الفصل الثاني
(١) «شيلوك»
عرفت — أيها القارئ الصغير — أن «باسنيو» و«أنطونيو» كانا مثالين من مثل الوفاء والحب والإخلاص!
وأحب أن أعرض عليك رجلًا آخر، هو على العكس من صاحبينا هذين، في أخلاقه وصفاته. فقد عرفه الناس شحيحًا (بخيلًا) قاسي القلب شريرًا. ألا ترى صورته وهي تمثله في ثوبه الذي أكسبه القدم شكلًا بشعًا كريهًا؟ ألا ترى ظهره المقوس، وأصابعه اليابسة النحيفة المشوهة التي تشبه المخالب (أظفار المفترس من الحيوان والطير)، وابتسامته الخبيثة التي تنم عن مكر ودهاء، ونظرته الحادة الساخرة التي لا تفكر إلا في المال، ولا تحفل (لا تهتم) بآلام الناس ومصائبهم، وما تجره عليهم من ويلات ومصاعب؟
فلا تعجب — أيها الصبي العزيز — إذا علمت أن «باسنيو» و«أنطونيو» كانا يحتقران هذا الرجل ويمقتانه (يكرهانه) أشد المقت. وقد كان أهل «البندقية» يبغضون «شيلوك» ويزدرونه (يكرهونه ولا يحترمونه)، ولا يذكرون اسمه إلا مقرونًا باللعنة والسخط.
وكان «شيلوك» مُرْبِيًا (يتعامل بالربا). كان يقرض الناس المال ويتقاضاهم (يطالبهم) من الربح الطائل (الكثير) ما يفقرهم ويدنيهم (يقربهم) من هاوية الشقاء وحفرة الإفلاس.
ولم يكن الناس ليلجأوا إليه، إلا إذا اشتدت بهم الحاجة القاهرة إلى المال، واضطرهم الإسراف إلى الاقتراض، وسدت في وجوههم الأبواب كلها، فلم يروا بدًا من الحصول على المال من أي طريق. والمضطر يركب الصعب ولا يبالي عاقبة الأمور.
(٢) في بيت «شيلوك»
وما إن وصل «باسنيو» إلى بيت «شيلوك» حتى وجده جالسًا في مكتبه، وقد شغله المال عن كل شيء في الدنيا، فظل يعد دنانيره، ويحسب ماله عند الناس من ديون وأرباح.
وما رآه «شيلوك» قادمًا عليه حتى أيقن أن فريسة جديدة ساقها إليه جده (حظه) السعيد.
وقد عجب «شيلوك» من مقدم «باسنيو» عليه. فلم يكن يتعود منه مثل هذه الزيارة المفاجئة من قبل.
وما جلس «باسنيو»، حتى قال لصاحبنا «شيلوك»: «لقد جئتك لأقترض منك ثلاثة آلاف من الدنانير، فماذا أنت قائل؟»
فأجابه «شيلوك» وقد شاعت (ظهرت) على فمه ابتسامة ساخرة: «ثلاثة آلاف دينار تريد أن تقترضها مني؟ وأنى لك (من أين لك) القدرة على سد هذا الدين الفادح بعد عامٍ كامل؟»
فقال له «باسنيو»: «لقد وعدني صديقي «أنطونيو» بأن يتعهد لك بردها قبل أن تنقضي ثلاثة أشهر!»
فلم يطمئن «شيلوك» إلى قول «باسنيو»، وقال له في لهجة المرتاب الساخر: «آه! وهل يردها «أنطونيو» قبل ثلاثة أشهر؟»
فأجابه «باسنيو»: «نعم، فقد أخذ على نفسه أن يدفع لك هذا الدين وأرباحه في مدى هذا الزمن. فهل أنت مقرضي هذا المال؟»
فقال له «شيلوك»: «وأين «أنطونيو»؟ ومتى يحضر ليتعهد برد الدين إليَّ؟» وما إن أتم قوله حتى دخل «أنطونيو».
وما رآه «شيلوك» في بيته حتى دارت برأسه أفكار خبيثة، ورأى الفرصة سانحة للانتقام من هذين الصديقين شفاء لأحقاده، وقال في نفسه: «لقد طالما احتقرني هذا التاجر وأهانني أمام الناس. وقد آذنت (جاءت) ساعة الكيد له والانتقام منه!»
ثم التفت «أنطونيو» إلى «شيلوك» وقال له: «أنت تعرف يا «شيلوك» أنني لم أقترض — في حياتي كلها — دينارًا واحدًا ولكنني اضطررت الآن إلى اقتراض ثلاثة آلاف دينار لصديقي «باسنيو»، وأخذت على نفسي أن أردها لك في مدى ثلاثة أشهر، فماذا أنت صانع؟»
فقال له «شيلوك» متعجبًا: «وي! في مدى ثلاثة أشهر؟» فأجابه «أنطونيو»: «كن على ثقة مما أقول.»
