الفصل الخامس
(١) في قاعة المحكمة
احتشدت الجموع في قاعة المحكمة، ليروا نتيجة الحكم في قضية «أنطونيو» — تاجر «البندقية» — وغريمه «شيلوك». وقد ازدحمت القاعة الكبرى بجمهرة النظّارة، وجلس «دوق البندقية» (أميرها) على كرسي القضاء، وحوله مستشاريه من شيوخ البرلمان.
ولبث «أنطونيو» يترقب حكم القضاء جزعًا محزونًا، وهو لا يدري ما يخبؤه له القدر من المفاجآت.
(٢) قسوة «شيلوك»
وقد حاول «أنطونيو» إمكانه، وبذل قُصاراه (غاية جهده) في ترضية «شيلوك» واستعطافه، ورجاه ألا ينكّل به. ولم يترك وسيلة من وسائل اللين إلا سلكها. فتوسل إليه باسم الإنسانية مرة، وباسم المروءة مرة ثانية، وباسم ابنته العزيزة مرة ثالثة. فلم يزده ذلك إلا عتوًّا (جبروتًا وعنفًا وطغيانًا) واستكبارًا.
وقال له «شيلوك» في صلف (كبرياء) وعجرفة: «لن أصيخ (لن أستمع) إلى دعائك، ولن أنسى لك تلك الإساءات والإهانات التي ألحقتها بي! ألا تذكر ما كنت تناديني به من ألقاب التحقير؟ ألا تذكر كيف كنت تدعوني تارة كلبًا، وتارة خنّوصًا (خنزيرًا)؟ كلا! لا سبيل إلى الصفح عنك. ولا بد لي من الانتقام منك، وترك أمرك إلى القضاء، يفصل فيه بما يشاء.»
(٣) مقدم «باسنيو»
وقد نفّذ «شيلوك» وعيده، وترك الأمر إلى القضاء. وجاء «باسنيو» — قبيل افتتاح الجلسة — وجلس إلى صديقه «أنطونيو» يطمئنه ويشجّعه ويسرّى عنه.
وظلّ يؤكّد لصديقه أن «شيلوك» لن يصرّ على مطلبه إذا ضوعف له المال. وإنه ليتحدّث إليه في ذلك إذ أمر «الدوق» بإحضار «شيلوك» وأعلن ابتداء المحاكمة.
(٤) حوار «شيلوك»
ودخل «شيلوك» إلى قاعة المحكمة، وقد تملك نفسه الحقد، وأعمته شهوة الانتقام من عدوه عن الرحمة والعفو. وكان واثقًا من الانتصار على «أنطونيو» والتنكيل به. ولم يدر بخلده (لم يمرّ بباله) أن البغي مرتعه وخيم (أن الظلم عاقبته سيئة)، وأن على الباغي (المعتدي) تدور الدوائر (تحيط به المصائب).
فقال له «الدوق»: «فكر يا «شيلوك» فيما حلّ بغريمك (مدينك): «أنطونيو» من النكبات التي تعطف عليه قلت العدو قبل الصديق. واذكر أن الرحمة جديرة بالأعداء والأصدقاء، على السواء. ولا تنس أن «أنطونيو» كان — في الأمس القريب — أكبر تاجر في مدينة «البندقية» قبل أن تغرق سفنه. فأيّ قلب لا يعطف عليه ويؤسّيه في هذه الكارثة؟»
فقال له «شيلوك» في لهجة المتشبّث المعاند: «ليكن سيدي الدوق الجليل على ثقة من أنني لن أترك حقي، أيا كانت الدواعي والأسباب. لقد أخذ «أنطونيو» على نفسه — يا سموّ الدوق — أن يعطيني رطلًا من لحمه، إذا عجز عن أداء ما عليه في مدى ثلاثة أشهر. وقد مرّ الموعد — الذي عيّنه — من غير أن يردّ إليّ الدين، فحقّ عليه الجزاء، ولن أفرّط في حقي أبدًا!»
فقال «باسنيو»: «فإذا أعطيناك ستة آلاف من الدنانير في مقابلة ثلاثة الآلاف التي أقرضتنا إياها، فماذا أنت قائل؟»
فقال له «شيلوك»: «لو أعطيتني — بكل دينار منها — ستة دنانير، لما أغراني ذلك بترك حقي في رطل من لحم «أنطونيو»! لقد أصبح هذا الرطل ملكًا لي. وليس من العدل أن أحرم حقي فيه. فإذا رفضتم إحقاق الحق، وإزهاق الباطل، فلن يثق الناس — بعد هذا اليوم — بعدالة القضاء ونزاهته!»
فقال الدوق: «لقد بعثت إلى عالم قانوني كبير، ليحضر إلينا، ويبدي رأيه في هذه القضية التي لم ير لها القضاء مثيلًا. وقد وقع اختيارنا على «بلريو»، وهو — كما تعلمون — أكثر علماء عصره تفقهًا (فهمًا) في القانون، وخبرة بالشرائع.»
