الشجرة المباركة
٥١
في هذه المرحلة من خطوات الطريق، يصل مُسافرنا إلى ذِرْوة صعوده، فلقد اجتاز مِن تراثنا الفكري درجاتٍ تتابعَت فيها خصائص الإدراك والوعي؛ فمن درجةٍ كان نورُ الوعي فيها كالمشكاة، إلى درجة ثانية أصبح فيها كالمصباح، ثم اشتدَّ وهج المصباح في درجة ثالثة، حتى إذا ما كانت الرابعة وجَد نفسه أمام الزجاجة التي تُحيط بالمصباح، والتي ازدادت سطوعًا حتى كانت أمام عينَيه كالكوكب الدرِّي، وها هو ذا قد بلَغ في رحلته غايةَ الصعود، إذ بلَغ المصدر الذي منه يستمدُّ الكوكبُ الدُّري وَقوده، ألا وهو الشجرة المباركة، التي هي زيتونةٌ يَكاد زيتها يُضيء ولو لم تمسَسْه نار، أي إن الإدراك هنا يَستمد شعلتَه من نبعٍ باطني ذاتي، يَكفي صاحبَ الإدراك فيه أن يخلص النظر إلى قلبه فإذا هو مهتدٍ إلى الحق … وتلك هي نظرةُ المتصوفة.
وسنجعل وقوفنا في هذه المرحلة مع رجل واحد، هو أبو حامدٍ الغزالي (تُوفِّي سنة ١١١١م) الذي طالَت قامته حتى رآه المسافرُ مِن بعيد كالنخلة الفارعة، والذي ألقى بظلِّه على العصور التالية له، حتى لنحسَّ وُجوده معنا إلى يومنا هذا، نَهابه ونَخشع لِسَطوته، وإن الناقد له ليتردَّد مائة مرة قبل أن يُقدِم على نقده؛ لأنه يَعلم أنه واقفٌ بإزاء طَوْد شامخٍ راسخ، أخلصَ النظرَ والقول، لم يَكتب ما كتبه لِيَملأ الصُّحف بزخرف اللفظ، ولا لِيُلهيَ قارئه بقدرة يتَظاهر بها أمامه لِيَتعالَم في كذب، بل كتب ما كتبه مُخلِصًا صادقًا، ينظر إلى الفكرة المعروضة بين يدَيه نظرةً تَشملُها من كافة وجوهها، فإذا انتهى به النظرُ إلى حكم، آمنَ به ودافع عنه بكل ما أُوتي من قُدرة على جَمع الشواهد من مأثور القول، وعلى إقامة الحُجة العقلية الخالصة يَسوقها لِتُساير تلك الشواهدَ المأثورة عن السالِفين الصالحين.
ولم يَشعر كاتبُ هذه الصفحات بالقلق لشيء يَنوي أن يقولَه، بمثل ما يَشعر الآن وهو بصدَد الحديث عن الإمام الغزالي؛ وذلك لأنه بعد أن صاحَبَه صحبةً طويلة — فربما كانت الفترة التي صَحِبه فيها أطولَ فترةٍ قضاها مع سواه طوالَ رحلته الثقافية هذه — أقول: إنه بعد أن صاحب الغزالي صحبة طويلة لم يسَعْه إلا أن يَشعر شعورًا مزدوَجًا غريبًا؛ فبينما هو يَعجَب لهذه القدرة الفائقة على الغوص في أعماق الموضوع الذي يتعرَّض للحديث فيه، وعلى النظر فيه مِن أفُق فسيح مديد الأطراف، ويعجب كذلك لهذه العمَلية المنهجية في النظر، والتي تَصلح أن تكون نموذجًا للمنهج العِلمي كيف يكون … أقول: بينما يجد كاتبُ هذه الصفحاتِ نفسَه ذاهلًا حِيالَ تلك القدرة والمنهجية العِلمية، فإنه يَلحظ أيضًا أن الغزالي قد ظهر ليكون قوةً رجعية قابضة، تُمسِك الناس دون الانبثاقة الحُرة المغامرة، ومَن يدري؟ فلعلَّه مِن أقوى العوامل التي أثرَت في مجرى تاريخنا الفكري فجمَّدَته، وانتهت به إلى الركود الذي ساد حياتَنا العقلية قرونًا متتالية! وما ظنُّك برجل كتب مؤلَّفه الضخم العظيم «إحياء علوم الدين» في أربعة مجلدات مَديدة الطول، لِيَرسم للمسلم حياتَه بالمِسْطرة والفِرْجار، فيُحدِّد له كلَّ لفظة يَفُوه بها، وكلَّ خطوة يتحركها لكي يضمن سلامةَ إسلامه، يحدد له كيف يأكل، وكيف ينام، وكيف يسافر، وكيف يعاشر زوجه وأولاده وأصدقاءه … يُحدد له كلَّ صغيرة وكبيرة من حياته؛ كيف ينبغي أن تكون لكي يكون مسلمًا صحيحَ العقيدة والسلوك، فماذا يَبقى إذن للإنسان ليتصرف فيه بالتلقائية الحرة ليكون مسئولًا بما يُقرِّره لنفسه وبما يُخرِجه في سلوكه؟
ولكن برغم هذا الأثر القيديِّ الذي فرَضَه على الناس، فهو «الشجرة المباركة» التي تَنمو بقوة فطرتها دون أن تتَّكِئ على المعين الخارجيِّ كما يَفعل الصغار، لقد نضَح الأفكارَ من المعين الغزير الدافق في نفسِه الخصبة الغنيَّة المثمِرة، فلم يعبَأ إن جاءت تلك الأفكارُ متفِقة أو مختلفة مع مُعاصِريه، بل لقد وقت في «المُنقِذ من الضَّلال» وقفة تحليلية يَستعرض فيها هؤلاء المعاصِرين، من حيث هم جماعاتٌ وتيارات لا مِن حيث هم أفراد؛ لينتهيَ إلى أن ثلاثة من الأربع الجماعات التي رآها ممثِّلة لعصره لا تُصادِف من نفسه قَبولًا، فلم يتردَّد في رفضها، وهؤلاء هم: المتكلِّمون، والفلاسفة، والقائلون بإمام معصوم يُعلِّم الناسَ عن إلهام يُوحَى به إليه، فلم يبقَ أمامه إلا فئةٌ رابعة، هي فئة المتصوِّفة، قَبِلها، لا ليسير في الصف مُغمَض العينَين، بل قَبِلها من حيث المبدأُ والطريقة، وترَك لنفسه بعد ذلك حقَّ الوصول إلى النتائج. نعم، كان الغزالي في تراثنا الفكري شجرةً مباركة، شمخَت بفروعها ورءوسها، وامتدت على العصور بظلالها، لأنها قدمَت للناس نموذج الحياة الإسلامية فكَفاهم عناء التفكير، ولم يُبقِ لهم إلا اقتفاءَ الأثر، فله علينا حقُّ التعظيم، وليس عليه منا لومٌ إذا جاء الناس مِن بعده صغارًا تابِعين، لقد كان الغزالي — كما وصفه المستشرق ماكدونالد — بمثابةِ مَن أقام بفكره الغنيِّ مائدةً مليئة بصِحافها، على حين اكتفى الآخرون بفُتات يَجمعونه من مائدته أو مِن موائدِ سواه.
٥٢
أما عن نظرته العِلمية المنهجية، فحَسْبُنا أن نذكر طائفةً من أقواله التي نثَرها على صفحات كتبه، كأنما يُريد بها أن يوصيَ الناس بمِنْهاج النظر السليم، لقد عاش الغزالي في القرن الحادي عشَر الميلادي، وجاء بعدَه بأكثرَ مِن خمسة قرون إمامان مِن أئمة المنهج العلمي في تاريخ الفكر البشري كلِّه؛ هما ديكارت في فرنسا وفرانسس بيكون في إنجلترا، اللَّذان يُعَدان فاتحةَ العصر الحديث في الفكر الأوروبي بسبب المنهاج الجديد، ومع ذلك فيَكاد لا يكون في منهجَيهما نقطةٌ واحدة لم يُورِدْها الغزالي شرطًا من شروط النظرة العِلمية التي نثَر أصولَها على صفحات كتبه نثرًا.
اقرأ للغزاليِّ العباراتِ الآتيةَ، وقارِنْها بما تعرفه عن أصول المنهج عند ديكارت وبيكون:
فاستحضِرْ في ذهنك القاعدةَ الديكارتية التي توجِب على الباحث ألا يُسلِّم بفكرة إلا إذا كانت مُستحيلةً على الشك، وذلك لا يتحقَّق لها إلا إذا كانت مما يُدرَك إدراكًا باطنيًّا مباشرًا، ثم اقرأ للغزالي في كتابه «المُنقِذ من الضَّلال» قوله: العلم اليقينيُّ هو الذي تَنكشف فيه العلومُ انكشافًا لا يَبقى معه ريب، حتى ولو تَحدَّاه مُتحدٍّ بمُعجِزات، فإني إذا عَلِمتُ أن العشَرة أكثرُ من الثلاثة، فعندئذٍ لو قال لي القائل: لا، بل الثلاثة أكثر، بدليل أني أقلب هذه العصا ثُعبانًا، وقلَبَها، وشاهدتَ ذلك منه، لم أشُكَّ بسببه في معرفتي، ولم يَحصُل منه إلا التعجُّب من كيفية قُدرته عليه، فأما الشك فيما علمتُه، فلا.
واستحضر في ذهنك ما قاله فرانسس بيكون — وهو يَعرِض لضُروب الخطأ التي يَزِلُّ فيها الإنسان — وهو يَعرِض ما أسماه «بأوهام المسرح»، قاصدًا بذلك أنواعَ الخطأ التي تَحدُث بسبب احترامنا لمصدر الخبر، فإذا قيل لنا — مثلًا — إن الشيء الفلاني هو كذا وكذا؛ تبعًا لما قاله أرِسطو أو أفلاطون أو مَن كان على شاكلتهما، ألقى ذلك في رُوعنا أن الخبَر لا بد أن يكون معصومًا من الخطأ، ما دام القائل هو على هذه الدرجة مِن المنزلة العالية، فإذا شاء الباحثُ العِلمي أن يأمَن الزَّلل من هذه الناحية، لم يكن له بدٌّ من وزن الأقوال في ذاتها، بما يُؤيِّدها أو يُفنِّدها من شواهد، بغض النظر عن مكانة رُواتها ومصادرها — هذا ما قاله بيكون في منهجه، فاقرأ ما قاله الغزالي في ذلك، وقد ورَد أيضًا في كتابه «المُنقِذ من الضَّلال»:
النتائج اليقينية التي نَستدلُّها من مقدمات يقينية، إذا قيل لك خِلافُها، حكايةً من أعظم خلق الله مرتبةً وأجَلِّهم في النظر والعقليات درجةً، بل لو نُقِل عن نبيٍّ صادق نقيضُه، فيَنبغي أن يُقطَع بكذب الناقل، أو بتأويل اللفظ المسموع عنه، ولا يَخطُر ببالك إمكانُ الصدق، فإن لم يَقبل التأويل فشُكَّ في نبوة مَن حُكِي عنه بخلاف ما عَقِلتَه، إن كان ما عَقِلتَه يقينًا.
