مقدمة
شجرةٌ تَسقطُ في الغابة، هل تُحدِث صوتًا عندما لا يكون ثمة مِن أحدٍ لِيَسمعَه؟ هذا
السؤالُ مألوفٌ لكل طالبٍ جامعي غيرِ متخرِّج. أحدُ الأجوبة هو أن الشجرة تُصدِر
صوتًا
بالطبع، لِم لا؟ تُصدِر الشجرةُ صوتًا سواء كان ثمة مَن يسمعه أم لم يكن. وعلى كل
حال،
فحتى لو لم يكن هناك أشخاصٌ بِمَقربةٍ فهناك سَناجِب، أو طيور، أو حتى بَق لا بد
أنه
يسمع الشجرةَ وهي تنهار.
تأمَّلْ جوابًا أكثرَ رويَّةً، ما زالت تَرشَح صِيَغ منه عبرَ أجيالٍ متعاقبةٍ من
الطلاب: يُحدِث سقوطُ الشجرة موجاتٍ صوتيةً تَشِيع إلى الخارج في نمطٍ كروي. إذا
ما
اعترضَت هذه الموجاتِ الصوتيةَ أذنُ إنسانٍ (أو ربما — وإن يكن ذلك أكثر خلافيةً
— أذنُ
كائنٍ ما حاسٍّ غيرِ بشري) فهي تُسمَع كضوضاء انهيار. أما إذا ذهبت الموجاتُ الصوتية
غيرَ مُلتقَطة، فهي تتلاشى في النهاية. إذن مسألة ما إذا كانت شجرةٌ ساقطةٌ غيرُ
ملحوظة
تُحدِث صوتًا أم لا هي مسألةٌ تتوقف على ماذا تَعنِي بالصوت. إذا كنتَ تَعنِي «ضوضاء
مسموعة»، فالشجرة إذن (بضرب الصفح عن السناجب والطيور) تَسقُط في صمت. أما إذا كنتَ
تَعنِي شيئًا ما من قبيل «نمط كروي مميَّز من الموجات الصادمة في الهواء»، إذن، نعم،
سقوطُ الشجرة يُصدِر بالفعل صوتًا.
معظم الأشخاص الذين يجيبون عن السؤال بهذه الطريقة يعتبرون الأمرَ محسومًا. فاللغز
يُحَل ببساطة بتوضيح ماذا نعني. الحق أننا لا يمكن أن ندرك السؤال الأصلي على أنه
يطرح
لغزًا ما لم نكن مُهيَّئين بالفعل لتمييز معنيين للفظة «صوت». ولكن ما هما هذان
المعنيان بالضبط؟ هناك، من ناحية، الصوت الفيزيائي، نمط كروي من الموجات الصادمة
قابل
للفحص والقياس العام، فهو على كل حال مفتوحٌ للفحص العام إذا توافرت الأدواتُ الصحيحة.
وهناك، من ناحية أخرى، الصوت المُدرَك أو المُختبَر. يعتمد الصوتُ المدرَك على وجود
ملاحِظ، وهذا ليس حدثًا عامًّا، أو ليس من الواضح أنه حدثٌ عام؛ فرغم أن الصوت يمكن
أن
يُخبَر من قِبَل أشخاصٍ كثيرين، فإن خبرةَ كل ملاحظ هي أمرٌ «خصوصي»
private. ورغم أن بوسعنا أن نلاحظ ونقيس استجابات
الأشخاص للصوت المدرَك، فليس بوسعنا أن نقيس الصوتَ المدرَك نفسَه. هذه الطريقة في
التفكير عن الأصوات تَسرِي سريانًا عامًّا تمامًا؛ تسري مثلًا على منظر الأشياء،
وعلى
طعمِها، وعلى رائحتها، وعلى ملمسها.
من شأن هذه الصورة عن العالم ومكاننا فيه، التي تقبع وراء هذه التأملات، أن تؤدي إلى
انشعاب الواقع؛ فهناك من ناحيةٍ العالم المادي «الخارجي»، عالم الأشجار والغابات
والموجات الصوتية. وهناك من ناحيةٍ أخرى العالم العقلي «الداخلي»، العقل ومحتوياته.
يحتوي العالم العقلي على الخبرات الواعية؛ أشكال الأشياء المرئية، وملمسها، والأصوات
المسموعة، والطعوم، والروائح. ويتضمن العالمُ المادي الأشياءَ نفسَها، وخواصَّها.
وتشمل
هذه الخواصُّ أشياء من قبيل كتلة الأشياء وخصائصها المكانية (أشكالها وأحجامها وملمس
سطحها، وإذا تأملنا الأشياء عبر الزمن، وحركاتها وتغيراتها في خصائصها
المكانية).
