الفصل الثالث
(١) «برشا» الحسناء
كانت «برشا» الحسناء التي سافر «باسنيو» للزواج بها، فتاة في مقتبل الشباب، قد اجتمعت لها كل أسباب الغنى والحسن، وكملتها مزايا الخلق العالي، والأدب النادر، وجمعت — إلى وفرة الغنى — صفاء النفس، فأصبحت بين معاصريها (أهل عصرها) مثال النبل والطهر.
وأقبل سراة الناس (أشرافهم) — من أقصى البلاد — يرغبون في الزواج بها، ويملأ نفوسهم الرجاء في الظفر بهذه الطلبة العزيزة المنال (الرغبة التي يصعب إدراكها).
وكان الناس يكبرون فيها ما وهبها الله من صباحة وجه، ورجاحة عقل، وطيبة قلب.
وكانت تقيم المآدب الفاخرة في قصرها — بين حين وآخر — فلا يتردد في تلبية دعوتها سرى عظيم؛ يجتمع عليه القوم (أعيانهم) عندها، فيتناقلون أشهى الأحاديث وأعذب الأسمار. وكان الناس يعتقدون أن هذه الفتاة قد تمت لها كل أسباب السعادة والصفاء.
(٢) آلام «برشا»
ولم تكن «برشا» سعيدة — كما يظن الناس — بل كانت ساخطة متبرمة شديدة الألم تندب سوء حظها، وتشكو بثها (حالها وحزنها) إلى خادمتها الوفية الأمينة «نرسيا».
أراك تعجب مما أقصه عليك، وتحسبني مسرفًا فيما أقول! وتسألني: كيف تشقى مثل هذه الفتاة بعد أن تهيأت لها كل أسباب السعادة والتوفيق؟
وما أجدرك بهذا العجب! فقد كنت أعجب من ذلك — كما تعجب أنت — ولكنني بحثت عن مصدر شقائها وآلامها حتى اهتديت إليه، فزالت دهشتي، وانقضى عجبي. ومتى عرف السبب، بطل العجب. ولو أتيح لك أن تستمع إليها وهي تشكو لخادمتها المخلصة ما يساور نفسها من الحزن والألم، لأيقنت بصحة ما أقول.
(٣) مصدر الآلام
لقد كانت «برشا» تقول لخادمتها الوفية في لهجة المتألمة المحزونة: «شد ما برح بي الضجر، وأضناني الهم والقلق، حتى كدت أستسلم لليأس والقنوط، بعد أن أصبحت لا أطيق الحياة في هذا العالم.»
أسمعت ما تقوله «برشا» وهل كان يدور بخلدك (يمر بخاطرك) — لحظة واحدة — أن مثل هذه الفتاة تضجر بالعالم، وتضيق بها الدنيا — على رحبها — (على اتساعها)، وتفيض نفسها لوعة وأسى؟ فما الذي يشقيها؟
لقد كانت تلوح للناس مشرقة الأسارير (خطوط الوجه)، وضاحة الجبين (حسنة الوجه)، متألقة العينين، بهية الطلعة، بسامة الثغر؛ فكيف يصدق الناس أن مثل هذه الفتاة تحمل بين جنبيها ألمًا وحزنًا؟
وكان في قصرها أثمن المتاع وأفخر الأثاث. فإذا فتحت النافذة رأت أمامها حديقة فسيحة غناء. تكتنف القصر، وتحوي من ألوان الأزهار والرياحين ما لا يحيط به الوصف. فكيف يصدق الناس أنها محزونة متألمة؟ وماذا يضجرها وقد اجتمعت لها كل أسباب السعادة، وتهيأت لها جالبات الصفاء والسرور؟
لعل هذا الرخاء الذي يكتنفها كان مصدر ضجرها وسأمها، فإن النفس قد تضجر من الراحة كما تضجر من العناء. وليس أشق على النفس من أن تحيا حياة متشابهة، وتقضي عمرها كله على وتيرة (طريقة) واحدة، فتمر بها أيام الحياة، وكأنها — لتماثلها — يوم واحد يتكرر!
لقد كانت «برشا» متألمة، لأنها كانت تشعر أن الوقت طويل، والساعات بطيئة متثاقلة. وهي لا تجد ما يشغلها من الأعمال. ولذلك توقن أن الراحة تضني الجسم (تمرضه) أكثر مما يضنيه العمل المتواصل الشاق.
