الفصل الأول
(١) البندقية
البندقية مدينة جميلة فاتنة. هل سمعت بجمال البندقية أيها القارئ الصغير؟ إن كنت لم تزرها في حياتك، أو لم تسمع بجمال موقعها وروعة مناظرها، فما أظنك قد نسيت ما قرأته عنها في الكتب الجغرافية التي تحدثك بأن مدينة البندقية من أجمل مدن إيطاليا، كما تحدثك أنها كانت مركز التجارة بين الشرق والغرب في العصور السابقة.
وليس يعني أن أصف لك جمال هذه المدينة الآن، بمقدار ما يعنيني أن أحدثك بأن قصتنا — التي نرويها اليوم — قد حدثت فيها، وكان أبطالها وممثلوها من سكانها.
(٢) الصديقان
في أصيل يوم من الأيام (في وقت العصر منه)، وقد مضى على ذلك اليوم سنون طويلة — قبل أن تولد أيها الفتى العزيز — كان الصديقان الحميمان (المخلصان) «أنطونيو» و«باسنيو» سائرين في إحدى طرق البندقية، يتناقلان أشهى الأحاديث وأعذب الأسمار.
وكانا في مقتبل شبابهما (في أوله). وقد أخلص كل منهما لصاحبه إخلاص الأخ الشفيق الحدب (الكثير الشفقة) لأخيه المخلص الوفي. وكانت ثيابهما تدل من يراهما على أنهما من علية القوم وسراة الناس (أشرافهم وسادتهم).
وكانا — في الحقيقة — من أطيب الناس نفسًا، وأصدقهم إخاءً (صداقة ومودة)، حتى ضرب بهما المثل في الوفاء.
ولعلك تحب أن تعرف — بعد ذلك — في أي شأن كانا يتحدثان في ذلك الحين؟ فأنا عارف بميلك الشديد إلى معرفة هذه التفاصيل.
(٣) مزايا الصديقين
ولست أضن عليك بهذا الحديث. ولكن، ألا تحب أن تعرف خطر هذين الصديقين (عظم قدرهما) في عصرهما؟
ما بالك تبتسم؟ أكنت تظنني أجهل ما يدور بنفسك من الأسئلة. فلما رأيتني أحدثك به عجبت؟
كلا لا تعجب! فقد كنت طفلًا مثلك، وقد طافت برأسي هذه الأسئلة وأشباهها. فعلمت أنك مولع (شديد الرغبة والاهتمام) بالاستفسار عنها، كما كنت أنا شديد العناية بأمثالك لهذه الأسئلة.
وإني قاص عليك ما يرضيك. ولن أدع سؤالًا أعرف أنه يهجس في نفسك (يخطر ببالك) إلا أجبتك عنه. وإني محدثك بأن «أنطونيو» كان تاجرًا غنيًا يملك سفنًا كثيرة تمخر في البحار (تشق ماءها وتجري عليها)، مثقلة بأنفس البضائع. وكان — إلى غناه ووفرة ثروته — كريم النفس، سخي اليد، يعاون المنكوبين، ويؤسّي المحتاجين، ولا يرد سائلًا. وكان يساعد الناس بماله وجاهه، ولا يدّخر وسعًا في إسعاد كل من يلوذ به (يلجأ إليه). وما أظنك في حاجة إلى أن تسألني رأي الناس فيه، فقد أدركت — مما سمعت — أن الناس قد أحبوه حبًا لا يوصف، وأجلّوه إجلالًا لا حد له. ولعل هذا الحديث قد هاج (أثار) شوقك إلى تعرف شيء من مزايا صديقه «باسنيو».
وإني محدثك بأن «باسنيو» كان سيدًا نبيلًا نشأ من أسرة غنية ماجدة (لها من المجد والعظمة نصيب). وقد أنفق كل ثروته وماله في مساعدة البائسين والمعوزين (الفقراء والمحتاجين)، ولم يدخر وسعًا في معاونة كل من يحتاج إلى معونته.
وقد أحبه الناس لكرمه ومروءته، كما أحبوا صديقه «أنطونيو». وكان من المألوف أن تقوى أواصر الصداقة (أسبابها وعلاقاتها) بين هذين السيدين، لأن كل إنسان يعمل على شاكلته (طريقته)، ويقبل على شبهه. ولن يكون الصديق إلا مثالًا لمن يصاحبه، خيّرًا كان أم شريرًا.
(٤) حديث الصديقين
بقي عليّ أن أقص عليك حديث الصديقين، فقد طال شوقك إلى سماعه.
كان «باسنيو» و«أنطونيو» كما قلت لك، خير مثال للصديقين المتحابين اللذين لا يدخر أحدهما أي جهد في إسعاد الآخر. وكان يتحدث عنهما الناس بأنهما روح في جسدين، يسعد أحدهما كل ما يسعد صديقه، ويشقيه كل ما يشقي صاحبه.