وقد نطلق على تلك الكيفيات الملاحَظة المنتسبة إلى الأشياء المادية، اتباعًا لتقليدٍ
طويل، اسم «الكيفيات الأولية» primary qualities. أما
بقية الكيفيات، «الكيفيات الثانوية» secondary
qualities، فهي خصائص الأشياء (يُفترَض أنها ليست أكثر من ترتيبات
الكيفيات الأولية للأشياء) التي تُحدِث أنواعًا مألوفةً معينة من الخبرة في وعي
الملاحِظين. تَعكِس الخبرةُ الكيفياتِ الأوليةَ للأشياء على نحوٍ ثابت. أما الكيفيات
الثانوية فهي، في المقابل، تَستدعِي التمييزَ بين الطريقة التي تُخبَر بها الأشياءُ،
والطريقة التي عليها الأشياء. يُسفِر هذا التمييزُ عن نفسه في تأملاتنا عن الشجرة
الساقطة في الغابة المهجورة. وبصفةٍ أعمَّ، يشجعنا التمييزُ على أن ننظر إلى خبرات
الوعي على أنها تَحدُث خارج العالم المادي.
قد تَشُك في هذا القول، واثقًا بأن الخبرات الواعية تحدث في الأدمغة، ومعتبِرًا
الأدمغةَ أشياء مادية ذات اعتبار. ولكنْ طَبِّق الآن تمييزَنا بين الكيفيات الأولية
والثانوية على الأدمغة. للأدمغة، بما فيها دماغك، كيفياتٌ أولية متنوعة. فدماغُك
له
حجمٌ معين، وشكل، وكتلة، وموضعٌ مكانيٌّ. إنه مَجبولٌ من جُسيمات، لكل جُسَيم حجمٌ
وشكل
وكتلة وموضع مكاني. وكل جسيم يسهم بنصيبٍ صغير في الطابع الإجمالي للدماغ. بفضل هذا
الطابع العام يكون لدماغك شكلٌ معين (ويُفترَض أيضًا أن له صوتًا ورائحة وملمسًا
ومذاقًا!) يَعنِي هذا أن دماغك يمكن أن يُخبَر على أنحاءٍ شتَّى. تختلف كيفياتُ هذه
الخبرات (رغم أنها بلا شك مرتبطةٌ بطريقةٍ منهجيةٍ ما بالواقع المادي الذي يُحدِثها)
عن
الكيفيات التي يمتلكها أي شيء مادي، بما في ذلك دماغك. ولكن إذا كان الأمرُ كذلك،
فأين
نضع كيفياتِ الخبرة؟
لقد كان مَيلُك الأول أن تضعها في الدماغ، ولكنَّ تفحُّص الدماغِ لا يَكشِف إلا
كيفياتٍ ماديةً مألوفة. إن فحص الدماغ — حتى باستخدام أنواع الأجهزة المتطورة الموجودة
في مختبَر عالِم فيزيولوجيا الأعصاب وعالِم التشريح العصبي — لا يكشف عن أي منظر
أو
ملمس أو أصوات مسموعة. تخيَّلْ أنك تحضر حفل أوبرا
Die
Walküre١ في بيريوث،
٢ تغزو حواسَّكَ أصواتٌ وألوانٌ وروائحُ ومشاعرُ، وحتى طعوم. إن عالِمَ
أعصابٍ يلاحِظ دماغَك أثناء حدوث كل ذلك سيلاحظ مَشهدًا عظيمًا من النشاطات العصبية،
ولكن بِوُسعِكَ أن تهدأ جنبًا مُوقِنًا بأن عالِم الأعصاب لن يلاحظَ أيَّ شيء يشبه
كيفيات خبرتِكَ الواعية.
فكرةُ أن هذه الكيفيات تُقِيم في دماغكَ، إذن، هي فكرةٌ غيرُ واعدة. ولكنْ إذا لم
تكن
كيفياتُ خبراتك موجودةً في دماغك، فأين تُراها تكون؟ الجواب التقليدي، والجواب الذي
نبدو مدفوعين لِقبولِه، هو أنها قائمةٌ في عقلك. وهذا يتضمن، بشكلٍ مباشر تمامًا،
أن
عقلَك متميِّزٌ على نحوٍ ما عن دماغك. الحق أنه يتضمن أن العقل ليس شيئًا ماديًّا
على
الإطلاق، ليس كيانًا يَحبو على أربعٍ مع الموائد والأشجار والأحجار … والأدمغة! العقولُ
كياناتٌ غيرُ مادية، كياناتٌ ذات خواص لا يمتلكها أي شيء مادي. تحمل العقولُ علاقاتٍ
وثيقةً بالأشياء المادية، ربما، وبخاصة علاقات وثيقة بالأدمغة. وخبراتُك الواعية
بالأشياء المادية المعتادة (بما فيها جسمك نفسه) يبدو أنها تصلك «من خلال» دماغك،
والتأثيراتُ التي لمداولاتك الواعية على العالَم (كما يحدث عندما تُقرِّر أن تقلب
الصفحة، وبالتالي تقلبها) تتطلب الدماغَ كوسيط. ومع ذلك، تبدو النتيجة لا مَفَر منها:
لا يمكن للعقل نفسه أن يكون شيئًا ماديًّا.
