني الوقوف على بابٍ باب، ونَكِرَني العارف بي، وتباعد عني القريبُ مني …»
ولعل أبا الوفاء المهندس قد استجاب إلى استغاثة أبي حيان فأغاثه، بأن قدَّمَه إلى الوزير أبي عبد الله العارض، فجعله الوزيرُ من سُمَّاره، وسامره أبو حيان ثمانيَ وثلاثين ليلة [هكذا يقول ناشِرا الكتاب، لكني عدَدتُ هذه اللياليَ فوجدتُها تبلغ تسعًا وثلاثين] وبعد ذلك طلَب أبو الوفاء من أبي حيان أن يُسجِّل كلَّ ما دار بينه وبين الوزير، وهكذا فعَل أبو حيان، فكان له — ولنا — من هذا كتاب «الإمتاع والمؤانسة».
هكذا يدور السمَر المسجَّل «الإمتاع والمؤانسة» على ليالٍ، لكلِّ ليلة موضوعٌ رئيسي يحدِّده الوزير بسؤال يُلقيه، ولكن سرعان ما يَستطرد ويتشعَّب، فيتناول أمورًا كثيرة منوَّعة، وغالبًا ما يَختتم ﺑ «مُلْحة الوداع».
في الليلة الأولى جرى السمر حول متعة الحديث، وخصائص الحديث الجيد، وكانت خلاصة الرأي المعروض، أن الحديثَ الجيد هو الذي يَجري على أحكام العقل، ويشتمل على فُكاهة، ويكون ذا جِدَّة وطرافة، وإن الإنسان ليَسأم من كل شيء إلا من الحديث الطليِّ؛ ففي المحادثة تلقيحٌ للعقول، وترويح للقلب، وتسريحٌ للهم، وتنقيح للأدب، وأما الموضوعات العرَضية التي تناولها الكلام في الليلة الأولى، فتحديدات لُغوية تفرق بين معنى كلمة «عتيق» ومعنى كلمة «قديم»، وذلك بمناسبة المقارنة بين الحديث الذي يكون فيه جديد، والحديث الذي يَقتصر على ذِكر القديم: «التعجب كلُّه منوط بالحادث، وأما التعظيم والإجلال فهُما لكل ما قدَّم»، وكذلك تناول أبو حيان بالتحديد معانيَ هذه الكلمات: حادث، ومُحدث، وحديث، وأخيرًا خُتِمت الليلة بمُلْحة الوداع، وهي نُكتة عن بنَّاء بنى جدارًا لرجل، وبينما هما مُختلِفان على الأجر، سقط الجدار، فقال الرجل للبنَّاء: هذا عملك الحسن؟ فقال البنَّاء: وهل أردتَ أن يبقى الجدارُ ألف سنة؟ فأجاب الرجل: لا، ولكن كان يبقى إلى أن تستوفيَ أجرتك.
ويدور حديثُ الليلة الثانية حول شخصيات بارزة يومئذ في ميادين العلم والأدب، يصفُهم أبو حيان للوزير ويقول رأيه فيهم: فمِنهم أبو سليمان المنطقي الذي يقول عنه: «أما شيخنا أبو سليمان فإنه أدقُّهم نظرًا، وأقعَرُهم غوصًا، وأصفاهم فِكرًا، وأظفرهم بالدُّرر، وأوقفهم على الغُرر، مع تقطُّعٍ في العبارة، ولُكْنةٍ ناشئة من العُجمة، وقلةِ نظر في الكتب، وفَرْط استبداد بالخاطر، وحُسن استنباط للعويص، وجُرأة على تفسير الرمز، وبخل بما عنده من هذا الكنز.»
ومنهم ابن زُرعة، فهو: «حسَن الترجمة، صحيح النقل، كثيرُ الرجوع إلى الكتب، محمود النقل إلى العربية، جيِّد الوفاء بكل ما جلَّ من الفلسفة» ومنهم ابن الخمَّار، وابن السمح، والقومسي، ومسكويه الذي يَصِفه بقوله: «فقيرٌ بين أغنياء، وعَيِيٌّ بين أبْيِناء؛ لأنه شاذ …»
فطلب منه الوزير أن يُحدِّثه عن آراء هؤلاء العلماء في «النفس»، فأخذ أبو حيان يُفصِّل القول في ذلك، ومُلخَّص ما قاله: إنهم متفِقون على أن النفس جوهرٌ خالد، وكان مِن أدق ما قاله كذلك في العلم بمسائل الحكمة أنه وسطٌ بين اليقين الكامل وبين اليأس مِن المعرفة، وكذلك قال في علم الطب إنه وسط بين الصواب والخطأ، وفي الحياة إنها وسط بين السلامة والعطب، وكذلك فرَّق أبو حيان بين العلم والتعليم؛ «فالعلم صورة المعلوم في نفس العالم، وأنفُس العلماء عالمة بالفعل، وأنفُس المتعلمين عالمة بالقوة، والتعليم هو إبراز ما بالقوة إلى الفعل، والتعلم هو بروز ما هو بالقوة إلى الفعل»، وخُتِمَت الليلة بأربعة أبياتٍ في الغزل.
وفي الليلة الثالثة يَدور الحديث عن بعض رجال السوء، فبَهْرام «رجل مَجوسي مُعجَب زميم، لا يَعرف الوفاء، ولا يرجع إلى حفاظ» وابن كخيا «رجل نصراني أرعن خسيس، ما جاء يومًا بخير قط، لا في رأي ولا في عمل ولا في توسط» …
وتدور الليلة الرابعة كلها تقريبًا على الحديث عن ابن عباد، يسأل الوزيرَ أبا حيان عن رأيه في ابن عباد، وما يُقال في ذمه أحيانًا، فيقول أبو حيان: «إن الرجل كثيرُ المحفوظ، حاضرُ الجواب، فصيح اللسان …» ويَمضي في تحليل شخصيته تحليلًا مُسهَبًا، ويقول عنه: إنه يمدح نفسه بشعر، ثم يُعطيه لمن يُلقيه كأنما هو شِعر قيل فيه من سواه، فهو مُحب للثناء لدرجة الإسراف، وهو مَزيج من عقل وحمق، ويأخذ أبو حيان في مقارنته بابن العميد، ويصف ابن عباد بمرض النفس: «فللنفس أمراضٌ كأمراض البدن.»
ومما ورد في الليلة نفسِها كذلك ذِكْر لأعلام العلماء والأدباء وما يَمتاز فيه كلٌّ منهم؛ فالخليل في العَروض، وأبو عَمرِو بن العلاء في اللغة، وأبو يوسف في القضاء، والإسكافيُّ في الموازنة، وابن نوبخت في الآراء والديانات، وابن مجاهد في القراءات، وابن جرير في التفسير، وأرسطو طاليس في المنطق، والكِنْدي في الجوهر الفرد (أي الجزء الذي لا يتجزَّأ) وابن سيرين في العبارة، وأبو العيناء في البديهة، وابن أبي خالد في الخط، والجاحظ في الحيوان … إلخ.
ومن أصدق ما جاء في حديث هذه الليلة، قول أبي حيان بضرورة التثقيف لمن يتصدَّى للكتابة الأدبية مع التواضع في تقديره لنفسه، قال: «ليس شيء أنفعَ للمُنشِئ من سوء الظن بنفسه، والرجوع إلى غيره وإن كان دونه في الدرجة، وليس في الدنيا محسوب (أي ليس فيها أحد) إلا وهو محتاجٌ إلى تثقيف، والمستعين أحزمُ من المستبد …» ومن لطيف ما قاله في التفرقة بين كتاب يُكتَب وحديثٍ يُقال: إن الكاتب لا يَشفع له خطَؤه أن يكون قد أسرَع في الكتابة، فليس يَعلم القارئ أأسرعتُ في كتابة ما كتبت أم أبطأت «وإنما يَنظر أصَبتُ فيه أم أخطأت، وأحسَنت أم أسأت.»
وفي الليلة الخامسة عَودٌ إلى الحديث عن ابن عباد، ثم الحديث عن أبي إسحاق الصابي، أما ابن عباد فقد نجَح رغم عيوبه؛ لأن أحدًا لا يَقول له: أخطأت، فمن كان مجدودًا جعل الناسُ خطأه صوابًا، وأما أبو إسحاق الصابي «فإنه أحب الناس للطريقة المستقيمة … وإنما يُنقَم عليه قلة نصيبه من النحو.»
وأما الليلة السادسة فحديثها عن خصائص الأمم؛ فالفُرْس تقتدي ولا تبتكر، والروم لا يُحسِنون إلا البناء والهندسة، والصين أصحابُ صَنعة لا فكرَ لها ولا رَوية، والتُّرك سباع للهراش، والهند أصحاب وهمٍ وشعبذة، وأما العرب فقد علَّمَتهم العزلةُ التفكير، وساعدتهم بيئتهم على دقة الملاحظة، وهم ذَوو قيم خُلقية عُليا.
ومن رأي أبي حيان أن الفضائل موزَّعة على الأمم، وإذا وُصِفَت أمة بفضيلة أو برذيلة فلا يكون ذلك إلا على سبيل التعميم في القول؛ ولذلك إذا أُريدَت مقارنةٌ بين أمة وأمة، وجَب أن يُفاضَل بين الكامل في كلٍّ منهما أو بين الناقص في كلٍّ منهما، وإنَّ تعصُّب الإنسان لقومه ليجعل من العسير عليه أن يقول أيُّ الأمم أفضل مِن سواه، فلكل أمة عصر تعلو فيه، ثم يجيء عصر آخر فتعلو أمة أخرى، وهكذا، وليس من الإنصاف أن نُقارِن أمةً إبَّان صعودها بأخرى إبَّان هبوطها! على أن أبا حيَّان يعود فيَخُص العربَ بالثناء، ويتناول بحديثه اللغةَ العربية فيقول: إنه استعرض غيرها من اللغات فلم يَجِد في أيٍّ منها «نصوع العربية، أعني الفُرَج التي في كلماتها، والفضاء الذي نجده بين حروفها، والمسافة التي بين مَخارجها …» ويتصدى أبو حيان لما قاله الجيهاني في ذم العرب، ليتولى الدفاع عنهم أمجدَ دفاع وأبلغَه.
وفي الليلة السابعة مُقارنة بديعة بين علم الحساب والبلاغة — أو قل بين العلوم الرياضية وفنون الأدب — أيهما أنفع؛ فقد كان هناك مَن فضَّل الأولى على الثانية لأن الأولى جِد والثانية هَزْل (!) والأولى مستنِدة إلى مبدأ، موصولة بغاية، وحاضرة الجدوى، أما الثانية فزخرفة وحِيلة، الأولى شبيهةٌ بالماء والثانية شبيهة بالسراب، ولئن اكتفَت الدول بكاتب واحد، فلا يَكفيها مائة محاسب.
ويردُّ أبو حيان بقوله: إنه لا غِنى للحساب نفسِه عن الإنشاء، وإن البلاغة مُستنِدة إلى عقل؛ لأن بها تُقام الحجة، فهي تبدأ بأفكار عقلية، ثم تَمر خلال ألفاظ، وأخيرًا تستقر في خط، وأما أن الدولة يَكفيها مُنشِئ واحد فليس حُجة على شيء؛ لأننا نحتاج إلى خيَّاطين أكثرَ مما نحتاج إلى أطباء، ولا يدل ذلك على أن صناعة الطب دون صناعة الخياطة، وليس صحيحًا أن الكلام المَلْحون يؤدِّي المعنى؛ لأن المعنى يتغيَّر دائمًا بتغيُّر الإعراب.
وفي الليلة الثامنة رُوِيَت مناقشةٌ فلسفية دقيقة وعميقة، كانت قد دارَت بين أبي سعيد السِّيرافي وأبي بِشْر متَّى بن يونس القنائي، وكان ذلك في حضرة الوزير ابن الفُرات، وموضوعها المنطق اليوناني والنحو العربي (وهي مناقشة وردَت كذلك في كتابٍ آخر للتوحيدي، هو «المقابسات» وقد خُصِّصَت لهذا الموضوع المقابسة الثانية والعشرون) وخلاصة الرواية أن الوزير ابن الفرات كان قد سأل مُجالِسيه ذات يوم إن كان بينهم مَن يستطيع أن يتصدَّى لمناظرة أبي بِشرٍ متَّى في المنطق، فإنه يقول أنْ «لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل والصدق من الكذب والخير من الشر والحُجة من الشبهة والشك من اليقين، إلا بالمنطق»، فاستجاب أبو سعيد السِّيرافي لدعوة الوزير، ثم واجهَ متَّى فقال: حدِّثني عن المنطق ما تَعني به؟ فقال متَّى: أعني به أنه آلةٌ من آلات الكلام يُعرَف بها صحيح الكلام من سَقيمه، وفاسد المعنى من صالحه، كالميزان؛ فإني أعرف به الرُّجحان من النقصان.
فقال أبو سعيد ردًّا على ذلك: إن صحيح الكلام من سقيمه يُعرَف بالإعراب المعروف إذا كنا نتكلَّم بالعربية، وفاسد المعنى من صالحه يُعرَف بالعقل إذا كنا نبحث بالعقل … وكأنما أراد أبو سعيد بذلك أن يقول: إن صورية المنطق وحدها لا تُغني؛ إذ لا بد من معرفةٍ بحقائق الموادِّ المرتبِط بعضُها ببعض بتلك الصور، والتشبيهُ بالميزان ناقص؛ لأن من الأشياء ما لا يُوزَن، وإذا كان المنطق الأرسطيُّ مُلزِمًا لمن يتكلم اللغة اليونانية، فليس هو بمُلزِم لمن يتكلم العربية. فيرد متَّى قائلًا: إن المنطق يُعنَى بالمعقولات، والناس في المعقولات سواء، فأربعةٌ وأربعة تُساوي ثمانيةً عند اليونان وعند العرب وعند غيرهما من الأمم على السواء. فيعود أبو سعيد إلى الكلام قائلًا: إن التشبيه بأربعة وأربعة وأنها تُساوي ثمانيةً عند كل الأمم هو تشبيهٌ لا يؤدِّي؛ لأن حقائق الرياضة بيِّنة، على خلاف المطلوبات بالعقل والمذكورات باللفظ، على أننا إذا كنا نَعني بالمعقولات تلك المعانيَ التي يُوصَل إليها باللغة الجامعة للأسماء والأفعال والحروف، فقد لَزِمَت الحاجة إلى معرفة اللغة، فكيف تدرس منطق اليونان دون لغتهم؟ فضلًا عن أننا نَنقُل المنطق اليوناني عن اللغة السريانية، والمعاني إنما يُصيبها التحوُّل عند الترجمة من لغة إلى لغة؟
هنا يقول أبو بشرٍ متَّى: إن الترجمة عن اليونانية تَكفينا في هذا الصدد، ويعود أبو سعيد إلى الرد قائلًا: افرض أن الترجمة تَكفينا في ذلك، فهل اختصَّ اليونان دون سواهم بالعقل؟ أليس العِلم مقسَّمًا بين الأمم؟ أليس اليونانُ كغيرهم من الناس يُصيبون ويُخطئون؟ ومع ذلك، فليس واضعُ المنطق أمةً بأسرها، بل هو راجل واحد، هذا إلى أن منطقه لم يُغيِّر من العالم شيئًا؛ لأن الأمر مرهونٌ بالفطرة، وحال الناس من حيث الفطرةُ هي بعد ظهور المنطق كما كانت قبلَ ظهوره، إننا نعلم أن عقول الناس متفاوتة، فكيف تزعم أن في وُسعِ المنطق أن يُسوِّيَ بينها جميعًا؟
ويسأل أبو سعيد مُناظِرَه فيقول: هل في وُسع المنطق الأرسطي أن يَدُلنا على معاني حرف الواو في اللغة العربية؟ فقال له متَّى: هذا نحوٌ وليس هو مِن شأن المنطق، فأجابه أبو سعيدٍ بأن المنطق هو نحو، والنحو هو منطق، فإذا كانت المعاني مَشاعًا بين الأمم، فلا تكون يونانية ولا هِندية، وإنما يكون اختلاف في اللغة التي يُعبِّر بها كلُّ قوم عن تلك المعاني، كانت دراسة اللغة لا مَنْدوحة عنها. ويَضرب أبو سعيد مثلًا بالحرف في اللغة العربية: الواو، والياء، وحرف «في»؛ فلكل منها أحكامٌ تَقضي بها اللغة العربية وليست هي نِتاجًا للعقل اليوناني، مما يُبيِّن أنه لا بد للمنطقيِّ من دراسة اللغة التي بها يكونُ التفكير، فالنحو يمَس المعانيَ ولا يقتصر أمرُه على اللفظ، إنه بغير مادة الفكرة لا يُوصَل إلى حلٍّ لأي مشكلة، فالمنطق في صوريَّته المجردة لا يَرفع خلافًا بين متناظِرَين، ولا يؤدي بصاحبه إلى معتقَدات بعينها. وخلاصة القول عند أبي سعيد السيرافي أن دراسة المنطق بغير دراسة اللغة العربية لا تُجْدي نفعًا.
وبعد الفراغ من ذِكْر هذه المناقشة الفلسفية، انتقل الحديثُ في تلك الليلة الثامنة إلى وصفٍ لشخصية أبي سعيد السيرافي وإلى آخَرين غيرِه كأبي عليٍّ النحْوي، وطائفةٍ من الشعراء، ثم يتناول الحديث مسكويه وابن نُباتة وغيرهما، فكأنما هي سجلٌّ حافل لحركة علمية ثقافية واسعة المدى.
وفي الليلة التاسعة أوصاف دقيقة لصنوف الحيوان وما تتميز به، وكيف أن صفات الحيوان موجودٌ مثلها في الإنسان؛ إذ في الإنسان وحده تتجمع صفات الحيوانات كلها، فهو — إذن — مختلِف عنها، لا بالنوع، ولكن بكثرة ما فيه من صفات تجمعَت فيه وتفرقَت في الحيوان؛ فللسبُع والفأرة صفة الكُمون، وللذئب صفة الثبات، وللخنزير صفة الحذَر، وهكذا، انظر مثلًا إلى الصفات التي لا بد من توافرها في القائد، تجِدْها كلها مما يتصف به الحيوان أيضًا: «ينبغي للقائد العظيم أن يكون فيه عشرُ خصال من ضروب الحيوان؛ سخاء الديك، وتحنُّن الدجاجة، ونجدة الأسد، وحملة الخنزير، وروغان الثعلب، وصبر الكلب، وحراسة الكركيِّ، وحذَر الغراب، وغارة الذئب، وسِمَن «بعروا»، وهي دابة بخراسان تَسمُن على التعب والشقاء.»
نعم إن من أهم ما يُفرِّق بين الحيوان والإنسان أن الأول يعمل مدفوعًا بإلهام (= غريزة) على حين أن الثاني يعمل بعد اختيارٍ إرادي منه، لكنَّ للإنسان من إلهام الحيوان نصيبًا، كما أن للحيوان من اختيار الإنسان نصيبًا.
