الفصل الرابع
(١) في قصر «برشا»
ولما أقبل المساء حضر السيد «باسنيو» إلى قصر «برشا» الحسناء، وكانت قد أعدت له مأدبة فاخرة، دعت إليها سراة القوم وأعيان المدينة. فلما رأوا «باسنيو» — قادمًا — رحبوا به، وهشّوا لمقدمه. واحتفت به الآنسة «برشا» وهنّأته بالسلامة، فشكر لها وللحاضرين ما غمروه به من عطف ورعاية، وأنساه سروره وابتهاجه كل ما لقيه من عناء السفر، ومتاعب الطريق. وظلوا يسمرون، ويتناقلون أعذب الأحاديث ساعة كاملة. وقد غمرهم الفرح، واستولى عليهم السرور.
(٢) ساعة الاختيار
ولكن «باسنيو» لم يستطع صبرًا على كتمان ما في نفسه. فقد كان يتحرّق شوقًا إلى الفصل في أمر الزواج، فإما حالفه الحظ فظفر بطلبه (فاز بحاجته)، وإما أخفق في إدراكها، فاستراح إلى اليأس. واليأس — كما يقولون — إحدى الراحتين!
فجزعت «برشا» من اقتراح «باسنيو»، وأشارت عليه أن يتريّث (يتروّى) في أمره، ويرجئه (يؤخره) إلى أحد الأيام القابلة، حتى لا تحرم بقاءه طويلًا.
فأصرّ «باسنيو» على اقتراحه، ولم تستطع «برشا» وضيوفها إقناعه بالعدول عن عزمه. فقالت له «برشا»: «كن على ثقة من أنك مغادرنا (تاركنا) في الغد، إذا أخفقت في الاهتداء إلى الصندوق الذي وضع أبي فيه صورتي.»
فقال لها «باسنيو»: «إن قلبي يحدثني بأن الحظّ مؤاتيّ (مساعدي)، وأن الله موفقي إلى النجاح. وما أحسبني مخدوعًا في هذا الشعور النبيل. فلا تعوّقيني (لا تمنعيني) عن إدراك الظفر، فقد حانت ساعة النجاح!»
(٣) أمام الصناديق
ثم قام «باسنيو» ميممًا (قاصدًا) ركن الغرفة ليختار أحد الصناديق. وكانت الموسيقى تصدح وتعزف، والقلوب تخفق إشفاقًا من خيبته. وبدا الوجوم (ظهر أثر الخوف) على أسارير الحاضرين، وقد أيقنوا بخسران «باسنيو» وخيبته في الاختيار.
وكان «باسنيو» أشدّهم ارتباكًا واضطرابًا، ولكنه تجلّد (تصبّر)، وأخفى ما يساور نفسه من الخوف والقلق. ثم وقف أمام الصناديق يتأمّلها، وينعم النظر فيها، وقد طافت برأسه أفكار شتى، يجدر بك — أيها القارئ العزيز — أن تعرفها. وإني لمحدثك بها، وقاصّها عليك.
(٤) نجوى «باسنيو»
كان «باسنيو» يقول في نفسه، وهو ينعم النظر، ويمعن الفكر، في تعرّف ما تحويه الصناديق الثلاثة: «إن المظهر الأنيق الخلاب كثيرًا ما يخدع الناس، ويبهر أبصارهم، وما أظن صاحب هذه الصناديق إلا رجلًا حكيمًا، ثاقب الفكر، نافذ الرأي، بعيد النظر. ولعله توخى (أراد) أن يختبر عقول من يتصدّون (من يتعرضون) للزواج بابنته. وكأنما أدرك — ببعد نظره وألمعيّته (صدق فراسته وظنه) — أن أكثر الشباب يخدعه المنظر البراق، فيحسب أن صورة «برشا» لا يمكن أن توجد إلا في الصندوق الذهبي، أو الصندوق الفضي. وما أحسب صورتها إلا في الصندوق الرصاصي! إن الذهب — على بريقه وبهاء لونه — معدن حقير. وقد فتن الناس به، وتهافتوا (تساقطوا) عليه، منذ أقدم الأزمنة، وإن لم يُجْدِهم (لم ينفعهم) ظفرهم به شيئًا. والفضة برّاقة خادعة. وهي — كالذهب — حقيرة الشأن، قليلة الخطر، وإن فتن الناس بها، وهاموا (أغرموا) بحبهما، وتحرّقوا شوقًا إلى الحصول عليهما. أما الرصاص فهو — على شحوب لونه — من أنفع المعادن وأجداها على الناس. ولن يخدعني بريق الذهب والفضة على أصالة الرصاص وفائدته، وخلوّه من البهرج الخادع الخلاب. أيها الصندوق الرصاصي: لن أرضى بك بديلًا، ولن أختار غيرك!»