(٤) بين «برشا» و«نرسيا»
وكانت «نرسيا» تعجب من آلام سيدتها «برشا»، وتدهش لما يبدو على أساريرها من أمارات الضجر والضيق. فقد كانت «نرسيا» تقضي وقتها كله في أعمال البيت، فلا تشعر بطول الوقت لأنها لا تضيع لحظة بلا عمل. فهي ناشطة دائبة على ترتيب الأثاث، وتنسيق الريّاش (متاع المنزل وفراشه)، وتنظيم الغرف، وتجميل البيت، وتعهد الحديقة (رعايتها). فإذا أنجزت أعمالها، وأتمت أداء فروضها وواجباتها، جلست إلى «برشا» تلومها على تبرمها وسخطها. وكانت «نرسيا» تتحدث إلى سيدتها وفي يدها قطعة من الثياب الرقيقة تنسجها وتقول لها ساخرة: «أحقًا أنك سئمت هذا العالم وبرمت به؟ قد يكون لك عذر — يا مولاتي — في هذا الضجر! ولكنني لا أعلم ذلك العذر العجيب، ولا أستطيع أن أفهمه! ولقد كنت أقرّك (أوافقك) على صدق شكواك، لو أن أسباب شقائك وتعاستك رجحت (غلبت) أسباب سعادتك وهناءتك. ولست أدري: كيف تغمضين عينيك عن هذه السعادات الشاملة التي تكتنفك وتحوطك وترعاك؟ وهل أستطيع أن أفهم أن هذه النعم الموفورة قد ثقلت على نفسك، فلم تطيقي التمتع بها، وأصبحت تنوئين بعبئها الفادح.»
وكانت «برشا» شديدة الألم من هذه السخرية اللاذعة (اللاسعة)؛ ولكنها لم تغضب على «نرسيا» والتمست لها — في تهكمها واستهزائها — عذرًا. لأنها علمت أنها تجهل مصدر آلامها وأحزانها.
(٥) شكاية «برشا»
واعتزمت «برشا» أن تبوح لخادمتها «نرسيا» بسرّ ما يساور نفسها من الهم والقلق. فقالت لها: «ألا تشركينني الرأي في أن العجز مجلبة الشقاء؟ وأي شيء أدعى للألم والحزن من أن أجدني عاجزة عن تخيّر زوجي؟ فلا أنا قادرة على قبوله، ولا قادرة على رفضه! آه لهذا الضجر الذي كاد ينفطر (ينشق) له قلبي! فقد رأى أبي — قبيل موته — رأيًا عجيبًا، لا أفهم له معنى، ولا أستطيع أن أدرك له مغزى!»
ثم سكتت «برشا» لحظة، واستأنفت كلامها قائلة: «انظري إلى هذه الصناديق الثلاثة، ألا ترينها متساوية الحجم مختلفة المنظر؟»
وكانت هذه الصناديق الثلاثة شغلها الشاغل. فهي تكثر من التفكير والتأمل فيها، ولا تزال تفكر — محزونة — حتى يسلمها حزنها إلى اليأس. أتعرف لماذا شغلت هذه الصناديق صاحبتنا «برشا». إني مخبرك الخبر اليقين: لقد كان أحد هذه الصناديق مصنوعًا من الذهب الوهّاج (له بريق لامع) وكان الصندوق الثاني مصنوعًا من الفضة الخالصة. أما الصندوق الثالث، فكان معدنه من الرصاص.
(٦) صورة «برشا»
وقد وضع أبوها تلك الصناديق الثلاثة في أحد أركان الغرفة، ووضع في أحدها صورة فتاته: «برشا» الحسناء. ولكن في أي هذه الصناديق وضع صورتها؟ ذلك ما تجهله «برشا» كما يجهله كل إنسان!
لقد أمرها أبوها — وهو على فراش الموت — أن تترك هذه الصناديق الثلاثة حيث هي، وحذرها أن تفتحها، بعد أن أفضى إليها (أخبرها) أن هذه الصناديق سترشدها إلى الرجل الجدير بالزواج بها. وحتم عليها أن تترك لخاطبها اختيار صندوق منها، فإذا فتحته ورأت صورتها — التي وضعها أبوها — رضيته زوجًا لها وإلا رفضت الزواج به، بالغًا ما بلغ من الثراء والجاه (علوّ المنزلة).