وذكر أبو حيان أن للإنسان أنفُسًا ثلاثًا: النفس الناطقة، والنفس الغضَبية، والنفس الشهوانية، وأن لكلِّ نفسٍ منها أخلاقَها، فمن خصال النفس الناطقة أن تبحث عن حقيقة الإنسان والكون والله، وكذلك مِن وظائفها أن تضبط نوازع النفسَين الأُخريَين. وبعد ذلك أخذ أبو حيان يتناول الفضائل وأضدادها واحدة واحدة؛ ليحدد مقوِّماتها وعناصرَها، فما الحسَن وما القبيح؟ ما الصواب وما الخطأ؟ ما الخير وما الشر؟ ما العدل وما الجَوْر؟ ما الشجاعة وما الجبن … إلخ.
ويختم أبو حيان القولَ في الأخلاق بأن يُصنِّف الناس من حيث أخلاقُهم بحسب أمزجتِهم، فإذا غلبَت الحرارةُ على الإنسان كان شجاعًا بذَّالًا ملتهِبًا سريعَ الحركة والغضب قليلَ الحقد ذكيَّ الخاطر حسَن الإدراك، وإذا غلبَت عليه البرودة كان بَليدًا غليظَ الطباع ثقيلَ الروح، وإذا غلبَت عليه الرطوبة كان ليِّنَ الجانب سمْحَ النفس سهلَ التقبُّل كثير النسيان، وإذا غلبَت عليه اليُبوسة كان صابرًا ثابتَ الرأي.
ومما هو جدير بالذكر عن هذه الليلة أن أبا حيان يَذكر فيها أنه قد أضاف مِن عنده عند الكتابة ما لم يَرِد في غضون الحديث، وذلك استِكمالًا للموضوع.
وفي الليلتَين العاشرة والحادية عشْرة قُرِئ بحثٌ عن خصائص الحيوان، منها ما هو فسيولوجي ومنها ما هو متصل بالطباع.
وفي الليلة الثالثة عشرة [هكذا أوردَها ناشِرا الكتاب: أحمد أمين وأحمد الزين، ثم تتابع الخطأ إلى آخر الكتاب، وكان الصوابُ أن يجعَلوها الليلة الثانيةَ عشْرة] قُرِئ بحث فلسفي عن النفس، فهي تَعمل بغير عضوٍ خاص من أعضاء البدن؛ ولذلك فهي لا تَفسد بفساد البدن؛ هي جوهرٌ لا مادي، وغير قابل للمقاييس الكَميَّة، ثم ينتقل الحديث إلى الحركة، فهي إما من داخل، وعندئذٍ تكون إما حركةً داخلية متواصلة، وإما حركة داخلية تسكن أحيانًا، أو من خارج، وعندئذ تكون إما حركة بالدفع من خلف أو بالجرِّ من أمام، وحركة الجسم الإنساني إنما تكون بفعلٍ نفسي، وإذن فالنفس حيَّة، وهي جوهر قابل لأن تطرَأ عليه الأضدادُ دون أن يتغيَّر هو في جوهريته، وقوام النفس بذاتها لا بكونها حالَّةً في بدن، ومن الفوارق بين الجسم والنفس أن الجسم لا يَقبل صورةً إلا إذا زالت عنه الصورة التي كانت حالَّة فيه؛ لأن الضدَّين لا يجتمعان فيه، أما النفس فتقبل الصورَ الأضداد دفعةً واحدة.
أما الليلة الرابعة عشرة فتبدأ بمعنى السكينة وأنواعها، فهناك سكينة طبيعية وأخرى نفسية وثالثة عقلية ورابعة إلهية، أما الطبيعة فهي اعتدال المِزاج في العناصر الطبيعية، وأما النفسية فهي ما نُسمِّيه بالرَّوية حين تأتي مماثلة لحكم البديهة، والسكينة العقلية هي في الْتِئام الخواطر والأفكار، وأما السكينة الإلهية «فلا عبارةَ عنها على التحديد؛ لأنها كالحلم في الانتباه، وكالإشارة في الحلم، وليست حلمًا ولا انتباهًا في الحقيقة» أي إنها سكينةٌ روحانية.
وبعد ذلك ينتقل الحديثُ إلى ما تَشترك فيه الأمم وما تَختلف فيه من صفات وخصائصَ، فكلها مشترِك في الفطرة الواحدة، وتأتي بعد ذلك أوجهُ الاختلاف، فاليونان يُميِّزهم الفكر، والهند يُميزهم الوهم (أي الخيال) والعرب مَيزتهم الفصاحة، والفُرس السياسة، والتُّرك الشجاعة.
وفي الليلة الخامسةَ عشرة حديثٌ فلسفي عن «الممكِن» و«الواجب» و«الممتنِع» (وهي درجاتٌ من الصدق، فالممكن حالةٌ يَحتمِل فيها القولُ أن يكون صادقًا أو أن يكون كاذبًا، والواجب حالة يَتحتَّم فيها أن يكون القول صادقًا بالضرورة التي لا تَقبل احتمالًا، والممتنِع حالة يكون فيها صِدقُ القول مستحيلًا).
ثم ينتقل الحديث بعد ذلك إلى نقطة فلسفية أخرى، هي التفرِقة بين العقل والحس؛ فالأول ثابت، والثاني متغير، ومما قاله في ذلك أن العقل يُوصَف بشهادة الحس، وكذلك الحس يوصف بشهادة العقل، «إلا أن شهادة الحس للعقل شهادة العبد للمولى، وشهادة العقل للحسِّ شهادة المولى للعبد»، و«العقل يَحكم في الأشياء الرُّوحانية البسيطة الشريفة من جهة الصُّوَر الرفيعة» بالقياس إلى الحواسِّ التي تتعلق بالفاسدات البائدات المتغيرات … وبعد ذلك انتقل الحديثُ إلى مسائلَ لغوية.
وفي الليلة السادسة عشرة حديثٌ عن الجَبْر والقدَر، تعليقًا على كتاب العامري المعنوَن «إنقاذ البشر من الجبر والقدر».
وبهذه الليلة ينتهي الجزء الأول من كتاب الإمتاع والمؤانسة، ويبدأ الجزء الثاني بالليلة السابعة عشرة، وهي الليلة التي ورَد فيها ذِكر إخوان الصفا، ويقال إن هذا هو النص الوحيد الذي كشَف لنا عن أفراد هذه الجماعة التي ألَّفَت «رسائل إخوان الصفا» المشهورة، والتي عرَضْناها في الفِقْرات السابقة من هذا الفصل، ثم نقَل عنه القُفْطي، وعن القُفطي نقل سائرُ مَن كتبوا عن «الإخوان»؛ يقول التوحيدي عنهم: «وكانت هذه العصابةُ قد تآلَفَت بالعِشْرة، وتصافَت بالصداقة، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة، فوضَعوا بينهم مذهبًا زعَموا أنهم قرَّبوا به الطريقَ إلى الفوز برضوان الله والمصير إلى جنته؛ وذلك أنهم قالوا: الشريعة قد دُنِّسَت بالجهالات، واختلطَت بالضلالات، ولا سبيل إلى غَسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة … وزعَموا أنه متى انتظمَت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصَل الكمال، وصنَّفوا خمسين رسالة في جميع أجزاء الفلسفة، عِلميِّها وعَمليِّها، وأفرَدوا لها فِهرِستًا وسمَّوْها رسائل إخوان الصفا وخلان الوفاء، وكتَموا أسماءهم …»
وعقَّب التوحيدي على ذلك بذِكْر بعض الآراء في تلك الرسائل، ومنها ما يَدْحَض قولهم في أن الشريعة من الفلسفة؛ لأن الشريعة وحيٌ إلهي، نُسلِّم بها ولا نُعلِّلها، وهي لا تخضع للمقادير، ولا تُشبِه العلم الطبيعيَّ ولا علم الهندسة، ولا تحتاج إلى المنطق، وعند اختلاف على شيء في العقيدة لا نَلجأ إلى العلم، فأين الدين من الفلسفة؟ وأين الشيء المأخوذ بالوحي النازل، من الشيء المأخوذ بالرأي الزائل؟ والعقل وحده لا يكفي ولا بد معه من وحي يَنزل على نبي، والنبيُّ فوق الفيلسوف.
ثم يورِد أبو حيان ردَّ المقدسيِّ على هذا كله؛ «فالشريعة طبُّ المرضى والفلسفة طبُّ الأصحَّاء»، ثم ردَّ الحريريُّ على المقدسي في مقارنة الشريعة بالفلسفة، ويورد كذلك رأي أبي سليمان المنطقيِّ القائل بأن الشريعة والفلسفة كِلتَيهما حق، دون أن تكون إحداهما مأخوذةً من الأخرى، وقد تجتمع الشريعة والفلسفة في رجل واحد، وقد تظهر كلٌّ منهما على حِدَة …
ونقفز من الليلة السابعة عشرة، التي أجمَلْنا حديثها، إلى الليلة الثانية والعشرين، التي دار الحديثُ فيها حول موضوع فلسفي عويص، هو موضوع الجزئي والكلِّي وإدراكهما والعلاقة بينهما، ومن أبرع ما قاله أبو حيان في ذلك — نقلًا عن أبي الحسن العامري — «الكل مفتقِر إلى الجزئي، لا لأنْ يَصير بديمومته مَحفوظًا، بل لأن يصير بتوسُّطه موجودًا، والجزئيُّ مفتقِر إلى الكلي، لا لأن يصير بتوسطه موجودًا، بل لأن يصير بديمومته محفوظًا (أي إن الكلي بحاجة إلى الجزئي ليتجسَّد فيه وجودًا فعليًّا، والجزئي بحاجةٍ إلى الكلي ليدوم).
ومما قاله في الكلي والجزئي أيضًا أن «ما هو أكثرُ تركيبًا فالحسُّ أقوى على إثباته، وما هو أقلُّ تركيبًا فالعقل أخلَصُ إلى ذاته.»
وفي هذه الليلة أيضًا حديثٌ عن مُشكلة الواحدِ والكثير، وهي مشكلة معروفة في الفلسفة، وذاتُ علاقة بالكلِّي والجزئي، وفيها أيضًا حديثٌ عن أنواع الخطاب؛ خطاب العاقل للعاقل، وخطاب العاقل للأحمق، وحديثٌ عن «العادة»، وحديث عن الفقر بمعناه الصحيح، فليس الفقر في قلةِ المال، بل هو في كثرة الشهوات وإن كَثُر المال.
ونقفز لنصل إلى الليلة الخامسة والعشرين، التي دار حديثُها عن الموازنة بين النَّظْم والنثر، فبعد مقدِّمة طريفة عن كون الحديث في موضوع النظم والنثر كلامًا على كلام: «والكلام على الكلام صعب … لأنه يَدور على نفسه، ويَلتبس بعضُه ببعضه؛ ولهذا شقَّ النحوُ وما أشبهَ النحوَ من المنطق، وكذلك النثرُ والشعر»، ثم رُوِيَت آراء تُحبِّذ النثر وتُفضِّله على الشعر؛ فالنثر أصلٌ والنظم فرعه، والكتب المنزلة منثورة، والوحدة أظهرُ من النثر منها في الشعر، والنثر طبيعي والشعر صناعي، وترتيبُ الكلام في النثر لا يَحتاج إلى تكلُّف، والنثر من قِبل العقل، ونجوم السماء منثورة، والأحاديث النبوية نثر.
وبعد ذلك رُوِيَت آراء في تفضيل الشعر، فله صناعة تَقتصر على القلة، أما النثر ففي وُسع الجميع، والنَّظْم صالح للغناء والحُداء، وشواهد النحو واللغة لا توجد إلا في الشعر، والشعراء هم الذين ظَفِروا بجوائز الخلفاء، ثم تُختَم المحاورة برأي معتدل، فلكلٍّ من النثر والنظم فضائله، ولكل منهما بلاغة.
أظن أن هذه الخلاصة لكتاب أبي حيان التوحيدي «الإمتاع والمؤانسة» كافية لترسم لنا صورةً عن أحاديث «العقلاء» في جلسات السمَر، على أيِّ شيء تدور، وبأي درجة من العمق، وما الذي كان يَستوقف انتباهَهم ويُثير اهتمامهم، وواضحٌ مما قدَّمناه أن تلك العلِّية المثقفة كانت قد شربت من المنقول عن اليونان حتى ارتوَت، موضوعًا ومنهجًا.
فلنمضِ في رحلتنا إلى مشهد آخر.
٣٥
سنختار لوقفتنا هذه رجلًا من فلاسفة اللغة، نكاد ألَّا نجد له ضريبًا في عقلانية النظر إلى موضوع — هو موضوع اللغة — لم يشهَدْ تراثُنا الفكري موضوعًا آخرَ يُنافسه في مدى ما ظفر به من اهتمام المفكِّرين، اللهم إلا استثناءً واحدًا — ربما — هو الدين، لكن هذا الرجل — وأعني به عُثمان بن جِني — قد استطاع أن يَعلوَ برأسه فوق كثرة الرءوس؛ لأنه لم يَقِف عند السطح الظاهر من الموضوع، بل حاول الغوص إلى جذوره ومَبادئه، وإنَّ أمره ليَزيد عجبًا، حين نعلم أنه من أصل يوناني، فلا يسَعُنا إلا أن نسأل: وكيف استطاع؟ لكن الاهتمام والعناية والدَّرْس تفعل الأعاجيب، وقد عاش ابنُ جِنِّي على طول القرن العاشر الميلادي كلِّه تقريبًا (٩١٢–١٠٠٢م).
ها هو ذا كتابه «الخصائص» — أي خصائص اللغة العربية — بأجزائه الثلاثة، فلا نكاد نُدير غلاف الجزء الأول، حتى يَفْجَأنا بما يَستوقف أنظارَنا، ويشدُّنا شدًّا إلى متابعته في دقة تحليلاته، حتى ولو لم نَكُن أساسًا من رجال هذا الميدان من ميادين البحث، ولعل ما يشدُّنا إليه هو قبَس نلمحه منذ السطر الأول، يدل على حِدَّة الذهن وشمول النظر، فلئن فاتنا أن نُتابعه لأهمية الموضوع، فسوف نتابعه لدقة المنهج.
يبدأ حديثه بالتفرقة بين «الكلام» و«القول»، فيأخذ في تحليل كلٍّ من اللفظتين إلى أحرفها، ثم يأخذ في تقليب هذه الأحرف لتأخذ جميعَ الأوضاع الممكنة، حتى إذا ما أدرك معنًى ضاربًا في تلك الأوضاع جميعًا، كان هذا المعنى هو اللُّبَّ العميق الذي تنطوي عليه اللفظة، فالأحرف التي منها «القول» هي: ق و ل، ومن هذه الأحرف الثلاثة تَستطيع أن تُخرِج ستةَ تراكيبَ كلُّها واردةٌ في اللغة، وفيها جميعًا تدلُّ الكلمة بأحرفها الثلاثة هذه «أين وُجِدَت، وكيف وقَعَت، مِن تقدُّم بعض حروفها على بعض، وتأخُّره عنه» على الخُفوف والحركة، ففي الوضع الأول، الذي هو: «قول» يكون المشارُ إليه باللفظ هو الفمَ واللسان حين يَخِفان بالحركة؛ ولذلك فهو ضدُّ السكوت الذي هو داعيةٌ إلى السكون، ومن ثَم فلا يكون الحرف المبدوءُ به إلا متحركًا؛ لأنه شُروع في «القول» — أي في حركة الفم واللسان — كما لا يكون الحرفُ الموقوف عليه إلا ساكنًا؛ لأن الانتهاء من القول هو أخذٌ في السكوت … وبعد ذلك يتتبَّع المؤلِّف الأوضاعَ الخمسة الأخرى لهذه الحروف الثلاثة؛ ليُبيِّن أن معانيَها دائمًا موصولةٌ بالحركة.
وأما مادة «ك ل م» — التي منها الكلام — فحيث تقلبَت حروفها فمعناها الدلالة على القوة والشدة، فلا عجب أن يَجيء منها كلمةُ «كَلْم» (بسكون اللام) للجَرْح؛ لما يَعنيه الجرح من شدة، فالمسافة قريبةٌ بين جَرح اللسان وجَرح اليد: «جرح اللسان كجرح اليد» كما قيل.
فنَخلُص من هاتَين المقدمتَين (أعني المقدمة التي نُحلل بها كلمة «قول» والأخرى التي نحلل بها «كلم») إلى نتائجَ في أسس اللغة، بل وفي أسس المنطق العقليِّ ذاته، منها أن يكون شرطُ الكلام أن يَستقلَّ بنفسه وأن يَجيء مفيدًا لمعناه، وهو ما يُسمِّيه النحْويُّون «جملة»، أما القول فلا يُشترَط فيه هذا الاكتمال في البناء، فكلُّ ما تحرك به اللسان هو قول، تامًّا كان أو ناقصًا، وبهذا يكون كلُّ كلام قولًا، وليس كل قول كلامًا، ولما كان «القول» غيرَ مشروط بصورة محدَّدة معينة، اتسَع معناه لِيَدل على الاعتقادات والآراء، كأن تحكيَ عن فلان بأنه يقول بقول أبي حنيفة، وإنه لممَّا يدل على الفرق بين «القول» و«الكلام» إجماعُ الناس على أن يَقولوا: القرآن كلام الله، ولا يُقال عن القرآن: قول الله؛ وذلك لأنك حين تأخذ بقول معيَّن، فليس شرطًا أن تلتزم بحروف الأصل، بل يَكفي أن تأخذ الرأيَ أو تأخذ الرأي أو الفكرة والمحتوى، ولما كان القرآنُ ثابتًا على صورة لفظية معيَّنة، لم يَعُد جائزًا أن يقول القائلون: لقد أخَذْنا بقول القرآن … ولستُ أدري بماذا كان يُجيب ابن جني إذا سألناه: ألَسْنا نقول: قال الله تعالى كذا وكذا؟
وما دام الشرط في «الكلام» أن يكون تامَّ المعنى، لم يكن الحرف الواحد، بل ولا الكلمة الواحدة كلامًا؛ فالكلمة الواحدة لا تتملَّك قلب السامع، وهل يمكن لسامعٍ أن يَستعذِب قولًا حين لا يكون القائلُ قد نطق إلا بحرف واحد أو بكلمة واحدة؟ بل إن الحرف الواحد لا وجودَ له في النطق، فحاول أن تنطق بحرف واحد وهو في حالة سكون؛ إنك عندئذ ستُضطَر اضطرارًا إلى إضافة حرف الألف إليه لِيُمكِنَك النطقُ به، وكذلك إن كان الحرف متحركًا وأردتَ الابتداء به والوقوفَ عليه، فلا بد لك عندئذٍ أن تنطق بالحرف مقرونًا بحركة، وإلا استحال عليك النطقُ به.