فقال «شيلوك»: «لقد سببتني وازدريتني وأنا صابر على إزرائك بي (نسبتك النقص إليَّ) وتهكمك علي، لأنني تعودت الحلم يا سيدي «أنطونيو». ونهاني عقلي عن مقابلة الإساءة بمثلها. ولا تنس أنك لم تترك فرصة لتحقيري إلا انتهزتها! ولست أنسى لك — ما حييت — شتمي وإهانتي وتعييري بالشح والبخل. فقد كان لا يحلو لك إلا أن تناديني بغير ألقاب الزارية والامتهان: تدعوني مرة كلبًا، وتناديني — مرة أخرى — باسم الخنوص (ولد الخنزير)، ثم تبصق علي، إصغارًا لشأني، وتحقيرًا لأمري. هل نسيت — يا سيدي «أنطونيو» — ما وسمتني به (ما رميتني به) من نقائص ومخزيات؟ فكيف أرغمتك الأيام على الالتجاءِ إليَّ؟ وكيف تطلب مني هذا القدر الكبير من المال؟ إن الكلب لا يملك ثلاثة آلاف من الدنانير، ولا يسلف عدوّه اللدود (الشديد العداوة) مثل هذا القدر الطائل من المال.»
فقال له «أنطونيو» في لهجة المحنق (المغتاظ) الساخر: «ما زلت عند رأيي فيك، وما زلت أصر على اعتقادي. ولتعلم يا «شيلوك» أنني لا أقترض منك المال كما يقترض الصديق من صديقه، ولكنني أقترضه كما يقترضه العدو اللدود من عدوه اللدود. ولك أن تشترط ما تشاء على مدينك، وأن تشتطّ (تجاوز قدرك وتبتعد عن الإنصاف) في حكمك، وتجور ما شاءت لك نفسك، فإذا رأيتني عاجزًا عن رد مالك إليك، أو مقصّرًا في الوفاء به، فلا تأخذنّك في ذلك هوادة (رفق) ولا رحمة، فإنني لا أقبل منك أن تسدي إليّ معروفًا (تصنع لي جميلًا)، وقد سلبك الله المروءة، ويسّرك للشرّ (جعله سهلًا عليك)، وهداك إلى الأذى، وحرمك الأريحيّة (ميل النفس واهتزازها للكرم)، وكتب عليك التعاسة والشقاء.»
(٣) حيلة «شيلوك»
ورأى «شيلوك» إصرار خصمه «أنطونيو» على إهانته وتنقصه وثلبه (رميه بالنقص). وخشي أن تفلت منه هذه الفرصة الثمينة التي أصرّ على انتهازها، لشفاء حقده، وإرواء غليله (سقي عطشه). فلجأ إلى الدهاء والحيلة، واصطنع المداراة (الملاطفة)، وقال لصديقه «أنطونيو» متوددًا: «حسبك (يكفيك) يا سيدي «أنطونيو»، ولا يطوّحنّ بك الغضب إلى مثل هذا الحد! فلست أضمر لك ضغينة. ولو قرأت صفحة قلبي لرأيت فيها من آيات الولاء والإخلاص ما لم يخطر لك على بال! وإني لأكون أسعد الناس إذا ظفرت بصداقتك وحبك. وسترى من ولائي (مناصرتي) ما يثبت لك صدق ما أقول.»
(٤) شريطة «شيلوك»
وكان «أنطونيو» يعرف خبث هذا الشيخ الماكر، فلم ينخدع بما سمعه منه — من ثناء وتودد — وأيقن أنه يخادعه ويداهنه (يحتال عليه ويلاينه). فسأله «أنطونيو»: «هل قبلت أن تسلفنا المال؟» فقال له «شيلوك» وهو يتظاهر بالولاء والحب: «إني مسلفك المال بلا ربح. أرأيت كيف أحبك وأحرص على صداقتك، وأشتري مودتك بأغلى ثمن؟ ولكنني أحب أن أمازحك قليلًا، وما أحسبك تضنّ علي بأن أداعبك مداعبة بريئة، تتيح لنا فرصة نادرة للسرور والفرح.»
فقال له «أنطونيو»: «اشترط ما شئت.»
فقال «شيلوك»: «ألست واثقًا من قدرتك على الوفاء بهذا الدين، قبل انقضاء ثلاثة الأشهر؟»
فقال «أنطونيو»: «إني لواثق من ذلك كل الثقة.»