قد تَجِد هذه النتيجةَ غيرَ مقبولة. إذا وجدتَ ذلك فأنا أدعوك أن تراجع الاستدلال
الذي أدى إليها، وتكتشف أين خرجَ الاستدلالُ عن الجادَّة. وأنتَ إذ تفعل ذلك ستكون
منخرطًا في فلسفة العقل، وسيلتفت انتباهُكَ لا إلى آخر نتائج علم الأعصاب، بل إلى
فرضيات الحس المشترك التي بها بدأ هذا الفصل، وإلى خط طبيعي جدًّا من الجدل يُفضِي
من
هذه الفرضيات إلى نتيجةٍ معينة. عندما تبدأ تأملاتك قد تشك أن في الأمر خدعة. إذا
كنتَ
على صواب فإن شوطك في فلسفة العقل لن يطول، وستحتاج فقط إلى أن تحدد النقطة التي
حدثت
عندها الخدعة.
أعتقد أن من المستبعد أنك سوف تكتشف أي خدعة، وأنك بدلًا من ذلك ستُضطَر إلى أن تعمل
ما كان الفلاسفةُ مضطرين إلى عمله منذ زمن ديكارت. ستكون مضطرًّا إلى الاختيار من
بين
عدد من الممكنات المختلفة، لكل منها مزاياه وعيوبه. على سبيل المثال، قد تقبل ببساطةٍ
النتيجةَ التي خَلَص إليها ديكارت: العقول والأشياء المادية صنفان متمايزان من
الكيانات، «جوهران» متمايزان. وقد تتحدى، بدلًا من ذلك، فرضيةً أو أكثر من الفرضيات
التي أدت إلى هذه النتيجة. إلا أنكَ إذا اخترتَ هذا المسار فيجب أن تنتبه إلى أن
التخليَ عن فرضيةٍ أو تعديلَها يمكن أن يكون له تأثيراتٌ غير متوقعة وغير مرغوبة
في
موضعٍ آخر. على كل حالٍ، سيكون عملُك مناسبًا لمثلك. لقد التفتَتْ خِيرةُ العقول
في
الفلسفة، وكَثرةٌ من خِيرةِ العقول أيضًا من خارج الفلسفة، إلى هذه المسائل، وبقيت
الساح خاليةً من أي شيء قريب من أن يكون رأيًا في العقل محدَّدًا لا خلاف عليه.
لا تَستنتِجْ من هذا أنه ليكون مَضيَعةً للوقت بالنسبة لك أن تُنقِّب في فلسفة العقل.
فنحن، على العكس، نستمتع بميزة الإدراك المؤخَّر. إن بوسعنا أن نتعلم من نجاحات الآخرين
وإخفاقاتهم. وحتى إذا لم نستطع حل أي لغز، فقد يتسنى لنا على الأقل أن نتعلم شيئًا
ما
مهمًّا عن صورتنا عن العالَم ومكانِنا فيه. وإذا كنا صادقين فسوف نُضطر إلى الاعتراف
بأن هذه الصورة بها ثغراتٌ، وأنها غيرُ وافية من نَواحٍ كثيرة. أعترفُ أن هذا يمثل
مرحلةً هامةً في عمليةِ توصُّلِنا إلى تفاهمٍ مع أنفسنا، وفهمٍ لمكاننا في نظام
الأشياء.
العلم والميتافيزيقا
بعض القراء لن يصبرَ على كل هذا، فكلنا يعرف أن الفلاسفة يطرحون المشكلات فحسب، ولا
يحلونها أبدًا. فحلول الألغاز الهامة هي مِلكُ العلوم، لذا فإن علينا أن نتجه إلى
العلم
إن كان لنا يومًا أن نفهم العقلَ ومكانَه في العالَم. أما المشكلات المتبقية، المشكلات
غير القابلة للإجابات العلمية، فهي في الواقع أشباهُ مشكلاتٍ زائفةٌ لا تُحدِث
إجاباتُنا عنها أيَّ فارق. وكل «حل» نُعنَى بتقديمه فمثله مثل أي حل آخر.
رغم أن هذه الاستجابة ربما تكون مفهومة، إلا أنها غيرُ مُتروِّية. لقد اعتمد نجاحُ
العلم على تقسيمٍ محدَّد جيدًا للعمل مصحوبٍ باستراتيجية «فرِّق تَسُد». ليس ثمة
علم،
ثمة فقط علوم؛ فيزياء، كيمياء، أرصاد، جيولوجيا، بيولوجيا، سيكولوجيا، سوسيولوجيا.
كل
واحد من هذه العلوم (وهناك بالطبع علوم أخرى) يقتطع له نطاقًا محددًا بشدة. ويستلزم
تحديدُ نطاقٍ ما تحديدَ الأسئلةِ المسموح بها. وبهذه الطريقة يُرحِّل كلُّ علمٍ المهمة
(في بعض الأمور) بعيدًا عنه. وهذه ممارسةٌ حميدةٌ في معظم الأحيان؛ لأن ترحيل المهمة
سوف يتوقف في النهاية، وتقع هذه المهمة في نطاق علمٍ من العلوم وتُلقَى على عاتقه.