وتمضي مع المؤلف أربعين صفحة لِيُوقفك أمام سؤال طالما طُرِح من قبل ومن بعد، وهو عن اللغة؛ أهي إلهامٌ أم اصطلاح؟ أو بعبارة أخرى كثيرًا ما يَستخدمها الباحثون العرب في هذا المجال: أهي توقيفٌ أم تواضُع؟ والمعنى المقصود بالسؤال هو ما إذا كانت اللغة كلُّها رموزًا اصطَلَح على استخدامها مجموعةُ الناس، وكان في مُستطاعهم أن يَصطلِحوا على سواها، أم هي هكذا أُوحيَ بها إلى الناس ولم يكن لهم قِبَلٌ بتغييرها؟ ولطالما عَجِب كاتبُ هذه الصفحات من سؤالٍ كهذا يُطرَح للبحث، والأمر فيما يرى أوضحُ من أن يكون موضعًا لسؤال، وأقلُّ ما يُقال في هذا الصدد هو أن اختلاف اللغات باختلاف الشعوب، ثم الطريقة التي تتطوَّر بها نتيجةً لاختلاط هذه الشعوب بعضها ببعض، أمران يَحسِمان الأمر حسمًا لا سبيل إلى تردُّد فيه.
لكن السؤال قد طُرِح مرارًا، ومرارًا أجاب المجيبون بأن اللغة إلهامٌ من الله، وليست مِن صَنْعة الإنسان، ولعل أصحابَ هذا الجواب كانوا على حَيْطة فيه؛ خشية أن يؤديَ القولُ باصطلاحية اللغة إلى شُكوك تحيط بلُغة القرآن وصدورها عن الله، والحمد لله؛ فإن ابن جنى لم يكن مِن هؤلاء، بل قرَّر في وُثوق باصطلاحيَّة اللغة؛ يقول: «… أكثرُ أهل النظر على أن أصل اللغة إنما هو تواضُع واصطلاح، لا وحيٌ وتوقيف، إلا أن أبا عليٍّ — رحمه الله — قال لي يومًا: هي من عند الله، واحتجَّ بقوله سبحانه: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، وهذا لا يَتناول موضع الخلاف؛ وذلك أنه قد يَجوز أن يكون تأويله: أقدَر آدم على أن واضَعَ عليها، وهذا المعنى من عند الله سبحانه لا مَحالة، فإذا كان ذلك مُحتملًا غيرَ مُستنكَر سقط الاستدلال به» (ج١، ص٤٠-٤١).
«فإن قيل: فاللغة فيها أسماء وأفعال وحروف، وليس يجوز أن يكون المعلَّم من ذلك الأسماءَ دون غيرها مما ليس بأسماء، فكيف خصَّ الأسماء وحدها؟ — قيل: اعتمد ذلك مِن حيث كانت الأسماءُ أقوى القُبُل الثلاثة، ولا بد لكل كلام مفيد من الاسم، وقد تَستغني الجملة المستقلة عن كل واحد من الحرف والفعل، فلما كانت الأسماء من القوَّة والأوَّلية في النفس والرُّتبة — على ما لا خَفاء به — جاز أن يُكتفى بها مما هو تالٍ لها، ومحمولٌ في الحاجة إليه عليها» (نفس الموضع السابق ذكره، وكذلك انظر في ذلك ج٢، ص٣٠).
وليس يمكن فيما أعتقد أن يكون الأمر على غير هذا الذي ذهب إليه ابن جني، لا من حيث اللغةُ العربية وحدها، بل من حيث اللغةُ على إطلاقها؛ فالإنسان إنما يَستيقظ وعيُه أولَ ما يستيقظ — في العالَم المحيط به — على «أشياء»، ومهما بلَغَت بنا درجةُ اليقين من أن «الأشياء» حين تقع في مجال الخبرة الإنسانية، فإنما تقع وهي ذَواتُ علاقاتٍ وأفعال تؤثِّر بها أو تتأثَّر، ومن ثَم يكون وعيُ الإنسان الأولِ بالأشياء المحيطة به، والداخلةِ في مجال إدراكه وخبرته، وعيًا في الوقت نفسه بعلاقات الشيء المعيَّن بسواه، وبما يمكن أن يُحدِثَه ذلك الشيء من أثرٍ في حياتنا، ومن إدراك العلاقات تكون الحروفُ في اللغة، ومن الأثر الحادثِ تكون الأفعالُ في اللغة. أقول: إننا مهما بلَغَت بنا درجةُ اليقين في صدق هذا القول، فذلك لا يَنفي — بل يُؤكِّد — أن الأولوية المنطقية ما زالت للأشياء، ومن ثَم فهي للأسماء، ولك أن تلحَظ الطفل في أول علاقته بلَقْط الألفاظ الدالَّةِ مِن ذَويه، فسوف تراه يَبدأ — ويظَل كذلك فترة — بلقط أسماء الأشياء التي تُصادفه أو يُصادفها، فهو يعرف لفظة «كرسي» قبل أن يتعلَّم الفعل «يجلس» أو الحرف «على».
ونسير مع المؤلف بضع صفحات بعد ذلك، لنقف عنده على سؤال آخر، كانت إجابته عليه إجابةً تقع في صميم الصميم من موضوع كتابنا هذا، الذي أرَدْنا به أن نتعقَّب بعضَ المعالم البارزة على طريق «العقل» في تُراثنا الفكري، وأما السؤال فهو عن اللغة العربية: أكلامية هي أم فقهية، والمقصود من ذلك هو: هل تَخضع قواعدُ النحو العربي للتعليل العقلي، وبذلك تكون اللغةُ كلاميةَ الطابَع، أو هي تَستعصي على التعليل العقليِّ لكونها سماعيةً تقليدية، وعندئذ تكون فقهيةَ الطابَع؟ فمِن الفروق بين علماء الكلام والفقهاء، هو أن الأوَّلين يَبحثون عن تفسيراتٍ عقلية لأصول العقيدة، وأما الآخَرون فلا تعليل عندهم لأحكام الشريعة؛ إذ لا ندري لماذا كانت صلاةُ العصر أربعَ ركعات وصلاة المغرب ثلاثًا، فهَكذا أُمِرْنا أن نَفعل، أما علم الكلام فغير ذلك، فلو قيل لنا مثلًا: إن الله أحدٌ صمد كان علينا أن نُبيِّن استحالةَ أن يكون كثيرًا وفانيًا.
يقول ابن جني جوابًا على السؤال المذكور، بالنسبة إلى اللغة العربية: «اعلم أن عِلَل النحْويين … أقربُ إلى علل المتكلِّمين منها إلى علل المتفقِّهين» (ج١، ص٤٨)، فإذا وجدنا العرب يرفعون الفاعلَ ويَنصِبون المفعول، كان علينا أن نَبحث: لماذا كان الأمر هكذا؟ ولا يجوز أن نكتفيَ بذِكْر القاعدة النحوية قائلين: هكذا سَمِعنا العربَ يتكلمون ولا تعليل، ولستُ أرى كيف يمكن أن تبلغ العقلانيةُ بقوم مبلغًا يُجاوِز هذا الهدفَ الذي استهدَفه ابنُ جنى، فما كان أيسرَ أن يُقال عن اللغة وقواعدها: إنها منقولة هكذا وَلدًا عن والد، وما علينا إلا أن نَستخلص القواعدَ من حالات الاستعمال الفعلي للُّغة عند أصحابها الأولين الذين خلَقوها، ثم ما أعسرَ أن نتعقَّب هذا المسموع المنقول إلى عِللِه العقلية التي تُبرِّر وجوده على نحوٍ معين دون سواه؟ إن طائفة مِن الفلاسفة المعاصرين لنا اليوم — ومنهم برتراند رِسل — يَعتقدون أن طرائقَ تركيب اللغة المعيَّنة، تَكشف لنا عن اعتقادهم الميتافيزيقي، أنها تكشف عن تصورهم للطريقة التي رُكِّب بها العالم، فليس المعوَّل هنا على الأسماء المفرَدة التي يَستخدمها شعبٌ معيَّن في لغتهم؛ لأن الأسماء وبقيةَ المفرَدات اللغوية متغيِّرات لا تدوم حتمًا، وكثيرًا ما يُصيبها التغيُّر على مرِّ الزمن وتغيُّر الحضارة، وأما الذي نُعوِّل عليه فهو طريقة «تركيب» الجملة، ومثل هذا الإطار الصوري هو الذي قلَّما يصيبه التغيُّر مهما امتدَّ الزمان، وأحسب أن ابن جني حين أراد التعليل العقليَّ لقواعد اللغة، فإنما أراد طرائقَ التركيب، وإذا كان ذلك كذلك، فهو بهذا التعليل يُقدم لنا نافذة نُطِلُّ منها على عقيدة العربي في تركيب العالم الخارجي.
فلماذا كانت قاعدة العربي في الكلام أن يَرفع الفاعل وأن ينصب المفعول؟ لماذا لم يَصطلِح المتكلِّمون بالعربية على عكس ذلك؟ هنا لم يَقُل ابن جني: هكذا جرى الأمرُ ولا تعليل، بل هو يُحاول التعليل، فيقول: «… الذي فعَلوه أحزَمُ؛ وذلك أن الفعل لا يكون له أكثرُ مِن فاعل واحد، وقد يكون له مفعولاتٌ كثيرة، فرُفِع الفاعل لقِلَّته، ونُصِب المفعول لكثرته؛ وذلك ليَقِلَّ في كلامهم ما يَستثقِلون، ويَكثُر في كلامهم ما يَستخِفُّون» (ج١، ص٤٩). وتصوَّر ابنُ جني سائلًا يسأل: أليس في اللغة أشياء كثيرة لا نستطيع تعليلها على هذا النحو؟ فيجيب ابن جني: «… لسنا ندَّعي أن علل أهل العربية في سَمْت العلل الكلامية البتَّة، بل ندَّعي أنها أقربُ إليها من العلل الفقهية» (ص٥٣). وهو في هذا الموقف ذو منهج عِلمي دقيق؛ لأنه إذا كان بعضُ أوضاع اللغة ممكِنَ التعليل دون بعض، فلا بأس مِن تعليل ما يمكن تعليله، ثم تعليق ما لا يمكن تعليله حتى تُعرَف العلة؛ إذ لا يجوز أن نُهمِل الممكن من أجل غير الممكن.
لقد قضَت على ابن جني نظرته العقلية المنطقية الخالصة إلى اللغة، أن يتصوَّر الاشتقاق على كل ما يمكن تخريجُه منطقيًّا من الأصل، بغضِّ النظر عما سُمِع من تلك الصور الممكنة وما لم يُسمَع، فليست العبرةُ بما استعمله العرب فعلًا من مشتقَّات، بل العبرة بما يمكن أن يَستعمِلوه، ليس المعوَّل على ما قد وقع بالفعل، بل المعوَّل على ما يمكن أن يقَع، هذه هي النظرة المنطقية الخالصة إلى الأمور، وإن شئتَ فقُل: هذه هي النظرة الرياضية المَحْض؛ إذ ما الفرق بين التصور المنطقي أو الرياضي وبين التصوير للواقع الفعلي؟ الفرق هو هذا؛ في الحالة الأولى ترسم إطارًا للمُمكِن، وفي الحالة الثانية تتقيَّد بالواقع، ولا ينبغي أن يَفوتك هنا أن الأمر الواقعَ هو حالةٌ واحدة من حالات كثيرة كانت مُمكِنة الحدوث، خذ هذا المثل للتوضيح: افرض أن معك كِتابَين، أحدهما أخضرُ الغلاف والآخر أسوَدُه، وافرض كذلك أنك قد وضَعتَهما أمامك بحيث يكون الأخضرُ فوق الأسود، فهذه هي الحالة الواقعة لهما، لكن الحالات الممكنة منطقيًّا أو رياضيًّا أكثرُ من ذلك؛ فقد كان يُمكِن للأسود أن يكون هو الأعلى، وكان يُمكن أن يتَجاورا، وعندئذٍ يكون للتجاور عشَراتُ الصور الممكِنة — ولْنَعُد بعد ذلك إلى ابن جني في نظرته إلى اللغة نظرةً عقلية رياضية (ولنذكر أن مِثل هذه النظرة العقلية إلى اللغة وإلى النحو كانت تيارًا متَّصِلًا عند الأقدَمين، يُسايِره تيارٌ آخرُ يَجعل مُعوَّله على الاستعمال الفعلي لا على مجرد الإمكان العقلي، ولقد سبق لنا أن ذكَرْنا ذلك عند حديثنا عن الخليل وسيبويه من أعلام البصرة في القرن الثامن الميلادي (وقد كان يُساير تيارَ البصرة العقليَّ ذاك تيارٌ يأخذ بتقليد المسموع وكان مقرُّه الكوفة))؛ أقول: لِنَعُد بعد ذلك إلى ابن جني ونظرته العقلية إلى اللغة، فهو يَنظر إلى الصور الممكِنة، فإذا سأله سائل: وما السرُّ في أن أهملَ العربُ استخدام بعض هذه الصور واكتفَوا ببعض؟ أجاب: أكثر المتروك متروكٌ لاستِثقال نُطقه، لا لاستحالةِ استعماله، فمن ذلك — مثلًا — ما رفَضوا استعماله لِتَقارب حروفه مثل «ظث» (ج١، ص٥٤).
ولكننا ونحن نَعرِض النظرة العقلية لابن جني، لا يسَعُنا إلا أن نقف في شيء من الحيرة، عندما نجده في موضعٍ من كتابه يقول: إنه إذا تعارَض القياسُ العقلي مع ما جاء عليه المسموع وجَب الأخذُ بالمسموع؛ لأنها «لغتهم» شريطةَ ألا تَقيس على الشاذِّ المسموع بعد ذلك — لكنها حيرةٌ سرعان ما تَزول، ما دمنا ننتبهُ جيدًا إلى هذا الشرط الأخير، وهو ألا نَقيس على المسموع إذا كان خارجًا على ما يَقتضيه القياس، وبهذا نَجمع إلى احترام العقل احترامَ ما قد جرى به الاستعمالُ عند أصحاب اللغة الأوَّلين؛ يقول في هذا المعنى: «إذا تعارَض السماع والقياس نطقتَ بالمسموع على ما جاء عليه، ولم تَقِسْه في غيره …» (ج١، ص١١٧). وفي موضع آخر يقول: «واعلم أنك إذا أدَّاك القياسُ إلى شيء ما، ثم سمعتَ العرب قد نطقَت فيه بشيء آخر على قياس غيره، فدَعْ ما كنتَ عليه إلى ما هم عليه، فإن سمعتَ مِن آخر مثل ما أجزته، فأنت فيه مخيَّر، تستعمل أيَّهما شئت» (ج١، ص١٢٥).
ويُلقي ابنُ جني على نفسه سؤالًا ليحاول الإجابة عليه إجابةً على أساس المنطق العقلي: لماذا يَكثُر الأصل الثلاثي في اللغة العربية؟ فيجيب:
«… إن الأصول ثلاثة: ثلاثي، ورباعي، وخماسي، فأكثرها استعمالًا وأعدَلُها تركيبًا الثلاثي؛ وذلك لأنه حرفٌ يُبتدَأ به وحرفٌ يُحشى به، وحرفٌ يُوقَف عليه، وليس اعتدالُ الثلاثي لقلة حروفه حَسْب، لو كان كذلك لكان الثنائيُّ أكثرَ منه؛ لأنه أقلُّ حروفًا، وليس الأمر كذلك … وأقل منه [أي من الثنائي] ما جاء على حرف واحد … فتمكُّن الثلاثي إنما هو لقلة حروفه — لعَمْري — ولشيءٍ آخر، وهو حجز الحشو، الذي هو عينُه، بين فائه ولامه، وذلك لتبايُنِهما، ولِتَعادي حالَيْهما، ألا ترى أن المبتدأ لا يكون إلا متحركًا، وأن الموقوف عليه لا يكون إلا ساكنًا؟ فلما تنافرَت حالاهما وسَّطوا العينَ حاجزًا بينهما، لئلا يَفجَئوا الحسَّ بضدِّ ما كان آخذًا فيه ومُنصبًّا إليه» (ج١، ص٥٥-٥٦).
ثم يستدرك ابن جِنِّي على ما قد يُعترَض به من أن الحشو إذا كان متحركًا، كانت النَّقلة منه إلى اللام الساكنة فيها نقلةٌ من الحركة إلى السكون أو كانت ساكنة، كانت النقلة من الفاء إليها فيها نقلةً من الحركة إلى السكون كذلك، فيقول — ردًّا على مثل هذا الاعتراض لو وُجِّه إليه: إذا كانت العينُ متحركة، أحدثَت الحركتان [أي حركة الفاء والعين] مللًا يُهيِّئ النفس لِقَبول السكون بعد ذلك، وإذا كانت العين ساكنة، فانتقالك منها سيُخفِّف السكون ولا يَجعله كسكون الوقف» (ص٥٧).
ويتابع ابن جِنِّي حديثه عن الثلاثي ولماذا كان أكثرَ الأصول استعمالًا، فيَلحَظ لنا أنه أخفُّ من الرباعي ومن الخماسي، فبينما الثلاثي يتركَّب منه ستة أصول، ترى الرباعيَّ يتركب منه أربعةٌ وعِشرون أصلًا يَكثُر فيها المهمَل، والخماسي يتركب منه مائةٌ وعِشرون أصلًا، لا يُستعمَل منها إلا القليل.
ومما يدلُّ على أن مدار الاستعمال أو الإهمال ليس هو ما يَجوز عقلًا وما لا يجوز، بل هو ما يَستثقله العربيُّ عند النطق وما يَستخفُّه، أقول: إنه مما يدلُّ على ذلك أنك لا تَجد في الثنائيِّ — على قلة حروفه — ما أوله مضمومٌ إلا القليل (فاذكر أن الفتحة أخفُّ نطقًا على العربي من الضمة، ومثل الضمة في الثِّقَل الواو)، وإنما عامة الثنائي على الفتح، نحو: هل، بل، عن، كم … (ص٦٩).
وكذلك قُل عن جميع ما جاء من الكَلِم على حرف واحد؛ عامتُه على الفتح إلا الأقل، وذلك نحو همزة الاستفهام، واو العطف، فاء العطف، لام الابتداء، كاف التشبيه … إلخ (ص٧١).
٣٦
ويَطْرق ابن جِنِّي موضوعًا آخر، هو الإيجاز والإطالة، أيُّهما أقربُ إلى الطبع العربي، وفي ذلك يَروي عن أبي عمرٍو أنه سُئل: «أكانت العرب تُطيل؟» فقال: «نعم، لِتُبلغ.» قيل: «أفكانت تُوجِز؟» قال: «نعم، ليُحفَظ عنها، واعلم أن العرب — مع ما ذكرنا — إلى الإيجاز أميَلُ، ومن الإكثار أبعَد» (ص٨٣).