(٥) الجدّ السعيد
ثم قال «باسنيو» في لهجة الواثق المطمئن إلى الظفر: «لن أختار إلا الصندوق الرصاصي، ولعلي قد وفّقت في الاختيار، وظفرت بالسعادة التي أنشدها (أطلبها).»
وقد جزع الحاضرون حين سمعوا منه هذا الكلام، وأيقنوا أنه قد أخفق في سعيه، وخسر تحقيق أمنيته.
وتقدمت «برشا» إلى الصندوق الرصاصي، وفتحته — ويداها ترتجفان — وهي واثقة من إخفاق «باسنيو».
وما فتحت الصندوق حتى راعها صدق فراسته، وبعد نظره. ولا تسل عن دهشة الحاضرين، فقد تملكهم العجب، فكادوا لا يصدقون ما رأوه.
يا للجدّ (يا للحظ) السعيد! لقد وجد «باسنيو» صورة «برشا» في الصندوق الرصاصي. فارتفعت أصوات السرور والفرح، وتهلل وجه «باسنيو» بشرًا وأنسًا بهذا الفوز العظيم. ورأى إلى جانب الصورة بطاقة كتبت عليها الأبيات التالية:
•••
فأعجب الحاضرون بما تحويه هذه الأبيات من حكم بارعة وآراء صادقة. وظفر «باسنيو» بكل ما أراد. وأصبح جديرًا أن يتزوج «برشا» الحسناء. وصار — منذ تلك الساعة — صاحب هذا القصر العظيم وأميره!
(٦) خاتم الزواج
ثم نزعت «برشا» خاتمًا ثمينًا من إصبعها، وقدمته إلى «باسنيو» قائلة: «هاك خاتم الزواج، فاحتفظ به ليكون أحسن ذكرى لهذا اليوم السعيد. وأحذرك أن تفرّط فيه، وإلا غضبت عليك. فإني لا أرى في فقدان الخاتم إلا نذير سوء لنا جميعًا.»
فتوجهت «نرسيا» إلى العروسين، وهتفت مسرورة: «تم الفوز! فاهنآ بالسعادة! واهتفا للسعادة! وانعما بالسعادة!» فردد الحاضرون هتافها مسرورين.
(٧) مفاجأة محزنة
وأبت المقادير (ما تقدره الأيام للناس) إلا أن تنغّص عليهم هذا الصفاء، وصحّ — في هذه المرة قول الشاعر:
فقد قدم عليهم زائران يحملان أخبارًا مزعجة عن «أنطونيو» — صديق «باسنيو» — فأخبراه: أن صديقه «أنطونيو» قد غرقت سفنه كلها، واستحال على هذا التاجر النبيل أن يفي بما عليه من الدين لغريمه (دائنه) «شيلوك» — في الموعد — وأن «شيلوك» انتهز هذه الفرصة للانتقام من عدوه اللدود، وأصرّ على مطالبته برطل من لحمه.
فما سمع «باسنيو» ذلك حتى امتقع وجهه، وخانه الجلد، وعزّه الصبر، فارتمى على كرسيّ قريب منه. فسألته «برشا» عن مصدر آلامه، فأوجز لها ما حدث لصديقه، فحزنت لحزنه، وقالت له: «لقد أخبرتك — يا عزيزي «باسنيو» — أن كل ما أملك قد أصبح ملكًا لك. فخذ من المال ما تشاء، وأدّ لدائنك: «شيلوك» ما على صديقك من دين. فإذا أبى، وأصرّ على وعيده، فأعطه ضعف ماله من المال. فإذا رفض فأعطه ثلاثة أمثاله، وهكذا حتى يغريه المال بالعدول عن انتقامه.»
فارتاحت نفس «باسنيو» لهذا الرأي، وشكر لها ذلك الاقتراح النبيل. ولم يطق البقاء إلى اليوم التالي، فقام من فوره، وركب السفينة ليلًا — ومعه حاشيته (حراسه وخدمه) لينقذ صديقه «أنطونيو» قبل فوات الوقت.