غير
أنه أحيانًا ما تُرحَّل المهمةُ خارج العلوم جميعًا. الحق أن هذا أمرٌ لا مردَّ له،
فالعلوم لا تتحدث بصوتٍ واحد. وحتى إذا كان كل علمٍ ناجحًا تمامًا داخل مجاله التطبيقي،
فلا نزال بالضرورة بإزاء السؤال عن كيف تتواصل هذه المجالات، كيف تُقيَّم دعاوي العلوم
العديدة بعضها تجاه بعض. ومن الواضح تمامًا أن هذا السؤال ليس سؤالًا تُمكِن الإجابةُ
عنه من داخل أي علمٍ معين.
تَدخل الميتافيزيقا. إحدى الوظائف التقليدية للميتافيزيقا (أو، بتحديدٍ أكثر، ذلك
الفرع من الميتافيزيقا المسمَّى أنطولوجيا)
٣ تقديم تصور إجمالي لكيف تكون الأشياء. يتضمن هذا، لا اقتفاء غايات علمية
معينة، بل استيعاب دعاوي العلوم العديدة. ويتضمن أيضًا محاولة التوفيق بين العلوم
والخبرة المعتادة. من ناحيةٍ فإن كل علمٍ يأخذ الخبرةَ المعتادة مأخذَ التسليم، فالعلم
هو أمرٌ إمبيريقي (تجريبي) بقدر ما يهيب بالملاحظة في تأييد نتائج تجريبية. ولكن
الطبيعة الداخلية (الباطنة) للملاحظة ذاتِها (وبالتالي طبيعة الملاحِظين) تتركها
العلومُ ولا تمسُّها. إن طبيعة الملاحظة — الخبرة الواعية المتجهة إلى الخارج — تقف
على
تُخوم العلم. وإنما عند هذه النقطة بالتحديد يُسفِر اللغزُ الذي بدأ به هذا الفصل
عن
نفسِه، ويَشرئبُّ برأسِه.
تفترض الممارسةُ العلميةُ مسبقًا ملاحِظين وملاحَظات. ورغم ذلك فإن العلوم، في
النهاية، صامتةٌ عن الطبيعة الداخلية للملاحِظين والملاحَظات. لقد رُحِّلَت المهمة.
وغايةُ أملِنا من أجل صورةٍ موحَّدة، صورةٍ تشمل العالَمَ كما تصفه العلومُ، وتشمل
أيضًا الملاحِظين وملاحَظاتِهم، تكمن في اقتفاء أنطولوجيا جادة. ها هنا يتوقف ترحيل
المهمة. إن بِوُسعِك بالطبع أن تُولِي ظهرَك للمسائل الميتافيزيقية. غير أنك بقدر
ما
تفعل ذلك فأنت تتضاءل من الناحية الفكرية، وربما من نواحٍ أخرى أيضًا.
هذا الكتاب مَعنيٌّ بأنطولوجيا العقل. وهو يدور حول تأملات في أسئلة عن العقل تقع،
جزئيًّا أو كليًّا، خارج نطاق العلوم. وينبغي أن أنبِّهك إلى أن هذا ليس مَسعًى رائجًا.
فكثيرٌ من الفلاسفة يَشكُّون في الميتافيزيقا، وكثير غيرهم وصلوا إلى القناعة بأن
خير
رهاناتنا لفهم العقل ومكانه في العالم هو أن ندير ظهورنا للفلسفة كليًّا. هؤلاء
الفلاسفة يؤيدون فكرة أن فلسفة العقل هي، أو ينبغي أن تكون، أحد مكوِّنات ما صار
يُعرَف
باسم العلم المعرفي (الإدراكي) cognitive science.
يشتمل العلمُ الإدراكي على عناصر من السيكولوجيا، وعلم الأعصاب، وعلم الحاسوب،
واللغويات، والأنثروبولوجيا. ماذا على الفيلسوف أن يقدم للعلماء الذين يعملون في
هذه
الحقول؟ هذا سؤالٌ وجيه.
ربما يمكن للفلاسفة تقديم نوعٍ ما من التأثير الموحِّد، تقديم صورة عامة تستوعب
تقييماتٍ أدقَّ صادرةً من المسهمين العلميين في العلم المعرفي. هذا قد يبدو، ببساطة،
انخراطًا في نوعٍ من الميتافيزيقا المخفَّفة. وهي مُخفَّفة إلى حد أنها تستبعد الهموم
الأنطولوجية التقليدية، وتستبعد أيضًا النظر في تأثير علومٍ مثل الفيزياء على أنطولوجيا
العقل.
إذا كنتُ أبدو شاكًّا في محاولات استيعاب فلسفة العقل للعلم المعرفي، فإنني لَكذلك.