فبالرغم من أن مقتضى الحال قد يوجِب الإطالةَ أحيانًا، والإيجازَ أحيانًا أخرى، فإنه إذا تعادل العاملان، وترَك العربيُّ نفسه عندئذٍ على سَجيَّتها، آثرَ الإيجاز؛ «إنهم إذا كانوا في حال إكثارهم وتوكيدهم مُستوحِشين منه، … عُلِم أنهم إلى الإيجاز أميَلُ، وبه أَعْنى، وفيه أرغَب، ألا ترى إلى ما في القرآن وفَصيح الكلام من كثرة الحذوف؛ كحذف المضاف، وحذف الموصوف، والاكتفاء بالقليلِ من الكثير، كالواحد من الجماعة، وكالتلويح من التصريح؟ فهذا ونحوُه — مما يَطول إيراده وشرحه — مما يُزيل الشكَّ عنك في رغبتهم فيما خفَّ وأُوجِز، عما طال وأمَلَّ» (ص٨٦).
وهنا لا بد لنا من وقفة نتأمَّل فيها هذا الميل العربيَّ الأصيل نحو الإيجاز في القول ونحو الإضمار بدل الإفصاح، فإذا أدرَكْنا أن ذلك الموقف إنما يتضمَّن التعميمَ والتجريد، وعدم العناية — إلا بأقلِّ قدر ممكن — بالتفصيلات الجزئية المتعيِّنة بمكانها وزمانها، أو، بعبارة أخرى، عدم العناية أكثرَ مما يَلزم بالأفراد والمفرَدات؛ لأنها زوائلُ عوابر، ولا يَحسُن الوقوفُ عندها إلا بمقدارِ ما نتَّكئ عليها للصعود نحو الأعمِّ ونحوَ المجرَّد، أقول: إذا أدرَكْنا ذلك كنا قد وضَعنا أصابعنا على رُكن ركين من وجهة النظر العربية الأصيلة، فالتفصيلاتُ الجزئية — على أهميتها في الحياة العمَلية — هي رواسبُ على الأرض كالحجر والحصى، وأما الارتفاع عنها بالقول العام المجرد فهو أخذٌ في الطيران على جَناحَيِ العقل إلى السماء، وبعدئذٍ تكون الخطوةُ قصيرةً نحو «المطلق»، نعم إننا في هذه التثنية التي تشطر العالم إلى ما هو أعلى وما هو أدنى، والتي قد تجد انعكاسَها في قسمة الإنسان إلى روحٍ وجسد، بحيث تكون للروح المكانةُ العليا الجديرةُ بالعناية والرياضة، ويكون للجسد المكانةُ الدنيا التي تستحق الزراية والإهمالَ والكبت. أقول: إننا في هذه التثنية التي تَركُل الأدنى بقدَمَيها وتشرئبُّ برأسها إلى الأعلى، نكشف عن جوهرٍ فينا أصيل، مُحالٌ علينا أن نرى عصرنا هذا من خلاله، فعصرُنا هذا القائم على العلم وعلى الصناعة في الاقتصاد، وعلى الحرية والديمقراطية في الحُكم، إنما يتعذَّر على أهله أن يَصطنِعوا وجهةَ نظر تغضُّ النظر عن المفرَدات وعن الأفراد، فالمفردات الجزئية الواقعية هي الينبوع الذي تَنبثق منه نظرياتُ العلم وقوانينُه، وهي الأرض التي تكون عليها تطبيقاتُ الصناعة وضُروب نشاطها، وكذلك الأفراد — أفراد الناس — هم الدِّعامة الأولى التي بغيرها يُصبِح الحديثُ عن الحرية وعن الديمقراطية في الحكم حديثًا أجوفَ فارغًا، فإذا كانت روحُ اللغة تَهديك إلى فلسفة المتكلِّمين بها، ثم إذا كان الأغلبُ على العربي أن يَطير عن أرض الوقائع الجزئية إلى حيث القولُ المجمَل المحكَم السريع، فهو في ذلك إنما يَصدُر عن فلسفة مَركوزة في أعماق طبعه، وهي أن العِبرة بالفكرة لا بالمفرَدات التي تُجسِّدها، لا سيما إذا صِيغَت الفكرة في لفظ مَصْقول متين البناء، فعندئذٍ صِحْ: إلى الجحيم بالدنيا وما فيها ومَن فيها، مِن فقرٍ هو في حقيقته «فُقراء»، ومن مرضٍ هو في واقعه «مَرْضى»، ومن ظلم هو على الأرض «ظالمون» و«مظلومون».
٣٧
ونترك هذا لِنَمضيَ مع المؤلف وهو يطرح علينا قضية أخرى، ثم يقف منها موقفًا عقليًّا لا يتسلَّل إليه ذرةٌ من هوًى، والقضية المطروحة لُغوية، لكن المبدأ الكامن وراءها يصحُّ أن يكون مبدأً لكلِّ جانب آخر من جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية، وهي: إجماع أهل العربية على شيء، متى يكون حُجة؟
يُجبب ابن جنِّي قائلًا: «اعلم أن إجماع أهل البلدَين إنما يكون حُجة إذا أعطاك خَصمُك يدَه ألَّا يُخالِف المنصوصَ والمقيسَ على المنصوص، فأما إن لم يُعطِ يده بذلك، فلا يكون إجماعهم حُجة عليه؛ وذلك أنه لم يَرِد ممن يُطاع أمره في قرآن ولا سُنة أنهم لا يَجتمعون على الخطأ» (ج١، ص١٨٩).
ولكي نُلقِيَ شيئًا من الضوء على هذا المبدأ الفكريِّ العظيم، نقول: إن الصواب والخطأ — كائنًا ما كان الموضوعُ الذي يُوصَف بأيِّهما — لا يكون لهما معنًى إلا بالقياس إلى مرجع يُرجَع إليه خارِجَ الحقيقة نفسِها التي نَصِفها بالصواب أو بالخطأ، أي إن الجملة نفسَها لا تَحمل في ذاتها مِقياسًا، فأولًا — حين تكون الجملةُ دالةً على أمرٍ من أمور العالم الخارجي، كأن تقول مثلًا: إن ذَرة الماء تتألف من ذرتَين من الأيدروجين وذرة من الأوكسجين، فعلى أيِّ أساس نُقيم صوابها؟ إننا لا نقيمه بمجرد النظر إليها وإلى مفرداتها وإلى طريقة تركيبها، بل نقيمه بأن نُجاوِزَ حدودها إلى شيء سِواها وهو عَيِّنة فِعلية من الماء، نُحللها في المخابير؛ لِنَستوثق أنها على هذا النحو رُكِّبَت، بل إن الجملة الرياضية نفسها، كقولنا «٢ + ٣ = ٥»، وهي ضربٌ من القول نَزعُم له دائمًا أنه يَحمل صِدقَه في طريقة بِناء أجزائه، دون الرجوع إلى معدودات خارجية في الواقع الفعلي؛ وذلك لأنه يَكفينا أن نَنظر في شَطْرَي المعادلة لنعلم أن أحد الشطرَين يقول ما قاله الشطر الآخر برغم اختلاف الرموز التي يَستخدمها، وما دام الأمر كذلك، فكأننا نقول في هذه الحالة إن «س» هي «س»، وبذلك يتحتَّم الصدق، ولماذا يتحتم؟ لأنه قائم على مبدأ الهُويَّة بين الشطرَين، فهذا الشطر من المعادلة هو نفسُه ذاك، أو هو قائمٌ — من ناحية أخرى — على مبدأِ عدَم التناقُض، فليس بين الشطرَين قولٌ ونقيضه، لكننا نُلاحظ هنا أن حُكمَنا بصواب القول إنما استنَد إلى «مبدأ» ذي وجود عقلي يُجاوز حدودَ المعادلة نفسِها.
صفوة القول: إن المتجادِلَين في أي موضوع — من اللغة أو من غيرها — لا يَسيران في الجدل على هُدًى، إلا إذا اتفَقْنا بادئَ ذي بَدء على «المرجع» الذي يُرجَع إليه عند الحكم بصواب أو بخطأ على قول يَقوله أحدهما، فإذا اتفقا على هذا المرجع، وضَح أمامهما سبيلُ الاتفاق، وإلا فكلٌّ منهما يَسير على طريق غير طريق الآخر، فلا يلتقيان.
ونرجع إلى عبارة ابن جنِّي عن قيمة «الإجماع» من حيث هو مِعيار يَفصِل في مواضع الخلاف كلما نشأَت بين مُتجادِلَين، فهو يقول: إن إجماع العالم بأسره على أمر لا يَكفي حجة، اللهم إلا إذا اتفق الخَصْمان منذ البداية على أن يكون حُجة بينهما، أما إذا لم يسلِّم لك خَصمُك بأن يكون المنصوص والمقيس على المنصوص معيارًا، ففيم إذن ذِكرُك أمامه لنصٍّ قاله قائل وأجمَع عليه ألفُ ألفِ قائل؟
لكن ابن جنِّي سرعان ما يَصُده «الإيمان» عن المضيِّ مع المبدأ العقلي إلى آخِر الشوط، وذلك حين يُبرِّر الخروجَ على الإجماع بأن مِثل هذا الخروج لم يَرِد منعُه ممن يُطاع أمره في قرآن ولا سُنة، ناسيًا — فيما يَظهر — أن القرآن والسُّنة بِدَورهما «نصوص»، وإذا كانت هذه النصوصُ واجبةَ الطاعة عند المؤمنين بها، فليست هي كذلك عند غير المؤمنين، ولا كذلك الأخذُ بمقاييس المنطق العقلي الصِّرْف؛ لأنه عندئذٍ لا يكون فرقٌ بين إنسان وإنسان على أساسٍ من الإيمان، افرِضْ — مثلًا — أنني قلتُ إنه إذا كانت «س» أكبرَ من «ص»، وكانت «ص» أكبرَ من «م»، فإن «س» تكون أكبرَ من «م»، فها هنا يَكون الأمر مُلزِمًا بالقَبول على مبدأٍ يقول: إنه إذا صدَق حكمٌ على شيء ما، كان صادقًا على كل جزء من أجزائه؛ فقد كان ابن جنِّي لِيُصبح أكثرَ فَهمًا لمعايير العقل وأشدَّ استمساكًا بها لو أنه حذَف من عبارته السالفة جزءها الأخير.
ولابن جنِّي في هذا السياق نفسِه عبارةٌ أخرى تستحق الذِّكر، ويَستحق التمجيد من أجلها؛ إذ يقول: «… فكل مَن فُرِق له عن علةٍ صحيحة، وطريقٍ نَهْجةٍ، كان خليلَ نفسه، وأبا عمرِو فِكره» (ج١، ص١٩٠). ومعناها أن كلَّ مَن اهتدى بتدليلٍ عقلي سديد إلى تعليل مُصيب، أخذ فيه النهج المنطقيَّ السليم، فهو عندئذ يكون إمامَ نفسه، ولا حاجةَ به إلى الرجوع إلى إمامٍ آخرَ يَطلب منه التأييد؛ إذ لا ينقصه عندئذٍ أن يجد الموافَقة عند الخليل بن أحمد أو عند أبي عمرِو بن العلاء أو غيرِهما من أئمة اللغة، فكما يقول المعرِّي: «لا إمام سوى العقل» فلو توافرَت لك مَناهجُه وأدلته ونتائجه فحَسْبُك ذلك إمامًا.
أليس من أعجب العجب بالنسبة إلينا نحن، وفي عصرنا بكل ما قد دعا إليه وجاء به من جديد لم يكن لِيَطرأَ ظِلٌّ منه على بال أحد من الأقدمين، نجد بيننا مَن يحمله عَمى البصيرة على الاعتقاد بأن الأوائل لم يَترُكوا للأواخر شيئًا، وإذن فما على هؤلاء الأواخرِ إلا أن يَرتدُّوا إلى الأوائل يَعُبون العلم كلَّ العلم من صحائفهم؟! فإذا رجَعنا إلى هؤلاء الأوائل وجَدناهم يُحذِّرون أنفسهم من الوهم بأن أوائلَهم قد سَدُّوا عليهم الطريق! فها هو ذا ابن جني، وهو في سياق القول بأن كل فرد يَستطيع أن يكون إمامَ نفسه، إذا هو أحسنَ النظرَ والاستدلال، ويَستشهد بقول الجاحظ: «ما على الناس شيءٌ أضرَّ مِن قولهم: ما ترَك الأولُ للآخر شيئًا» (عن ابن جني، ج١، ص١٩٠). فإذا لم يَهدِنا تراثُ آبائنا إلى هذه المبادئ العليا، فإلى أيِّ شيء يَهدي؟
إن دراستنا للتراث دراسةً واعية تَنتهي بنا هي نفسُها إلى ترك مادة التُّراث من حيث هي مضمونٌ فكري بذاته وخصائصه، وإني ليَحضُرني هنا موقفٌ مُشابِه لما أريد قوله، وهو موقف الفيلسوف التحليلي المعاصر «فتجشتين» في كتابه المكثَّف الغزير «رسالة في المنطق الفلسفي»؛ وذلك بأن جعَل آخر عبارة في كتابه تقول ما معناه: إن هذه الرسالة تكون قد أدَّت غرَضَها إذا هي علَّمَت القارئَ كيف يَستغني عنها، فكأنها سُلَّم خشبيٌّ يَصعد عليه الصاعد إلى حيث يُريد، ثم يَقذف به لأنه لم يَعُد يريد النزولَ إلى حيث كان، فكم هي مواقفُ الأعظَمين مِن آبائنا، التي رفَضوا بها إهدارَ آدميتهم أمامَ النماذج المُثْلى! فالنموذج يَكفيه أن يُقيم للإنسان الشخصية التي تَستطيع بعد ذلك أن تَستغنيَ عنه لتشقَّ طريقها على نحوٍ مستقل فريد.
ونعود إلى ابن جني في السياق الذي كنا بصدد الحديث عنه، وهو سِياق القول في الإمامة العِلمية للعلماء السابقين متى تجوز ومتى لا تجوز، وهي — عنده — لا تَجوز إذا وثق المرءُ من سداد منهجه العقلي عند النظر إلى مسألةٍ مطروحة، فهو في ذلك يقول أيضًا في موضع آخَر ما معناه: إن ما يَثبُت لك بالدليل العقلي لم يَعُد بك حاجةٌ إلى البحث له عن شاهد عند الأقدمين يُؤيِّده، وهذه هي عباراته: «أما إذا دلَّ الدليل، فإنه لا يجب إيجادُ النظير … لأن إيجاد النظير بعد قيام الدليل إنما هو للأُنس به لا للحاجة إليه، فأما إن لم يَقُم دليلٌ فإنك محتاج إلى إيجادِ النظير» (ج١، ص١٩٧).
٣٨
وننتقل مع ابن جني إلى موضوع آخر يَطرحه ويَرى فيه الرأي، وهو موضوعٌ أقربُ جدًّا إلى ما يَكثُر فيه اللغَط في أيامنا هذه، عمَّا يُسمونه بالشكل والمضمون؛ أيُّهما أولى بالعناية ليصبح الأدبُ أدبًا والفكر فكرًا؟ كأنما الفصل بينهما ممكن إلا في التحليل الذهني، غير أن الموضوع على يدَيِ ابن جني يُركِّز على ناحية اللفظ والمعنى، وذلك دفعًا للتُّهمة التي وُجِّهَت إلى اللغة العربية من أنها تُعنى باللفظ أكثرَ من عنايتها بالمعنى، وسننقل — في شيء من الإفاضة — ما قاله ابنُ جني في دَفعِه للتهمة ودفاعه عن العربية، ثم قد يكون لنا بعد ذلك تعقيبٌ برأي نراه؛ يقول:
«… إن العرب كما تُعنى بألفاظها فتُصلِحها وتُهذِّبها وتراعيها وتلاحظ أحكامها، بالشِّعر تارة، وبالخُطَب أخرى، وبالأسجاع التي تَلتزِمها وتتكلَّف استمرارها، فإن المعانيَ أقوى عندها، وأكرمُ عليها، وأفخمُ قدرًا في نفوسها.
فأول ذلك عنايتها بألفاظها؛ فإنها لما كانت عُنوانَ معانيها، وطريقًا إلى إظهار أغراضها ومَراميها، أصلَحوها ورتَّبوها، وبالَغوا في تحبيرها وتحسينها؛ ليكون ذلك أوقعَ لها في السمع، وأذهبَ بها في الدلالة على القصد، ألا ترى أن المثَل إذا كان مسجوعًا، لذَّ لسامعه فحَفِظه؟ فإذا هو حفظه كان جديرًا باستعماله؟ ولو لم يَكُن مسجوعًا لم تأنس النفسُ به، ولا أنِقَت لمستمِعه، وإذا كان كذلك لم تحفَظْه، وإذا لم تحفظه لم تُطالِب أنفسها باستعمال ما وُضِع له، وجيء به مِن أجله، وقال لنا أبو عليٍّ يومًا: قال لنا أبو بكر [المقصود هو ابن السَّرَّاج]: إذا لم تفهَموا كلامي فاحفَظوه؛ فإنكم إذا حفظتموه فَهِمتموه، وكذلك الشعر؛ النَّفْس له أحفَظ، وإليه أسرع، ألا ترى أن الشاعر قد يَكون راعيًا جلفًا، أو عبدًا عَسيفًا، تنبو صورته وتُمَجُّ جملته [وربما كان الصواب «خِلقتُه»] فيقول ما يقوله من الشعر، فلأجل قَبوله، وما يُورِده عليه من طَلاوته وعذوبة مُستمَعه، ما يَصير قوله حُكمًا يُرجَع إليه ويُقتاس به؟» (ج١، ص٢١٥-٢١٦).
«فإذا رأيت العرب قد أصلَحوا ألفاظها وحسَّنوها، وحمَوْا حواشيَها وهذَّبوها، وصقَلوا غروبها وأرهفوها، فلا تَريَنَّ أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ، بل هي عندنا خدمةٌ منهم للمعاني، وتنويهٌ بها وتشريف منها، ونظيرُ ذلك إصلاح الوعاء وتحصينه، وتزكيته وتقديسه، وإنما المبغيُّ بذلك منه الاحتياط للموعى عليه، وجواره بما يعطِّر بشَرَه، ولا يَعُر جوهره، كما قد نجد من المعاني الفاخرة السامية ما يُهجِّنه ويغَصُّ منه كُدرةُ لفظه وسوء العبارة عنه» (ص٢١٧).
«ويدلك على تمكُّن المعنى من أنفسهم، وتقَدُّمه للفظ عندهم، تقديمهم لحرف المعنى في أول الكلمة، وذلك لقوة العناية به، فقدَّموا دليله ليكون ذلك أمارة لتمكُّنه عندهم؛ وعلى ذلك تقدمَت حروف المضارعة في أول الفعل، إذ كنَّ دلائلَ على الفاعلين: مَن هم؟ وما هم؟ وكم عِدَّتهم؟ نحو أفعل، ونفعل، وتفعل، ويفعل» (ص٢٢٥).
«أفلا ترى إلى حروف المعاني: كيف بابُها التقدم؟ وإلى حروف الإلحاق والصناعة: كيف بابها التأخُّر؟ فلو لم يُعرَف سَبْق المعنى عندهم وعلوُّه في تصورهم إلا بتقدُّم دليله وتأخر دليلِ نقيضه، لكان مُغنيًا من غيره كافيًا.