لقد بلَغَت عِلميةُ النظر عند هذا الإمام — وهو الذي ينعتونه بحُجَّة الإسلام — أنْ قرَّر (في كتابه «تهافت الفلاسفة») أن الدين لا يُحتجُّ به على العلم، بمعنى أن ما يُقرِّره العلم لم يَعُد يجوز لأحدٍ أن يُكذِّبه بما يَزعم وُرودَه في الدين، يقول: من ظن أن إبطال شيء مما يقوله العلمُ هو دفاعٌ عن الدين، فقد جنى على الدين … «فإن هذه الأمور تَقوم عليها براهينُ هندسية حِسابية لا يَبقى معها رِيبة، فمَن يطلع عليها، ويتحقق أدلتها … إذا قيل له: إن هذا خلاف الشرع، لم يَسترِبْ فيه، وإنما يَستريب في الشرع»، وأعظم ما يَفرَح به الملاحدة — هكذا يقول الغزالي — هو أن يُصرِّح ناصرُ الشرع بأنَّ ما قد أثبتَتْه البراهينُ العقلية العِلمية هو على خلاف الشرع، ما دام شرعًا تتنافى أحكامُه مع نتائج العلم.
ولنعُد إلى المنهج الديكارتي المعروف، ما هيكله وتفصيلاته؟ إنه قائم على أساس أن يبدأ الناظرُ مِن مُدرَكات مباشرة، لا يحتاج يقينُها إلى أكثرَ مِن أن يراها رؤيةً باطنية بلا وسيط مِن عمليات الاستدلال، وذلك بعد أن يكون قد أفرَغ نفسَه من كل ما تَحتوي عليه من محصولٍ فِكري جاءه من قَبلُ عن طريق حواسِّه وعن طريق استدلالاته العقلية، فعندئذٍ ينظر في نفسه النقيةِ هذه، ليرى ماذا يُمكن أن يَجد هناك مِن حقائقَ أوَّلية تستحيل على الشك ثم يأخذ في توليد النتائج من تلك الأوَّليات اليقينية، فما دام الاستدلالُ سليمًا فلا بد أن تجيء النتائجُ صادقة صدْقَ المقدمات الأولية، بذلك نُقيم بِناء العلم على يقين مِن أول خطوة فيه إلى آخر خطوة.
فاقرأ للغزالي عن هذه الخطوات نفسها: الشكُّ في المعلومات التي سبَق لنا أن حصَّلْناها عن طريق الحواسِّ أو عن طريق العقل، ثم البدء من أوَّليات يقينية تستمدُّ يقينَها من إدراكنا لها إدراكًا مباشرًا، ثم الانتهاء مِن تلك الأوليات اليقينية إلى نتائجَ تَلزم عنها فتكون في مِثل يقينها.
يقول الغزالي (في «المُنقِذ من الضَّلال» وهو بصدَد تحليله لمعلوماته السابقة)، وذلك بعد أن استعرَض معلوماتِه التي جاءته عن طريق الرواية والتقليد: «فقلتُ في نفسي إنما مطلوبي العلمُ بحقائق الأمور، فلا بد مِن طلبِ حقيقة العلم ما هي، فظهَر لي أن العلم اليقينيَّ هو الذي تنكشف فيه العلومُ انكشافًا لا يبقى معه ريب، ولا يُقارنه إمكانُ الغلط والوهم، ولا يتَّسِع القلبُ لتقدير ذلك، بل الأمان من الخطأ يَنبغي أن يكون مقارِنًا لليقين مقارنةً، لو تحدى بإظهار بُطلانه مثلًا مَن يقلب الحجر ذهبًا والعصا ثعبانًا، لم يورث ذلك شكًّا وإنكارًا، فإني إذا علمتُ أن العشَرة أكثرُ من الثلاثة، فلو قال لي قائل: لا، بل الثلاثة أكثر، بدليل أني أقلب هذه العصا ثُعبانًا، وقلَبها، وشاهدتُ ذلك منه، لم أشكَّ بسببه في معرفتي، ولم يحصل منه إلا التعجب من كيفية قُدرته عليه، فأما الشك فيما علمتُه فلا. ثم علمتُ أن كل ما لا أعلمه على هذا الوجه، ولا أتيقَّنه هذا النوعَ من اليقين، فهو علمٌ لا ثقة به، ولا أمانَ معه، وكل علم لا أمان معه فليس بعلمٍ حقيقي.
ثم فتَّشت عن علومي، فوجَدتُ نفسي عاطلًا من علمٍ موصوف بهذه الصفة، إلا في الحِسيات والضروريات، فقلت: الآن بعد حصول اليأس، لا مَطمع في اكتساب المشكلات إلا من الجَليَّات، وهي الحسيات والضروريات، فلا بد من إحكامها أولًا لأتيقَّن أن ثِقتي بالمحسوسات، وأماني من الغلط في الضروريات؛ أهو مِن جنس أماني الذي كان مِن قبلُ في التقليديات، ومن جنس أمانِ أكثرِ الخلق في النظريات، أم هو مُحقَّق لا غدر فيه ولا غائلةَ له؟
فأقبلتُ بجِدٍّ بليغ، أتأمَّل في المحسوسات والضروريات، وأنظر: هل يُمكنني أن أشكِّك نفسي فيها، فانتهى بي طولُ التشكيك إلى أن لم تَسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضًا [أي بعد أن كانت نفسُه رفَضَت التسليم بمعلوماته الآتيةِ إليه عن طريق النقل والتقليد والرواية] وأخذ يتَّسِع هذا الشكُّ فيها ويقول: من أين الثقةُ بالمحسوسات، وأقواها حاسةُ البصر، وهي تنظر إلى الظلِّ فتراه واقفًا غيرَ متحرك، وتحكم بنفي الحركة، ثم بالتجرِبة والمشاهدة بعد ساعة تَعرف أنه متحرك، وأنه لم يتحرك دَفعةً بَغتة، بل على التدريج ذَرَّة ذرَّة، حتى لم تكن له حالةُ وقوف، وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيرًا في مقدار دينار، ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبرُ من الأرض في المقدار، هذا وأمثاله من المحسوسات يَحكم فيه حاكمُ الحس بأحكامه، ويكذبه حاكمُ العقل ويُخوِّنه، تكذيبًا لا سبيل إلى مُدافَعتِه.»
وهنا لا بد لي من وقفةِ جِدٍّ قصيرة، قبل أن أمضيَ مع الغزالي في مراحلِ تشكُّكه، التي هي المراحل نفسُها التي سيرى العالم بعد ذلك بخمسة قرون ديكارت يَسير فيها فيرسم لأوروبا الحديثة كلِّها مِنهاجًا للسير. أقول: إنه لا بد لي هنا مِن وقفةِ جِد قصيرة، أُحذِّر فيها القارئَ من سرعة الظن بأن الغزالي ومِن بعده ديكارت، قد أصابا الحقَّ حين تشكَّكا في صِدق الحواس على نحوِ ما فعَلا، فأقول في ذلك ما قاله فلاسفةُ التحليل التجريبيُّون المعاصرون، في نقدهم لديكارت، إن ما قد ظنه الغزالي خطأٌ وقعَت فيه حاسةُ البصر ثم صححه العقل، إنما هو خطأ في الاستدلال العقلي لا في الإدراك الحسِّي؛ وذلك أني إذا رأيتُ الظل واقفًا غيرَ متحرك، فاستدللتُ من ذلك نفْيَ الحركة عنه، فإنما كان الخطأُ هو في هذا الاستدلال؛ لأن الذي نبَّهني للخطأ بعد ذلك هو لَقْطة حسِّية أخرى جاءتني عن طريق المشاهدة — والمشاهدة إدراكٌ بحاسة البصر — بعد ساعة، كما يَقول الغزالي، وكذلك حين رأيتُ الكوكب صغيرًا في مقدار دينار، فالخطأ هنا هو أن أستدلَّ مما أراه نتيجةً لا تَلزم بالضرورة عنه، والواجب المنهجيُّ هو أن أقول: إن حجم الكوكب في رؤيتي هو كحجم الدينار، أما ماذا يكون حجمه في الحقيقة فطريقُ العلم به طريقٌ آخر.
ولْنَعد بعد هذا التحذير الذي أرَدْنا به ألا يتشكَّك القارئ — كما تشكَّك الغزالي وديكارت — في أمانة الحواسِّ وما تُدرِكه؛ لأن ما تُدرِكه الحواسُّ عن الأشياء الخارجية مُحالٌ أن يكون كذبًا من حيث هو خِبرة معيَّنة وقعَت لصاحبها، حتى لو اختلف الناس جميعًا بعد ذلك في خبراتهم عن تلك الخبرة المعينة، فما زالت خبرة المشاهد هي خبرتَه كما وقعَت له، فإذا جاءت الحاسةُ نفسُها بعد حين ولقَطَت من الشيء نفسه خبرة أخرى تُصحِّح الخبرة السابقة، كأنْ أرى جسمًا مِن بعيد فأظنه إنسانًا حتى إذا ما اقتربتُ منه وجَدتُه شجرة، فلا يَنبغي أن ننسى أن الذي صحَّح لنا الخبرةَ الحسِّية الأولى خبرة حسية ثانية. ومع ذلك فلا أحسب أن كلمة «صحح» هنا جائزة؛ لأنه لا خطأ في كِلْتا الحالتَين؛ لأنه قد كان لنا في كل حالة منهما لقطةٌ حسِّية متميزة بخصائصها، فالأصح أن نقول: إنه قد تعاقَبَت على المُشاهِد هنا لَقْطتان حسِّيتان؛ الأولى وهو بعيد، والثانية وهو قريب، والأرجح أن تكون اللقطةُ من قريب هي المنبئةَ عن حقيقة الواقع، لكن ذلك لا يَنفي أن اللقطة البصرية الأولى كانت تُشبِه ما نلقطه إذا وقَع البصرُ على إنسان لا على شجَرة … فلنستأنف بعد ذلك حديثَ الغزالي:
«فقلتُ قد بطَلَت الثقةُ بالمحسوسات أيضًا [أي بعد أن بطلَت الثقة قبل ذلك في التقليديات التي جاءته عن طريق النقل والرواية] فلعله لا ثقة إلا بالعقليات التي هي من الأوليات، كقولنا: العشَرة أكثرُ من الثلاثة، والنفي والإثبات لا يَجتمِعان في الشيء الواحد، والشيء الواحد لا يَكون حادثًا قديمًا، موجودًا معدومًا، واجبًا مُحالًا.
فقالت المحسوسات: بما تأمَن أن تكون ثقتك بالعقليات كثِقتك بالمحسوسات، وقد كنتَ واثقًا بي، فجاء حاكمُ العقل فكذَّبَني، ولولا حاكمُ العقل لكنتَ تستمرُّ على تصديقي؟ فلعل وراء إدراك العقل حاكمًا آخر، إذا تجلى كذَّب العقلَ في حكمه، كما تجلى حاكمُ العقل فكذَّب الحسَّ في حكمه، وعدم تجلِّي ذلك الإدراك لا يدلُّ على استحالته.