هذا الكتاب يقوم على القناعة بأن فلسفةَ العقل موصولةٌ بالميتافيزيقا بمفهومها
التقليدي. إن الأسئلة الصعبة التي تبرُز في فلسفة العقل — وللبعض أن يقول الأسئلة
الصعبة فحسب
٤ — هي في صميمها أسئلةٌ ميتافيزيقية. هذه الأسئلةُ، كما يدل الظاهر، هي
أسئلةٌ مشروعة ولا يمكن تجنبها. وأهم من ذلك أن بإمكاننا أن نحرز تقدمًا (وقد أحرزنا
بالفعل) في تناولها. وليس يعني ذلك أن بجعبتنا أجوبةً شافية تمامًا أمكن أن تُستعرَض
بإحكامٍ في مدخلٍ إلى فلسفة العقل، إنما يعني أن لك أن تأمل في أن تجد في الفصول
التالية ما يساعدك في أن تجتبي خياراتٍ وتنبذ أخرى.
تُراني أُسلِّم فحسب بالفكرة القائلة بأن الفلاسفة يتفقون في الأسئلة لا في الأجوبة؟
كلا على الإطلاق. فالتقدم في الفلسفة، شأنه شأن التقدم في أي مجال آخر، يمكن أن يُقاس
بطريقتين. يمكن أن نركز على هدفٍ محدد ونسأل أنفسنا هل قاربنا هذا الهدف، ولكن بوسعنا
أيضًا أن نسأل أنفسنا كم قطعنا من شوط. وبهذا المعنى يمكن القول بأن الفلسفة تمضِي
قُدمًا. على أية حالٍ نحن ليس لنا من خيار، فالأسئلة الفلسفية حول العقل لن تنقضي.
إنها
لَتقَع، حتى في سياقات المُختبَر، للعلماء العاملين. وكما تشهد الخلافاتُ الواسعة
حول
طبيعة الوعي، فإن إغفالَ مثلِ هذه الأسئلة غيرُ وارد.
نظرةٌ إلى الأمام
تقدم الفصولُ القادمة قطاعًا من الموضوعات الهامة في فلسفة العقل. وهي تفعل ذلك
بطريقة لا تفترض مسبقًا أن القارئ لديه أي خلفية معينة في الموضوع. سيكون التركيز
على
نظرياتٍ شكَّلَت أساسَ ما قد يُعَد التصور الحداثي (أو لعله بعد-حداثي؟) للعقل. وقد
حاولتُ جهدي أن أقدم كلًّا من هذه النظريات بطريقةٍ تُبرِز مَواطنَ جاذبيتها. وفي
رأيي
أن فلاسفة العقل كانوا متسرعين كثيرًا في رفض آراء يعتبرونها غريبةً أو مهجورة. من
نتائج ذلك أننا قد تفوتنا فرصٌ للتعلم من أسلافنا الذين، كما يتبين، كان لديهم الكثيرُ
لكي يُعلِّموه. ونتيجة ثانية للاستهانة بالنظريات غير الرائجة أننا نخاطر بتكرار
الأخطاء التي ينبغي الآن أن نكون قد تعلمنا أن نجتنبها. وقد حاولتُ أن أصحح هذا الموقف
بتقديم قراءات مؤيِّدة لمواقف تُزدرَى الآن في بعض الأحيان أو تُرفَض. وفي الوقت
نفسه
فقد تخففتُ من نقد المواقف المُؤيَّدة أكثر مما يفعل الكثيرون، فظني أن مهمتي هي
أن
أضيء المجال. وأنا أترك لك، أيها القارئ، أن تقرر لنفسِك ماذا تقبل وماذا تَدَع.
ليس يعني هذا أنني أتخذ موقفًا محايدًا في الموضوعات المعروضة. غير أنني حاولتُ،
حيثما أقدم رأيي، أن أوضح أن هذا هو رأيي، وهو اعتبارٌ يجب أن يوزَن إلى جانب غيره
من
الاعتبارات. وفي فصلٍ ختامي أقول ما أعتقده. في هذا الفصل الختامي أقدم وصفًا للعقول
ومكانها في العالم الطبيعي قائمًا فيما أعتبر أنه أنطولوجيا معقولة. وقد كرستُ شطرًا
كبيرًا من الفصل في إيضاح تلك الأنطولوجيا. ولستُ آمل بذلك أن أقنعك بتفاصيل الرأي
الذي
أفضِّله، بقدر ما آمل أن أقنعك بأهمية توافر أنطولوجيا جادة بالنسبة لفلسفة
العقل.
غير أن هذا استباقٌ للقصة. فالفصل الختامي يأتي في أعقابِ فصولٍ كُرِّسَت لفحص تنويعة
من التصورات في العقل. وقبل أن نوغل أبعد من ذلك، قد يكون جديرًا بنا أن نقدِّم وصفًا
مختصرًا لما يمكن أن تتوقعه في كلٍّ من هذه الفصول البينية.