وعلى هذا حشَوْا بحروف المعاني، فحصَّنوها بكونها حشوًا، وأمِنوا عليها ما يُؤمَن على الأطراف المعرَّضة للحذف والإجحاف؛ وذلك كألف التكسير وياء التصغير، نحو دارهم ودُرَيْهم، وقَماطر وقُمَيطر، فجرَتْ في ذلك — لكونها حشوًا — مَجرى عين الفعل المحصَّنة في غالب الأمر، المرفوعة عن حال الطرَفَين من الحذف» (ص٢٢٥).
«… فهذا يدلك على ضَنِّهم بحروف المعاني، وشُحِّهم عليها، حتى قدَّموها عنايةً بها، أو وسَّطوها تحصينًا لها» (ص٢٢٦).
تلك نصوص مما قاله ابن جني دفعًا للتهمة الموجَّهة إلى العربية بأن معظَم عنايتها منصرف إلى اللفظ لا إلى المعنى، فيبين في شيء من البراعة، كيف أن طرائق بناء الألفاظ نفسها تدلُّ على أنها إنما صيغت على نحوٍ يَضمن للَّفظة وجودَ الحرف الذي هو ذو علاقة وثيقة بالمعنى.
ولستُ أملك أن أقول شيئًا سوى أن الشُّقة بعيدةٌ بين «المعنى» الذي نبحث عنه حين نقول عن الكاتب: إنه يُعنَى باللفظ دون المعنى، و«المعنى» الذي يتحدَّث عنه ابن جني، فهو مشغول بمعنى اللفظة الواحدة، ونحن يَشغَلنا المعنى المراد تأديتُه من مقالة أو من كِتاب أو من قصيدة أو قصة أو مسرحية، فالمعنى في استعماله هو كالإشارة إلى المسمَّى، والمعنى في استعمالنا هو كالفكرة المراد تحليلها وتقويمها، وإنه لشرحٌ يَطول بي لو أردتُ هنا أن أؤيد الاتهامَ تأييدًا فيه كثيرٌ من التحفظ، فلم تكن العناية باللفظ أغلبَ على العناية بالمعنى في مجالات الفقه والفلسفة والرحلات والعلوم، لكنها أغلبُ في مجالات الأدب بمعناه الضيِّق من شعر ونثر فني، فها هنا نقول: إن ما نراه هو أن الشاعر والناثر قد يَكتبان كثيرًا ولا يقولان إلا قليلًا؛ لأن معظم العناية بالصقل والتزويق وإظهار القدرة اللغوية بالإكثار من المترادِفات، حتى لتتصيَّد المعنى تصيُّدًا.
٣٩
ولنقف معه عند موضوع آخر ذي شأنٍ كبير في فلسفة اللغة، وكيف أن هذه الفلسفة كثيرًا ما تَكشف لنا عن مبادئ النظر الأولية عند أصحاب اللغة المعنيَّة؛ ما طبيعتها ومَنْحاها؟
يحاول ابن جني هنا أن يَنظر في أنواع الكلمة، أيُّها أسبق من أيِّها؟ فهنالك الأسماء والأفعال والحروف، فهل يا تُرى ظهرَت هذه الأنواع الثلاثة دَفعةً واحدة، أو هي تعاقبَت في الظهور بحسَب الحاجة إلى التعبير؟ ثم إذا كانت قد ظهرَت كلُّها معًا دفعة واحدة، فهل تكون — مع ذلك — على درجة واحدة من الأولوية، أو أن منها ما هو أسبق منطقيًّا من الآخَر؟
ويبدأ ابن جني إجابته بذكر ما قاله أستاذه، الذي لا يَنقطع عن الرجوع إليه من أول الكتاب إلى آخِره، وهو «أبو علي»، فيقول: «اعلم أن أبا عليٍّ — رحمه الله — كان يذهب إلى أن هذه اللغة — أعني ما سبَق منها ثم لَحق بها ما بعده — إنما وقع كلُّ صدر منها في زمانٍ واحد، وإن كان تقدَّم شيءٌ منها على صاحبه، فليس بواجبٍ أن يكون المتقدِّمَ على الفعل الاسمُ، ولا أن يكون المتقدمَ على الحرف الفعلُ، والفعل قبل الحرف، وإنما يَعني القومُ بقولهم: إن الاسم أسبقُ من الفعل، أنه أقوى في النفس، وأسبقُ في الاعتقاد من الفعل، لا في الزمان، فأما الزمان فيجوز أن يكونوا عند التواضع قدَّموا الاسم قبل الفعل، ويجوز أن يكونوا قدَّموا الفعل في الوضع قبل الاسم، وكذلك الحرف؛ وذلك أنهم وزَنوا حينئذٍ أحوالهم، وعرَفوا مصايرَ أمورهم، فعلموا أنهم مُحتاجون إلى العبارات عن المعاني، وأنها لا بد لها من الأسماء والأفعال والحروف، فلا عليهم بأيِّها بدَءوا: أبِالاسم أو بالفعل أم بالحرف؛ لأنهم قد أوجَبوا على أنفسهم أن يأتوا بهن جُمَعَ؛ إذ المعاني لا تَستغني عن واحدٍ منهن» (ج٢، ص٣٠).
-
لا فرق في طبيعة اللغة بين حالتها عند أول ظهورها، وحالتها في أي مرحلة لاحِقة من مراحل تاريخها، فالصورة التي بدأَت بها هي الصورة التي دامَت عليها، اللهم إلا في اتِّساعها وغَزارتها، أما «الكيف» فلم يتغيَّر.
-
وهذه الصورة التي تتغير كيفًا، هي أنها نشأَت بأنواع الكلمة الثلاثة؛ الأسماء والأفعال والحروف، كلها معًا.
-
فإذا فرَضْنا جدلًا أن هذه الأنواعَ قد تلاحقَت ظهورًا على مجرى الزمن، فلسنا نرى — من طبائع هذه الأنواع — أيها تقدم الآخر؟ لأنها في هذا سواء، إذ ربما كان التقدمُ في الظهور للأسماء، وربما كان للأفعال، وربما كان للحروف، فليس بين أيدينا شاهدٌ عقلي يحسم الأمرَ لواحد دون الآخر.
-
ومع ذلك فالشائع بين مَن تناوَلوا الموضوع بالنظر، أن الاسم أسبقُ من الفعل، لكن القائلين بهذا لم يَقصِدوا بالأسبقية أسبقيةً في زمن الظهور، بل هي عندهم أولوية منطقية، وأما زمان الظهور فواحدٌ في كِلَيهما، والمقصود بالأولوية المنطقية أن الاسم قد يَستغني عن الفعل عند الاستعمال، أما الفعل فلا يستغني عن الاسم.
-
لو كانت هذه الأنواع الثلاثة قد تعاقبَت ظهورًا، ولم تتزامَن في لحظة واحدة، فقد كان المعوَّل في هذا هو «المعاني» التي طرأَت بأذهانهم وأرادوا التعبير عنها، فربما وجَدوا المطلوب لهذا التعبير اسمًا، أو فعلًا، أو حرفًا، فكان البدء بأيِّها تطلَّب المعنى المرادُ إخراجه في لفظ — ولما كانت هذه المعاني إنما تَستوجب للتعبير عنها أسماءً وأفعالًا وحروفًا في وقت معًا، إذن فلا بد أن تكون الأنواع الثلاثة قد نشأَت معًا.
وتعليقًا على هذه الوقفة العقلية الرائعة من اللغة ونشأتها، نقول: إنها — برغم ذلك — وقفةٌ قد خلَط فيها صاحبُها بين ما هو «منطق» وما هو «نحو» خلطًا أدى به إلى خطأ النتائج التي انتهى إليها، فأولًا — تقسيم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف هو تقسيمٌ يَعرفه النحو لما بين هذه الأقسام من اختلافات في قواعد الاستعمال وقواعد الإعراب، وأما المنطق فله في ذلك نظرة أخرى، وهي أن الكلمة كائنة ما كانت هي اسمٌ على كل حال، وكل ما في الأمر أن الاسم أحيانًا يُطلَق على كائنٍ ذي درجة نسبية من الثبات، وأحيانًا أخرى يُطلَق على مسيرة حركية، وأحيانًا ثالثة يُطلَق على علاقة قائمة بين أشياء، هي كلها «أسماء» نُطلِقها على ما هنالك من وقائع، خذ مثلًا قولنا: «محمد يلعب الكرة في الحديقة»، أتقول إن الأسماء هنا ثلاثة، هي: محمد والكرة والحديثة، وأما «يلعب» فهي فعل، وأما «في» فهي حرف؟ لكن دقِّق النظر قليلًا تَجِدْك قد أطلقتَ لفظة «يلعب» على مجموعة حرَكية من نمط معيَّن، تمامًا كما أطلقتَ «الكرة» على جسم اتخَذ مجموعةَ أوضاع متباينة، وكذلك الأمر في حرف الجر «في»؛ لأنه الرابطة المرئية بين الأطراف الأربعة الأخرى: محمد، كرة، حديقة، يلعب، وإذا شئتَ تعبيرًا فلسفيًّا مألوفًا، فقل: إن هذه الأطراف الأربعة هي بمثابة «مادة» الفكرة، وأما «في» فهي «صورتها» التي لولاها لما تكوَّنَت لنا فكرةٌ من تلك الأطراف المتفرقات.
ومع هذه التسوية بين الألفاظ الخمسة جميعًا في كونها جميعًا أسماءً برغم الفوارق بين المسمَّيات: أهي أشياء أم حركات أم علاقات، لا بد لنا من تَفرِقة منطقية بينها، تجعلها في مُستويَين لا في مستوًى واحد، فأما الأطراف الأربعة التي هي: محمد، كرة، حديقة، يلعب — فكلها سواءٌ تقع في درجة وحدها، هي الدرجة التي تَكون فيها المسمَّيات كائناتٍ أو أفعالًا ذواتَ مكان وزمان، ويمكن الإشارة إليها، فنقول: هذا محمد، وهذه كرة، وهذه حديقة، وهذه مجموعة حركية مما نُسميه لعبًا، وأما كلمة «في» فهي في درجة منطقية وحدها؛ لأنه ليس لها ما يُشار إليه بها، ومع ذلك فهي في الجملة كلها بمثابة «الروح» التي لولاها لبَقِيَت الأطرافُ وكأنها الأشْلاء المبعثَرة لا الأعضاء ذات الوظائف الحيوية؛ ولذلك يُطلَق على أمثال هذه الكلمات في الفكر الفلسفي التحليلي المعاصر «كلمات منطقية» بالقياس إلى النوع الآخر من الكلمات التي هي «كلمات شيئية» أي كلمات تُشير إلى أشياء، وسواءٌ كانت الكلمة منطقية من شأنها أن «تبني» الفكرة، أو كانت شيئية من شأنها أن تشير إلى ما هو كائنٌ في الموقف الذي نتحدَّث عنه، فهي في كِلتا الحالتَين «اسم» على كل حال، له ما يَعنيه.
-
قد أخطأ الظنَّ حين زعم أنه لو كانت أنواع الكلمة الثلاثة قد ظهرَت مُتعاقِبة على الزمن، فليس في طبائعها ما يُحتِّم أن يكون لنوعٍ منها دون النوعَين الآخرَين أسبقيةٌ في الظهور؛ إذ إن الكلمات «المنطقية» كان لا بد لها أن تَنتظر حتى يَفرغ الإنسان من إطلاق الأسماء على الأشياء والأفعال، ثم يهمُّ بإقامة أحكامه عليها، أعني ببناء جُمَل عنها، وها هنا تَلزمه الروابط التي تشدُّ أطراف الجملة في وَحدة واحدة هي «الفكرة».
-
وكأنما جاءه الصواب عفوًا حين أدرَك للأسماء أسبقيةً منطقية على سِواها؛ لأن مثل هذا القول لم يكن ليتفقَ مع الزعم بأن البدء كان يجوز له أن يكون بأيٍّ من الأنواع الثلاثة. نعم، هنالك فرقٌ بين الترتيب الزمني والترتيب المنطقي، بحيث يمكن أن يأتي شيءٌ بعد شيء في الزمن، مع أنه أسبقُ منه في الفكر، فدراسة الطالب في الجامعة — مثلًا — تأتي قبل حصوله على الدرجة الجامعية من حيث الترتيبُ الزمني، لكن الحصول على الدرجة كان هو الهدفَ الذي سبَق إلى الفكر، فترتب عليه أن يَنتظم الطالب في دراسته الجامعية؛ ليُحقِّق ذلك الهدف.
فهل أراد ابن جني أن يقول: إنه كان يمكن للحرف — مثلًا — أن يَظهر قبل الاسم في الزمن، لكن الاسم يظل أسبقَ منه في الفكر على نحوِ ما شرحنا؟ فأقول: إن ذلك التصور محالُ الحدوث؛ فمحالٌ أن أبدأ بالحرف «في» قبل أن تكون قد تجمعَت لديَّ طائفة من أسماء لأشياء وأفعالٍ أربطها بهذه الأداة إذا اقتضى الأمرُ مثل هذا الربط.
-
ويقول ابن جني — نقلًا عن أبي عليٍّ — إنه لو كانت الفكرةُ الأولى التي أراد الإنسانُ أن يُعبِّر عنها قد وجدَت عبارتها في «حرف» لبدأ الإنسان بالحرف! وهذا — فيما نرى — خلطٌ مَعيب بين مُستويَين: مستوى الأشياء والأفعال، ثم مستوى البناء المنطقي من تلك الأشياء والأفعال، والتعبير عن أي «معنى» لا يَجيء إلا بعد اجتياز المستوى الأول صعودًا إلى المستوى الثاني.
-
ومن هنا نتردَّد في قَبول ما يزعمه ابن جني — تأييدًا منه لوقفة أستاذه — من أن الثلاثة الأنواع مِن الكلمة بدأَت معًا؛ لأنه لا فكر بغيرها مجتمِعة، إنه لأصوَبُ الصواب ألَّا ينشأَ فكرٌ إلا والأنواع الثلاثة هناك، ولكن «الفكر» لم ينشأ هكذا في لمحة خاطفة كأنه الصاعقةُ أو لمعة البرق: في لحظة تكون بعد أن لم تَكُن، بل هو قمة طريق تطوُّري طويل، لا يبعد أن يبدأ بالرمز إلى الأشياء بما يميزها قبل أن ينتهيَ إلى ربطها في تصوُّرات وأفكار، فالكلب — مثلًا — يُشير إلى صاحبه ويُميزه، لكنه لا يَعرف أن صاحبه هذا هو والدُ فلان وزوجٌ لفلانة.
وبعد هذه الوقفة منَّا تجاه ما نقَلناه عن ابن جني في مفردات اللغة كيف جاءت، نعود إلى كتابه لِنَمضي معه في القول، فإذا هو يُدرك شيئًا من التناقض الذي تورَّط فيه، فيستدرك لِيُصحح موقفه أمام قارئه، فجاء استدراكُه دليلًا على صِدق ما اعترضنا به عليه.
وذلك أنه كان قد قرَّر أن البدء لم يَكُن العقل يَمنع أن يكون بالأسماء أو بالأفعال أو بالحروف، فالعبرة بالمعنى الأول الذي أراد الإنسانُ أن يُجريَه في لفظ، فخشي أن يكون هذا القول منه مُنافيًا لقول آخر أورده في النص نفسِه الذي نقلناه عنه، وهو أن الأسماء والأفعال والحروف ظهرَت كلها، وسارت كلها، صدرًا واحدًا، لا سبق فيها ولا تخلُّف، فكتب يقول:
«… فإن قلت: هلَّا ذهبتَ إلى أن الأسماء أسبقُ رتبةً من الأفعال في الزمان، كما أنها أسبقُ رتبةً منها في الاعتقاد، واستدللتَ على ذلك بأن الحكمة قادت إليه؛ إذ كان الواجب أن يبدَءوا بالأسماء، لأنها عباراتٌ عن الأشياء ثم يأتوا بعدها بالأفعال التي بها تَدخل الأسماء في المعاني والأحوال، ثم جاءوا فيما بعدُ بالحروف لأنك تراها لواحقَ بالجمل، واستقلالها بأنفسها، نحو: إن زيدًا أخوك، وليت عمْرًا عندك، وبحَسْبك أن تكون كذا؟ [إن قلتَ ذلك كلَّه] قيل: يَمنع من هذا [أي مِن أن تكون الأسماءُ أسبقَ ظهورًا من الأفعال] أشياءُ، منها: وجودك أسماءً مشتقة من الأفعال، نحو قائم من قام، ومُنطلِق من انطلق، ألا تراه يَصح لصحته ويعتلُّ لاعتلاله؟ … فإذا رأيتَ بعض الأسماء مشتقًّا من الفعل، فكيف يجوز أن يُعتقَد سبقُ الاسم للفعل في الزمان؟ وقد رأيتَ الاسم مشتقًّا منه، ورتبة المشتقِّ منه أن يكون أسبقَ من المشتق نفسِه؟ وأيضًا فإن المصدر مشتقٌّ من الجوهر، كالنبات من النبت، وكالاستحجار من الحجر، وكلاهما اسم، وأيضًا فإن المضارع يعتلُّ لاعتلال الماضي، وإن كان أكثرُ الناس على أن المضارع أسبقُ من الماضي، وأيضًا فإن كثيرًا من الأفعال مشتقٌّ من الحروف، مثل قولك: سألتُك حاجةً فلَوْليتَ لي، أي قلتَ لي: «لولا»، وسألتُك حاجة فلالَيْت لي، أي قلتَ لي: «لا»، واشتقُّوا أيضًا المصدر — وهو اسم — من الحرف، فقالوا: اللَّالاة، واللَّوْلاة، وإن كان الحرفُ متأخرًا في الرتبة عن الأصلين قبله: الاسم والفعل» (ج٢، ص٣٣-٣٤).
- الأولى: أن وجودنا أسماءً مشتقة من أفعال، إنما يؤيد ما ذهَبنا إليه في تعليقنا السابق، وهو أن التفرِقة بين الأسماء والأفعال هي تَفرِقة في النحو لا في المنطق، ففي المنطق كِلاهما أسماء، وإذن فلا عجَب أن تشتقَّ اللغةُ واحدًا من الآخر، دون أن يدلَّ ذلك على أسبقيةٍ في الرتبة.
- الثانية: أن ابن جني قد خلَط بين ما حدث للُّغة في «تاريخها» وبين ما قد لزم لها في «منطقها»، فوجودُ قائل يقول ذات يوم «لوليت لي» — أي قلت لي: «لولا»، هو حادث زمني وقع في مجرى تاريخ الاستعمالات اللغوية، ووقوعه مرهونٌ بنزوات قائله وهذا أمر يختلف كلَّ الاختلاف عن الوجوب «المنطقي» — إذا سلَّمْنا به — لظهور الأسماء أو الأفعال قبل الحروف، وإلا فهل يجوز لرجل أنجب طفلًا في تاريخ معيَّن، ثم نبتَت له شجرةٌ في حديقته بعد ذلك التاريخ، أن يقول: الإنسان ظهَر في الوجود قبل النبات؟ ألا نقول له عندئذٍ: إن هذا التعاقب الفرديَّ في هذه الحالة المعينة لا يدلُّ على شيء بالنسبة إلى مراحل التطور العامة، والتي كان النبات فيها أسبقَ من الحيوان، ثم كانت مراتبُ الحيوان أسبقَ من الإنسان!