وما كاد «الدوق» يتم كلامه، حتى قدم أحد أصدقاء «أنطونيو» يقول: «إن «بلريو» لا يستطيع الحضور اليوم، وقد أوفد رسولًا — من قبله — لينوب عنه في الرأي.»
فأذن «الدوق» للرسول بالدخول. وكان «باسنيو» دائبًا على تشجيع صديقه «أنطونيو» وهو يقرر له أنه لن يبيح لغريمه «شيلوك» أن يقطع رطلًا من لحمه. وكان يقول له: «كن على ثقة — يا صديقي — من أنني لن أدعك فريسة لهذا الرجل العنيد. وسأعطيه لحمي، ودمي، وعظامي، فداءً لك! وسأريق (سأصبّ) آخر قطرة من دمي قبل أن يريق قطرة واحدة من دمك الزكي (الطاهر)!»
وكان «شيلوك» — حينئذ — يشحذ سكّينه (يحدّها) على جلد حذائه، ويقول في لهجة الساخر المتهكم: «إنما أشحذ مديتي هذه لتكون أقدر على قطع نصيبي في لحم «أنطونيو» من غير أن تؤلمه أو تعذبه!»
(٥) بين المحامي و«شيلوك»
ولما دخل المحامي، أخبر «الدوق» أن «بلريو» قد أوفده نائبًا عنه في هذه القضية الغريبة، واستأذن المحامي الفتى رئيس القضاة في أن يبدأ الدفاع. فأذن له.
وكان هذا المحامي فتىً نحيف الجسم، عذب الحديث، رشيق الحركة، دقيق الملاحظة، حاضر البديهة (سريع الجواب). وقد بدأ دفاعه بقوله مخاطبًا «شيلوك»: «إن قضيتك غاية في الغرابة، وهي قضية لا مثيل لها في التاريخ، ولن يستطيع القانون — إذا أصررت على طلبك — أن يقف دون ما تريد. فإذا أبيت إلا إنفاذ رغبتك، فلن تستطيع العدالة أن تعترضك. ولكن الإحسان فوق العدل، والرحمة فوق القانون. فهل أنت متجاوز عن حقك في سبيل الإنسانية والرحمة؟»
فقال «شيلوك»: «لا سبيل إلى هذا!»
فقال المحامي: «إن الرحمة تضاعف السعادة، ولها فضل مزدوج، فهي تسعد الراحم والمرحوم جميعًا. وقد أوصتنا الأخلاق والشرائع أن نأخذ بأسباب الرحمة والغفران والصفح، لتصبح الحياة فردوسًا (جنة) من فراديس السعادة.»
فقال «شيلوك»، في لهجة الغاضب المحنق: «دعني من هذه الثرثرة، فلن أصيخ (لن أستمع) إليها، مهما تتفنن في بلاغتك، ولن أتجاوز عن حقي في رطل من لحم هذا المدين!» فقال «باسنيو» للمحامي: «ألا تستطيع يا سيدي أن ترفض هذا المطلب؟»
فقال المحامي: «كلا يا سيدي! فإني شديد الأسف، لأن الحق فيما يقول «شيلوك». ولو أخذ القاضي برأيك لعطلت أحكام القانون، وضعفت ثقة الناس بعدل القضاء.»
فقال «شيلوك» وقد غمره السرور والفرح: «يا لك من محام كيّس (لبق ذكي) نزيه!»
فقال له: «أشكر لك هذا الثناء، ولكني ألحّ عليك في الرجاء أن تقبل ثلاثة أمثال ما أخذه «أنطونيو» من المال.»
فقال «شيلوك»: «كلّ هذا عبث لا طائل تحته (لعب لا فائدة منه)!»
فقال المحامي: «لقد انقضى الموعد الذي عينته لردّ دينك إليك. ولك الحق في أن تصرّ على طلبك. ولكن؛ ألا سبيل إلى عدولك عن هذا المطلب القاسي؟»
فقال «شيلوك»: «لن أفرّط في حقي، ولو انطبقت السماء على الأرض!»
فخيّم الحزن على الحاضرين، واستولى عليهم الذعر والقلق، وعجبوا من غلظة «شيلوك» وإصراره على انتقامه الوحشي.
(٦) براعة المحامي
وسئم «أنطونيو» هذا اللجاج (الإلحاح والمداورة في الكلام)، فصاح يطلب من «الدوق» أن يعجل بحكمه.
فقال له المحامي: «كن مستعدًا، فإن مدية «شيلوك» (سكّينته) توشك أن تقطع رطلًا من لحمك!»
فصاح «شيلوك»: «مرحى لك أيها العادل النزيه!»