يقدم الفصل الثاني التصور «الثنائي» dualist لديكارت
في العقل، وتنويعات شتى من هذا التصور. يقسِّم ديكارت العالم إلى جواهر عقلية وجواهر
مادية. وبعد إذ يفعل ذلك يُضطر إلى مواجهة المشكلة المشهَّرة، مشكلة العقل-الجسم
mind-body problem: كيف يتسنى للجوهرين العقلي وغير
العقلي أن يتفاعلا؟ وقد أدَّى عدم الارتياح لمحاولات ديكارت لحل هذه المشكلة إلى
صيغ
منقحةٍ للإطار الديكارتي، والتي تشمل «مذهب التوازي»
parallelism، و«مذهب المناسبة»
occasionalism، و«مذهب الظاهرة الثانوية»
(المصاحِبة) epiphenomenalism. يسلِّم مذهبُ التوازي
باستحالة فهم التفاعل العِلِّي بين الكيانين العقلي والمادي، فيفترض أن الجوهرين
العقلي
والمادي لا يتفاعلان، بل تعتريهما التغيراتُ بالتوازي. أما أصحاب مذهب المناسبة
فيُدخِلون الربَّ كصلةٍ رابطةٍ بين العقلي والمادي. يشاءُ الربُّ تغيراتٍ في العالم
المادي وفي العقول معًا بطريقةٍ ما، بحيث تصطفُّ الأحداثُ في كلا العالمين كما لو
كانا
متفاعلَين عِليًّا. أما مذهب الظاهرة الثانوية فيقول بطريق اتجاه واحد للعِلِّية،
من
المادي إلى العقلي؛ فالأحداثُ العقلية «نواتجُ ثانوية»
by-products خاملةٌ عِليًّا للأحداث المادية
(مرجَّحٌ جدًّا أنها أحداثٌ في الدماغ).
أما «المثاليون» idealists فيرفضون المكوِّنَ المادي
من الصورة الثنائية، ويرَون أن كل ما يوجد هو العقول ومحتوياتها. لا ينكر المثاليون
فحسب أن الأشياء المادية الخارجية موجودة، بل يرَون أن عالمًا ماديًّا خارجيًّا هو
أمرٌ
لا يمكن التفكير فيه على الإطلاق، وأن أطروحة أن الأشياءَ موجودةٌ خارج العقل ليست
زائفة، بل لا يمكن فهمها. ويُختتم الفصل الثاني بعرض للثنائية اللاديكارتية؛ فالعقول
والأجسام جواهرُ متمايزة، ولكن العقول تمتلك، بالإضافة إلى الخواص العقلية، خواصَّ
مادية أيضًا. هذه الصيغة من الثنائية تتجنب المزالق الواضحة لسالِفتِها الديكارتية،
بينما تُعلِّل لعددٍ من الظواهر الملغزة التي لا يمكن تعليلها على أي نحو آخر.
يرفض المثاليون الجانب المادي من التصور الثنائي للعقل؛ فالجوهر المادي هو شيء لا
يمكن تصوره. ويذهب الماديون materialists، في المقابل،
إلى أن كل جوهر هو جوهر مادي. يبحث الفصل الثالث استجابتين ماديتين للديكارتية؛ المذهب
السلوكي behaviorism ونظرية الهوية
identity theory. تحاول السلوكيةُ أن تُثبِت أن
التصورَ الديكارتي للعقول كشيءٍ متمايز من الأجسام قائمٌ على سوء فهم أساسي لما ننخرط
فيه عندما نَعزو حالاتٍ عقليةً لأنفسِنا وللآخرين. يرى السلوكيون أن الدعاوى عن العقول
يمكن أن تُحلَّل إلى دعاوى عن سلوكٍ واستعداداتٍ
dispositions لِسلوك. أن تقول إنك في ألم (تعاني من
صداعٍ مثلًا) هو بالضبط أن تقول (إذا كان السلوكيُّ على حق) إنك تمسك برأسك وتئنُّ
وتقول: «بي صداع» وما إلى ذلك، أو هو على الأقل أن يكون بك استعداد (مَيل/نزوع) لأن
تفعل هذه الأشياء. إن كونك في ألمٍ، إذن، ليس مسألة امتلاكك عقلًا لا ماديًّا ينتابُه
ألم، إنه ببساطة مسألة سلوكك بطريقةٍ مميزة أو نزوعك (استعدادك) لهذا السلوك.
يقف أنصار نظرية الهُوِية
identity theory إلى جانب
السلوكيين ضد الفكرة الديكارتية القائلة بأن العقول هي جواهر لا مادية، ولكنهم يقفون
مع
الديكارتيين ضد الرأي السلوكي القائل بأن امتلاك عقل ليس أكثر من سلوك (أو استعداد
لسلوك) بطرائق معينة. ويُحاجُّ أصحاب نظرية الهوية بأن حالات العقل (مثل التألم،
أو
التفكير في فينا) هي حالاتٌ داخليةٌ حقيقية لكائناتٍ فاعلةٍ
٥ تمتلكها. هذه الحالات، كما سوف يَكشِف علمُ الأعصاب يومًا ما، هي حالاتُ
أدمغتِنا. الحالات العقلية متماهية مع (في هوية مع) الحالات الدماغية: حالات العقل
هي
حالات الدماغ. تَروق نظريةُ الهويةِ أيَّ شخص منجذب لفكرة أن العقول ما هي إلا الأدمغة،
ولكن نظرية الهوية، في الوقت نفسه، تَرِث المشكلاتِ المرتبطةَ بهذا المذهب، والتي
ذكرناها سابقًا.