٤٠
وكتاب «الخصائص» لابن جني — بعد ذلك — مشحونةٌ صفحاتُه باللمعات البارقة الهادية، النافذة إلى عبقرية اللغة العربية، مع محاولاتٍ من المؤلف لا تنقطع لتعليل خصائصها تعليلًا عقليًّا منطقيًّا، كثيرًا ما يُثير فينا الإعجابَ والعجب معًا.
ويهمنا بصفة خاصة ألَّا نَختم الحديث عن الرجل وكتابه، قبل أن نُشير إلى خاصةٍ مميزة للغة العربية في مُفرَداتها، ولسنا في الحق نَدري لماذا ذهبَت عنها هذه الخاصةُ في حالات تركيبها كلامًا وتعبيرًا، أو على الأقل هذا ما نراه فيها في غيرِ حالات قليلة، وإنما قصدتُ إلى خاصة التصوير؛ فبين «المفردات» و«الأحداث» مسايَرةٌ تصويرية تَلفِت النظر … قال الخليل (برواية ابن جني): «كأنهم توهَّموا في صوت الجندب استطالة ومدًّا، فقالوا: صَرَّ، وتوهموا في صوت البازي تقطيعًا فقالوا: صرصر.
وقال سيبويه في المصادر التي جاءت على الفَعَلان: إنها تأتي للاضطِراب والحركة، نحو الغلَيان والغثَيان، فقابَلوا بتَوالي حركات المثال حركاتِ الأفعال» (الخصائص، ج٢، ص١٥٢).
وكذلك «تجد المصادر الرباعية المضعفة تأتي للتكرير، نحو الزعزعة، والقلقلة، والصلصلة، والقعقعة، والجرجرة، والقرقرة … فجعلوا المثال المكرَّر للمعنى المكرَّر …» (ج٢، ص١٥٣).
وكذلك «جعلوا تكريرَ العين في المثال دليلًا على تكرير الفعل، فقالوا: كسَّر، وفتَّح، وغلَّق …» (ص١٥٥).
«وذلك أنهم لما جعَلوا الألفاظ دليلةَ المعاني، فأقوى اللفظ ينبغي أن يُقابَل به قوةُ الفعل، والعين أقوى من الفاء واللام؛ وذلك لأنها واسطةٌ لهما، ومكنوفة بهما، فصارا كأنهما سِياج لها، ومَبْذولان للعوارض دونها؛ ولذلك تجد الإعلالَ بالحذف فيهما دونها … وقلما تجد الحذفَ في العين.
فلما كانت الأفعالُ دليلة المعاني، كرَّروا أقواها، وجعَلوه دليلًا على قوة المعنى المحدَّث به، وهو تكرير الفعل، كما جعلوا تقطيعه في نحو «صرصر» دليلًا على تقطيعه» (ج٢، ص١٥٥).
وإلى جانب أن تختلف اللفظة في بِنْيتها باختلاف ما تُصوِّره قوةً وضعفًا، واتصالًا وتقطُّعًا، فهي كذلك تختلف في جَرسِها بما يتفق مع الصوت الذي جاءت لتقابله؛ «… وذلك أنهم كثيرًا ما يَجعلون أصوات الحروف على سَمْت الأحداث المعبَّر بها عنها، فيُعدِّلونها بها، ويَحْتذُونها عليها، وذلك أكثر مما نُقدِّره، وأضعاف ما نستشعره، من ذلك قولهم: خَضَم، وقَضِمَ، فالخَضْم لأكل الرُّطَب كالبِطِّيخ والقثَّاء وما كان نحوَهما من المأكول الرطب، والقَضْم للصُّلب اليابس، حذوًا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث» (ص١٥٨).
وإن التعليلاتِ العقليةَ لأوضاع اللغة لتَبلغ مع ابن جني ذروتها، حين يُحدِّثنا عن «الأفعال» في اللغة وطريقة دلالتها على أزمنة حدوثها، فحيثما يُخشى اللَّبس بين ماضٍ وحاضر ومستقبل وجدت «الفعل» قد اتخذ الصورةَ التي تَمنع ذلك اللبس، وأما حيثما استحال عقلًا أن نَخلِط بين أزمنة الحدوث، جاز عندئذٍ أن يأخذ الفعلُ صورةً غير الصورة التي تدلُّ على زمن الحدوث، اعتمادًا على أن السياق يؤدي بالسامع حتمًا إلى التصوُّر الصحيح، يقول: «كان حكم الأفعال أن تأتيَ كلُّها بلفظ واحد؛ لأنها لمعنًى واحد، غير أنه لما كان الغرضُ في صناعتها أن تُفيد أزمنتها، خُولِف بين مُثُلِها ليكون ذلك دليلًا على المراد منها … فإن أُمِنَ اللَّبس فيها، جاز أن يقع بعضُها موقعَ بعض، وذلك مع صرف الشرط، نحو: إن قمتَ جلستُ؛ لأن الشرط معلوم أنه لا يصح إلا مع الاستقبال، وكذلك: لم يَقُم أمسِ، وجب لدخول «لم» ما لولا هي لم يَجُز … ولأن المضارع أسبقُ في الرتبة من الماضي، فإذا نُفي الأصلُ كان الفرع أشدَّ انتفاءً» (ج٣، ص٣٣١).
ولنترك هذه المائدة الغنية بغذائها الفكري، لنرحلَ رحلة قصيرة عن بغداد، إلى حيث نلتقي بأحد أعلام النقد البارزين، فما دمنا بصدَد الحديث عن اللغة وفلسفتها، فيَشُوقنا أن نُلقيَ نظرة على مَيدان النقد الأدبي، وإذن فإلى «جُرْجان» لِنَلقى هناك عبد القاهر الجُرْجاني، نسمع ماذا يقوله عن تصوُّره للمعنى كيف يُبنى على اللغة التي تَحمله، وبعدئذٍ لنا عودة إلى بغداد؛ فمعظم الصيد — عندئذٍ — في جوف بغداد.
٤١
عندما كتب برتراند رِسل كتابه «بحث في المعنى والصدق» وقَف وقفة تحليلية ليسأل نفسه، وليحاول الجواب عن سؤاله، ما الذي يُعطي الجملةَ المفيدة وحدتَها؟ إنها مركَّبة من مفرَدات تتوالى فإذا كانت منطوقةً جاء تواليها تتابُعًا على خط الزمن، وإذا كانت مكتوبة، جاء ذلك التوالي تجاورًا في حيز المكان، لكننا ما لم نقَع وراء هذه المفردات على الرابط المنطقيِّ الذي يَربِطها، لما استطَعْنا أن نُحدِّد لأنفسنا ماذا نَعني بقولنا «فكرة»، كان يَسيرًا بالطبع على أناس كثيرين أن يقولوا: اللفظ جسد، والفكرة أو المعنى روحُه، أو: اللفظ هو مادة الجملة، والفكرة أو المعنى صورتها، لكنَّ رجلًا مثل «رسل» لا يَرضى لنفسه أمثالَ هذه الغوامض، فإذا بحَث ووجد أن الرابط المنطقيَّ المنشود إنما يَكمُن في طريقة «الترتيب» الذي تتوالى به المفردات واصَلَ البحثَ ليرى: أية طريقة في الترتيب تلك التي إذا توافرَت للمفردات صنعَت جملة، وبالتالي صنعت فكرة؟
فإذا قرأنا لعبد القاهر الجُرجاني كتابَيْه: «أسرار البلاغة» و«إعجاز القرآن» أدرَكْنا كم هي قوية تلك الصلة التي تَنظِم الجُرجانيَّ في أوائل القرن الحادي عشر (توفي ١٠٧٨م) وبرتراند رسل في القرن العشرين (توفي ١٩٧٠م)؛ فالفكرة عندهما واحدةٌ مِن حيث الأساس، وهو أن المعنى كائنٌ في طريقة الترتيب التي تنظم بها المفردات، لا في المفردات من حيث هي مفرداتٌ وكفى، وذلك برغم الاختلاف البعيد الذي يَفصِل الرجُلَين في طريقة التناول؛ فبينما الجُرجانيُّ قد غلَبَت عليه النظرة اللغوية النحوية، غلبَت على رسل النظرةُ المنطقية الرياضية، وهو — في الحق — فاصلٌ من أهم الفواصل المميزة بين طريقة التفكير قديمًا وحديثًا.
والآن فلنُنصِت إلى هذا الناقد العقلاني لنسمع ماذا يقول في قضايا ما زالت نابضةً بالحياة إلى يومنا هذا، وسنبدأ بكتابه «أسرار البلاغة» لِنُعقِّبه بكتابه الآخر «إعجاز القرآن».
يبدأ بقوله في صراحة واضحة: «الألفاظ التي لا تُفيد حتى تؤلف ضربًا خاصًّا من التأليف، يُعمَد بها إلى وجهٍ دون وجه من التركيب والترتيب …» (ص٢، طبعة المنار، ط٢)، ثم يَمضي شارحًا فيقول: إنك لو تناولتَ بيتًا من الشِّعر أو فصلًا من النثر، وعدَدتَ كلماته عدًّا كيف جاء واتفق، مبطِلًا نظامَ تلك الكلمات الذي بُنِيَت عليه العبارة بحيث أصبح لها المعنى الذي لها، ومُغيِّرًا لترتيب الكلمات الذي بخصوصيته أفاد كما أفاد، لأَخرجتَ البناء اللغوي «من كمال البيان إلى مجال الهذيان» نحو أن تقول في «قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزل»: «منزل قِفا ذِكْرى من نبكِ حبيب.»
فلماذا كان لترتيب اللفظ على نحو معين قدرةٌ على البيان؟ يُجيب الجُرجانيُّ بقوله: ذلك لأن ترتيب اللفظ على هذا النحو المعيَّن إنما يُساير الترتيبَ نفسه الذي انتظمَت به المعاني في ذهن المتكلم، ولقد انتظمَت المعاني هناك وَفْق ما يقتضيه العقل، فالمنطق العقلي نفسُه يدلُّك على أيِّ المعاني يجب أن تَسبق، وأيها يجب أن تأتيَ لاحقة، بحُكم طبائعها بالنسبة للموقف الذي نَقِفه من عالم الأشياء، فالمبتدأ يجب أن يَسبق ليلحق به الخبر، والفاعل يجب أن يسبق ليَلحق به مفعوله، والموصوف يجب أن يُذكَر أولًا لتلحق به الصفة التي نُريد أن ننعتَه بها … (ص٣). وهنا لا يَنبغي لنا أن نترك الجُرجانيَّ بغير تعليق؛ فلسنا على ثقةٍ بما يَزعمه من أن مِثل ذلك الترتيب الذي ضرب له الأمثلة هو مِن حكم «العقل» و«المنطق»؛ لأنه لو كان كذلك لتساوَت فيه لغاتُ الأرض جميعًا، لأن المتكلمَ بلغة — أيًّا كانت — هو إنسان يتَساوى مع بقية الناس فيما هو «عقل» و«منطق»، فإذا رأينا اللغة الإنجليزية مثلًا تُقدِّم الصفة على الموصوف بها، عرَفْنا أن الأمر إذن ليس محتومًا بأحكام العقل.
ونَمضي معه إلى قضية أخرى يُرتِّبها على ما قد أسلَفه من أن «المعنى» هو في ترتيب المفردات، وذلك حين يَجيء هذا الترتيبُ مُوازيًا لترتيب المعاني في الذهن، وهذا الأخير بدَوره إنما هو من إملاء المنطق العقلي، فكأنما يَسأل بعد ذلك قائلًا: وما الذي يَخلع «الجمال» على العبارة الأدبية، شعرًا كانت أم نثرًا؟ فيكون جوابه هو نفسه الجواب السابق الخاص بالمعنى؛ إذ يقول: إن اللفظ في حد ذاته عنصرٌ مُحايِد لا جمال فيه ولا قبح، لكن الذي يُعطيه الجمال الأدبي أو يَسلبه منه، هو مُسايرته للمعاني القائمة في الذهن؛ المعاني وترتيبها العقلي مرة أخرى! تُرى هل يُريد الجُرجاني بذلك أنه ما دام اللفظ قد انساق في ترتيبه مع ترتيب المعاني التي في الذهن، فقد توافر له المعنى والجمالُ في آنٍ معًا؟ أيكون «المعنى» و«الجمال» شيئًا واحدًا؟ بحيث يجوز لنا القول بأن كلَّ ذي معنًى فهو جميل؟ … أعتقد أن هذا الموقف هو ما يَلزم عن مقدماته ولو لم يَرِد عنده بهذه الصورة الواضحة، فإذا كان هو ما يريده، سلَكْناه في زُمرة الفلاسفة القائلين بأن جمال الشيء هو في أن يكون أداةً صالحة لفعل ما أُريدَ لها أن تفعله، وهؤلاء هم الفلاسفة الناظرون إلى الحقيقة نظرة عقلانية مَحْضة، لا دخل «للوجدان» فيها، فهكذا يقول سُقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم من أصحاب المعيار العقلي في مسائل القيم.
وتوكيدًا لهذا الأساس النقديِ عنده، تراه لا ينفكُّ يُردد — صفحة بعد صفحة — بأن اللفظ في ذاته ليس مناطَ الحكم في وجود الجمال الأدبي أو امتناعه، حتى فيما قد يُظَن بأن للَّفظِ الدورَ الأولَ فيه، كالتجنيس والاستعارة مثلًا، فيقول في التجنيس: «ما يُعطَى التجنيس من الفضيلة أمر لم يَتمَّ إلا بنُصرة المعنى؛ إذ لو كان باللفظ وحده، لما كان فيه مُستحسَن، ولما وُجِد فيه إلا مَعيب مُستهجَن …» (ص٥)، «فمن نصَر اللفظ على المعنى كان كمَن أزال الشيءَ عن جهته وأحاله عن طبيعته» (الموضع السابق نفسه)، وكذلك يقول في الاستعارة: «أما الاستعارة فهي ضربٌ من التشبيه، ونمطٌ من التمثيل، والتشبيهُ قياس، والقياس يَجري فيما … تُدرِكه العقول، وتُستَفتى فيه الأفهام والأذهان، لا الأسماع والآذان» (ص١٥).
هكذا أصبح الأمر غايةً في الوضوح، فإذا سُئِلتَ: ما وجه الجمال في هذا البيت من الشعر، أو في هذه الجملة من النثر؟ كان جوابك: إنه هو الطريقة التي رُتِّبَت بها الألفاظ ترتيبًا منطقيًّا معقولًا، كما تُرتَّب خطوات البرهان في نظرية هندسية، دون أن يكون للَّفظ نفسِه بما قد يكون فيه من صَقْل وبريق ونغم أيُّ دخل في صحة الحكم، فالجمال الأدبي هو نفسُه أداءُ المعنى أداءً لا يَلْتاث فيه القولُ ولا يَلتوي؛ لأن الأدب هو فوق كل شيء «للتفاهم»، فهؤلاء الذين يُزوقون الكلام ينسَون أن المتكلم إنما «يتكلم ليُفهَم، ويقول لِيُبين» (ص٦)، و«لن تجد … أجلب للاستحسان من أن تُرسِل المعانيَ على سجيتها، وتَدَعها تطلب لأنفُسِها الألفاظ، فإنها إذا تُرِكَت وما تريد لم تَكتسِ إلا ما يَليق بها» (ص١٠).
على أن المعانيَ التي يُراد لها أن تُؤدَّى، والتي بأدائها على الوجه الأفضل (والوجه الأفضل هو دائمًا الأقربُ إلى التسلسل المنطقي بين لاحقٍ وسابق) يكون للعبارة التي قامت بالأداء «معنًى» ويكون لها في الوقت نفسه «جمالٌ» أدبي، أقول إن هذه المعانيَ التي يُراد لها أن تُؤدَّى، ليست كلُّها سواءً في المنزلة والرتبة؛ لأن منها ما هو تافهٌ ومنها ما هو شريفٌ جليل، وكنتُ أتمنى لو أن الجُرجانيَّ أعطانا الميزان الذي نُفرِّق فيه بين المعنى التافه والمعنى الشريف، لكنه لم يفعل، وتحدَّث كما لو كان الأمر واضحًا في ذاته، لا يحتاج إلى مزيدٍ من إيضاح، [وأرجو أن يُلاحَظ بأن سياق الحديث هنا فيه نوع من الترجمة التي أُترجِم بها ما ظننتُ أن الجُرجاني يريده، وإلا فلم يَذكر هو شيئًا صريحًا عن هذا التفاوت بين التافه والشريف، وإنما الفَهم والتعبير من عندي]، كل ما أراد أن يَلفت إليه الأنظار، هو أن عبارتَيْن قد تشتركان في طريقة كلٍّ منهما لأداء معناها، لكنهما بعد ذلك يتَفاوتان؛ فإحداهما تُخلَّد وتبقى لأن المدار فيها هو جوهرٌ شريف في ذاته، يظل على نَفاسته مهما تغيرَت صورته، وأما الأخرى فتَنطوي على باطنٍ هَزيل؛ ولذلك فسرعان ما تَفقد قيمتَها إذا زالت عنها الظروف التي أكسبَتْها تلك القيمة، والأمر في هذا شبيهٌ بصياغة واحدة تُجريها على قطعة من الذهب وقطعةٍ من الجصِّ، فالأُولى تظل ذهبًا حتى لو أعَدتَ تشكيلها، وأما الثانية فتفقد قيمتَها لو فقدَت زُخرفها … «إن مِن الكلام ما هو كما هو، شريف في جوهره، كالذهب الإبريز، الذي تَختلف عليه الصور، وتتعاقب عليه الصناعات، وجل المعول في شرفه على ذاته، وإن كان التصوير قد يَزيد في قيمته ويرفع في قدره، ومنه [أي من الكلام] ما هو كالمصنوعات العجيبة من موادَّ غير شريفة، فلها — ما دامت الصورةُ محفوظة عليها لم تُنقَض، وأثر الصنعة باقيًا معها لم يبطل — قيمةٌ تَغْلو ومنزلة تَعلو … حتى إذا خانت الأيامُ فيها أصحابَها … وفجعَتْهم فيها بما يسلب حُسنها المكتسَب بالصنعة، فلم يبقَ إلا المادة العارية من التصوير، والطينة الخالية من التشكيل، سقطَت قيمتها …» (ص٢٠-٢١).