(٧) نصيحة «نرسيا»
قلت لك — أيها القارئ العزيز — في أول هذه القصة: إن «برشا» جمعت — إلى جمالها الباهر — خلقًا عاليًا، وثروة ضخمة. فلا غرو (فلا عجب) أن يكثر الراغبون في الزواج بها، من سراة القوم، وعلية الناس (أعيانهم). وقد أقبل عليها سادات البلاد — من كل حدب وصوب — وكلهم راغب في أن تكون شريكة حياته. ولكنها — إلى تلك اللحظة — لم يقع اختيارها على أحد من أولئك العظماء والأمراء.
ولم تكن «برشا» تؤمن بالمصادفة الحسنة، فخافت أن يقع اختيار أحد الأشرار على الصندوق الذي يحوي صورتها.
وشكت أمرها إلى خادمتها «نرسيا» الحصيفة (العاقلة)، فقالت لها «نرسيا»: «كوني على ثقة من بعد نظر أبيك — يا مولاتي العزيزة — ورجاحة عقله. واعلمي أنه لم يفعل ذلك إلا توخيًا (تخيرًا وقصدًا) لخيرك وسعادتك.»
فتنهدت «برشا» الحسناء، وقالت في لهجة حزينة: «آه لك يا عزيزتي! فما أظنك إلا واهمة في ظنك. وإني ليساورني همّ وقلق كلما تمثل لي المستقبل الغامض. وكم يتملكني الجزع والرعب حين أفكر في وصية أبي، وأرى — من المحتمل — أن يظفر أحد الغادرين (الذين لا يحفظون العهد) بالاهتداء إلى الصندوق الذي وضع أبي صورتي فيه. وليس بعجيب أن يسعد الحظ رجلًا ممن لا يستحق أن يشاركني الحياة الزوجية، فلقد طالما رأينا طوائف من صغار النفوس يساعفهم الحظ، ويتيح لهم الزمن أثمن الفرص التي لا يظفر بها كرام الناس وأخيارهم.
ومن يدريني؟ لعل فتىً لئيم الطبع يظفر بمأربته (مقصده)، ويسعد بالزواج بي، على حين لا يظفر بي فتىً آخر، سريّ (نبيل شريف النفس).
كلا! كلا! يا «نرسيا»، لقد اشتطّ أبي (جاوز الحد) في مطلبه، ولم يكن — فيما أرى — حازمًا متبصرًا حين ترك للمصادفة العمياء — وحدها — اختيار شريكي في الحياة.»
وما كادت «برشا» تتم هذه الكلمات، حتى أقبل عليها خادم — من خدمها — يحمل كتاب «باسنيو» إليها فقرأته «برشا». فعلمت — من فحواه (من خلاصته) — أن السيد «باسنيو» سيحضر إلى قصرها في ذلك المساء.
فتهلل وجهها بِشرًا، وقالت: «يا لها من سعادة نادرة! لقد رأيت ذلك السيد النبيل — من قبل — وأعجبت بشمائله وأخلاقه الكريمة، ولم أسمع عنه إلا أحسن الأنباء، وأكرم الخلال (أشرف الخصال). ولو تُرك الأمر إليّ، لما اخترت غيره شريكًا لي في الحياة. ولكنني على ثقة من أنه سيخفق في الاختيار. ولن يسعده الحظ بالاهتداء إلى الصندوق الذي وضع أبي صورتي به.»
فقالت لها «نرسيا»: إذا كان على ما وصفت من خلال، فإن الله موفقه إلى السعادة والخير، ومحقق رجاء أبيك الحكيم.
فقالت «برشا»: «لست أملك إلا الدعاء بالنجاح والتوفيق. أما أنت فعليك أن ترتّبي المعدات لاستقباله، فهو سيد نبيل، جدير بالحفاوة (حقيق بالعناية والرعاية). فلا تدّخري وسعًا في إكرامه. وليحلّ عندنا أهلًا، ومكانًا سهلًا، وليقيم في بيتنا على الرحب والسعة.»