فقال له المحامي: «هل أحضرت ميزانك معك، لتزن به ما تقطعه من لحم «أنطونيو»؟»
فقال له «شيلوك» وقد طفح وجهه بشرًا: «هاك الميزان!» وأخرج ميزانه من جيبه، ويداه ترتجفان من الفرح بما أحرزه من فوز وانتصار.
وساد الصمت، وانعقدت الألسن، وأرهفت الأسماع، وكشف «أنطونيو» عن صدره، وقال لصديقه «باسنيو» متجلّدًا: «وداعًا أيها الأخ الكريم، وحذار أن تجزع على فقدي، فإني أجود بنفسي طائعًا مرتاحًا. وما أسعدني حين أبذل دمي وروحي فداءً لشرفك!»
ثم قال المحامي: «خذ رطلًا من لحم «أنطونيو». فإن القانون مؤيدك والقضاء حليفك (نصيرك)!»
فقال «شيلوك»: «ما أعدل حكمك وأرجح عقلك!»
ثم سلّ «شيلوك» مديته، ورفع يده، وقد ألجم الذعر ألسنة الحاضرين، فقال له المحامي: «مكانك يا «شيلوك»!»
فعجب «شيلوك» وسأله: «ألم تقض لي برطل من لحم غريمي؟» فقال له المحامي: «إن القضاء يبيح لك رطلًا واحدًا من لحم «أنطونيو» ولكنه لا يبيح لك أن تسفك (تريق وتسيل) نقطة واحدة من دمه. فاقطع رطلًا واحدًا من غير زيادة ولا نقصان. وحذار أن تريق من دمه قطرة، وإلا صادر القانون كل ما تملك من مال وعقار (أملاك)!»
فارتبك «شيلوك» واشتد اضطرابه ولم يدر: كيف يقول؟ ولا كيف يصنع؟ فقال له المحامي: «هلمّ (تعال) فاقطع لحمه، ولا تسفك نقطة من دمه!» فأدرك «شيلوك» استحالة ما يطلبه المحامي منه. فقال له: «لقد عدلت عن رأيي، ورضيت بما عرضه «باسنيو» عليّ من المال. فهاتوا ستة الآلاف من الدنانير.»
فقال المحامي: «كلا، لا أبيح لك ذلك. وما دمت قد رفضت ما عرضوه عليك من قبل، فلا حق لك فيه الآن، بعد أن أضعت الفرصة.»
فقال «الدوق»: «لقد جرت (تركت طريق الحق) في مطلبك يا «شيلوك»، وتجاوزت القصد في إساءتك. وقد قضينا بمصادرة مالك.»
فخرج «شيلوك» يجرّ ذيل الخيبة، ويعضّ بنان الندم (يعض رؤوس أصابعه متأسفًا). وأعجب الحاضرون ببراعة المحامي وعدالة القضاء.
(٧) خاتم العرس
فأقبل «أنطونيو» على محاميه يصافحه ويحيّيه، ويشكر له كياسته (حسن تصرفه) ولباقته وذكاءه، واشترك معه «باسنيو» في تحية المحامي والثناء عليه، وسأله أن يقبل منه ما يشاء من الأجر.
فقال له المحامي: «لن أقبل — على ما صنعت — أجرًا، وحسبي منك هذا الخاتم الذي في إصبعك، ليكون أحسن ذكرى لهذا التعارف الوثيق (المتين).»
فارتبك «باسنيو» واعتذر لعجزه عن التفريط في ذلك الخاتم الذي أوصته «برشا» أن يحرص عليه.
فأصرّ المحامي على طلب الخاتم، ورفض أن يقبل أي هدية أخرى. فاشتد ارتباك «باسنيو» وشعر بحرج الموقف.
فقال له المحامي: «يخيّل إليّ أنك — يا سيدي — سخيّ بالوعود، شحيح (بخيل) بإنجازها!»
فاسودّت الدنيا في وجه «باسنيو» ورأى أنه سيكون آية في العقوق (مثلًا يستدلّ به الناس على إنكار الجميل)، إذا رفض إعطاءه هذا الخاتم، بعد أن أنقذ صديقه «أنطونيو» الذي عرّض نفسه للهلاك في سبيله.»
فنزع الخاتم من إصبعه، وأعطاه إياه، وطلب إليه الصفح عما رآه من تردده وارتباكه. فشكر له المحامي هذه الهدية الثمينة، واستأذنهما في الانصراف. فودّعاه شاكرين.
ولما جاء الغد، سافر «باسنيو» وصديقه «أنطونيو» إلى قصر «برشا»، وقد توثّقت بينهما أواصر الولاء (علاقاته)، بعد أن جمعت بينهما الشدائد والآلام، ووحّدت بين قلبيهما، حتى أصبحا مثالًا للوفاء ورمزًا للمحبة والإخاء.