٤٢
وننتقل مع الجُرجاني إلى قضية أخرى، لو كان في عصرنا وعرَضها كما عرضها، لعُدَّ من زمرةٍ أدبية نقدية تَجعل «الصورة الذهنية» مَدارًا يدور عليه الحكم بالقيمة الأدبية وجودًا وامتناعًا، فلا أدب عند هؤلاء إلا إذا صيغ في «صورة» يكون بينها وبين المعنى المرادِ عرضه علاقةُ مُوازاة؛ بعبارة أخرى، إذا كانت الجملة «العِلمية» عليها أن تَصف الواقعة أو الحقيقة وصفًا مباشرًا، فالجملة الأدبية مُطالَبة بأن تشير إلى المعنى المراد بطريق غير مباشر؛ لأنها ترسم لنا صورة، فننظر نحو إلى هذه الصورة ونتأملها، حتى ننتقل خلالها إلى ما يريد الأديبُ أن يَسوقه إليك من معانٍ أو مواقف.
في ذلك يقول الجُرجاني: «جلُّ محاسن الكلام، إن لم نَقُل كلها، متفرعة عن التشبيه والتمثيل والاستعارة، وراجعةٌ إليها، وكأنها أقطاب تدور عليها المعاني في متصرفاتها، وأقطارٌ تحيط بها من جهاتها» (ص٢٠). ولكن أين الجانب «العقلي» في مبدأ كهذا؟ نُجيب فنقول — على ضوء التحليلات المنطقية الرياضية المعاصرة — إن علاقة «التشابه»، أو كما يُسمُّونها في المنطق الرياضي «علاقة واحد بواحد»، هي آخِرَ الأمر ما ينتهي إليه تحليلُنا للفكر البشري بأَسْره؛ فالفكر يبدأ حين يبدأ «التعميم»، والتعميم لا يكون إلا إذا وجَدتَ مُعطَيَين حِسيَّين قد وازى أحدهما الآخر في طريقة البناء، انظر إلى الطفل — مثلًا — وهو يتعلم حرفًا من حروف الهجاء، ولنقل إنه حرف «ج»، فنحن نُقدِّم له أول الأمر هذا الرسم مرة، ثم مرة ثانية، وثالثة … وقد يَختلف الرسم في كل مرة، لونًا وحجمًا، وطريقةَ كتابة، وفي لحظة من لحظات المقارنة يلقف الطفل أساس البِنْية التي تشترك فيها هذه الحالات جميعًا، بما يَلحظه بينها من «علاقة واحد بواحد» (أي التشابه) فكل طرَف في إحداها يقابله طرف في الأخرى، وكل علاقة في إحداها بين طرَفين، يقابلها علاقة مثلها في الأخرى، وها هنا تتكون لديه «صورة» لما يُراد له أن يتعلمه، وإذا لم تَرتسم في ذهنه هذه «الصورة»، أي هذا الإطار المكون فقط من أطراف وعلاقات، بغضِّ النظر عن المادة التي كتَبْنا الحرف بها، أهي الطباشير أم المداد أم الرَّصاص، وبغض النظر عن اللون، أهو أحمر أم أزرق أم أخضر، وبغض النظر عن الحجم، أهو يملأ الصفحة كلَّها أو السبورة كلها، أم يملأ نصفها أم يكتفي بمساحة ضئيلة، أقول: إنه إذا لم ترتسم في ذهنه هذه «الصورة» العامة، لما جاز أن نقول عنه إنه «تعلم» ما يُراد له أن يتعلمه … وهذا نفسه ما نَبلغه في «الصورة» الأدبية؛ فليس المراد أن نقف عندها لذاتها — عند أصحاب هذا المذهب — بل نُؤمِّل لمطالعها أن يستشفَّ وراءها من مواقف الحياة الفعلية ما يُوازيها طرَفًا بطرف وعلاقة بعلاقة، وإذا كان إدراكُ البِنية المشتركة، أو التشابه، هو أعمقَ أساس ترتكز عليه العملية العقلية، فكذلك يكون الأخذ بمذهب الاستعانة «بالصور» في البناء الأدبي، موقفًا عقليًّا في صميمه.
ولا يَكتفي الجُرجاني بأن يذكر هذه الحقيقة ذِكرًا عابرًا، بل — مدفوعًا بنظرته المنطقية إلى الأمور — يُحاول تعليلها، والتعليل في كل صوره عملية عقلية، فلماذا يُشترَط في العبارة الأدبية أن تَلتمس «صورة ذهنية» تُوازي في تكوينها الحقيقةَ المراد ذِكرها؟ لماذا لا نَذكر تلك الحقيقة المقصودة ذكرًا مباشرًا، بغير التوسل إليها بصورة نرسمها لِتُوازيَها؟ يجيب الجُرجاني بقوله: «إن أُنس النفوس موقوف على أن تُخرِجها من خفيٍّ إلى جليٍّ، وتأتيَها بصريح بعد مَكْنيٍّ، وأن تردَّها في الشيء — تُعلِّمها إياه — إلى شيء آخر هي بشأنه أعلم، وثِقتُها به في المعرفة أحكم، نحو أن تنقلها عن العقل إلى الإحساس، وعما يُعلَم بالفكر إلى ما يُعلم بالاضطِرار والطبع؛ لأن العلم المستفاد من طرق الحواسِّ أو المركوزَ فيها من جهة الطبع، وعلى حدِّ الضرورة، يَفضُل المستفادَ من جهة النظر والفكر … وكما قالوا: ليس الخبرُ كالمعاينة» (ص١٠٢-١٠٣).
ها هنا يعطيك الجُرجاني التعليلَ على درجتَين؛ فالتعليل على الدرجة الأولى، هو أن قيمة الصورة التي تُوازي الحقيقة المرادَ ذِكرُها، هي في أنها بمثابة ما ينقلنا من حالة الغموض إلى حالة الوضوح، من حالةٍ يَكتنفها فيها الضَّباب فتنطمس الأشياء أمام البصر، إلى أخرى تسطع فيها الشموس فتَنجلي أمامنا الأشياء بملامحها وحدودها، والغرض هنا هو أن تكون الحقيقة المراد ذِكرها مما تتعذر رؤيته في جلاء، وأن الصورة التي رُسِمَت موازية لها في التكوين هي من خبراتنا المألوفة، ومن ثَم فهي واضحة الدلالة، وأما التعليل على الدرجة الثانية، فهو مُقام على أساس التدرج الإدراكي عند الإنسان من المحسوس إلى المعقول، أي مما نُدركه بإحدى حواسنا من بصر وسمع وغيرهما، إلى ما ندركه بعقولنا وهو في حالة من الفكر المجرد، كما يتدرج الطفل في إدراكه من رؤيته إلى رجل مفرَد معيَّن هو أبوه، لا يُدرك منه إلا ما يقع عليه البصرُ من شكل وحركة، وما يقع على سمعه من صوته وهكذا، إلى إدراكه للإنسان من حيث هو فكرةٌ عامة مجرَّدة، لم يكن أبوه إلا مثلًا واحدًا من أمثلتها، ولا شك أن الانتقال من المحسوس إلى المعقول المجردِ هو انتقال أيضًا من البساطة إلى التركيب، ومن يُسر الإدراك إلى عُسره، فإذا كنا نستعين على الحقيقة المراد عرضها بصورة ذهنية توازيها، فالشرط هو أن تكون الصورة مما يُحَس في دنيا الأشياء الجزئية المجسَّدة، وإلا فلو كان ما نستعين به على فهمنا لفكرة مجردة هو فكرةً مجردة أخرى، فإننا نكون في كِلتا الحالتَين على مستوى الحقائق النظرية، وتزول الصفة «الأدبية» عن الموقف، وإنما يكون للموقف التعبيري خاصتُه الأدبية، إذا وازَيْنا بين ما هو مجرد من جهة وما هو مُحَسٌّ من جهة أخرى، فيجيء هذا مُعينًا على ذلك.
وفي هذه التفرقة بين المحسوس والمعقول، يقول الجُرجاني: «ومعلوم أن العلم الأول أتى النفسَ أولًا من طريق الحواس والطباع، ثم من جهة النظر والرَّوِية، فهو إذن [أي العلم الأول] أمَسُّ بها رحِمًا، وإذا نقَلتَها [أي النفس] … عن المدرَك بالعقل المحض، وبالفكرة في القلب، إلى ما يُدرَك بالحواس، أو يُعلَم بالطبع … فأنت كمَن يتوسل إليها للغريب بالحميم، وللجديد الصحبةِ بالحبيب القديم» (الموضع السابق ذكره) … خذ مثلًا لذلك قولَ القائل: فإن تَفُق الأنامَ وأنت منهم، فإن المسك بعضُ دمِ الغزالِ، ها هنا جانبان؛ أولهما فكرة مجردة عقلية، والآخر صورة محسوسة ومُستقاة من الخبرة المألوفة، فإذا أخذَتك الرِّيبة والدهشة من الحقيقة الأولى حتى شكَكْت في صوابها، جاءتك «الصورة» فأخرجَتك من ريبتك إلى حيث ترى الحق واضحًا، فربما تساءلت عن الجانب الأول من البيت المذكور؛ كيف يُعقَل أن يكون الفرد المعين عضوًا في مجموعة وفي الوقت نفسه يَفوق أقرانه فيها؟ أليس هنالك تناقضٌ بين أن يكون الفردُ عضوًا في نوع، وفي الوقت نفسه يكون كأنه نوعٌ متميز قائم برأسه؟ إنه لَأمر غريب «أن يتَناهى بعضُ أجزاء الجنس في الفضائل الخاصة به، إلى أن يَصير كأنه ليس من ذلك الجنس»؟ لكنك عند انتقالك إلى الشطر الثاني تواجهك «صورة» من مألوف خبرتك في حياتك العَملية، فها هو دم الغزال يُؤخَذ لِيُستخرَج منه بعضه فإذا هذا المستخرَج مِسك، هو من دم الغزال لكنه يَفوق سائرَ العناصر المشارِكة له.
خذ مثلًا ثانيًا «للصورة» كيف تأتي في العبارة الأدبية مُعينةً على جلاء ما في الحقيقة المراد ذكرها من مضمون فكري: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، إن السامع ليستيقظ وعيه عند ذكر «الحقيقة النظرية» الأولى، فيوشك أن تأخذه الحيرة مما قد يبدو له فيها من تناقض؛ فكيف لإنسان أن يَحمل التوراة ولا يحملها في وقت واحد؟ فما هو إلا أن تُسارِع إلى ذهنه «الصورة» التي يمكن حسها من دنيا الخبرة اليومية المباشرة، وهي صورة الحمار يحمل أسفارًا، فالحمار يحمل هذه الأسفار التي هي أوعيةُ العلوم ومستودع ثمر العقول، ثم لا يُحسُّ بما فيها ولا يَشعر بمضمونها، ولا يُفرِّق بينها وبين سائر الأحمال التي ليست من العلم في شيء، ها هنا يَرى رؤية العين كيف يَحمل الحمارُ الأسفارَ ولا يحملها؛ لأنه يَحملها من حيث هي أثقالٌ ولا يَحملها من حيث هي معرفة، وعندئذ يَسطع ضوء الوضوح على الحقيقة الأولى التي كانت مَثارَ حيرة وتساؤل.
لكنَّ سؤالًا ينشأ، يُثيره الجُرجاني، وهو لا بد مُثار عند مَن يطرح هذا الموضوع للنظر، ويُجيب الجُرجاني عن السؤال بما لا بد أن يُجيب به الناقد النافذُ البصيرة في حقيقة الفن ما هي؟ لا اختلاف في ذلك بين الفنون، شعرًا كان الفنُّ أم صورة مرسومة أم تمثالًا منحوتًا في حجر أم نغمًا موسيقيًّا معزوفًا، والسؤال هو: بماذا نُفاضل بين «صورة» و«صورة»؟ هل تتساوى القيمة الفنية في ثمرتَين من ثمرات فنٍّ بعينه، إذا كانت كلٌّ منهما قد توسَّلَت إلى الحقيقة المراد عرضها بصورة محسوسة توازيها في طريقة التكوين؟ لا، هنالك بعد ذلك ما نُفاضل به بين صورتَين، وهنا تجب العناية في النظر، حتى لا يأخذنا الظنُّ بأن المعوَّل في المفاضلة هو «الكثرة» هناك و«القلة» هنا، دون النظر إلى وحدة التركيب؛ إذ لا بد من سرَيان الوحدة العضوية في الحالتَين ليُمكِن حسبانهما من الفنون أولًا، ثم بعد ذلك، وفي إطار هذه الوحدة العضوية المحتومة لأي عمل فني، نقارن بين كثرة التفصيلات في إحدى الثمرتَين وقِلتها في الأخرى.
ألا إن الجُرجانيَّ هنا ليَهديه نفاذُ البصيرة الفنية إلى أصل نقديٍّ ليته رسخ في الأذهان أكثرَ مما رسخ، إذن لاسترَحْنا من أكداس مكدَّسة في «تراثنا» الأدبي، وفي «حاضرنا» الأدبي كذلك، مما يَسري في الناس وكأنه فن وهو لا يَزيد عن عبث العابثين، والأغلب أن يكون وجهُ النقص فقدان «الوحدة» التي تضم التفصيلات الكثيرة في كِيان عضوي واحد.
وليس شرطًا أن تجيء هذه التفصيلات إلى رؤية الرائي أو إلى سمع السامع دفعة واحدة، ومن لقطة حسية واحدة، بل إنها لتأتي تدريجًا؛ فكل رؤية جديدة تكشف لنا في العمل الفني عن تفصيلات لم نكن قد كشفناها في الرؤية السابقة، ومن ثَم جاءت خصوبة الأعمال الفنية الصادقة التي تَزداد مع الأيام قيمةً لأنها التفصيلات الكامنة في كيانها قد ازدادت انكِشافًا على توالي الناظِرين والناقِدين؛ يقول الجُرجاني إنك «ترى بالنظر الأول الوصف على الجملة، ثم ترى التفصيل عند إعادة النظر … وهكذا الحكم في السمع وغيره من الحواس؛ فإنك تتبيَّن من تفاصيل الصوت — بأن يُعاد عليك حتى تسمعه مرة ثانية — ما لم تتبيَّنْه بالسماع الأول، وتُدرِك من تفصيل طعم الذوق بأن تُعيده على اللسان ما لم تعرفه في الذَّوقة الأولى، وبإدراك التفصيل يقع التفاضل بين راءٍ وراءٍ، وسامع وسامع» (ص١٣٨). وخلاصة القول أنه كلما كانت «الصورة» أخصَّ في تفصيلاتها من «صورة» أخرى، كانت أجودَ من الناحية الفنية، وبالطبع تكون الوحدة العضوية بين تلك التفصيلات شرطًا قائمًا في الحالتَين، فالذي يصف سنَّ الرمح بأنه «كالقبَس الملتهب» أقلُّ جودة من الذي يصفه بأنه «سَنا لهب لم يتصل بدخان»؛ الوحدة مكفولة للصورة في كِلتا الحالتَين، لكن الصورة الثانية أغنى في تفصيلاتها، وتَشبيهك صوتًا معينًا بصوت الحيوان مطلَق الحيوان، أقل جودة من ذِكْرك نوعًا بذاته من أنواع الحيوان، ووصفك شيئًا بأنه أحمر، أقل جودة من أن تُورِد طيف الأحمر الذي تريده مجسَّدًا في شيء نعرف نحن درجة احمراره، وهكذا.
الحق أنني بهذه الوقفة مع الجُرجاني في كتابه «أسرار البلاغة» لا اقتصَر على أني وقفتُ وقفةً عقلية مع أحد الأعلام السابقين، بل أزيد على ذلك؛ لأني أستمدُّ من هذا الرجل معيارًا في تقويم الفن أستطيع أن أنشره اليوم على العالَمين، أفليس مَدْعاةً للحسرة أن يتخبط رجال النقد بيننا اليوم في نظريات نقدية نقَلناها عن أصحابها، فهمنا بعضها ولم نفهم بعضها، لكننا في الحالتَين نَلُوك عباراتها بصورة أوشكَت بنا على الغثيان دون جدوى، في الوقت الذي نُغمِض أعيننا فيه عن ناقد كالجُرجاني، يَستخرج نظريته النقدية استخراجًا حميمًا من جوف الأدب العربي ذاته، فيسهل عينا أخذ النظرية وتطبيقها معًا؟!
٤٣
وننتقل مع عبد القاهر الجُرجاني إلى كتابه الثاني «دلائل الإعجاز»، وأول ما يَستوقف نظرنا هنا — بعد صفحات كثيرة يُخصصها للدفاع عن الشعر — تأكيدُه على وجوب أن يكون النقد الأدبي قائمًا على أساس موضوعي، أو بعبارة أخرى أن يكون وكأنه بالنسبة لأنماط الأدب التي ينقدها في موقف أي «علم» من العلوم بالنسبة إلى أنماط الظاهرة التي يختصها بالبحث، ها هنا كلام قدَّم مثلَه كاتبُ هذه الصفحات ذات يوم منذ أعوام طوال (انظر كتابي «قشور ولباب») فتصدَّى له مَن تصدى، قائلًا إن عملية النقد تسلبه أخصَّ خصائصه، وكانوا يَعنُون التذوق، وعندئذ خرَجتُ عليهم بفكرة أشرح بها موقفي، قلتُ فيها إن للأدب قِراءتَين؛ قراءة أولى نُعجَب فيها — أو لا نُعجَب — بالقطعة التي نُطالِعها، ثم قراءة ثانية نُحلِّل فيها تلك القطعة لنقع على العناصر التفصيلية التي لعلها أن تكون مثارَ الإعجاب أو مَدْعاةَ النفور، وما دمنا في هذه القراءة الثانية نحاول جمع الشواهد التي «تعلل» لنا ما قد أحسسنا به في القراءة الأولى، فنحن أقربُ إلى النظرة العقلية العِلمية منا إلى التذوق؛ لأن كل «تعليل» هو ردٌّ للنتائج إلى عِللها، وبالتالي فهو عمَلية عقلية، فما هو إلا أن مرت على ذلك بضعةُ أعوام، وإذا بعجيبة من عجائب الحياة الثقافية المعاصرة في مصر تَظهر في الأفق بلا حياء، وهي أن نُسِبَت هذه الفكرة عينها، للرجل عينه الذي كان قد تصدى لكاتِب هذه الصفحات أولَ الأمر بالمجادلة والمعارضة، ولماذا أخفي الأسماء؟ إنه الدكتور محمد مندور، ومات الدكتور مندور ونهض له مُناصِرون يبرزون أهمَّ ما قد استحدثَه في النقد الأدبي، فإذا بينه فكرة «القراءتَين» هذه؛ قراءة أولى للتذوق، وقراءة ثانية للتحليل والتعليل!