فقال «شيلوك»: «لست أشك في قدرتك على الوفاء بأضعاف هذا الدين. وقد تأكد لي ذلك الآن، إن لم أكن في حاجة إلى تأكيد، فهل تراني أشتطّ (أغالي) في طلبتي (مطلبي)، إذا اشترطت عليك أن تعطيني رطلًا من لحمك، متى تأخرت عن سدّ ما عليك من الدين بعد هذا الزمن؟»
فقال «أنطونيو» وقد تملكته الدهشة: «كيف تقول أيها الخرف (الذي فسد عقله من الكبر)؟ أجادّ أنت في هذا الاقتراح؟ ما أحسبك إلا هازلًا؟ أكذلك تشترط على من تتظاهر له بالولاء والحب؟»
فقال له «شيلوك» ضاحكًا: «هكذا أشترط، وما أحسبك تشك لحظة واحدة في أنني أريد بذلك مزاحك ومداعبتك، لأشعرك بقدرتي عليك متى تأخرت عن الأداء، ثم أتجاوز عن هذه الشريطة — حينئذ — تجاوز القادر، فأطوق جيدك (رقبتك) بمنّةٍ (بمنحة) لا تنساها طول حياتك، وأكتسب بذلك صداقتك وإخلاصك لي إلى الأبد!»
فعجب «أنطونيو» من كلام «شيلوك»، وأغرق في الضحك مما رآه من دهائه، وسخر من حيلته، وقال: «ما كنت أظنك يا «شيلوك» تبلغ في المزاح والدعابة هذا الحد البعيد!»
(٥) حوار الصديقين
أما «باسنيو» فقد امتقع وجهه حين سمع ما قاله «شيلوك» الخبيث، وتملكه الغيظ والحنق عليه، بعد أن رأى من خبثه وكيده ما لم يكن ليخطر له على بال. فالتفت إلى صديقه «أنطونيو» وقال له مغضبًا محزونًا: «كلا يا صديقي! لا تنخدع بكيد هذا الخاتل (المخادع) الذي حُرم النبل والمروءة. وحذار أن تقع في أحبولته (مصيدته) التي أعدها للفتك بك، والثأر لنفسه الموتورة منك.»
فقال له «أنطونيو»: «ستعود إلي سفني قبل أن ينقضي شهران. ولن أعجز عن الوفاء بهذا الدين قبل الموعد الذي اشترطه علينا بزمن طويل.»
ثم استأنف «أنطونيو» قائلًا: «وهل سمعت — يا صديقي — أن أحدًا يجرؤ على أخذ رطل من لحم إنسان؟ كلا! لا سبيل إلى ذلك، وإنما هي دعابة محتملة، ومزاح مستملح من الشيخ الماكر الظريف «شيلوك».»
فقال «شيلوك» متوددًا متحببًا، في لهجة رقيقة، وأسلوب عذب أخّاذ (جذاب): «شدّ ما يدهشني أن يحمل سيّداي: «باسنيو» و«أنطونيو» ما سمعا من كلامي على محمل الجد، وأن يساورهما القلق، ويملأ نفسيهما الحذر. وإلا فخبراني بربكما ماذا يجديني هذا الرطل من لحم الصديق «أنطونيو»؟ أحسبتماني في شوق إلى أكله؟ وما قيمة هذا الرطل؟ وما فائدته لي؟ وهل هو أثمن من لحم خروف أو عجل أو ثور؟ كلا! كلا! لا يساوركما القلق، ولا يطوّح بكما الوهم إلى الظنون الفاسدة. ولتكونا على ثقة أنني لا أريد بهذا الاقتراح إلا الدعابة البريئة والتسلية الخالصة. وقد رأيت في هذه الوسيلة ما يضمن لي حبكما وإخلاصكما. وهذان أقصى ما تطمح إليه نفسي، فإذا أبيتما أن تقرّا هذا الاقتراح فلن أعدل عنه، ولكما أن تعودا من حيث أتيتما من غير أن تحنقا (تغتاظا) عليّ، فلست أصدق من لا يصدقني، ولا أولي ثقتي (لا أمنحها) من لا يوليني ثقته!»
وكان الشيخ «شيلوك» ينطق بهذه الكلمات بصوت تكاد تخنقه العبرات (الدموع).
فقال «أنطونيو»: «لن أتردد في قبول اقتراحك!»
فصرخ «باسنيو» في وجه صديقه، وقال: «كلا، لا تنخدع، فلست آمن مكر هذا الرجل!»
(٦) نجاح «شيلوك»
وقد حاول «باسنيو» جهده — أن يحول صديقه عن عزيمته، فلم يزده إلحاحه إلا إصرارًا وعنادًا.
وهكذا أمضى «أنطونيو» ذلك العقد، وقبل ما اشترطه عليه «شيلوك» من غير أن يقدر عواقب هذه الجرأة، وما قد تجره عليه من ويلات ومتاعب.
ثم أخذ المال من «شيلوك»، وأعطاه صديقه «باسنيو»، وقال له: «تستطيع أن تسافر على الطائر الميمون (السعيد الموفق)، وتعود إلى صديقك مكللًا بالظفر، قرير العين بنجاح مسعاك النبيل.»
فشكر له «باسنيو» إخلاصه ووفاءه، واعتزم السفر في اليوم التالي.