أما الفصل الرابع فيتحول إلى المذهب الوظيفي
functionalism، الخَلَف التاريخي للسلوكية ونظرة
الهوية، والتصور الأوسع قبولًا عن العقل، بغير شك، في الوقت الحالي. يُوحِّد المذهبُ
الوظيفي حالاتِ العقل، لا مع حالات الأدمغة، بل مع الأدوار الوظيفية. فأن يكون بك
صداع
هو أن تكون في حالةٍ ما لها شروطُ مُدخَل-مُخرَج مميزة. (والمذهب الوظيفي في هذا
يشبه
صيغةً متأنِّقة من المذهب السلوكي.) يتسبب الصداعُ عن شرب الكحوليات، ونقص النوم،
وإجهاد العين، وما إلى ذلك، وينتج عنه استجاباتٌ مميزة تشمل، ولا يستغرقها، سلوكًا
ظاهرًا من الصنف الذي ركز عليه السلوكيون؛ مسك الرأس، الأنين، قول «بي صداع». وإلى
جانب
السلوكِ يؤدي الصداعُ إلى حالات عقلية أخرى. (وفي هذه الناحية يفترق الوظيفيون عن
الاعتقاد السلوكي بأن الدعاوي عن حالات العقل تقبل التحليل بالكامل إلى سلوك واستعدادات
سلوكية.) فقد يؤدي بك صداعُك إلى «اعتقاد» بأن بك صداعًا، مثلًا، وإلى «رغبة» في
الأسبرين.
في القلب من المذهب الوظيفي فكرة أن الحالات العقلية «قابلة لتعددية التنفيذ أو
التحقيق»
multiply realizable. أن تكون في حالةٍ عقلية
معينة هو أن تكون في حالة لها دورٌ مميز معين. غير أن صنوفًا شتى كثيرة يمكن أن تحقِّق
(تُنفِّذ) الدورَ نفسه. فمن الممكن أن تكون أنت، وأخطبوط، وأحد سكان ألفا سنتوري،
٦ في ألم، رغم اختلاف وظائف أعضائك عنهما اختلافًا بعيدًا (افترض أن
للألفاسنتوريين «بيولوجيا» قائمة على السليكون). فإذا كان التأَلُّم، كما يقترح أصحابُ
نظرية الهوية، هو فقط كون الشيء في نوع معين من الحالة النيورولوجية، تكون الأخطبوطات
والكائنات الألفاسنتورية، المفتقرة إلى فيزيولوجيا مثل فيزيولوجيتنا، غير قادرة على
التأَلُّم. ولكن هذا يبدو باطلًا.
من الصعوبات الظاهرة بالنسبة للوظيفيين صعوبةٌ يشاركون فيها السلوكيين وأصحاب نظرية
الهوية، وهي صعوبة إيجاد مكان لكيفيات الخبرة الواعية؛ منظر الأشياء، الأصوات المسموعة،
الملمس، وما إلى ذلك. اقترحَ بعضُ الوظيفيين أن هذه الكيفيات يمكن إقصاؤها بالتحليل؛
٧ فالدعاوي عن الكيفيات يمكن إثبات أنها لا تعدو أن تكون دعاوي عن اعتقادات
أو تمثيلات لكيفيات. وسلَّمَ وظيفيون آخرون بالكيفيات، ولكنهم يحاجُّون بأن ارتباطها
بحياتنا العقلية هو مجرد ارتباط عارض (طارئ)
contingent.
٨ فمن الممكن وجود مخلوقات لا فرق بينها وبيننا جسميًّا وسيكولوجيًّا، ولكنها
تخلو تمامًا من الخبرات الواعية. لا هذه الاستراتيجية ولا تلك خليقةٌ أن تَروقَ أيَّ
شخص ما لم يكن ملتزمًا مسبقًا بالمذهب الوظيفي.
ويتناول الفصل الخامس تصورَين «تأويليين»
interpretationist عن العقل. يعتبر التأويليون أن
امتلاك شخصٍ عقلًا ليس مسألة امتلاكه بنيةً مادية معينة (كما يذهب أصحاب نظرية الهوية)،
أو نوعًا معينًا من التنظيم الداخلي (كما يدعي الوظيفيون)، بل مسألة كون الشخص يمكن
أن
يوصف بطريقةٍ معينة. من صيغ المذهب التأويلي صيغة دافع عنها دونالد ديفيدسون
Donald Davidson، تركِّز على فئة واحدة من الحالات
العقلية، وهي «المواقف القضوية»
٩ propositional attitudes. تشتمل هذه
المواقف القضوية على الاعتقادات، والرغبات، والمقاصد. يُحاجُّ ديفيدسون بأننا حين
ينسب
بعضُنا إلى بعض مواقفَ قضوية فإننا نستخدم «نظرية تأويلية» محددة. هذه النظرية تضع
ضوابطَ مهمة على عمليات عَزو المواقف القضوية؛ فالاعتقادات، مثلًا، لا يمكن أن تُعزَى
إلا إلى كائنات تمتلك لغة، إلا إلى كائنات قادرة على وصف اعتقاداتها في لغة قابلة
للترجمة إلى لغتنا.