لكن ما فائدة الندم على لبنٍ مسكوب؟ لنمضِ في طريقنا، طاوِين الصدرَ على ضروب من العنَت والإهمال لقيناها، ولم يَعُد لنا قِبَلٌ في هذه المرحلة من العمر أن نَرد وأن نعترك، وإنما هي ذِكرى أليمة تنزو بمناسبة ما نرويه عن الجُرجاني، وكيف يحرص على أن يكون النقد قائمًا على أساسٍ موضوعي، تُعرَف فيه العلل المعقولة لكل حكم نُصدِره، يقول: «لا بد لكل كلام تَستحسنه ولفظ تستجيده من أن يكون لاستحسانك ذلك جهةٌ معلومة وعلةٌ معقولة، وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذلك سبيل، وعلى صحة ما ادَّعَيناه من ذلك دليل» (دلائل الإعجاز، ص٣٣).
ويعود الجُرجاني في هذا الكتاب ليؤكد ما كان قد قاله في كتاب «أسرار البلاغة» من أن المعوَّل في الحكم بالجودة الفنية إنما هو «المعنى» لا مجرد النغم الحُلو في جرس الألفاظ، ويسوق لنا مثلًا آيةً قرآنية هي: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ ويسأل: «أفَترى لشيء من هذه الخصائص التي تملؤك بالإعجاز روعة، وتَحضرك عند تصورها هيبةٌ تُحيط بالنفس من أقطارها، تعلقًا باللفظ من حيث هو صوتٌ مسموع وحروف تتوالى في النطق؟ أم كل ذلك لما بين معاني الألفاظ من الاتساق العجيب؟» (ص٣٧).
«… إن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كَلِم مفردة، وإن الألفاظ تَثبت لها الفضيلةُ وخِلافها، في ملاءمة معنى اللفظة التي تَليها، أو ما أشبه ذلك مما لا تَعلُّق له بصريح اللفظ، ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتُؤنِسك في موضع، ثم تراها بعينها تَثقل عليك وتُوحشك في موضع آخر» (ص٣٧-٣٨)، «فلو كانت الكلمة إذا حَسُنَت حَسنت من حيث هي لفظ، وإذا استَحقَّت المزيَّة والشرف استحقت ذلك في ذاتها وعلى انفرادها، دون أن يكون السببَ في ذلك حالٌ لها مع أخَواتها المجاورة لها في النَّظْم، لما اختلف بها الحال، ولكانت إما أن تَحسن أبدًا أو لا تَحسن أبدًا» (ص٣٩).
وما يَنفكُّ الجُرجاني معيدًا ومؤكدًا بأن مصدر الجمال الأدبي هو أن تُنتظَم الألفاظ على نظام المعاني الذي اقتضاه حكم العقل ومنطقه، ولكي يبين لنا الفرق بين مِثل ها النسق العقلي في الترتيب، وبين مجرد التجاور الذي لا ينطوي على ضرورة عقلية؛ يُوازن لنا بين حروف منظومة في لفظة معيَّنة، وبين عدة ألفاظ منظومة في عبارة، فأما نظم الحروف في اللفظة الواحدة فهو اتفاقي صِرف، «فلو أن واضع اللغة كان قد قال «ربَض» مكان «ضرب» لما كان في ذلك ما يؤدي إلى فساد» (ص٣٩). ولكن ما هكذا الحال في نظم الكلم؛ لأن هذا يقتفي آثار المعاني، فكما أوجبَت الضرورة العقلية أن تتتابع المعاني في الذهن على تسلسل معيَّن، ينبغي أن تجيء الجملة على هذا الترتيب نفسِه لتتم الموازاة الكاملة بين ما جرى في النفس وما جرى في اللفظ، فلئن كانت حروف الكلمة الواحدة قد ضُمَّ بعضها إلى بعض بغير ضرورة توجب صورة بعينها دون أخرى، فإن نَظْم الكلم لا يقتصر أمره على توالي الألفاظ في النطق، بل إن الألفاظ ليَتْبع بعضُها بعضًا على نحوٍ يَصون للفكرة وحدتها وكيانها، إنه ليُقال عن الألفاظ إنها أوعية للمعاني، فإذا كان أمرها كذلك، «وجب لا محالة أن تتبع المعاني في مواقعها، فإذا وجَب لمعنًى أن يكون أولًا في النفس، وجب للَّفظ الدالِّ عليه أن يكون مثله أولًا في النطق» (ص٤٢).
ويرى الجُرجاني أن الترتيب الذي يَقتضيه النحو، هو نفسُه الترتيب الذي يَقتضيه العقل، وبالتالي فهو نفسُه الترتيب الذي تَنساب به المعاني في الذهن، وإذا كان ذلك كذلك، فما عليك إلا أن تَسوق عِبارتك ترتيبًا يتَّفق مع قواعد النحو، فإذا هو الترتيب «الجميل»، ويسوق الجُرجاني مثلًا لذلك هذه الجملة: «ضرب زيدٌ عمرًا يوم الجمعة تأديبًا له»؛ هكذا يَستقيم الترتيب النحْوي، والترتيب المنطقي في آنٍ معًا؛ فالضارب أولًا، والمضروب ثانيًا، وتاريخ الضرب ثالثًا، والغرَض من الضرب رابعًا.
لكننا في الحقيقة نُحسُّ شيئًا من القصور في فكرة الجُرجاني، ولا ندري كيف نُحدِّده؛ لأنه لو كان المعنى، والمعنى وحده، هو مَدارَ الحكم، وأن كل ما نَطلبه من ألفاظ العبارة هو أن يَجيء ترتيبها وَفق ترتيب المعاني، فلْنَذكر أن المعنى الواحدَ يمكن وضعُه في أكثرَ من تركيبة لفظية، كلٌّ منها تَنساق كلماتُه على سياق المعنى، فهل تتساوي القيمة الفنية عندئذٍ بين هذه التركيبات المتساوية جميعًا؟ ليس هذا هو الأمرَ الواقع؛ إذ ترانا نُفاضل بين عبارتَين متساويتَين في الأداء، وإلا فماذا يكون الفرق بين البيت من الشِّعر أو الآية من القرآن وبين الشرح لذلك البيت أو هذه الآية؟
يقيم الجُرجاني نفسُه هذا الاعتراضَ من الوجهة النظرية لِيُتيح لنفسه فرصة الرد، فيقول: إن الأمر في هذه الحالة يكون كصياغة الذهب مثلًا، فتكون قطعة الذهب غُفْلًا ثم يَصوغها الصائغ سِوارًا، فكذلك يكون المعنى «غُفلًا ساذَجًا عاميًّا موجودًا في كلام الناس كلِّهم، ثم تراه نفسَه وقد عَمد إليه البصيرُ بشأن البلاغة وإحداث الصور في المعاني، فيَصنع فيه ما يصنع الصانعُ الحاذق» (ص٣٠٣)، لكننا نرى أن الاعتراض ما زال قائمًا في أساسه، فنحن لا نريد المقارنة بين المعنى من جهةٍ وعبارة معيَّنة تُجسِّده في لفظها حتى يُقال لنا إن المعنى بمثابة الذهب الغُفل، والعبارة بمثابة السِّوار الذي يَصوغه صائغٌ من ذلك الذهب، وإنما نحن أمام مقارنة مطلوبة بين عبارتَين، كِلتاهما تسوق المعنى بترتيب يَرضى عنه منطقُ العقل، فكيف نُفاضل بينهما؟ ولنستخدم لغة الجُرجاني فنقول: إننا أمام سوارَين صاغهما صائغان من ذهبٍ غُفل، فكيف نُفاضل بين سوارٍ منهما وسوار؟ ذلك هو السؤال الذي نَعتقد أنه تُرِك عند الجُرجاني بغير جواب حاسم، لا في كتابه «أسرار البلاغة» ولا في كتابه هذا «دلائل الإعجاز».
-
محالٌ أن تكون مفرداتُ اللغة المستعمَلة في القرآن هي موضعَ الإعجاز؛ وذلك لأنه إنما استعمَل مفرَداتٍ كانت مستعملةً قبل نزوله، واستعمَلها بنفس معانيها السابقة … «لا يجوز أن يكون في الكَلِم المفرَدة؛ لأن تقدير كونه [أي الإعجازِ] فيها يؤدِّي إلى المحال، وهو أن تكون الألفاظ المفرَدة التي هي أوضاعُ اللغة قد حدَث في حَذاقة حروفها وأصدائها أوصافٌ لم تكن لتكون تلك الأوصاف فيها قبل نزول القرآن، وتكون قد اختصَّت في أنفسها بهيئاتٍ وصفات يَسمعها السامعون عليها إذا كانت متلوَّة في القرآن، ولا يجدون لها تلك الهيئاتِ والصفات خارجَ القرآن، ولا يجوز أن تكون [دلائلُ الإعجاز] في معاني الكَلِم المفردة التي هي لها بوضع اللغة؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون قد تجدَّد في معنى الحمد والرب، ومعنى العالَمين والملك واليوم والدين وهكذا، وصفٌ لم يكن قبلَ نزول القرآن» (ص٢٧٧).
-
ولا يكون موضع الإعجاز في القرآن هو ما فيه من مقاطعَ وفَواصل … «وإنما الفواصل في الآيِ كالقوافي في الشِّعر، وقد عَلِمنا اقتدارَهم على القوافي كيف هو، فلو لم يَكُن التحدِّي إلا إلى فصول من الكلام يكون لها أواخرُ أشباه القوافي، لم يُعوِزهم ذلك ولم يتعذَّر عليهم» (ص٢٧٨).
-
وليس موضعُ الإعجاز فيما نجده في القرآن من استعارة؛ لأن كثيرًا منه يخلو من الاستعارة.
-
وإنما موضع الإعجاز هو في النَّظْم والتأليف، أي في نَظْم المعاني والتأليف بينها، ويتخيَّل الجُرجاني أن معترِضًا يعترض على ذلك فيقول بأن هذا المبدأ يُخرِج ما في القرآن من استعارة ومن سائر ضُروب المجاز، على اعتبار أن هذه أمور تتعلق باللفظ لا بالمعنى، فيَرد الجُرجاني على الاعتراض قائلًا: «بل ذلك يَقتضي دخولَ الاستعارة ونظائرها فيما هو به معجز؛ لأنها … من مقتضيات النظم، وعنها يَحدُث، وبها يَكون؛ لأنه لا يُتصوَّر أن يَدخل شيء منها في الكَلِم وهي أفرادٌ لم يُتَوخَّ فيما بينها حكمٌ من أحكام النحو» (ص٢٨١).
-
ليس الإعجاز في مجرد ضمِّ كلمة إلى كلمة بحيث يكون لهما جرسٌ خاص، بل لا بد أن يكون في ضم المعنيَين؛ فالضم «لا يصح أن يُراد به النطقُ باللفظة بعد اللفظة من غير اتصال يكون بين معنيَيْهما؛ لأنه لو جاز أن يكون لمجرد ضم اللفظ إلى اللفظ تأثيرٌ في الفصاحة، لكان ينبغي إذا قيل: «ضحك خرج» أن يَحدث من ضم «خرج» إلى «ضحك» فَصاحةٌ، وإذا بطَل ذلك لم يبقَ إلا أن يكون المعنى في ضم الكلمة إلى الكلمة توخِّيَ معنًى من معاني النحو فيما بينهما» (ص٢٨٢).
-
وليس موضع الإعجاز في القرآن هو «أن يكون قد تحفَّظ مما تُخطئ فيه العامة، ولا بأن يكون قد استَعمل الغريب؛ لأن العلم بجميع ذلك لا يَعْدو أن يكون عِلمًا باللغة، وبأنفُس الكلم المفرَدة، وبما طريقُه طريق الحفظ دون ما يُستعان عليه بالنظر ويُوصَل إليه بإعمال الفكر» (ص٢٨٣)، «وتأمل ما جمَعه العلماء في غريب القرآن، فترى الغريب منه — إلا في القليل — إنما كان غريبًا من أجل استعارة فيه» (ص٢٨٤).
-
وليس الإعجاز في سلامة الإعراب؛ وذلك أن حُكمنا بالفصاحة «لا يكون مِن أجل شيء يَدخل في النطق، لكن من أجل لطائفَ تُدرَك بالفهم» (ص٢٨٦)؛ فالتفاضل بين كلامَين إنما يكون بعد أن يَكونا قد بَرِئا من اللحن، وسَلِما في ألفاظهما من الخطأ.
-
ولو كانت فصاحةُ اللفظة في ذاتها لا في معناها، للَزِم أن تكون فصيحةً أينما وردَت، لكنها تكون فصيحة آنًا وغيرَ فصيحة آنًا، حسب موضعها حين تشترك مع غيرها في أداء معنًى مقصود (ص٢٨٧).
-
ولما كانت الفصاحة وضعًا للمتكلِّم لا لواضع اللغة، كانت بالتالي وصفًا مترتِّبًا على المعنى الذي يُؤدِّيه المتكلِّم بكلامه؛ إذ إنه لم يُغيِّر من أوضاع اللغة شيئًا، وإلا لما كان متكلمًا يتكلَّم ليُفهَم (ص٢٨٨)، وهذه هي عبارة الجُرجاني في ذلك: إن المتكلِّم «لا يستطيع أن يَصنع باللفظ شيئًا أصلًا، ولا أن يُحدِث فيه وضعًا، كيف، وهو إن فعل ذلك أفسَد على نفسه، وأبطل أن يكون متكلمًا؛ لأنه لا يكون متكلمًا حتى يَستعمل أوضاع لغة على ما وُضِعَت هي عليه …»
-
الحكم في فصاحة اللفظ لا يكون بحاسَّة السمع، بل بالعقل، وفي ذلك يقول: «لا تَخلو الفصاحة من أن تكون صَنعةً في اللفظ محسوسةً تُدرَك بالسمع، أو تكون صفةً فيه معقولة تُعرَف بالقلب، فمُحال أن تكون صفة في اللفظ محسوسة؛ لأنها لو كانت كذلك لكان يَنبغي أن يستويَ السامعون للَّفظ الفصيح في العلم بكونه فصيحًا، وإذا بطَل أن تكون محسوسةً وجب الحكمُ ضرورةً بأنها صفة معقولة، وإذا وجَب الحكم بكونها صفةً معقولة، فإنا لا نَعرف للَّفظ صفة يكون طريقُ معرفتها العقلَ دون الحس إلا دلالته على معناه» (ص٢٩١).
-
لو كانت فصاحة اللفظ في سَمعه، لحكَمْنا بوجودها عند سمعه، لكننا في الحقيقة ننتظر حتى يتمَّ النطقُ بالجملة كلِّها ثم نَحكم عليها بالفصاحة فكأننا — إذا كان المدار على السمع — نَحكم بوجود الصفة بعد زوال موصوفها، وهذه هي عبارة الجُرجاني في ذلك:
«إن القارئ إذا قرَأ قوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا فإنه لا يَجِد الفصاحة التي يَجدها، إلا بعد أن ينتهيَ الكلام إلى آخره، فلو كانت الفصاحةُ صفةً لِلَفْظ «اشتعل» لكان ينبغي أن يُحسَّها القارئ فيه حالَ نطقه به، فمحالٌ أن تكون للشيء صفةٌ ثم لا يصح العلمُ بتلك الصفة إلا مِن بعد عدمه، ومَن ذا رأى صفة يعرى موصوفها عنها في حال وجوده، حتى إذا عُدِم صارت موجودة فيه؟ وهل سَمع السامعون في قديم الدهر وحديثه بصفةٍ شرطُ حصولها لموضوعها أن يُعدَم الموصوف؟» (ص٢٩٢). -
إن منطق الذين يقولون إن العبرة باللفظ يَنتهي بنا إلى أن تكون مفرَدات الكلمة الواحدة (أي حروفُها) ذاتَ جمال في ذاتها؛ إذ مِن هذه المفردات يتكوَّن المجموع، فإن قال قائل: لا، بل إني أزعم الفصاحة للكلمة مجموعةً لا لحروفها مفرَدة، كان كالذي «يَزعم أن ها هنا غزْلًا إذا نُسِج منه ثوب كان أحمر، وإذا فُرِّق ونُظِر إليه خيطًا لم تكن فيه حُمرة أصلًا» (ص٢٩٣).
-
إذا اتفقنا على أن الاستعارة تُضفي جمالًا على اللفظ المستعار، أفلا يكون الأساس هو في المعنى المستفاد، ما دام جرس الكلمة لم يتغيَّر في حالة استعارتها، عنه في حالة استعمالها على الحقيقة؟ (ص٢٩٣).
-
«إنه لا يُتصوَّر أن يتعلق الفكر بمعاني الكلم أفرادًا ومجرَّدة من معاني النحو، فلا يقوم في وهم، ولا يصح في عقل، أن يتفكَّر متفكرٌ في معنى فعلٍ من غير أن يريد إعماله في اسم، ولا أن يتفكر في معنى اسم من غير أن يُريد إعمال فعل فيه وجعله فاعلًا له، أو مفعولًا … [أو غير ذلك من الحالات] وإن أردتَ أن ترى ذلك عِيانًا فاعمد إلى أيِّ كلام شئت، وأزِلْ أجزاءَه عن مواضعها، وضَعْها وضعًا يَمتنع معه دخولُ شيء من معاني النحو فيها، فقُل: «قِفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومَنزل» «مِن نبك قِفا حبيب ذكرى منزل» ثم انظر: هل يتعلَّق منك فكرٌ بمعنى كلمةٍ منها؟» (ص٢٩٤).
-
الوَحدة الفنية إنما تكون في تكامل الصورة الذهنية، على الرغم من أن التعبير عن هذه الصورة الواحدة المتكامِلة الأجزاء يكون بِعدِّه … ألفاظ يُرصُّ بعضها إلى جوار بعض، خذ مثلًا الصورةَ التي يَرسمها بشار بالبيت القائل: «كأنَّ مُثارَ النَّقْع …» إن ألفاظ البيت تتَعاون معًا على رسم صورة واحدة، لكن ذلك لا يَجعل منها لفظًا واحدًا. ومعنى ذلك هو أن «النظم يَكون في معاني الكلم دون ألفاظها، وأن نَظْمها هو توخِّي معاني النحو فيها» (ص٢٩٧).
-
إنه بالنسبة للمتكلم يَجيء ترتيبُ المعاني أولًا ثم الألفاظ ثانيًا، وأما بالنسبة للسامع، فترتيب اللفظ يأتي أولًا ثم المعاني ثانيًا — وحديثنا يَنصبُّ على واضع الكلام لا على سامعه، حين نقول بأولوية المعنى على اللفظ (ص٢٩٩).
-
ولو كانت الألفاظ تتقدَّم على المعاني «لكانت أسامي الأشياء قد وُضِعَت قبل أن عُرِفَت الأشياء، وقبل أن كانت» (ص٣٠٠).
تلك خلاصةٌ وافية للوقفة العقلية التي وقَفها عبد القاهر الجُرجاني، فإذا كانت سياحتنا هذه التي نَسوح بها في أرجاء التراث الفكري، تريد أن تتصيَّد من ذلك التراث وقفاتٍ يمكن نقلُها إلى عصرنا، لا لتكون موضعَ فخر فحَسْب، بل لتكون كذلك جزءًا حيًّا من حياتنا الفكرية المعاصرة، فأحسب أن وقفة الجُرجاني هذه هي مِن أنفَس ما نَعود به.