فتوقفَت النفسُ في جوابِ ذلك قليلًا، وأيَّدَت إشكالها بالمنام، وقالت: أما تَراك تعتقد في النوم أمورًا وتتخيَّل أحوالًا وتعتقد لها ثباتًا واستقرارًا، ولا تَشكُّ في تلك الحالة فيها، ثم تستيقظ، فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيَّلاتك ومعتقداتك أصلٌ وطائل؟ فبِمَ تأمن أن يكون جميعُ ما تعتقده في يقظتك بحسٍّ أو عقل، هو حق بالإضافة إلى [أي بالنسبة إلى] حالتك التي أنت فيها؟ لكن يُمكن أن تطرأ عليك حالةٌ تكون نِسبتُها إلى يقظتك كنسبة يقظتك إلى منامك، وتكون يقظتك نومًا بالإضافة إليها، وإذا وردَت تلك الحالةُ تيقنتَ أن جميع ما توهَّمتَ بعقلك خيالاتٌ لا حاصل لها.»
هكذا رسم لنا الغزالي طريقًا للشك المنهجي، لا نرى بعده شيئًا نَنسبه إلى ديكارت ولا ننسبه إليه، ثم ماذا بعد أن أبرأ نفسَه من معلومات الحس والعقل؟ إنه لا بد أن يلتمس طريقًا إلى «أوَّليات» — أعني حقائقَ واضحةً بذاتها يَستحيل أن تكون موضعَ شك؛ لأن نفْيَها إنما يَجيء إثباتًا لها، وإذن فليس مِن ثُبوتها بُدٌّ — يقول: «فلما خَطرَت لي هذه الخواطر وانقدَحَت في النفس، حاولتُ لذلك علاجًا، فلم يتيسَّر، إذ لم يكن دَفعُه إلا بالدليل، ولم يمكن نصبُ دليل إلا مِن تركيب العلوم الأولية [أي الحقائق الواضحة بذاتها غير المحتاجة إلى برهان لبيان صدقها] فإذا لم تكن مُسلَّمةً لم يُمكِن ترتيبُ الدليل» … ثم يَروي لنا الغزالي أن العلة قد أصابَته من شدة حيرته سعيًا وراء تلك العلوم الأولية التي يطمئنُّ لصوابها، والتي يعود مِن جديد فيَبني عليها بناءَ المعارف العقلية التي كان قد شكَّ في صحتها، لكنه هذه المرة يُقيمها وهو آمن، إلى أن شاء له الله أن يَنقذف نورٌ في صدره «وذلك النور هو مِفتاح أكثر المعارف» وما هذا النور إلا حقائقُ يراها صادِقةً بالفطرة، فيُؤسِّس عليها سائر العلوم.
٥٣
شُغل الغزالي بفكرة «اليقين» — على نحو ما رأينا ديكارت بعد ذلك — شأن كثيرين من رجال الفلسفة، قدامى ومُحدَثين، حين أرادوا أن يقيموا بناء الفكر العلمي على أسس لا يطرأ عليها خلل. وكانت الطريقة السائدة بين الفلاسفة أجمعين، والغزالي بينهم، أن يتخذوا من منهج العلم الرياضي نموذجًا. وما دام العلم الرياضي قائمًا على استخراج النتائج اليقينية من مسلَّمات مفروض فيها أنها يقينية أيضًا، بحكم كونها حقائق تراها البديهة رؤية مباشرة، إذن فقد انجلى الطريق أمامنا، وهو أن نبدأ دائمًا من حقائق أولية بديهية، ثم نستخرج منها ما يلزم عنها؛ وبذلك نضمن اليقين ابتداءً ووسطًا وانتهاءً، وذلك ما حاوله الغزالي، فها هو ذا في كتابه «معيار العلم» يعقد فصلًا في بيان اليقين، فماذا قال؟
قال: «البرهان الحقيقي ما يفيد شيئًا لا يُتصوَّر تغيُّره، ويكون ذلك بحسب مقدمات البرهان، فإنها تكون يقينية أبدية لا تستحيل ولا تتغير أبدًا، وأعني بذلك أن الشيء لا يتغير وإن غفل إنسان عنه، كقولنا: الكل أعظم من الجزء، والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية، وأمثالها؛ فالنتيجة الحاصلة منها أيضًا تكون يقينية.»
والذي تجدر ملاحظته لأهميته، هو أن النتيجة العلمية ما دامت قد أقيمت على مثل هذا البرهان اليقيني، فإنها تكون معصومة من الخطأ عصمةً كاملة؛ فإذا عرفنا حقيقةً ما، بُنيت على أسس اليقين العلمي، استحال علينا بعد ذلك أن نصدِّق أحدًا يزعم لنا خلافها مهما كانت منزلته ومهما كان مصدره، «بل لو نُقل عن نبيٍّ نقيضه، فينبغي أن يُقطع بكذب الناقل، أو بتأويل اللفظ المسموع عنه.» وأما أن نحتمل صدق الرواية برغم أنها مناقضة لما أثبتناه بالبرهان اليقيني على النحو الذي بيَّناه، فأمرٌ لا يجوز وروده. ويُكمِل الغزالي عبارته السالفة بقوله إن الحكاية المروية والمناقضة للبرهان العلمي، والتي يزعم قائلها أنه يرويها عن نبي، إذا لم يكن تأويلها إلى ما يقبله العقل ممكنًا «فشُكَّ في نبوة من حُكي عنه بخلاف ما عقِلتَ، إن كان ما عقلتَه يقينًا؛ فإن شككت في صدقه لم يكن يقينك تامًّا.»
فماذا يريد العربي في عصرنا أساسًا أقوى من هذا الأساس ليكون به علميَّ المنهج والنظر؟ إن أكثر الغلط — كما يقول الغزالي — ينشأ مِن توهمنا بأننا نقيم نتائجنا على مقدمات يقينية، مع أن مقدماتنا قد لا تزيد على كونها أقوالًا مشهورة ومحمودة، فنظن بها اليقين وما هي كذلك!
وللغزالي أقوال كثيرة منثورة في كتبه، تدور حول هذه النقطة المنهجية الهامة، التي مؤداها أن نتناول الفكرة المعيَّنة — حين نكون في ميدان البحث العلمي النظري — في وزنها الحقيقي بالنسبة إلى مقدماتها التي أنتجتها، بغضِّ النظر عن موقعها عند الناس وعن مكانة قائليها. ولقد تنبَّه ديكارت وبيكون معًا، بعد الغزالي بخمسة قرون، إلى خطورة هذا الأساس المنهجي في التفكير؛ لأنهما جاءا في أعقاب قرون دينية، هي القرون الوسطى، حيث كانت الحجة التي تقام على فكرةٍ ما هي أنها منسوبة لفلان الفلاني من القدماء، أو مأخوذة من الكتاب الفلاني الذي هو موضع ثقة وتصديق؛ فقال الرجلان — ديكارت في فرنسا، وبيكون في إنجلترا — إن صدق الفكرة لا يقام على قائلها مهما يكن شأنه، وكذلك قال الغزالي قبلهما في أكثر من موضع مِن كتبه الكثيرة.
يقول الغزالي في «ميزان العمل»: «من الناس من يقولون الرأي عن هوًى، ثم يتعللون بأنه مذهب فيلسوف معروف كأرسطو وأفلاطون، والأغلب أن من يسمع لهم لا يُطالبهم ببرهان، لموافقة قولهم لطبعه.» ويضيف الغزالي قوله إنه لمن العجَب أن السامع للخبر المنقول له على هذا النحو، لا يُطالب الناقل ببرهان أكثر من نسبة الخبر إلى صاحبه، مع أنه لو كان يحدث عن أمر يتعلق به خسران درهم لكان لا يصدِّقه إلا ببرهان.
ولقد ختم الغزالي كتابه «ميزان العمل» بهذه العبارة المنهجية الرائعة، التي يؤكد بها ضرورة أن يعتمد المرء على البرهان العقلي وحده، دون أن يستند في انضمامه إلى أصحاب مذهب معيَّن إلى مجرد التبعية لسواه، يقول الغزالي: «… ولو ذكر ذاكرٌ مذهبه، فما منفعتك فيه ومذهب غيره يخالفه، وليس مع واحد منهم معجزة يترجَّح بها جانبه؟ فجانبْ الالتفاتَ إلى المذاهب، واطلب الحق بطريق النظر لتكون صاحب مذهب، ولا تكن في صورة أعمى، تقلِّد قائدًا يُرشدك إلى طريق، وحولك ألفٌ مثل قائدك، ينادون عليك بأنه أهلكك وأضلك عن سواء السبيل، فلا خلاص إلا في الاستقلال.»
وفي نفس المعنى قال الغزالي في «المُنقِذ من الضَّلال»: «فمهما نسبت الكلام وأسندته إلى قائلٍ حسُن فيه اعتقادهم، قبِلوه وإن كان باطلًا، وإن أسندته إلى مَن ساء فيه اعتقادهم، ردوه وإن كان حقًّا، فأبدًا يعرفون الحق بالرجال ولا يعرفون الرجال بالحق، وهو غاية الضلال.»
ولهذا كله حرَّض الغزالي الإنساني المفكِّر المستقل على الشك فيما يقوله الناس؛ حتى يتبين له صدقه عن يقين «فمن لم يشكَّ لم ينظر، ومن لم ينظر لم يُبصِر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال، نعوذ بالله من ذلك» (ورد في نهاية «ميزان العمل»).
•••
ونعود إلى ما كنا بصدد الحديث فيه من الطريقة التي يجب أن يقام على منهاجها بناء العلم اليقيني، وذلك أن نبدأ بحقائق «أولية» — أعني حقائق تفرض نفسها على فطرة البديهة فرضًا لا قِبل لنا بردِّه — ثم نستنتج النتائج من تلك الحقائق الأولية، فإذا نحن أمام سلسلة من الحقائق المتولِّد بعضها من بعض، وكلها يقين، لكن سؤالًا هامًّا لا بد أن يطرح نفسه، وهو: متى تكون الحقيقة الأولية أولية؟ يقول الغزالي في «معيار العلم» إن الأوَّلي يقال على وجهَين: «أحدهما ما هو أوَّلي في العقل؛ أي لا يحتاج في معرفته إلى وسط، كقولنا: الاثنان أكثر من الواحد.
والثاني أن يكون بحيث لا يمكن إيجاب المحمول أو سلبه، على معنًى آخر أعم من الموضوع، فإذا قلنا: «الإنسان يمرض ويصح» لم يكن ذلك أوليًّا له بهذا المعنى؛ إذ يقال على ما هو أعم منه وهو الحيوان، نعم هو للحيوان أوَّلي؛ لأنه لا يقال على ما هو أعم منه، وهو الجسم.