وكانا — في تلك الساعة — يتحدثان عن أمانيهما في الحياة ورغباتهما، في أثناء تجوالهما (طوافهما) في مدينة البندقية. فقال «باسنيو» لصديقه «أنطونيو»: «لقد أثقلت عليك يا صاحبي هذه الأيام، بعد أن نفدت (فنيت) ثروتي. ولا أزال أجدني مضطرًا إلى إرهاقك (مضايقتك).» فأجابه «أنطونيو» باسمًا: «إن الصديق لن يكون جديرًا بهذا الاسم (مستحقًا له) إلا إذا بذل لصاحبه (أعطاه) كل ما يستطيع أن يبذله من جاه ومال. وما أجدرك أن توليني كل ثقتك، وأن تفضي إلي بدخلتك (تصرح لي بسرك). وإني مؤكد لك أن كل ما تطلبه مني، محبب إلى نفسي إنجازه، كلفني ذلك ما كلفني من مال وعناء. فلست أدخر وسعًا في سبيل إسعادك».
فقال له «باسنيو» وقد امتلأ قلبه بشكر صديقه: «هكذا عودني إخائك يا صديقي الوفي. لقد علمت ما آلت إليه ثروتي، بعد أن عجزت عن تحقيق أملي في نيل ذلك المنصب السامي الذي لم آل جهدًا (لم أقصر) في السعي إليه. وقد عاقبني الزمن — كما تعلم — على خطئي. فإنني لم أتروَّ (لم أستعمل الروية والفكر والتأني) في الأمر، ولم أقس قدرتي إلى غايتي التي طمعت في إدراكها. على أنني أحمد الله — سبحانه — إذا وفيت كل ديني، وإن كان ذلك الوفاء قد كلفني فقدان كل ما أملك من ثروة.»
ثم أطرق «باسنيو» (أمال رأسه) لحظة. وكان «أنطونيو» يصغي إلى حديث صاحبه بقلبه وسمعه. فعرف ما يجول بنفسه من المعاني التي يمنعه الخجل من الافضاء بها إليه.
فقال له يشجعه على الاسترسال في حديثه: «قل فأنا أسمع، وأتمم حديثك يا «باسنيو»، ولا تتردد في الوثوق بي والاعتماد على إخائي.»
فقال «باسنيو»: «إني لا أستطيع أن أتابع تلك الرحلة الطويلة لعجزي عن الإنفاق. ولقد حان موعد زواجي، وليس عندي من المال ما أستعين به على قضاء فروض العرس. وسيحول إفلاسي (يقوم حاجزًا) بيني وبين المضي لتنفيذ تلك الخطة، ولقد اشتدت حاجتي إلى اقتراض ثلاث آلاف من الدنانير لتحقيق هذا الحلم الجميل.»
فقال له «أنطونيو»: «لست أدَّخر وسعًا في تحقيق أمانيك، ولكنك تعلم — يا صديقي — أن ثروتي كلها بعيدة عني الآن، فإن مراكبي لم تصل إلي بعد. وليس في قدرتي أن أجمع لك هذا القدر من مالي إلا بعد أن تصل إلي سفني ومراكبي. على أنني سأعمل من أجلك ما لم أعمله في حياتي قط! وستكون هذه أول مرة ألجأ فيها إلى الاستدانة (أخذ المال من طريق الدين)، ولن أعجز عن اقتراض هذا المال. فإن ثقة الناس بي تيسر لي أسباب الحصول على ما أريده.»
(٥) ختام الحديث
أرأيت — أيها الفتى العزيز — إلى أي مدى بلغ وفاء «أنطونيو» لصديقه؟ لقد آثره (فضله) على نفسه، وأحب له أكثر مما أحبه لنفسه، ورضي أن يستدين من أجله، ولم يكن ليقبل أن يستدين درهمًا واحدًا في حياته قبل هذا اليوم. ولكن وفاءه غلبه على أمره، فلم يخيب رجاء صديقه وثقته به.
وقد شعر «باسنيو» في أعماق نفسه بما يبذله صديقه «أنطونيو» من محاولات لتحقيق أمنيته، فتحير ولم يدر: كيف يشكر له وفاءه وإخلاصه؟
ولكن صديقه «أنطونيو» هون عليه الأمر، وسرى (خفف) عنه، وأزال ما يساور نفسه (ما يصيبها ويغالبها) من الحيرة والقلق. فقال «باسنيو»: «شد ما يؤسفني أن أعجز عن الحصول على هذا المال، فإن الناس لا يقبلون أن يقرضوني (يسلفوني) شيئًا بعد ما علموه من إفلاسي. ولو كان في قدرتي أن أقترض (أستلف) لما وضعتك في هذا المأزق الحرج (الضيق). وما أظن أحدًا من الناس — ولا أستثني «شيلوك» — يرضى أن يقرض مفلسًا مثلي، مهما أضاعف له الربحها.»
فقال له «أنطونيو»: «لا عليك يا صديقي (لا تأسف ولا تفكر)، فاقترض ما تشاء من المال، وأنا متعهد برده إلى مقرضه. اذهب إلى «شيلوك» — في غير تردد ولا وجل (بلا خوف) — وإني ذاهب في إثرك (بعدك).»
فشكره «باسنيو» أحسن الشكر. وافترق الصديقان على أن يلتقيا في بيت الشيخ الماكر «شيلوك».