أما دانييل دينيت Daniel Dennette، فيدعو إلى صنف من
التأويلية مختلف بعض الشيء. وفقًا لدينيت فإن السؤال عما إذا كان كائنٌ ما (أو، حقًّا،
أي شيء على الإطلاق) يمتلك اعتقادًا مثلًا، يعود إلى نفع عملية عَزو الاعتقادات له.
فنحن نجد مفيدًا أن نصف الحاسوب (وحتى الثرموستات) بأنه يعتقد أشياء معينة. يعتقد
حاسوبُك أن الطابعةَ قد نفد ورقُها (وينبهك بالتالي إلى هذه الواقعة)، ويعتقد
الثرموستات أن الغرفةَ زائدةُ البرودة (وبالتالي يدير المدفأة). ومادامت نسبةُ (عَزو)
اعتقادٍ بهذه الشاكلة ذات نفع، فإن الحاسوبَ والثرموستات (والناسَ بالطبع وكثيرًا
من
الكائنات الأخرى) لديها اعتقادات. ليس ثمة سؤال عما إذا كان الثرموستات مثلًا لديه
اعتقادات حقًّا، أو عما إذا كان بوسعنا أن نعامله كما لو كان كذلك دون أن نتعرض
للمساءلة. كل ما هنالك من شيءٍ يتصل بامتلاكِ اعتقادٍ هو إمكانُ التعامل على هذا
الأساس.
وممارسة عَزو اعتقادات ورغبات ومقاصد، وفقًا لدينيت، عبارة عن اتخاذ موقف معين، هو
«الموقف القصدي» intentional stance. غير أننا إذ نتبع
العلمَ نجد فروقًا مدهشةً في استجابات الكائنات بعضها لبعض، واستجاباتها لبيئاتها.
وفهمنا لذلك يتطلب منا أن نتبنى «الموقف التصميمي» design
stance، وحين نفعل ذلك نكتشف أن الآليات المسئولة عن السلوك تختلفُ
عبر الأنواع اختلافاتٍ مهمة، فالأفعال التي لا يمكن التمييز بينها من المنظور القصدي
تبدو مختلفة جدًّا بمجرد أن نتأمل «تصميم» الكائنات التي تؤديها. وفي النهاية يفسح
الموقفُ التصميمي مجالًا ﻟ «الموقف الفيزيائي» physical
stance. وهذه هي النقلةُ مِن تأمل العَتاد الرخو (المرن)
software لكائنٍ ما، إلى النظر إلى عَتادِه الصلب
hardware. امتلاكُ عقلٍ، إذن، هو ببساطةٍ عبارةٌ عن
كون الشيء قابلًا للوصف من الموقف القصدي. يرى دينيت أن لغز كيف تتصل العقول بالأجسام
يتبدد بمجرد أن ندرك أن الحقائق المصوغة من الموقف القصدي يمكن أن تُفسَّر بالرجوع
إلى
الموقف التصميمي. ومن جهتها فإن حقائق الموقف التصميمي تتأسس في وقائع يُكشَف عنها
النقاب من داخل الموقف الفيزيائي.
يُختتَم الكتاب بفصل أَبسُط فيه، كما قلتُ آنفًا، وصفًا للعقل يقوم على أنطولوجيا
معينة. هذه الأنطولوجيا، التي تستغرق تفاصيلُها النصفَ الأول من الفصل، تَعتبِر
الأشياءَ هي الكيانات الأساسية. تمتلك الأشياءُ خَواصَّ
properties، وهذه الخواصُّ هي عندي تلك الطرائقُ
التي عليها الأشياء. فَكُرة البلياردو حمراء وكروية. إن حمرةَ الكرة وكرويتَها هما
طريقتان من الطرائق التي تكون عليها هذه الكرة (ولا شيء غيرها). تسهم كلُّ خاصة على
نحو
مميز في كيفيات الشيء، وفي قواه العِلِّية أو استعداداته. كلُّ خاصة هي حقًّا كيفيةٌ
واستعداديةٌ (نزوعية) في آن معًا.
من هذا الأساس أُشيِّد وصفًا للعقل يستغرق بقيةَ الفصل. التشييد اختباري وإجمالي،
ولكن فكرته الأساسية واضحة. والوصف يختلف عن المذهب الوظيفي — الذي أُحاجُّ بأن له
عيوبًا أنطولوجية كبيرة — وعن كلٍّ من التصورات الأخرى عن العقل المتناوَلة في الفصول
السابقة.
لي تعليق أخير. هذا الكتاب سيكون قد حقق غايتَه إذا نجح في إقناعكَ بأن أي وصفٍ
لِطبيعةِ العقل يتضمن مكوِّنًا ميتافيزيقيًّا مهمًّا. ولا يهمني بنفس الدرجة أن تتفق
معي في تفاصيل هذا المكوِّن. ففي اعتقادي، وفي منهجي في التفكير، أننا سنكون قد أحرزنا
تقدمًا معتبَرًا، لو أننا فقط أدركنا أن دراسةَ العقل تستلزم قدرًا من الجِدِّية
الأنطولوجية.