وكذلك قبول الانتقال للحيوان ليس بأوَّلي؛ إذ يقال على ما هو أعم منه، وهو الجسم، فإنه لو ارتفع الحيوان، بقي قبول الانتقال، ولو ارتفع الجسم لم يبقَ» (معيار العلم، تحقيق سليمان دنيا، ص٢٥٠). وبعبارة أخرى نشرح بها ما يريده الغزالي، لمن لم يألف مثل هذه اللغة «المنطقية»، نقول: إن الحقيقة تكون أولية يقينية، يجوز لنا أن نبني عليها ما هو يقيني كذلك، في إحدى حالتَين؛ فإما هي حقيقة بديهية واضحة بذاتها لا تحتاج من العقل إلى برهان، كقولنا إن الكل أكبر من الجزء، وإما هي حكمٌ حكمنا به على نوعٍ ما، ولا يستطاع الحكم به على ما هو أعم من ذلك النوع، كأن نحكم على النوع الإنساني بأنه ذو نُظُم سياسية، وهو حكم لا يجوز أن نعلو به إلى ما هو أعم من الإنسان؛ أي إلى الحيوان؛ فعندئذٍ يكون مثل هذا الحكم أوليًّا. هذا هو ما يحدِّد به الغزالي شروط الحقيقة الأولية، التي هي أساس البناء العلمي اليقيني كائنًا ما كانت مادة العلم الذي نقيم بناءه. ولست أرى المقام هنا يناسب النقد؛ لأن هذه الوجهة من النظر، التي تقيس النظر العلمي السليم بمعيار الفكر الرياضي القائم على الأوليات، قد شاعت خلال العصور الفلسفية كلها، ولكنها بطلت الآن ولم يعد يقول بها أحد من فلاسفة العلوم؛ فأقلُّ ما يُعترض به على مثل هذه النظرة، هو أن العلوم الطبيعية قائمة على أسس تختلف عما تقوم عليه العلوم الرياضية، وأن العلوم الطبيعية لا تنشُد اليقين الرياضي، وأن الرياضة إنما اكتسبت يقينها من كون قضاياها تحليلية فقط، ولا تقول شيئًا عن حقائق العالم، إلخ إلخ؛ أقول إنني لا أرى المقام هنا يناسب النقد المستفيض، ويكفيني أن الغزالي قد دعا بهذه القوة إلى النظر العقلي، فهو إلى هذا الحد يمثِّل لنا تراثًا خالدًا.
فلقد وردت فقرة في كتاب الغزالي «محك النظر» يبيِّن فيها كيف يحدث أن يضل الفكر طريق الصواب، وكيف ينبغي للفكر أن يسير إلى النتائج المأمونة، تكفي وحدها ليقال عن الرجل إنه منهجي النظرة من الطراز الأول. ولولا أنه — كسائر الفلاسفة الأقدمين ومن أهل العصور الوسطى — كان يظن أن البداية الأولية الحدسية التي تضمن لنا أن نسير على الطريق السوي هي حقائق، كل حقيقة منها تكوِّن قضية كاملة، قد لا تكون في واقع أمرها بسيطة وواضحة بذاتها، بل قد تكون مستدَلَّة من مقدمات مُضمَرة، حتى جاء ديكارت بعد ذلك فجعل البداية المضمونة حدوسًا مباشرة، كلٌّ منها يقتصر على تصوُّر عقلي واحد (لا قضية كاملة التكوين)، أقول إنه لولا هذا الفرق لما وجدنا قط ما يميِّز المنهج عند الغزالي عنه عند ديكارت، وأما الفقرة التي أشرت إليها، فهي قوله:
«إن الأغاليط في النظريات كلها ثارت من إهمال الجليَّات (أي الحقائق الأولية الواضحة بذاتها) والتسامح فيها، ولو أُخذت الجليات وحُرِّرت (أي وحُقِّقت)، ثم تطرَّق منها الناظر إلى ما بعدها تدريجًا حتى لا يخفى (أي حتى تظهر النتائج التي كانت كامنة في تلك الحقائق الأولية) قليلًا قليلًا، فيتضح الشيء بما قبله على القرب؛ لطاحت المغالطات، ولكن عادة النُّظار (أي المفكرين) الهجوم على غمرة الإشكال، وطلب الأمر الخفي البعيد عن الأوائل الجلية، بعد أن تخللت بينه وبين الأوائل درجات كثيرة؛ فلا تمتد شهادة الجلي، ولا يقوى الذهن على الترقي في المراقي الكثيرة دفعة، فتزلُّ الأقدام، وتعتاص المطالب، وتنحطُّ العقول؛ ولذلك ضل أكثر النُّظار وأضلوا، إلا عصابة الحق الذين هداهم الله تعالى بنوره وأرشدهم إلى طريقه.» وإذا ترجمنا للقارئ هذه الفقرة الفنية، بعبارة مختصرة قريبة إلى اللغة التي يألفها، قلنا: إننا نضمن صدق النتائج لو أننا تحقَّقنا أولًا من أن ما قدَّمناه بادئَ ذي بدء هو من الحقائق البديهية التي لا تحتاج إلى برهان، ثم أخذنا بعد ذلك نسير على مهل، خطوةً خطوة، لنستخرج من تلك البديهيات ما يلزم عنها، ثم عن هذا بدوره ما يلزم عنه، وهلمَّ جرًّا، كان واضحًا لنا عندئذٍ كيف تستند كل خطوة إلى ما قبلها مباشرة، حتى ننتهي إلى البديهيات التي لا تحتاج إلى سند؛ وأما الخطأ فينشأ حين نتعجل ونقفز من البديهيات لا إلى نتائجها القريبة، بل إلى نتائجها البعيدة دفعة واحدة، فلا يكون في مستطاعنا رؤية العلاقة بين بداية السَّير ونهايته؛ ومن ثَم لا ندرك مواضع الخطأ عند الوقوع فيه.
٥٤
على أن «العقل» عند هذا العقلاني العظيم، لم يكن له معنًى واحد، بل فهم الكلمة على أربعة معانٍ؛ اثنان منها منبثقان من الفطرة، والآخران نتيجة الاكتساب؛ فلقد تناول الغزالي فكرة «العقل» في مؤلفه الضخم «إحياء علوم الدين» (ج١)، وأخذ يبيِّن منزلته في العلم قبل أن يفرِّعه إلى معانٍ أربعة، فقال عنه إنه «منبع العلم ومطلعه وأساسه»، وإن العلم يجري منه «مجرى الثمرة من الشجرة، والنور من الشمس، والرؤية من العين»؛ ولقد سمَّاه الله تعالى «نورًا» في قوله اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ …، كما سمَّى العلم المستفاد من العقل روحًا ووحيًا في قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا، وحيثما جاء في القرآن ذِكر النور والظلمة، كان المراد هو العلم والجهل، كقوله تعالى: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ. واستشهد الغزالي بعد ذلك على شرف العقل بقول رسول الله: «أول ما خلق الله العقل.» ثم استشهد بقول عمر بن الخطاب عن رسول الله: «ما اكتسب رجلٌ مثلَ فضلِ عقل يهدي صاحبه إلى هدًى ويرده عن ردًى، وما تم إيمان عبد ولا استقام دينه حتى يكمل عقله.»
وانتقل بعد هذا التمهيد إلى تقسيم العقل إلى مختلف معانيه، فقال: «… اعلم أن الناس اختلفوا في حد العقل وحقيقته، وذهل الأكثرون عن كون هذا الاسم مطلقًا على معانٍ مختلفة، فصار ذلك سبب اختلافهم، وحقيقة الأمر هي أن اسم «العقل» يُطلَق بالاشتراك على أربعة معانٍ، كما يُطلَق اسم «العين» مثلًا على معانٍ عدة؛ فلا ينبغي أن يُطلَب لجميع أقسامه حدٌّ واحد.
أما بالمعنى الأول فالعقل ما يميِّز الإنسان من سائر البهائم؛ إذ هو بهذا المعنى دالٌّ على ما استعد به الإنسان لقبول العلوم النظرية وتدبير الصناعات الدقيقة المستندة إلى فكر.
وأما بالمعنى الثاني فالعقل هو ما يتمثل في تمييز الإنسان منذ طفولته بين ما يجوز وقوعه وما يستحيل وقوعه، ويتمثل في إدراك الإنسان منذ طفولته كذلك للحقائق الأولية البديهية فيقبلها وكأنما هي نابعة من فطرته، كأن يقال له إن الاثنَين أكثر من الواحد، وإن الشخص الواحد لا يكون في مكانَين في وقت واحد.
ويُلاحَظ أن العقل بالمعنى الثاني نتيجة مشتقة منه بالمعنى الأول؛ فهنالك فطرة معيَّنة تحدِّد طبيعة الإنسان وتميِّزه من سائر الحيوان، ثم تنبثق من هذه الفطرة قدرة معيَّنة على بعض الإدراكات والتمييزات.
وأما بالمعنى الثالث فالعقل معناه مجموعة ما اكتسبناه من تجارب، أنارت أمامنا الطريق في دنيا الأشياء فعرفنا كيف نسلك وكيف نستخدم تلك الأشياء؛ فهو بهذا المعنى يساوي ما نُطلِق عليه كذلك اسم «الحنكة»، فنقول عن رجل إنه محنَّك، حين نريد أن يُحسِن تصريف الأمور مهتديًا بخبرته الماضية. ويلاحظ الغزالي أن العقل بهذا المعنى الثالث نتيجة تترتب على المعنيَين الأولَين؛ فلولا ما هو مغروز في طبائعنا من استعدادات، وما يتمثل به ذلك المغروز الفطري من قدرة على الإدراك والموازنة، لما استطعنا الإفادة بالتجارب الماضية بحيث نستخدمها في مواقفنا الماثلة أمامنا.
وإن العقل بمعانيه الثلاثة السابقة، لينتهي بنا إلى معنًى رابع وأخير، وهو قدرة الإنسان على معرفة عواقب الأمور؛ ومن ثَم يأتي وجوب قمع الشهوة الداعية إلى لذة عاجلة وضرر آجل. فإذا اكتسب الإنسان هذه القدرة على نفاذ البصر إلى النتائج البعيدة، ثم القدرة على قهر نفسه بحيث لا تُقبِل إلا على ما هو صالح لها في المدى البعيد، سُمِّي إنسانًا عاقلًا «من حيث إن إقدامه وإحجامه بحسب ما يقتضيه النظر في العواقب لا بحكم الشهوة العاجلة».»
٥٥
إلى هنا وإمامنا الغزالي عقلانيُّ النظر إلى أقصى الحدود، لا يختلف ولا يتخلف في مضمار العقل عن أئمة المنهج العقلي على طول التاريخ الفكري، من أقدم قديمه إلى أحدث حديثه.
لكن الذي يستوقف نظري — وأقولها على تردُّد شديد، بل إني لأقولها على ترجيح بأن أكون على خطأ لا أراه — الذي يستوقف نظري بعد ذلك، هو أنني لا أجد المنهج العقلاني الذي أوصى به الغزالي مطبَّقًا عند الغزالي نفسه فيما بحث وكتب وألَّف، وإلا ففي أي كتاب مِن كتبه نراه قد حرص على أن يُقيم نتائجه على أفكار «أولية» بالمعنى المنطقي لهذه العبارة؛ أي بالمعنى الذي يجعل تلك الأفكار الأولية فطرية في جِبلة الإنسان، لا سبيل إلى إنكارها لأن إنكارها تنكُّر منَّا لتلك الفطرة؟ ولا شك أن الغزالي حين أوصى بإلحاح شديد أن نضمن يقين النتائج بضماننا ليقين المقدمات، وأن يقين المقدمات لا يتوافر لنا إلا إذا كانت تلك المقدمات حقائق «أولية» بالمعنى الذي ذكرناه، قد كان يعني ما يريده المنطق بهذه الألفاظ، وأعود فأسأل: في أي كتاب من كتبه نراه قد بدأ بمثل هذه الحقائق الأولية اليقينية؛ ليضمن بها يقين النتائج التي يستدلها منها؟ إنه ليغلب على الغزالي في تأليفه (وانظر في ذلك مثلًا طريقته في «إحياء علوم الدين») أن يبدأ بذِكر المأثور من أقوال السلف في الموضوع الذي يهم بالكتابة فيه، ثم ينطلق على أساس هذا المأثور فيذكُر للقارئ ما أراد أن يذكره؛ فكأنه يبدأ بالرواية عن الماضي ليجعل تلك الرواية سنده فيما ينوي أن يقوله، وذلك بعينه ما حذَّرنا من فعله إذا أردنا لأنفسنا منهجًا عقليًّا في ميادين الدراسة على اختلافها. إن قولنا: «قال فلان …» — مهما تكُن منزلة فلان هذا — هو أبعد ما يكون عن الاستناد إلى «أفكار أولية» يقينية بحكم منطقها، لا بحكم منزلة قائليها.
لقد كان الغزالي في تاريخ الفكر الإسلامي أعظم رافض للفكر اليوناني متمثِّلًا في فلسفة اليونان، وفي فلسفة أرسطو منها على وجه الخصوص، وفي ظني أن هذا الموقف الرافض من الغزالي تجاه الفكر اليوناني قد كان من أهم العوامل التي أكسبَته المنزلة الرفيعة في أعيُن الأجيال التي تعاقبت بعده، وإلى يومنا هذا؛ فالفكر اليوناني هو فكر «الغرب»، وهو فكرٌ قائم على التجريد العقلي الصِّرف، وذلك هو أبرز ما يميِّزه عن فكر «الشرق» في أخلص صُوَره وأنقاها وأبعدها تأثرًا بالعوامل الخارجية، وإذا شئت فقارِن بين أي شيء كتبه فيلسوف من الصين أو من الهند، وأي شيء كتبه فيلسوف يوناني؛ فعندئذٍ سترى في وضوح لا يحتمل الشك بأن الأول يكتب ما هو أقرب إلى أدب حِكمي؛ لأنه يكتب عن خبرةٍ استخلصها من وعيه بالحياة وعيًا مباشرًا، وأما الثاني فيعلو إلى درجات من الفكر المجرد الذي يكاد يُصبِح معه فكرًا رياضيًّا خالصًا، ولسنا نقول بهذا إن «الفلاسفة» العرب كانوا أقرب إلى نموذج الشرق الصيني والهندي منهم إلى نموذج اليونان، بل إنهم — على عكس ذلك — قد أوشكوا أن يكونوا هم الفلاسفة اليونان أنفسهم في ثوب عربي، لكن مِن أعلام الثقافة العربية الأصيلة مَن أحس القلق تجاه الفلاسفة اليونان وتجاه أصدائهم على أقلام الفلاسفة العرب، فنهضوا لمقاومة هؤلاء وأولئك، وعلى رأس المُقاوِمين كان الغزالي.
كتب الغزالي كتابه «تهافُت الفلاسفة»، وذكر في مقدمته أنه إنما يقتصر على إظهار التناقض في رأي مقدَّمهم، الذي هو الفيلسوف المُطلَق والمعلِّم الأول، وهو «رسطاليس» (هكذا ورد اسمه)، على أنه سيقتصر في مترجمي أرسطو إلى العربية (لاحِظ أن الغزالي يعُد ما كتبه الفلاسفة العرب «ترجمة» لفلسفة أرسطو إلى العربية) على الفارابي وابن سينا: «فنقتصر على إبطال ما اختاراه ورأياه الصحيح من مذهب رؤسائهما في الضلال.» وبشيء قليل من تجاوُز المنطق الصارم، أراني أميل إلى القول بأن الغزالي حين نصب نفسه للهجوم على الفلسفة الأرسطية، كما رآها فيما كتبه الفارابي وابن سينا، كان في حقيقة أمره قد نصب نفسه لمهاجمة «العقل» إذا ما مس هذا العقل قضية إيمانية في مجال الدين. ولم يكن هذا هو منهجه العلمي الذي أوصى باصطناعه عند النظر.
- فأولًا: قد يختلف الفلاسفة على لفظ مجرد وطريقة استعماله، كاختلافهم على الاسم «جوهر» حين يُشيرون به إلى الله؛ فيقول بعضهم عن «الجوهر» إنه «الموجود لا في موضوع»؛ أي إنه هو القائم بنفسه الذي لا يحتاج إلى مقوِّم يستند إليه، ويردُّ عليهم آخَرون بقولهم إن الجوهر إنما يتحيز في مكانه. وهنا يعلِّق الغزالي بقوله: إننا إذا اتفقنا على معنى اللفظ بأنه هو قيام الموجود بنفسه دون حاجة منه إلى سواه، فماذا يهمُّ إذا أطلقنا على مثل هذا الموجود اسم «جوهر» أو لم نُطلِقه؟ إن هذا إنما يكون من قبيل البحث اللغوي الذي لا ضير علينا منه.
- وثانيًا: قد يختلف الفلاسفة على أفكار ليست مما يصدم أصلًا من أصول الدين: «ومَن طن أن المناظرة في إبطال هذا من الدين، فقد جنى على الدين … فإن هذه الأمور تقوم عليها براهين هندسية حسابية لا يبقى معها ريبة، فمن يطَّلع عليها ويتحقق أدلتها … إذا قيل له: إن هذا خلاف الشرع، لم يسترِب فيه، وإنما يستريب في الشرع …» «وأعظم ما يفرح به الملاحدة أن يصرِّح ناصر الشرع بأن [ما قد ثبت بالبراهين العقلية] على خلاف الشرع، فيسهل عليهم طريق إبطال الشرع إن كان شرطه أمثال ذلك.»
- وثالثًا: قد يجيء الاختلاف بين الفلاسفة حول أمر يتعلق بأصل من أصول الدين، كالقول في حدوث العالم، وصفات الصانع، وبيان حشر الأجساد والأبدان … إلخ.
هذا القسم الثالث من اختلافات الفلاسفة هو ما يهتم به الغزالي، لماذا؟ لأنه يخشى أن يؤدي النظر العقلي إلى نتيجة تصدم أصلًا من أصول الدين، وهو موقف لا يكون إلا من رجل لا يريد لحكم العقل أن يكون مُطلَقًا؛ فيحدِّد له ما يجوز له أن يتناوله وما لا يجوز، ولو كان الغزالي عقلانيًّا صِرفًا، لما وجد فرقًا عند العقل بين أن يكون الموضوع المطروح للنظر من القسم الأول أو من الثاني أو من الثالث، وأعني الأقسام التي ذكرناها عنه منذ قليل؛ لأن الأمر عندئذٍ يُصبِح مرهونًا بمنهاج السَّير وحده، بغضِّ النظر عن مادة الموضوع.
في هذا الكتاب الهام، الذي يحدِّد مَعلمًا بارزًا من معالم الطريق في تراثنا الثقافي كله، يطرح الغزالي عشرين مسألة يراها مواضع مؤاخذة للفلاسفة اليونان وأتباعهم من العرب، مِن أهمها تفنيده لقول الفلاسفة في أزلية العالم وأبديته، وقولهم بأن الموجود الأول يعلَم الكليات ولا يعلَم الجزئيات، وقولهم باستحالة خرق العادات، وغير ذلك من مسائل تتصل بالله من حيث هو واحد وخالق … إلخ، لكننا نودُّ أن نقِف وقفة قصيرة عند المسألة السابعة عشرة بصفة خاصة؛ لشيوع ذِكرها على أقلام الباحثين، وهي المسألة التي ذكرناها لتوِّنا، والخاصة باستحالة خرق العادات أو عدم استحالة ذلك، أو بتسمية أخرى قد تكون أكثر إلفًا للقارئ، هي المسألة الخاصة بفكرة السببية.
إنه ليندر بين الباحثين منَّا مَن يتناول فكرة «السببية» عند الفيلسوف الإنجليزي «ديفد هيوم» (١٧١١–١٧٧٦م) دون أن يعلِّق عليها بقوله إن الغزالي قد سبقه إلى هذه الفكرة نفسها على ما بين الرجلَين من زمن مديد. وأساس الفكرة المشتركة عند الرجلَين هو البيان بأن حادثةً ما لا يجوز أن تُعَد سببًا في حادثة أخرى، لمجرد أننا نراهما متصاحِبَين متلازمَين دائمًا، أو متعاقبَين بلا تخلُّف؛ فمهما تعدَّدت الحالات التي رأينا فيها الحادثتَين أو الشيئَين متلازمَين متعاقبَين، فذلك لن يزيد على كوننا قد «تعوَّدنا» هذا التلازم أو التعاقب، بحيث إذا وقعت إحداهما توقَّعنا حدوث الأخرى بحكم الرابطة التي ألِفناها بينهما، ولكن هل يعني ذلك استحالة أن يحدث في المستقبل غير ما ألِفنا، فتقع إحدى الحادثتَين ولا تصحبها الأخرى؟ يقول الغزالي وهيوم معًا: كلا، ليس ذلك مُحالًا عند العقل، فما يزال العقل يُجيز استقلال إحداهما عن الأخرى، برغم ما قد تعوَّدناه فيهما من تلازُم لم ينقطع في الحالات الماضية. وهو قولٌ لا يُقِرهما عليه فلاسفة آخرون، كما لا يُقِرهما عليه الإدراك الفطري عند عامة الناس؛ لأن الفلاسفة وعامة الناس جميعًا يرَون بأن في الحوادث أو الأشياء قوةً سببية من شأنها أن تستحدث حوادث أو أشياء تابعة حتمًا، ولا استثناء لتبعيتها في مستقبل، كما لم يكن لتبعيتها استثناء في حاضر أو ماضٍ. أما الغزالي وهيوم فيذهبان إلى القول بأن لكل حادثة استقلالها الذاتي عن الحادثة الأخرى، وما الرابطة السببية المزعومة بين حادثة سابقة وأخرى لاحقة إلا عادة تعودناها، لا شأن لها بطبيعة الأشياء نفسها؛ ومن ثَم جاز عندهما أن يأتي ظرفٌ تحدُث فيه أُولاهما ولا تعقبها الأخرى. وأود أن ألفت نظر القارئ إلى أن المسألة ليست مجرد لجاجة في الجدل بغير حاصل، بل هي مسألة تمسُّ بناء العلم في صميمه؛ لأنه إذا ما أخذنا بوجهة النظر هذه، كان معناها أن قوانين العلوم قائمة على احتمال الصدق لا على يقينه؛ إذ لو أردنا لتلك القوانين صدقًا يقينيًّا للَزِم أن نجعل الرابطة السببية بين الظواهر والأشياء والحوادث أمرًا محتومًا، يقع في المستقبل كما وقع في الماضي بغير أدنى ريب في ذلك.
ولنُورِد هنا عبارة الغزالي في هذه المسألة لأهميتها، يقول:
«الاقتران بين ما يُعتقَد في العادة سببًا وما يُعتقد مسبَّبًا ليس ضروريًّا عندنا [أي ليس محتوم الحدوث]، بل كل شيئَين ليس هذا ذاك، ولا ذاك هذا [أي إن كلًّا منهما مستقِلٌّ بكيانه عن الآخر]، ولا إثبات أحدهما متضمِّنٌ لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمِّنٌ لنفي الآخر، فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر.»
ويسوق الغزالي أمثلة لأشياء قد نظن فيها قيام رابطة سببية ضرورية بين السابق واللاحق، ومن أمثلته: الرِّي والشرب، الشبع والأكل، الاحتراق ولقاء النار، النور وطلوع الشمس، الموت وحز الرقبة، الشفاء وشرب الدواء، وهلمَّ جرًّا إلى سائر ما نُشاهِده من مقترَنات في الطب والفلك والحِرف والصناعات.
على أن الغزالي يُسارِع بعد هذا الكلام مباشرة ليقرِّر أمرًا فيه كل الفَرق بينه وبين الفيلسوف الإنجليزي «هيوم»، ولم يحدُث لي قط في حياتي العلمية أن وقعت على دارس عربي واحد، ممن يُقارِنون بين هيوم والغزالي فخورين بأن يكون الفيلسوف العربي قد سبق بالفكرة زميله الإنجليزي بسبعة قرون، أقول إني لم أقع على دارس عربي واحد يذكُر لنا هذا الفرق، برغم أن الأمر لم يكن يقتضيه أكثر من أن يُتابِع القراءة بضعة أسطر في الصفحة نفسها؛ ليجد قول الغزالي بأن اقتران المقترنات، التي قد يؤخَذ اقترانها على أنه رابطة سببية يكون فيها السابق سببًا واللاحق مسبَّبًا، إنما هو في حقيقة أمره اقتران من «تقدير الله سبحانه؛ لخَلقِها على التساوق، لا لكونه ضروريًّا في نفسه غير قابل للفوت.»
معنى ذلك أن اقترانًا مثل لقاء النار لقطعة من الورق — مثلًا — إذا أعقبه احتراق، أو طلوع الشمس إذا تبعه انتشار النور، فليس ذلك لأن في النار ذاتها ما يحتِّم أن تُشعِل الورقة، ولا في الشمس ذاتها ما يُوجِب أن ينتشر النور، إنما الأمر في هذه الحالة هو مجرد تتابُع بين الحوادث تعوَّدناه، فحسبُنا أنه أكثر من أن يكون عادة ألِفناها، وإنما هو رباط سببي ضروري ناتج عن طبائع الأشياء. وإلى هنا والتشابه قائم بين الغزالي وهيوم في تحليلهما لفكرة السببية، لكن بينما يترك هيوم المسألة عند هذا الحد، وبذلك لا ترتد فكرة السببية إلا إلى أُسُس سيكولوجية في تكوين الإنسان وطرائق إدراكه للأشياء، بحيث إذا شاهد شيئَين وقد تلازما في الوقوع، سارَع إلى ربطهما معًا برابطة سببية، أقول إنه بينما وقف هيوم عند هذا الحد من تحليل الفكرة، جاوَز الغزالي هذا الحد وأضاف ما يُفيد بأن وراء العادات الإدراكية عند الإنسان تقديرًا من الله أن تجيء الأشياء المُقترِنة على صورة من التساوق بحيث تظل مُقترِنة دائمًا، وقد لا يريد الله للأشياء مثل ذلك الاقتران فيبطل ما بينها من ضرورة التلازم؛ وعندئذٍ قد ترى النار محيطة بقطعة الورق دون أن تحترق بها قطعة الورق، وقد ترى الشمس ساطعة دون أن ينتشر في الأرجاء نور.
بهذه الإضافة التي أضافها الغزالي إلى رد الرابطة السببية إلى عادات سيكولوجية عند الإنسان، يزول من أساسه التشابه الحقيقي بينه وبين هيوم، ويُصبِح كلٌّ من الرجلَين طرازًا وحده؛ وذلك لأنه بينما يُمكِن النظر إلى تحليل هيوم للسببية على أنه في الوقت نفسه تحليلٌ لحقيقة القانون العلمي، نرى تحليل الغزالي للسببية مُبطِلًا لفكرة القانون العلمي من جذورها؛ ففي حالة هيوم نستطيع القول — بناءً على تحليله للسببية — إن أي قانون علمي ينتظم ظاهرة معيَّنة من ظواهر الطبيعة، ما هو في أساسه إلا أن يكون في تلك الظاهرة جوانب ارتبط بعضها ببعض دائمًا فيما شاهدناه منها، فبات مرجَّحًا لدينا أن نتوقع استمرار هذا الارتباط نفسه بين تلك الجوانب في المستقبل؛ ففي ظاهرة «المطر» مثلًا، شاهَدنا في كل حالاته الماضية أن ثَمة ارتباطًا بين درجة الحرارة ودرجة الرطوبة ودرجة الضغط الجوي واتجاه الريح … إلخ إلخ، فأصبحنا نرجِّح كُلَّما توافَرت هذه الجوانب نفسها بهذه الدرجات نفسها، أن يسقط المطر؛ لأنه ليس في الأمر — من وجهة نظر هيوم — أكثر من ظواهر ارتبطت في إدراكنا، فتكوَّنت لدينا العادة بأن نتوقع ارتباطها على هذا النحو دائمًا. وأما عند الغزالي فقد دخل في الموقف عاملٌ آخر هو «تقدير الله»؛ وبذلك لم يعُد ارتباط الظواهر في إدراكنا كافيًا وحده لنستخرج لأنفسنا منه قانونًا من قوانين الطبيعة؛ إذ قد يتم الارتباط كله بين العناصر المكوِّنة للظاهرة المعيَّنة كلها، ومع ذلك يريد لها الله ألا تفعل فلا تفعل؛ قد تتوافر درجة الحرارة ودرجة الرطوبة ودرجة الضغط الجوي واتجاه الريح … إلخ، مما حدث معه سقوط المطر دائمًا في جميع الحالات الماضية، ومع ذلك فربما قدَّر الله سبحانه ألا يكون مطرٌ فلا يكون. وبهذا ينتفي العلم من أساسه؛ لأن العلم ينهار كله ولا يبقى منه في أيدينا شيء، إذا نحن لم نجد الأساس الذي نتوقع به ما يحدث في المستقبل إذا توافَر كذا وكذا من العوامل والظروف. أما إذا امتلأنا بفكرةٍ تقول: إنه قد تتوافر العوامل كلها والظروف كلها لظاهرة معيَّنة، ومع ذلك يظل الأمر مرهونًا بتقدير الله أن تقع الظاهرة أو لا تقع، كان معنى ذلك أنْ لا عِلم؛ لامتناع القدرة على تكوين القوانين التي تمكِّننا من توقُّع ما يحدث في الحالات المعلومة العناصر.
لقد ظن الغزالي — كما ظن كثيرون من الأقدمين — أنه لو جعل توافُر جانبَين كافيًا وحده لحدوث ظاهرة معيَّنة بناءً على ما خبرناه في الماضي، فإنه يكون بذلك قد جعل للجماد قدرة على الفعل، مع أن الله تعالى هو وحده الفاعل. ولنترك الحديث للغزالي نفسه في هذا: إنه إذا لاقت النار قطعة من القطن احترقت قطعة القطن، فنحن «نجوِّز وقوع الملاقاة بينهما دون الاحتراق، ونجوِّز حدوث انقلاب القطن رمادًا مُحترِقًا دون ملاقاة النار.» وقد يدَّعي خصومنا من الفلاسفة بأن فاعل الاحتراق هو النار فقط، وهو فاعل بالطبع لا بالاختيار؛ فلا يُمكِنه الكف عما هو في طبعه بعد ملاقاته لمحل قابل له. وهذا ما نُنكِره ونقول: «فاعل الاحتراق بخلق السواد في العطن، والتفريق في أجزائه، وجعلِه حراقًا رمادًا، هو الله تعالى، فأما النار فهي جماد لا فعل لها، فما الدليل على أنها الفعال؟ ليس لهم دليل إلا مشاهدة حصول الاحتراق عند ملاقاة النار، والمشاهدة تدل على الحصول عنده، ولا تدل على الحصول به. إن الوجود عند الشيء لا يدل على أنه موجود به.»
في هذه العبارة الأخيرة أوضحُ بيان للفَرق البعيد بين الغزالي وهيوم؛ فكلاهما يُوافِق على أن اقتران شيئَين في الحدوث يدل على أن أحدهما قد حدث عند حدوث الآخر، لكنه لا يدل على أنه قد حدث بسبب حدوث الآخر، ولو وقف الغزالي عند هذا الحد كما وقف هيوم، لكان التشابه بينهما كاملًا، لكن الغزالي لم يقِف عند ذلك، وأضاف أنه إذا كان أحد الشيئَين لم يحدث بسبب حدوث الآخر المُصاحِب له؛ فإن السبب الذي جعلهما يقترنان هكذا، هو أمرٌ من الله، ولما كان مثل هذا الأمر يريده الله وقد لا يريده، جاز للشيئَين أن يقترنا في أي لحظة وألا يقترنا في أي لحظة تنفيذًا لمشيئة الله. وبهذا القول من الغزالي يكون قد قرَّر وجود الفاعلية السببية، بينما أنكرها هيوم؛ مما يمحو أي شَبه حقيقي بين الرجلَين.
الذي يهمنا بيانه في هذا السياق هو أن الغزالي، بعد أن أقام منهجًا عقليًّا يسلكه بين أصحاب النظر العقلي، لم يُرِد أو لم يستطع أن يطبِّق هذا المنهج في أيٍّ مِن كتبه، أو أن يلتزمه في أيٍّ من الموضوعات التي تعرَّض لبحثها؛ فوراءَ «عقله» كان هنالك الإيمان الديني، فإذا جاءه العقل بما لا يصدم هذا الإيمان فبِها، وإلا فليتنكَّر للعقل وما جاء به تنكرًا يُبديه بالفعل وإن لم يذكُره بالقول الصريح. على أننا إنما نعني بهذا مضمارًا يكون فيه العقل مدار النظر؛ لأن الغزالي كما نعرف قد اعترف بأن للعقل حدوده التي يعجز بعدها عن النظر، وذلك عندما يكون الهدف هو معرفة الحق الذي هو الله سبحانه، فعندئذٍ تكون لنا وسيلة إدراكية أخرى، هي الحدس الصوفي، وليس موضع مؤاخذتنا له هو أنه قد جعل للعقل مجالًا وللحدس مجالًا، بل هو أنه في المجال الواحد الذي يكون المدار فيه للعقل — كتحليل فكرة السببية — نراه لا يلتزم منطق العقل وحده بغضِّ النظر عن نتائجه.
ورد البحث في فكرة السببية — كما أسلفنا — في كتاب «تهافت الفلاسفة» (المسألة السابعة عشرة)، ونودُّ ألا يمضي حديثنا في هذا الموضع دون أن نذكُر ما لا بد أن يكون قارئنا على عِلم به، وهو أن ابن رشد قد تصدى فيما بعد للغزالي بكتاب «تهافت التهافت»؛ فلئن كان الغزالي قد بيَّن ما ظنه تناقضات وقع فيها الفلاسفة، فقد أراد ابن رشد أن يبيِّن بدوره ما ظنه تناقضات وقع فيها الغزالي في نقده للفلاسفة. وفيما يختص بالسببية قال ابن رشد مُدافعًا عن أن للأشياء قدرات ذاتية بحكم طبائعها على إحداث النتائج؛ أي إن في الأشياء ما يجعلها أسبابًا ذاتية لما يلزم عنها، يقول ابن رشد:
«… ماذا يقولون في الأسباب الذاتية التي لا يُفهَم الموجود إلا بفهمها؟ فلو لم يكن لموجودٍ موجودٍ [أي لكل موجود] فعلٌ يخصه، لم يكن له طبيعة تخصه، ولو لم يكن له طبيعة تخصه لما كان له اسم يخصه ولا حد، وكانت الأشياء كلها شيئًا واحدًا، ولا شيئًا واحدًا.» ويريد ابن رشد بهذا أن يقول: خذ النار — مثلًا — فإما أن تقول عنها إن لها فعلًا معيَّنًا يخصها ولا يخص سواها، وإما ألا يكون؛ فإن كانت الأولى كان معناها أن للنار طبيعة خاصة كانت بها نارًا، وإن كانت الثانية بطل أن تكون النار شيئًا واحدًا بعينه، وإذا ارتفعت عنها صفة الواحدية في طبيعتها ارتفع بالتالي وجودها من حيث هي شيء متميِّز عما سواه. وخلاصة القول هنا هي أن النار إذا اعترفنا لها بما يميِّزها، وأن ما يميِّزها هو الإحراق لما تُلاقيه من الأشياء الأخرى القابلة للاحتراق، وجب أن تُلازِمها هذه الطبيعة في جميع الحالات؛ فإذا فرضنا أنْ نشأت بين أيدينا حالة فيها نارٌ تُلاقي شيئًا قابلًا للاحتراق دون أن يحترق، لم نقُل إن صفة النار قد زالت عنها، بل قُلنا إنه لا بد أن يكون هناك عامل آخر مُبطِل للاحتراق، مع بقاء صفة الاحتراق مميِّزة للنار لا نسلبها عنها.
ويقول ابن رشد في هذا: «العقل ليس هو شيئًا أكثر من إدراكه الموجودات بأسبابها، وبه يفترق مِن سائر القوى المُدرِكة؛ فمَن رفع الأسباب فقد رفع العقل. وإن سمَّوا مثل هذا [أي الاقتران بلا سببية] عادة، فما أدري ما يريدون باسم العادة؛ هل يريدون أنها عادة الفاعل؟ أو عادة الموجودات؟ أو عادتنا عند الحكم على هذه الموجودات؟» وشرحًا لسؤال ابن رشد هذا، نقول: افرض أن الموقف هو نارٌ تحرق ورقًا، فما الذي يريده القائلون بأن العلاقة بينهما هو عادة؟ أهي عادة النار أن تحرق؟ أم هي عادة الورق أن يحترق بها؟ أم هي عادتنا نحن في إدراك العلاقة بين النار والورق؟ أم هي عادة الله تعالى في أن جعل النار تحرق الورق؟ «إنه لمحال أن يكون لله تعالى عادة.» هكذا يستدرك ابن رشد ردًّا على الغزالي؛ ليبيِّن تناقضه في أن يجعل السببية «عادة»، ثم يجعل الله فاعلًا لها! «وإن أرادوا أنها عادة للموجودات فالعادة لا تكون إلا لذي النفس، وإن كانت في غير ذي النفس فهي في الحقيقة طبيعة. وأما أن تكون عادة لنا في الحكم على الموجودات، فإن هذه العادة ليست شيئًا أكثر من فعل العقل الذي يقتضيه طبعه، وبه صار العقل عقلًا.»
ألا إنه لنموذج ممتاز للعقل العربي يُحاوِر بعضه بعضًا، فحسبنا مثلٌ كهذا للطريقة التي يتجاوب بها اثنان من رجال الفكر العربي — الغزالي في المشرق وابن رشد في المغرب — لنقول إننا نستطيع أن نرث عن الآباء وقفاتهم العقلانية إزاء المشكلات العارضة؛ لنكون خلفًا قد أخذ عن السلف، وسار على نهجه.
٥٦
قُل ما شئت عن الإمام الغزالي في قوة حجته، وفي قدرته القادرة على التحليل، وفي سعة أفقه وغزارة علمه وحضور بديهته وفي عقلانية نظرته، فلن تُجاوِز الحق، لكن ذلك كله لا ينفي عنه أنه استخدم تلك القوة والقدرة والرسوخ في أنْ رسم صورة تفصيلية للمسلم؛ كيف ينبغي له أن يعيش ليُساير ما يقتضيه الشرع، وذلك في مؤلَّفه الضخم «إحياء علوم الدين»، وفي مواضع كثيرة أخرى من مؤلفات أخرى — ﮐ «منهاج العابدين» مثلًا و«ميزان العمل» وغير ذلك — فكان فكأنما وضع لحياة المسلم قالبًا من حديد، لم يعُد بعدها قادرًا على أن يتحرك بتلقائية الإنسان المفكِّر الحر، ولا أظنني مُغاليًا إذا قلت إن الغزالي — على قدر عظمته — كان هو الرجل الذي أغلق باب الفكر الفلسفي أمام المسلمين فلم يُفتَح بعد ذلك إلى أن مرَّت ثمانية قرون، فُتِحت للمسلمين بعدها أبواب حضارة جديدة، هي حضارة أوروبا الحديثة؛ وكذلك كان هو الرجل الذي صاغ للمسلمين نموذجًا نظريًّا لطريقة العيش، أصبح لهم كالقيد الذي يغلُّ اليدَين والقدمَين واللسان في آنٍ معًا، ولبث المسلمون بعده — ربما إلى يومنا هذا — في شغل عن الحياة النابضة؛ بانصرافهم إلى تحديد الحلال والحرام في كل لفظة يلفظها لسان، أو حركة تتحركها يد أو قدم.
وما ظنك بإمامٍ يرسم للناس صورًا قوية أخَّاذة للطريقة التي ينبغي أن يأكلوا بها ويكسبوا معاشهم ويُصادِقوا بها الأصدقاء ويعتزلوا الناس إذا أرادوا العزلة، والتي ينبغي بها أن يتأهبوا للسفر ولسماع الموسيقى والغناء، وغير ذلك مما يجري هذا المجرى؟ إنه لا يجوز لأمثالنا الآن أن يُناقِشوا الغزالي في مدى توفيقه في تلك الصور التفصيلية كلها؛ لأن له من المكانة في العلم بأمور الشرع ما لا يسهل معه حتى للثقات في هذا الموضوع أن يُعارِضوه، لكن الذي يجوز لنا، بل الذي يجب علينا الاضطلاع به من الناحية الفكرية، هو أن نتنبه بقوة إلى حقيقة هامة، وهي خطورة الخلط بين النسبي والمُطلَق في هذه الأحكام؛ فإذا صح أن يكون للأكل أو للسفر — مثلًا — آدابٌ بعينها تصدق على ظروف محدَّدة بزمانها ومكانها، فلا يصح أن ننقل الصورة النسبية المحدودة بالزمان والمكان المعيَّنَين هذه، لنجعلها صورة مُطلَقة تصدق على كل زمان ومكان؛ وبالتالي نلتزمها في ظروفنا الراهنة على بُعدِ الخلاف بين الحالتَين.
وسأضرب للقارئ مثلًا واحدًا مما يقوله الغزالي عن «آداب الأكل»؛ ليرى بنفسه كيف أن بعض هذه الآداب قد انقضى زمانها وجاء زمان آخر يقتضي آدابًا أخرى، يقول:
«إن مَقصد ذوي الألباب لقاء الله تعالى في دار الثواب، ولا طريق إلى الوصول للقاء الله إلا بالعلم والعمل، ولا تُمكِن المواظبة عليهما إلا بسلامة البدن، ولا تصفو سلامة البدن إلا بالأطعمة والأقوات، والتناول منها بقدر الحاجة على تكرُّر الأوقات، فمِن هذا الوجه قال بعض السلف الصالحين إن الأكل من الدين …» أرجو أن يلحظ القارئ نقطتَين في منهج التفكير عند الغزالي: (١) تسلسلُ القضايا بعضها عن بعض. (٢) استناده أولَ ما يستند إلى أقوال السلف. فإذا كانت الملاحظة الأولى مؤيِّدة لمنهجه العقلي، كما أوصى به في كتب كثيرة له — على نحو ما بيَّنا — فالملاحظة الثانية بغير شك تنقض ذلك المنهج؛ إذ ليس «أقوال السلف» من الحقائق الأولية البديهية التي طالما ألحَّ علينا أن نجعلها نقطة البدء في كل تفكير علمي سليم؛ مما جعلنا نقرنه من حيث المنهج بالفيلسوف الفرنسي ديكارت. وبعد هذا فلنستأنف ذِكر ما كتبه الغزالي في آداب الأكل:
«… قال تعالى: كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا فمَن يُقدِم على الأكل ليستعين به على العلم والعمل، ويقوى به على التقوى، فلا ينبغي أن يترك نفسه مُهمَلًا سدًى، يسترسل في الأكل استرسال البهائم في المَرعى؛ فإن ما هو ذريعة إلى الدين ووسيلة إليه، ينبغي أن تظهر أنوار الدين عليه، وإنما أنوار الدين آدابُه وسننه التي يُزمُّ العبد بزمامها، ويُلجَم المُتَّقي بلجامها؛ حتى يتزن بميزان الشرع شهوة الطعام في إقدامها وإحجامها. وها نحن نُرشِد إلى وظائف الدين في الأكل؛ فرائضها وسننها وآدابها ومروءاتها وهيئاتها في أربعة أبواب، وفصل في آخرها. الباب الأول فيما لا بد للآكِل مراعاته وإن انفرد بالأكل، الباب الثاني فيما يزيد من الآداب بسبب الاجتماع على الأكل، الباب الثالث فيما يخص تقديم الطعام إلى الإخوان الزائرين، الباب الرابع فيما يخص الدعوة والضيافة وأشباهها.
الباب الأول، وهو ثلاثة أقسام: قِسم قبل الأكل، وقسم مع الأكل، وقسم بعد الفراغ منه.
القسم الأول: قبل الأكل
- الأول: أن يكون الطعام حلالًا في نفسه، طيبًا في جهة كسبه.
- الثاني: غسل اليد؛ لأن اليد لا تخلو عن لوث في تعاطي الأعمال، فغسلها أقرب إلى النظافة والنزاهة، ولأن الأكل لقصد الاستعانة على الدين عبادة، فهو جدير بأن يقدِّم عليه ما يجري منه مجرى الطهارة من الصلاة.
-
الثالث: أن يُوضَع الطعام على السفرة الموضوعة على الأرض؛ فهو أقرب إلى فعل رسول
الله
ﷺ من رفعه على المائدة. كان رسول الله إذا أُتي بطعام وضعه
على الأرض؛ فهذا أقرب إلى التواضع، فإن لم يكن فعَلى السفرة؛ فإنها تذكِّر السفر،
ويتذكر من السفر سفر الآخرة وحاجته إلى زاد التقوى.
[وها هنا ترى الغزالي يبلغ نهاية المرونة من وجهة نظره، حين يقول في هذا السياق: إنه وإن تكن الموائد مُستحدَثة بعد رسول الله «فلسنا نقول الأكل على المائدة منهيٌّ عنه نهيَ كراهة أو تحريم»؛ كل ما في الأمر عنده هو أن الأكل على السفرة أصح منه على المائدة، وعلى الأرض أصح منه على السفرة.]
- الرابع: أن يُحسِن الجِلسة على السفرة في أول جلوسه، ويستديمها كذلك؛ كان رسول الله ربما جثا للأكل على ركبتَيه، وجلس على ظهر قدمَيه، وربما نصب رجله اليمنى وجلس على اليسرى.
- الخامس: أن ينوي بأكله أن يتقوى به على طاعة الله تعالى؛ ليكون مُطيعًا بالأكل، ولا يقصد التلذذ والتنعم بالأكل.
القسم الثاني: في آداب حالة الأكل
يبدأ ﺑ «باسم الله»، وإن قالها مع كل لقمة يكون أحسن؛ حتى لا ينشغل عن ذِكر الله بالشره.
ويفضِّل الغزالي أن يقول الآكل «باسم الله» مع اللقمة الأولى، و«باسم الله الرحمن» مع اللقمة الثانية، و«باسم الله الرحمن الرحيم» مع اللقمة الثالثة، وأن يكون القول في كل هذه الحالات جهرًا.
ويأكل الآكل باليمنى، ويبدأ بالملح ويختم به، ويصغِّر اللقمة ويجوِّد مضغها، وما لم يبتلعها لم يمد اليد إلى الأخرى، وألا يذم مأكولًا.
وأن يأكل مما يليه، إلا الفاكهة فله أن يدور عليها، ولا يقطع بالسكين إلا الخبز واللحم.
ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه؛ فإنه لا يدري في أي طعامه البركة.
ولا ينفخ في الطعام الحار …
القسم الثالث: ما يُستحَبُّ بعد الطعام
أن يُمسِك قبل الشبع.
ويلعق أصابعه ثم يمسح بالمنديل ثم يغسلها.
ويلتقط فتات الطعام.
ويتخلل، ويتمضمض بعد الخلال.
ويلعق القصعة.
ويشكر الله بقلبه، ويقول: اللهم لا تجعله قوة لنا على معصيتك. ويقرأ «قل هو الله أحد»، و«لإيلاف قريش».»
وأترك للقارئ الرأي إن كانت هذه الآداب كلها يجوز التأدب بها اليوم، أم يرى أن لأكلنا اليوم آدابًا أخرى، ومن غير المعقول أن تكون كل هذه الآداب التي ذكرها الغزالي — دون سواها — هي ما ينبغي للمسلم أن يأخذ به في طعامه.
وما قُلناه عن الأكل قُل مثله في سائر نواحي العيش.
٥٧
لقد وصل «العقل» إلى قمته في أدب فلسفي، أو قُل في فلسفةٍ صبَّها أصحابها في صورة أدبية، كأبي العلاء في المشرق العربي، وابن باجة وابن طفيل في الأندلس. ولما كانت خطة هذا الكتاب تلتزم الوقفات العقلية شكلًا ومضمونًا، وتقصر هذه الوقفات على ما هو أدخَلُ في باب الثقافة منه في باب التخصص بكل فروعه، ومنها تخصُّص العلوم الرياضية والطبيعية وتخصُّص الفقه وتخصُّص الفلسفة، فقد اقتضى ذلك الالتزام بالوقفات العقلية أن تُترَك ميادين الأدب الخالص من نثر فني وشعر، لكننا برغم ذلك نشعر في أنفسنا بضرورة ألا نختتم هذا القسم من الكتاب بغير أسطر نقولها عن أبي العلاء بصفة خاصة. وأما ابن باجة بكتابه «تدبير المتوحِّد»، وابن طفيل بكتابه «حي بن يقظان»، فنتركهما لاكتفائنا في رحلتنا الثقافية هذه بتراث المشرق العربي وحده دون الأندلس وبلاد المغرب؛ فما قصدنا بهذا الكتاب تقصيًا بقدر ما أردنا الوقوف عند «محطات» مختارة تصلح أن تكون لنا نوافذ نُطِل منها على الرحب الفسيح.
نعم إن ما كتبه أبو العلاء المعري يدخل في باب الأدب الخالص، ولم يكنب كما كتب الجاحظ — مثلًا — أو كما كتب أبو حيان التوحيدي؛ فسواءٌ جاء نتاج أبي العلاء شعرًا أم جاء نثرًا، فقد عُني عناية الأديب بالشكل الذي يُجري مادته الشعورية أو الفكرية في هيكله، وتلك هي من أبرز علامات الأديب، لكنه نثر في شعره وفي نثره على السواء تمجيدًا للعقل كاد أن يبلغ به حد التأليه، كما فعل فلاسفة التنوير في فرنسا إبَّانَ القرن الثامن عشر، هذا من جهة مضمونه الفكري؛ وأما من جهة أشكاله الأدبية فهو يُعطيك الشعور بأنك أمام «مهندس» يخطِّط أنماطه الزخرفية تخطيطًا هندسيًّا، وذلك لا يكون إلا إذا كان «ذهنه» حاضرًا معه في كل ما خطَّه القلم لما يُمليه.
خذ — مثلًا — كتابه «الفصول والغايات» (وقد لبث هذا الكتاب مفقودًا مجهولًا حتى أخرجه من خزائنه محمود حسن زناتي، ومع ذلك فلم يعثر من الكتاب إلا على جزئه الأول، الذي يبتدئ من أثناء حرف الهمزة وينتهي بحرف الخاء) أقول: خذ كتابه «الفصول والغايات» تجده مؤلفًا من فقرات، بادئًا بفقرات تنتهي كلها بحرف معيَّن كالباء أو التاء أو غيرهما، كأنما هو ينظم بتلك الفقرات الكثيرة قصيدة أو مجموعة قصائد؛ القصيدة الأولى قافيتها الهمزة، والثانية قافيتها الباء، والثالثة قافيتها التاء … وهكذا، وكل ما في الأمر أن فقرات نثرية — قد تقصر حينًا وتطول حينًا — تأخذ مكان الأبيات في قصائد الشعر المألوفة، وهو إذا ما أملى على تلاميذه فقرة من الفقرات (والفقرات هي «الفصول» ينتهي بها إلى قافيتها، وتلك القوافي هي «الغايات») فربما طلب منه تلاميذه أن يشرح لهم غوامضها، فيعقِّب عليها «بتفسير»، حتى إذا ما فرغ من تفسيرها بما يُقنِع تلاميذه، استأنف الحديث بفقرة أخرى، ويسمِّي هذه العودة إلى مجرى الحديث بكلمة «رجع» … وهكذا دوالَيك يسير أبو العلاء في كتابه «الفصول والغايات»: «فصل» (أي: فقرة)، تنتهي إلى «غاية»، هي الغاية التي يجعلها مدار التقاء الفقرات في جزء معيَّن من كتابه، ولنقُل إنها الهمزة، ثم «تفسير» لذلك الفصل — أي الفقرة التي يفرغ لتوِّه من إملائها — ثم «رجع»؛ بمعنى العودة إلى إملاء فقرة جديدة.
ومن الخير أن نسوق لك مثلًا يوضِّح طريقة الكتاب، نأخذه من أوله؛ أعني أول النسخة التي اعتمد عليها من أخرج لنا الكتاب، لكنه لم يكن أول الكتاب كما ألَّفه صاحبه؛ فقد فُقِدت صفحاته الأولى (ستكون «الغاية» هي الهمزة؛ لأننا ننقل من أول الكتاب).
«أحلف بسيفٍ هبَّار، وفرسٍ ضبَّار، يدأب في طاعة الجبار، وبرَكةِ غيثٍ مدرار، ترك البسيطة حسنة الحِبار. لقد خاب مُضِيع الليل والنهار، في استماع القينة وشرب العُقار. أصلِح قلبك بالأذكار؛ صلاح النخلة بالإبار. لو كُشِف ما تحت الأحجار، فنظرت إلى الصديق المختار، أكبرت ما نزل به كل الإكبار. نحن من الزمن خَبار، كم في نفسك من اعتبار! ألا تسمع قديمة الأخبار؛ أين وُلِد يعرب ونزار، ما بقي لهم من إصار، لا وخالقِ النار، ما يُردُّ الموت بالإباء. غاية.
تفسير: الهبَّار: القاطع. والفرس الضبَّار: الذي إذا وثب وقعت يداه مجتمعِتَين. الحبار: الأثر والهيئة. الخبار: أرض سهلة فيها جحرة فأر ويرابيع، تُوصَف بصعوبة المشي فيها، ومن كلامهم القديم: مَن سلك الخبار، لم يأمن العثار. والإصار: الطنب، ويقال الوتد.
رجع: … ويبدأ أبو العلاء في إملاء فقرة أخرى غايتها الهمزة، ثم يفسِّرها، ثم يرجع إلى الإملاء، وهلمَّ جرًّا.
والذي يهمنا بصورة خاصة في هذا الموضع من الحديث، هو التخطيط الذهني الذي يُهندِس به أبو العلاء بناءه. ومن هذا القبيل نفسه في هندسة البناء، ما نراه في «اللزوميات» التي لم يترك حبل الشعر فيها على غاربه، بل وضع أمامه السدود وقيَّد خطواته بقيودٍ التزم فيها ما لم يلتزمه غيره من الشعراء؛ فبدل أن تتفق أبيات القصيدة بقافية واحدة، ألزم نفسه بأن تتفق الأبيات في نهاياتها بأكثر من حرف واحد، وهكذا.
وكذلك قُل في رائعته الكبرى «رسالة الغفران»، التي كتبها ردًّا على رسالة جاءته من «ابن القارح»؛ فقد جرَت الرسالتان، رسالة ابن القارح ورسالة أبي العلاء، على مألوف عصرهما من عرض القدرة اللغوية وسعة الحفظ وبراعة التركيب اللفظي، وذهبتا في هذا الاتجاه إلى حدٍّ يجعل قراءتهما من قارئ معاصر لنا أمرًا يحتاج إلى دراسة طويلة وإلى شروح وقواميس، وليس الذي يعنينا هنا ما قد احتوت عليه رسالة الغفران من لغة وأخبار وأشعار ونحو وصرف … إلخ، بل يعنينا منها أن صاحبها حين أقام بُنيانها، لم يفعل ذلك بدفعة من وجدانه كما هو مألوف الأدباء والشعراء، بل كان يخطِّط بالمسطرة والفرجار، وذلك هو «العقل».
وإننا لواجدون، في غضون الكتب الكثيرة التي تركها لنا أبو العلاء، ذِكرًا صريحًا ﻟ «العقل»، وكيف ينبغي أن تكون له المنزلة الأولى بين سائر جوانب الإنسان، «فليس سوى العقل» مُشيرًا على المرء في صبحه ومسائه، ومن احتكم إلى غير العقل دفعته الضلالات إلى حيرة من أمره ليس له منها خلاص. وإنه ليعترف بأن التزام العقل وقيوده مَطلبٌ عسير على سواد الناس، الذين يستسيغون قول المحال، ويكادون ينفرون من قولة الحق؛ ﻓ: «إذا قلت المُحال رفعت صوتي، وإن قلت اليقين أطَلت همسي» «والحق يُهمَس بينهم، ويُقام للسوءات منبر» ألا إن الناس لكالمطايا، أعوزتها العقول، فكان لا بد لها من عقال يقيِّدها عن الجموح: