الفصل الثالث

ألوان من المذهب المادي: المذهب السلوكي ومذهب الهُوِية السيكوفيزيقية

في الفصل الثاني بدأنا بفحص رأي ديكارت القائل بأن العقول والأجسام المادية نوعان متمايزان من الجوهر. ثم فحصنا عددًا من الآراء المرتبطة به، تلك التي يمكن أن تُغزَلَ من نقطة بدايتنا الديكارتية عن طريق نَبذ أو تعديل واحدٍ أو اثنين من مكوِّناته. وفي هذا الفصل سوف أقوم بتفحص وصفين ماديين للعقل.

ينكر الماديون أن العالم يتضمن كلا الجوهرين العقلي والمادي، فكلُّ جوهرٍ هو جوهرٌ مادي. والعقولُ مصمَّمة، على نحوٍ ما، من نفس المواد المصنوع منها الصخور والأشجار والنجوم. فإذا أخذنا الجسيمات الأساسية التي تكوِّن الأشياءَ غيرَ الحية ونظمناها على النحو الصحيح فالنتيجة تكون مخلوقًا ذا عقل. العقل ليس كيانًا منفصلًا غير مادي، وإنما هو مادة فحسب منظمة على نحوٍ ملائم.

للمذهب المادي تاريخٌ طويل. كان ديمقريطس Democritus (c. 460–370 BC) يصف العالمَ كانتظامٍ عابرٍ من ذراتٍ تُدَوِّم في الخَلاء. وكان هوبز Hobbes (١٥٨٨–١٦٧٩) ولامتري La Mettrie (١٧٠٧–٥١) يعتبران الظواهرَ العقليةَ تفاعلاتٍ آليةً لمكوِّناتٍ مادية لا أكثر. وفي أيامنا هذه ثمة ماديةٌ من نوعٍ أو آخر تُؤخَذ مأخذَ التسليم في أغلب الأحيان. ومن الواضح أن الاعتقادَ بأن العقولَ هي الأدمغةُ فحسب هو اعتقادٌ واسعُ الانتشار. أما وصف فرنسيس كريك Francis Crick مؤخرًا لهذا بأنه «الفرضية العجيبة» the astonishing hypothesis فهو يتحدى خبرتي شخصيًّا مع طلاب الفلسفة غير المتخرجين، الذين يستخدمون، فيما يبدو، كلمتَي «عقل» و«دماغ» على التعاوض.١

ورغم أن كثيرًا من الفلاسفة قد يصفون أنفسَهم، إذا ألححتَ عليهم، بأنهم ماديون، فإن المادية تأتي بنكهاتٍ مختلفة. ومن شأن الاختلافات بين الماديين أن تُغَشِّي على اتفاقهم في رفض الثنائية. وقد أدى عدم الارتياح للافتراضات المادية في السنوات الأخيرة إلى انبعاثٍ جديدٍ للاهتمام بصورٍ من الثنائية. ومن عجبٍ أن كثيرًا من هذا الاهتمام قد وَلَّدَه العملُ في علوم الأعصاب حيث صعوباتُ التوفيق بين خصائص المنظومات المادية المعقدة وخصائص الخبرات الشعورية شديدةٌ للغاية.

في هذا الفصل سأعرض بالفحص اثنين من طلائع الخلاف المعاصر؛ السلوكية، ونظرة هُوِية العقل-الدماغ. والسلوكية behaviorism كمذهبٍ فلسفي معاصر عن طبيعة العقل تختلف عن السلوكية كحركةٍ في علم النفس. تتعلق السلوكية الفلسفية بدعوى عن طبيعة العقل ومعاني الحدود (المصطلحات) العقلية. أما السلوكية السيكولوجية فتنجم من تصورٍ معين للمنهج العلمي كما يُطَبَّق في علم النفس. هذا الصنف من السلوكية ساد العملَ التجريبي في علم النفس حتى الستينيات من القرن العشرين حيث أَفَلَ نجمُه بظهور نموذج معالجة المعلومات، وهو نموذجٌ أَلهَمَه مَجِيءُ الآلة الحاسبة (الحاسوب).

قَلَّما تكون العلاقةُ بين الفلسفةِ والعلومِ التجريبية واضحةً مستقيمة. لقد أَسهَمَ فلاسفةُ العقل، مِن جهةٍ، إسهامًا مهمًّا في تشكيل التصورات الخاصة بالعقل التي ترشد الباحثين التجريبيين. ومن جهةٍ أخرى فقد طَفِقَ الفلاسفةُ يعيدون تقييمَ نظرياتِ كلِّ فترةٍ في ضوء مستجدات التقدم في العلوم. من نتائج ذلك أن تجد التأثيراتُ الفلسفية على العلوم طريقَ عودتِها ثانيةً إلى الفلسفة، وعندما يحدث ذلك فقد تكتسب دعوى فلسفيةٌ ما، دون وجهِ حق، سيماءَ هيبةٍ تجريبيةٍ في عقول الفلاسفة الحريصين على اعتناقِ أحكامِ العِلم.

لم يتفطن الفلاسفةُ أحيانًا، في غَمرةِ إعجابِهم بالسلوكية في علم النفس، إلى أن التصوراتِ السلوكيةَ للعقل كانت، إلى حَدٍّ كبير، نِتاجًا لِتَصَوُّرٍ فلسفي معين للمنهج العلمي. وللسخرية فإن جذورَ هذا التصورِ تكمن في تقليدٍ وضعي لم يكن جديرًا بأن يَروقَ هؤلاء الفلاسفةَ أنفسَهم. من الدروس المستفادة من ذلك أنه من الخطأ بالنسبة لفلاسفةِ العقل أن يَقبَلوا دون تمحيصٍ ودون إنعامِ نظرٍ دعاوي صادرةً من علم النفس أو من علوم الأعصاب.

السلوكية

كانت دراسةُ العقلِ حتى القرن العشرين يُفترَض لها أن تدور حول دراسة الحالات والعمليات الشعورية (الواعية). وكان الأفراد المشاركون في التجارب السيكولوجية (وهم في الأغلب القائمون بالتجربة أنفسُهم أو تلاميذُهم) مدرَّبين على أن «يستبطنوا» introspect ويَروُوا مظاهرَ خبراتِهم الشعورية (الواعية). في هذه البيئة كان الخيالُ الذهني والكيفيات الدقيقة للأحداث الحِسية تحتل موقعًا مركزيًّا.
وفي الوقت نفسِه كان السيكولوجيون مهتمين بدمج دراسة العقل بدراسة الدماغ. وقد كان جَلِيًّا من زمنٍ طويلٍ أن الوقائع في الدماغ والجهاز العصبي مرتبطةٌ ارتباطًا وثيقًا بالمجريات العقلية، وكانت الصعوبة تكمن في فهم طبيعة العلاقة بين العقول والأدمغة فهمًا دقيقًا. إن من المُغرِي أن تعتقد أن العقول minds (أو الأنفس selves، وسوف أظل أستخدم اللفظين على التعاوض دون أن أقصد بذلك أن أُومئَ إلى أنهما مترادفان) هي الأدمغة brains لا أكثر. غير أن خواص الأدمغة تختلف فيما يبدو اختلافًا مهمًّا عن خواص العقول. فأنت عندما تمر بخبرةٍ شعوريةٍ تكون على درايةٍ واضحة بخصائص تلك الخبرة. وعندما نفحص دماغًا حيًّا فإن الخصائص التي نشاهدها تبدو مختلفةً تمامًا. تأملْ ماذا يشبه أن يكون (what it is like) أن تعاني صداعًا. ثم تخيلْ أن بوسعك أن تُحَدِّقَ إلى دماغ شخصٍ يعاني صداعًا. إن ما تلاحظه، حتى بمساعدة أجهزةٍ تكشف البِنيةَ الدقيقةَ للدماغ، لَيختلف كليًّا عما يشعر به المصاب بالصداع. تخيلْ عالِمَ أعصاب على معرفة وثيقة بفيزيولوجيا الصداع ولكنه لم يَخبُر في حياتِه صداعًا قَط. ثمة فيما يبدو شيءٌ ما يفتقر العالِمُ إلى معرفته، خصيصةٌ ما، لم يصادفْها ولا بِمُكنَتِه أن يصادفَها بمجرد تَفَحُّص الدماغ. غير أن هذه الخصيصةَ ليست بذلك خصيصةً نيورولوجية. عندما ننظر إلى الأمر بهذه الطريقة لا يسعنا إلا أن نستنتج أن الخصائص العقلية ليست خصائص دماغية، وبالتالي أن العقول ليست الأدمغة.٢
إذا كان هذا غيرَ كافٍ، فيَجمُل بنا أن نُذَكِّرَ أنفسَنا أننا نتمتع حقًّا بنوعٍ من «المَنفَذ» access إلى خبراتنا الواعية غيرِ متاحٍ للآخرين على الإطلاق. إن خبراتك «ذات خصوصية» private، ودرايتك بها مباشِرة ومُتَنَفِّذة، أما درايتي أنا بخبراتك فهي، في المقابل، غيرُ مباشرة واستدلاليةٌ وسهلةُ الإلغاء. فعندما يكون بك صداع، أو عندما تكون في ذهنك صورة جَدَّتِك، أو عندما تقرر أن تمشط شعرك، فأنت في موقعٍ يتيح لك التمييز مباشرةً، ودونما حاجةٍ إلى دليل أو ملاحظة، بأن بك صداعًا أو بأنك تتخيل جدتك أو بأنك قررتَ أن تمشط شعرك. أما أنا فلا أَملِكُ إلا أن أستدل على حالتك الذهنية عن طريق ملاحظة سلوكك (بما فيه سلوكك اللفظي، إذ يمكنني أن أستفهم منك). وإذا كانت المجرياتُ العقلية متلازمةً مع عملياتٍ نيورولوجية، فإن بوسعي من ثم أن أستدل على حالة عقلك بملاحظة دماغك. إلا أن مَنفَذي إلى تلك الحالة لايزال غيرَ مباشر. إنني أستنتج (أستدِل على infer) حالة ذهنِك عن طريق ملاحظة مُلازِمٍ correlate نيورولوجي، فأنا لا أشاهد حالتَك الذهنية.
كل هذا هو بالضبط ما يجب أن نتوقعه إذا ما كانت الثنائيةُ على حق. ولكن الثنائية، أو الثنائية الديكارتية على كل حال، تؤدي بشكلٍ واضح إلى انشعابٍ في دراسة الكيانات الفاعلة agents الذكية. فيمكننا دراسة بيولوجيا وفيزيولوجيا هذه الكيانات الفاعلة، ولكننا في فِعلنا هذا نغفل عقولَها، أو يمكننا دراسة عقولها متغافلين عن تركيبها المادي.
غير أننا الآن بإزاء مشكلة؛ فالعلم مقصورٌ على اقتفاء الأحوال «العامة» public الموضوعية. والحالة الموضوعية يمكن أن تُفهَم من أكثر من منظورٍ واحد، وبواسطة أكثر من ملاحِظٍ واحد. إلا أن محتوياتِ عقلِك قابلةٌ للملاحظة (إذا صَح هذا التعبير) من جانبك أنت فقط. وسَبيلِي إلى هذه المحتويات هو من خلال ملاحظات لما تقول وتفعل. وهذا فيما يبدو يضع العقولَ خارجَ نطاق البحث العلمي. بإمكاننا أن ندرس الأدمغة، وقد نستنتج أن أنواعًا معينةً من المجريات النيورولوجية ترتبط بأنواع معينة من المجريات العقلية. ومن شأن هذا أن يُمَكِّننا من أن نستدل على الحالات الذهنية عن طريق ملاحظة نشاط الدماغ. ولكننا لا يكون لنا أن نشاهد أو نقيس تلك الحالات الذهنية نفسها، باستثناء حالتنا نحن الخاصة.

الخصوصية ومترتباتها

ما إن نَشرَع في المضي في هذا الطريق حتى نكون عُرضةً للشك في أن الحالات الذهنية — كشيءٍ مختلف عن مُلازِماتِه الفيزيولوجية — هي موضوعٌ يصلح للدراسة العلمية. وفي النهاية، فإن فكرة أننا حتى في موقع يتيح تأسيس ترابطات بين وقائع عقلية ومجريات في الجهاز العصبي، هذه الفكرةُ نفسُها يمكن أن تغدو موضعَ شك. تخيلْ أنك في كل مرةٍ تَخبُر فيها نوعًا معينًا من الخبرة (ولتكن رؤية درجة معينة من الحمرة، حمرة طماطمة ناضجة مثلًا) تعتري دماغَك حالةٌ معينة، «س». كذلك كلما اعترت دماغَك الحالةُ «س» فأنت تَخبُر نفسَ الدرجة من الحمرة. إنه لَيبدو كأن هناك بالضرورة ارتباطًا بين الخبرات التي من هذا النوع وبين حالاتٍ نيورولوجية من النوع «س».

افترض الآن أنك تلاحظ دماغي في الحالة «س». وأنا أُعلِنُ أني أَخبُر درجةً معينةً من الأحمر، درجةً أَصِفُها بأنها حمرةُ طماطمةٍ حمراء. قد يبدو أن هذا يقدم دليلًا ثانيًا على الترابط الملاحَظ للتو في حالتك. ولكن هل هذا صحيح؟ في حالتك أنت، فإن لديك مَنفذًا إلى كلٍّ من حالتك الذهنية ومُلازِمِها النيورولوجي. أما حين تلاحظني، فإن لديك مَنفذًا إلى حالتي النيورولوجية فحسب، فكيف يحق لك أن تفترض أن حالتي الذهنيةَ تماثل حالتَك؟

صحيحٌ أنني أصف خبرتي كما تصف خبرتَك بالضبط، وأننا متفقان في أننا نَخبُر لونَ طماطم ناضج. إلا أن هذا، بالطبع، هو كيف تَعَلَّم كلانا أن يحدد خبرته الشخصية. إن لديَّ نوعًا معينًا من الخبرة البصرية عندما أشاهد طماطمةً ناضجة في ضوء الشمس الساطع، وأنا أصف هذه الخبرةَ على أنها ذلك النوع من الخبرة التي تكون لديَّ عندما أشاهد طماطمةً ناضجةً في الشمس الساطعة. وأنت لديك نوع معين من الخبرة عندما تشاهد طماطمةً ناضجة تحت ظروف مماثلة للمشاهدة، وقد تعلمتَ أن تصف هذه الخبرةَ على أنها ذلك النوع من الخبرة التي تكون لديك عندما تشهد طماطمةً ناضجةً في الشمس الساطعة. ولكن كيف يحق لأيٍّ منا أن يقول إن الخبرتين الموصوفتين بذلك متماثلتان تمامًا؟ فلعل خبرتَك أَشبَهُ بالخبرة التي قد تُلِم بي إذا ما شاهدتُ ليمونةً في الشمس الساطعة. إن وصفينا متفقان تمام الاتفاق، ولكن الحالة الذهنية التي أصفها أنا تختلف اختلافًا كيفيًّا كبيرًا عن حالتك أنت.

يبدو، إذن، أن محاولات الربط بين أنواعٍ من المجريات النيورولوجية وأنواعٍ من المجريات العقلية تتبخر إلى ارتباطات بين مجريات نيورولوجية وأوصافٍ لوقائع عقلية. إننا نتعلم أن نصف كيفيات حالاتنا الذهنية بالإشارة إلى أشياء قابلة للملاحظة اعتدنا منها أن تثير هذه الحالات. وهذا يترك الاحتمالَ مفتوحًا بأنه بينما تتطابق أوصافُنا لهذه الحالات، فإن الحالاتِ نفسَها تختلف اختلافًا شديدًا.

قد يبدو هذا قلقًا لا داعيَ له، مجرد احتمالٍ فلسفي خالص. ولكنْ سَلْ نفسَك: هل من مبرِّرٍ لديك لكي تعتقد أن حالاتك الذهنية تماثل كيفيًّا الحالات الذهنية للآخرين؟

ليس الأمرُ كما لو أنك لاحظتَ الحالات الذهنيةَ للآخرين واكتشفتَ أنها تُطابِق حالاتِك، فليس لديك أي مثال على هذا التطابق. أم لعلك تستدل استدلالًا استقرائيًّا من خصائص حالتك إلى خصائص الآخرين؟ (الاستدلالُ الاستقرائي احتماليٌّ؛ فنحن نستدل من خصائص عينةٍ sample من مجتمعٍ أصلي مدروس a population إلى خصائص هذا المجتمع ككل.) ولكن قوانين الاستدلال الاستقرائي تُحَرِّم الانتقالات الاستدلالية من فردٍ واحد إلى مجتمعٍ كلي ما لم يكن من الواضح أن الفرد ممثِّل representative للمجتمع.٣
غير أنك إذا افترضتَ أن خصائصَ حالاتك الذهنية ممثِّلةٌ تكون بالضبط قد افترضتَ ما شَرَعتَ في إثباتِه.٤
هذه المشكلة التي نحن بصددها هي المشكلة القديمة، «مشكلة العقول الأخرى»٥  problem of other minds: إذا كان لك أن تعرف عقلَكَ الخاص، فكيف يتأتَّى لك أن تعرف عقولَ الآخرين؟ الحق أنه ما إن نضع المشكلةَ على هذا النحو حتى يتبدى لنا أنها أعمقُ مما كنا نظن. كيف يمكنك أن تعرف أن للآخرين عقولًا على الإطلاق؟ إنهم يسلكون بطرائق مماثلة للطرائق التي تسلك بها، وإنهم يُصِرون على أن لديهم آلامًا وخيالاتٍ ومشاعرَ وأفكارًا. ولكنْ ما هو مبرِّرُك لأن تفترض أنهم كذلك؟ فلا هو بإمكانك أن تشاهد الحالات الذهنية للآخرين، ولا أنت لديك أسسٌ استقرائيةٌ كافيةٌ لاستدلال أنهم يتمتعون بحياةٍ ذهنيةٍ من خلال ما يمكنك ملاحظتُه عنهم.
ثمة الْتفافٌ حديثٌ على هذا اللغز القديم بإدخال إمكانية «الزومبيات» zombies، بمعنى كائنات مماثلة لنا من كل الجوانب المادية إلا أنها خِلوٌ تمامًا من الخبرات الواعية. هذا شيءٌ يمكن تصورُه بوضوح، وهذه القابلية الظاهرة للتصور أقنَعَت بعضَ الفلاسفة بأن ثمة «فجوةً تفسيريةً»٦  explanatory gap لا يمكن عبورُها بين الكيفيات المادية وكيفيات الخبرة الواعية.

لعل صَبرَكَ قد بدأ يَنفَدُ تجاه هذا الخط من التفكير. نحن بالطبع نعرف أن للآخرين حيواتٍ ذهنيةً مماثلةً لحيواتنا من جهاتٍ عديدة، ومختلفة أيضًا، وبالإمكان أيضًا أن نعرف ذلك. حسنًا، ولكن من الصعوبة أن نرى كيف يمكن تبرير هذه الثقة ما دمنا قد قَبِلنا فكرةَ أن العقول ومحتوياتها شأنٌ خصوصيٌّ غيرُ قابلٍ للتَفَحُّص العام.

الجُعرانُ في العلبة the beetle in the box

ربما تكون نقطة بدايتنا هي المسئولة عن المأزق الذي نحن فيه. لقد وَجَّه خُطانا في مسلكنا إلى الحديقة تصورٌ معينٌ عن العقل موروثٌ من ديكارت. فإذا بدأنا في وضع هذا التصور موضع الشك فقد يتسنى لنا أن نرى طريقنا بوضوح إلى حل لمشكلتنا، حل أكثر توافقًا مع فكرة حِسِّنا المشترك بأن بوسعنا أن نعرف أن الآخرين لديهم عقول، وأن عقولهم تماثل عقولنا.

في كتابه «بحوث فلسفية» (١٩٥٣–١٩٦٨م)، يقدِّم فتجنشتين Wittgenstein (1889–1951), § 293 مماثلةً مُقنِعة:

افترض أن كل شخص لديه علبة فيها شيءٌ ما، ونحن نسميه «جعرانًا». ليس بِمُكنةِ أحدٍ أن ينظرَ في علبةِ أي شخص آخر، وكل واحد يقول إنه يعرف ما هو الجعران بالنظر إلى جعرانِه فحسب. هنا يجوز تمامًا أن يكونَ لدَى كل واحد شيءٌ ما مختلفٌ في علبته، بل يمكن للمرء أن يتخيل أن هذا الشيءَ دائبُ التغير.

الصورةُ هنا تماثل صورةَ العلاقة التي نحملها لحالاتِ عقلِنا وحالاتِ عقولِ الآخرين التي ما زلنا نسلِّم بها.

يُحاجُّ فتجنشتين ضد هذه الصورة، لا بتقديم اعتباراتٍ تتضمن زيفَها، بل بإثبات أن قبولنا لها يؤدي إلى نتيجة مُفارِقة paradoxical، فإذا كانت هذه هي العلاقة التي نحملها لحالاتِ عقلِنا وعقولِ الآخرين، فلن يكونَ لدينا أيُّ طريقة للإشارة إلى هذه الحالات:

افترضْ أن كلمة «جعران» لها استعمال في لغة هؤلاء الناس. إذا صح ذلك فلن تُستخدم كاسمٍ لشيء. الشيء الذي في العلبة لا مكان له في لعبة اللغة على الإطلاق، ولا حتى كشيءٍ ما، فقد تكون العلبة حتى فارغة. لا أحد يستطيع أن يلعب بالشيء الذي في العلبة، فهو مُبطَلٌ لاغٍ أيًّا ما كان. يعني هذا أننا إذا أعربنا النحو الخاص بالتعبير عن الإحساس وفقًا لنموذج «الشيء والتلقيب»، فإن الشيء يسقط من الاعتبار على أنه غيرُ ذي صلة.

ماذا يريد فتجنشتين أن يقول؟ أنتَ تروِي أن علبتك تحتوي على جعران. وإن روايتَك لَملائمةٌ تمامًا. لقد تَعَلَّمتَ أن تستخدم كلمة «جعران» بالضبط بهذه الطريقة. افترض الآن أن الشيءَ الذي في علبتي مختلفٌ جدًّا عن الشيء الذي في علبتك. لو أننا كنا نملك مقارنة الشيئين لكان هذا واضحًا، غير أننا لم نكن قط في وضعٍ يتيح مقارنتَهما. افترض الآن أنني أروي أن علبتي تحتوي على جعران. إنني في فعلي هذا أستخدم كلمة «جعران» كما تَعَلَّمتُ استخدامها بالضبط. فعبارتي، شأنها شأن عبارتك، صحيحةٌ تمامًا.

افترض الآن أن كلًّا منا يقول إن علبتينا على التوالي تحتويان على جعران. هل أخطأ أيٌّ منا؟ كلا. يحاجُّ فتجنشتين أنه في هذا الموقف المتخيَّل تُستخدَم لفظة «جعران» بطريقةٍ لا يُحدِث فيها ما هو بداخلِ علبةِ أي شخصٍ أيَّ فارق؛ إذ تعني «جعران» في لهجتنا المتخيَّلة، على التقريب، «أيما شيءٍ يكون داخل العلبة». أن تتساءل عما إذا كان جعرانك يماثل جعراني هو إساءةٌ لفهمِ هذا الاستخدام للفظة «جعران». إنك إذن تعامل لفظة «جعران» كما لو أنها تسمِّي أو تُلَقِّب نوعًا من الأشياء أو الكيانات، إلا أن وجه الأمر أن «جعران» تُستخدم بطريقةٍ «تُسقِط الشيء من الاعتبار على أنه غير ذي صلة».

إن فكرة فتجنشتين ليست مجرد فكرة لغوية. فأية أفكار قد نضمرها وقد نعبر عنها باستخدام لفظة «جعران» يَلحقها نفس القيد. تلك الأفكار يتكشف أنها لا تتعلق بنوعٍ معين من الكيانات. وبتعبير آخر: إذا كانت لفظة «جعران» لا تشير إلى كيانات من صنفٍ معين، فكذلك، إذن، الأفكار المُعَبَّر عنها طبيعيًّا باستخدام لفظة «جعران».

السلوكية الفلسفية

كيف يمكن للأنالوجي أن يمتد إلى حالات العقل؟ إنك تستجيب وأنت طفلٌ بطرقٍ متعددة لما يحيط بك. في بعض الأحيان تئنُّ وتدعكُ رأسَك، فيخبرك الكبارُ بأن ما تعانيه يسمَّى صُداعًا. وغيرُك يتعلمون أن يستعملوا لفظة «صداع» على نحو مماثل. فهل «صداع» تُسمِّي نوعًا من الكِيان أو الحالة؟

ربما لا. ربما حين تنبئني بأن لديك صداعًا فأنت لا تُفرِد أيَّ شيءٍ محدد أو حالة خصوصية على الإطلاق (اذكرْ حكاية الجعران)، بل تُثبِت صداعَك فحسب. لقد تدرَّبتَ بطريقةٍ معينة. عندما تُدفَع إلى أن تئن وتدعك رأسك فأنت، من جراء هذا التدريب، تُدفَع أيضًا إلى أن تَفُوه بالكلمات «عندي صداع». إن الطابع الخاص لتلك الحالة قد يكون مختلفًا من فردٍ إلى آخر. وقد يتغير بشكلٍ مستمر، أو حتى، في بعض الحالات (الزومبيات؟) قد يكون غائبًا كليًّا. إلا أن وظيفة كلمة «صداع» ليست تسمية هذا الطابع الخاص، إنه «يسقط من الاعتبار على أنه غير ذي صلة».

افترضْ أن هذا الوصف لاستخدامنا كلمة «صداع» انطبق على معجمنا العقلي بعامة. إن الحدود (المصطلحات) العقلية، إذن، لن تُستخدَم لتسمية أنواعٍ من الكيانات أو الأحداث الخصوصية المماثلة كيفيًّا كما يريد لها ديكارت أن تكون. إن دورها جِد مختلف. وفي تلك الحالة فإن السؤال عما إذا كانت الحالة التي تسميها أنت ﺑ «الخبرة التي لديَّ عندما أشاهد طماطمةً ناضجة في ضوء الشمس الساطع»، تُضاهي كيفيًّا الحالة التي أسميها أنا عندما أستخدم نفس التعبير، هذا السؤال لا يمكن أن ينطرح. فطرحُ السؤال يعني إساءة تَصَوُّر خصائص المصطلحات العقلية، وبالتالي الهُراء التام.

هذا الخط من التفكير يدعم ما يُسمَّى في كثير من الأحيان ﺑ «السلوكية الفلسفية» philosophical behaviorism (وقد سمَّاه هكذا معارضوه، فقلما أَطلقَ أحدٌ من الفلاسفة الذين جرى العُرفُ بأنهم من هذا الفَصيل على نفسه هذا اللقب). يذهب السلوكيُّ الفلسفي إلى أن التصور الديكارتي للعقل يقع في خطأ أساسي، فالعقول ليست كيانات entities (سواء جواهر ديكارتية أو أدمغة)، والأحداث العقلية ليست مجريات خصوصية داخل هذه الكيانات. إننا ننجذب إلى الصورة الديكارتية لا لشيءٍ إلا لأننا مضَلَّلون بما يسميه فتجنشتين ﺑ «نحوِ لغتنا» grammar of our language.
ما دمنا نُطلِق لغتَنا في حياتنا اليومية فنحن نَخوضُ مسارَنا بِمَنجاةٍ من الأحاجي الفلسفية. تَدِينُ الكلماتُ بدلالتها ﻟ «الألعاب اللغوية» language games التي نلعبها بها. يتطلب الفهمُ القويمُ لأي لفظة (ومن ثم المفهوم الذي تعبر عنه) فهمًا للدور (أو الأدوار) التي تلعبها في هذه الألعاب اللغوية. إلا أننا عندما ننخرط في الفلسفة نكون عُرضةً لأن تضَلِّلنا حقيقةُ أن كلمة «عقل»، شأنها شأن «دماغ» و«بسبول»، هي substantive noun (اسم كينوني أو وجودي). نحن نفكر أن «عقل» تسمِّي بالضرورة نوعًا من الكيان، وأن ما نطلق عليه الأفكار والإحساسات والمشاعر، يشير إلى حالات أو modes٧ لهذا الكيان متماثلة كيفيًّا. ولا يمكننا تجنب الخلط إلا بالنظر المدقِّق في الطريقة التي نطلق بها ألفاظنا بالفعل في الظروف الاعتيادية.
هذه الوصفة يعمد فتجنشتين إلى تطبيقها على الفلسفة بصفة عامة. فالمشكلات الفلسفية تنجم «عندما تأخذ اللغة إجازة»، عندما نفقد الاتصال بالطريقة التي تُستعمَل بها ألفاظنا بالفعل. فنحن في تفاعلاتنا اليومية بعضنا مع بعض لا تشكل لنا لغزًا قدرتنا على أن نعرف ماذا يشعر الآخرون أو فيمَ يفكرون. تنجم المشكلة الفلسفية الخاصة بالعقول الأخرى عندما نحرف كلمة «عقل»، «فكر»، «شعور»، وأشباهها من سياقاتها التي تُوَظَّف فيها طبيعيًّا، ونحَمِّلها تأويلًا خاصًّا، ثم نَخبِط في الأحاجي التي تَنتُج.٨
يتوسع جلبرت رايل Gibert Ryle (١٩٠٠–٧٦) في نقطة فتجنشتين. فَوَفقًا لرايل، فإن افتراض أن العقول أنواع من الكيانات يبلغ أن يكون «خطأً مقوليًّا»٩  category mistake: «فهو يُمَثِّل حقائق الحياة العقلية كما لو كانت تنتمي إلى نمطٍ منطقي أو مقولةٍ معينة، بينما هي تنتمي في حقيقة الأمر إلى نمطٍ آخر أو مقولةٍ أخرى» (p. 16, 1949). افترضْ أني آخذك في جولةٍ أُطلِعُكَ فيها على جامعتي. فنتمشَّى خلال الساحات، وأُرِيكَ المبانيَ الأكاديمية والإدارية المختلفة، وآخذك إلى المكتبة، وأقدمك إلى الطلبة وأعضاء الكلية. وبعد ذلك أسألك عما إذا كان ثمة أي شيء آخر تَوَد أن تراه. فترد: «حسن، لقد أطلعتَنِي على الأراضي والمباني الدراسية والإدارية والمكتبة والطلبة والكلية، ولكنك لم تُطلِعني على الجامعة، وأنا أحب أن أراها.» لقد ارتكبتَ خطأً مقوليًّا؛ إذ أخذتَ لفظةَ «جامعة» لتشير إلى كيانٍ شبيه — وإن يكن متمايزًا عن — بتلك الأشياء التي رأيتَها للتو.
إذا أنت بقيتَ على الاعتقاد بأن «الجامعة» تشير إلى كيانٍ ما، رغم استحالة أن تقابل هذا الكيان، فقد تكون تصورتَ أن الكيان المَعنِي كيانٌ «لا مادي». يقول رايل إن خطأً مماثلًا يشجع على الثنائية الديكارتية، فنحن نبدأ بفكرة أن العقول هي كيانات متمايزة عن ولكن شبيهة بالأدمغة والأجسام. وعندما يتعذر علينا تحديد موضع هذه الكيانات في العالم المادي فنحن نفترض أنها لا بد كيانات لا مادية. نحن نرى العقل، على حد تعبيرة رايل الحية، على أنه الشبح (العفريت) في الآلة the ghost in the machine. ولكن العقول ليست كيانات على الإطلاق، شبحية أو غير شبحية. وهذه حقيقة ينبغي أن ندركها على الفور لو أننا وضعنا نُصبَ أعينِنا الطريقةَ التي تعمل بها لفظة mind (عقل) في الإنجليزية العادية.

«إن الأخطاء المقولية المثيرة نظريًّا هي تلك التي يرتكبها الأشخاص الذين هم على كفاءة تامة في تطبيق المفاهيم، على الأقل في المواقف المألوفة لديهم، ولكنهم لايزالون عُرضةً في تفكيرهم التجريدي لأن يُقَيِّضوا تلك المفاهيم لأنماطٍ منطقية لا تنتمي إليها.»

(p. 17, 1949)
وفي خطرٍ من خلط الأمور بتكديس مماثلات (analogies) فوق مماثلات، قد يُسعِفنا هنا مثالٌ لِفتجنشتين. افترضْ أنك تنظر إلى مكان القيادة من قاطرة (أو قمرة طائرةٍ نفاثة). إنك ترى روافع وعُقَدًا وأزرارًا ومفاتيحَ تحويل. كل واحدة من هذه تعمل بطريقةٍ معينة (البعضُ يُدار، والبعضُ ينزلق للوراء والأمام، والبعضُ يُدفَع أو يُجذَب)، ولكل واحدة وظيفةٌ معينة في عمل القاطرة (أو الطائرة). ونحن نكون مضلَّلين بالضرورة إذا افترضنا أن الروافع والعُقَد المتماثلة شكلًا لها وظائف متماثلة. وبنفس القياس، فإن حقيقة أن لفظة «عقل» اسم، أو أننا نتحدث عن «حالات عقلية»، ينبغي ألا تؤدي بنا إلى أن نفترض أن لفظة «عقل» تقوم بتسمية كيانٍ معين، وأن الحالات العقلية هي حالات هذا الكيان.
إذا كانت كلمة «عقل»، مثل كلمة «جامعة»، لا تقوم بتسمية نوعٍ معين من الكيان المادي أو اللامادي («الشبحي»)، فكيف تقوم بوظيفتها؟ لعلنا ننسب العقولَ للكائنات ذات القدرة على أن تسلك، كما يجب أن نقول، «بذكاء». يمتلك المخلوق عقلًا لا بفضل كونه مجهزًا بنوعٍ فريد من المكوِّن الخصوصي — أي عقله — بل بفضل كونه ذلك النوع من الكائنات القادر على الانخراط في سلوكٍ يُظهِر درجةً من التلقائية والتنظيم المعقد نسبيًّا. ومن جانبها، فإن الحالات الذهنية — الصداع، المقاصد، الاعتقادات — مملوكة لكائناتٍ بفضل ما تفعله أو تود أن تفعله. فاعتقادك أن هناك دُبًّا في طريقك، مثلًا، عبارة عن اتخاذك إجراءات مراوِغة مناسبة، أي تصديقك على «ثمة دُبٌّ في الطريق» وما إلى ذلك. ونِيَّتُك أن تحضر اﻟ World Series عبارة عن كونك مدفوعًا إلى شراء تذاكر وترتيب وسيلة انتقال وإعلانك: «أنا ذاهب إلى اﻟ World Series» وهكذا. (في الفصل الخامس سنلتقي بصيغة دانييل دينيت المُحَدَّثة لهذه الوجهة من الرأي.)
وفقًا لرأيٍ من هذا النوع، فإن الكائن الفاعل يَصِحُّ وصفُه ككائنٍ لديه حالاتٌ عقلية، ليس فقط بفضل ما يفعله هذا الفاعل، بل أيضًا بفضل ما يود أن يفعله، ما لديه «استعداد» disposition لأن يفعله. وهكذا إذا كان لديك صداع فقد يكون لديك استعداد لأن تئن وتدعك رأسك وتبحث عن أسبرين وتعلن: «عندي صُداع». إلا أنك قد لا تفعل شيئًا من هذه الأشياء، تخيلْ مثلًا أنك لا تريد أن يعرف أحدٌ أن عندك صداعًا، في هذه الحالة، فرغم أن بك نزوعًا (استعدادًا) إلى السلوك بطرائق معينة، فأنت لا تسلك بهذه الطرائق.

ولكننا الآن بإزاء سؤال جديد. ماذا يعني أن يكون لديك «استعداد» لأن تسلك بطريقةٍ معينة؟ ما هي الاستعدادات؟ إن الزَّهرية الهشة لديها استعداد للكسر. وفي انكسارها، عندما تُضرَب بحديدة إطارات، على سبيل المثال، فإنها تُظهِر هذا الاستعداد. وبلورة الملح لديها استعداد للذوبان في الماء، وفي ذوبانها عند وضعها في الماء فإنها تُظهِر قابليتَها للذوبان. غير أن الشيء يمكن أن يمتلك استعدادًا دون إظهار هذا الاستعداد؛ فالكوب الهَش ليس لِزامًا أن ينكسر على الإطلاق، وبلورة الملح ليس لزامًا أن تذوب.

وسيكون لديَّ المزيد لأقوله عن الاستعدادات في فصولٍ قادمة (انظر بخاصة الفصلَ السادس)، أما الآن فلا يهمنا إلا أن ندرك أن أي صيغة مقبولة عن السلوكية الفلسفية لا بد لها من أن تَعرِض لموضوع الاستعدادات. تقوم الاستعدادات (بين أشياءَ أخرى تقوم بها) بِمَلءِ الوَهدة بين ما أفعله وما بِمُكنتي أن أفعله. من المفترض أنني أفعل ما لديَّ استعدادٌ لفعله، ولكني قد يكون لديَّ استعدادٌ لفعلِ أشياء كثيرة لا أفعلها على الإطلاق لأن فرصةَ فعلِها لم تأذن، أو لأن استعداداتٍ منافِسةً قد طَغَت عليها. قد يكون لديك استعداد لأن تسلك بشجاعة عندما تواجَه بخطرٍ، ولكنك تقضي عمرَك في سكينةٍ مُخَيِّمة، وهذا لا ينتقص بالضرورة من شجاعتك. بالطبع إذا أنت لم تُظهِر قَط شجاعتَك فلن يكون لدينا ما يضطرنا إلى الاعتقاد بأنك شجاع، ولِنفس السبب، لن يكون لديك بالضرورة أدنَى معرفةٍ بها. وبالمثل لن يكون ثمة ما يُلزِمنا بالاعتقاد بأن مادةً غريبة معينة هي قابلة للذوبان في الماء إذا لم تَظهر ذوبانيتُها قَط. وقد يكون لديك استعدادٌ لأن تَبقَى صامدًا في مواجهةٍ خَطِرة، ولكنك تفر، رغم ذلك؛ لأن لديك استعدادًا أيضًا لأن تنتشل رفيقًا مهدَّدًا. وبنفس القياس، فإن بلورة الملح ذات الاستعداد للذوبان في الماء قد لا يمكنها أن تذوب إذا ما تعرضت لمجالٍ كهرومغناطيسي قوي.

بأي معنًى بالضبط «تربط السلوكيةُ الفلسفيةُ حالاتِ العقل بالسلوك»؟ يذهب السلوكيون إلى أن الإقرارات المتعلقة بحالات العقل يمكن أن تُترجَم إلى عبارات حول السلوك أو الاستعدادات للسلوك. لقد صار لدينا الآن ذوقٌ بذلك. فإذا كنتَ تعتقد أن دُبًّا في طريقك فإن لديك استعدادًا لاتخاذ فعلٍ مراوِغ، لأن تصدِّق على «هناك دُبٌّ في الطريق»، لأن تحذِّر رفاقَك، وما إلى ذلك.

والفكرة المرشِدة هي أنه إذا كان الحديث عن حالات العقل يمكن تحليلُه أو إعادةُ صياغتِه في حديث عن السلوك (أو الاستعدادات للسلوك) فستكون الحالات العقلية إذن قد «رُدَّت إلى» (اختُزِلَت إلى) reduced to (تَبَيَّنَ أنها ليست أكثر من) سلوك (أو استعدادات للسلوك). والتحليل الذي من هذا النوع هو بمثابة رَدِّ شيءٍ (اختزاله) إلى شيءٍ آخر. ولكي تتبيَّن هذه النقطة، تأمَّل في حالةٍ موازية. نحن نتحدث أحيانًا عن اﻟ average family (الأسرة المتوسطة). فدخل الأسرة المتوسطة (متوسط دخل الأسرة) في المناطق الريفية قد انخفض عما كان عليه منذ عقد من الزمن. هل ثمة أسرةٌ متوسطة؟ هل ثمة كيانٌ (أو، في موضوعنا هذا، مجموعة من الكيانات) تُلَقَّب بتعبيرة «الأسرة المتوسطة»؟ يبدو هذا بعيدَ الاحتمال. بوسعنا في هذه الحالة أن نرى كيف أن الحديث عن دخل الأسرة المتوسطة يمكن تحليلُه رَدِّيًّا إلى حديث دخل الأُسَر المفردة؛ إذ يُجمَع ويُقسَم على عدد الأُسَر، ولا شيء أكثر من ذلك عن الأسرة المتوسطة. فإذا أمكننا أن نتخلص بالتحليل من الدعاوي حول العقول والمجريات العقلية، مستبدلين بها دعاوي عن السلوك والاستعدادات للسلوك، فسنكون قد نجحنا إذن (هكذا تمضي الحُجة) في إثبات أن امتلاك الكائن الفاعل عقلًا لا يعدو أن يكون سلوكه، أو استعداده للسلوك، بطرائق عاقلة ملائمة.١٠

ما هي توقعات النجاح بالنسبة للتحليلات الرَّدِّيَّة لحالات العقل؟ من بواعث القلق أن التحليلات السلوكية مفتوحة للتعديلات. مثال ذلك أنه لا حَد لقائمة الأشياء التي عساك أن تفعلها أو يكون لديك استعداد لفعلها إذا أضمرتَ الاعتقادَ بأن هناك دُبًّا في أَثَرِك. إن ما ستفعله سيتوقف على الظروف، والظروف قد تتنوع بطرقٍ لا حصر لها. وفضلًا عن ذلك، فيبدو من الواضح أن من بين الأشياء التي سيكون لديك استعداد لِفِعلِها أن تُكَوِّن اعتقاداتٍ جديدة وتكتسب رغباتٍ جديدة، وكلٌّ من هذه الاعتقادات والرغبات سيقتضي تحليلَه السلوكيَّ الخاص.

من المؤكد أن هذا يُعَقِّد الصورة، غير أنه لا يشكِّل بالضرورة عقبةً كئودًا بالنسبة للسلوكي الفلسفي. فالتحليلات المتصوَّرة لا يلزم أن تكون متناهية، إن بِوُسعِنا أن نقبل تحليلًا رَدِّيًّا، ما دام بِمُكنتِنا أن نرى كيف يمكن أن يمتد، حتى إذا لم نكن في موضع يسمح لنا بأن نقوم بذلك بأنفسنا.

ثمة صعوبة أخرى أعصَى على الإغفال. أنت ترى دُبًّا على الطريق وتكوِّن الاعتقادَ بأن هناك دبًّا على الطريق. ولكنْ مِن البَيِّن أن ما تفعله، وما لديك استعدادٌ لأن تفعله، يعتمد على حالتك الذهنية الإجمالية: ماذا تعتقد غير ذلك وتريد، مثلًا. وهكذا الحالُ في أي حالةٍ ذهنية. افترِض أنك تعتقد أن هناك دبًّا على الطريق، ولكنك تريد أن تُلقِي نظرةً أَوثَق، أو أنك تعتقد أن الدببةَ غيرُ ذاتِ خَطَر. أو افترِض أن لديك تَوقًا لِأن تعيشَ في خَطَر.

قد يبدو أن اعتقادَك متوافقٌ مع سلوكِك أو استعدادِك للسلوك بأي طريقةٍ على الإطلاق بحسب اعتقاداتك الأخرى ورغباتك. ورغم ذلك فإنه يبدو كأنْ ليس ثمة تحليل ردي لحالات العقل ممكن الحدوث. ليست المشكلة في مجرد أن كلًّا من هذه الحالات الذهنية الإضافية تتطلب تحليلًا سلوكيًّا إضافيًّا، فتُعَقِّد بذلك المهمةَ التحليليةَ وتمدها. إنما المشكلة أنه لا يبدو أن هناك طريقة لِتَجَنُّب ذِكر مزيدٍ من الحالات الذهنية في أي بيانٍ عما هو السلوك الذي يُحتمَل أن تُنتِجه حالةٌ ذهنيةٌ معطاة. وكأننا ما إن بدأنا في التخلص بالتحليل من الحديث عن الأسرة المتوسطة حتى اكتشفنا أن تحليلنا يُعِيد ذِكرَ الأُسَر المتوسطة عند كل مُنعطَف.١١

لكي تُقَدِّر ضخامةَ المشكلة، تَأَمَّل اعتقادَك بأن هناك دبًّا على الطريق. هذا الاعتقاد، بالتناغم مع الاعتقاد بأن الدببة خطرة، والرغبة في تجنب الحيوانات الخطرة، قد يؤدي بك إلى الفرار بعيدًا. ولكنْ تَخَيَّل الآن أنك تعتقد أن هناك دبًّا في طريقك، وتعتقد أن الدببة خطرة، وترغب في تجنب الحيوانات الخطرة (وهي اعتقاداتك ورغباتك كالسابق)، غير أنك تعتقد بالإضافة إلى ذلك أن الجريَ السريعَ لن يُفضِي إلا إلى جذب انتباهِ الدببة. في هذه الحالة سوف تميل إلى (يكون لديك استعداد) أن تسلك، وسوف تسلك، على نحوٍ جِد مختلف.

يوضح هذا المثالُ نقطةً عامة. كل محاولة للقول بما هو السلوك الذي سيترتب على حالةٍ ذهنيةٍ معطاةٍ قد يَثبُتُ خطؤها بإنتاج مثالٍ تكون فيه الحالة الذهنية قائمةً، ولكنْ بفضل وجود اعتقادات ورغبات جديدة، فإن السلوك لا يحدث. ولن يُجدِي شيئًا أن نحاول استبعادَ مثل هذه الحالات عن طريق مُستَثنٍ عام: إذا كنتَ تعتقد أن هناك دبًّا على الطريق، وتعتقد أن الدببة خطرة، وترغب في تجنب الحيوانات الخطرة، إذن، ما دمتَ لا تضمر اعتقادات ورغبات أخرى متعارضة، فسوف تميل إلى أن تُوَلِّيَ الأدبار. المشكلة هنا هي أننا قد أعدنا إدخال ذِكر حالات ذهنية في عبارة الاستثناء. وهذه (الحالات) بالضبط ما كنا نحاول استبعاده بالتحليل. إن المشروع التحليلي يبدو متعذرًا. (في الفصل الرابع سوف نجد تكنيكًا — مرتبطًا بفرانك رامزي وديفيد لويس — للتعامل مع مثل هذه الحالات، والذي يمكن للسلوكي أن يتبناه. عندئذٍ يبرز السؤال عما إذا كان هذا كافيًا لجعل السلوكية اختيارًا جذابًا.)

تَرِكة السلوكية الفلسفية

إذا كانت محاولةُ تحليل الحديث عن الحالات العقلية إلى حديثٍ عن السلوك محاولةً غيرَ عملية، فماذا يتبقَّى من السلوكية الفلسفية؟ صحيحٌ بالتأكيد أن الأسباب التي ننسب بها حالاتٍ عقليةً إلى بعضنا البعض هي أسبابٌ سلوكية، إلا أن هذه نقطةٌ إبستمولوجية، نقطةٌ حول ما يشكِّل دليلًا تستند إليه اعتقاداتُنا عن الحيوات العقلية لبعضنا البعض، وهي نقطةٌ بِوُسعِ الديكارتي أن يقبلها بسرور.

وماذا عن توكيد رايل على أنه من الخطأ أن تعتبر امتلاكك عقلًا هو مسألة وضع جسمك في علاقة معينة مع كيان ممايِز، هو عقلك؟ وماذا عن مقترَح فتجنشتين بأن الحدود المستخدَمة في عَزْو حالاتٍ عقليةٍ لا تُستخدَم لكي تسمِّي أشياء من صنفٍ محدَّدٍ ما؟ إن كلتا هاتين الفكرتين مستقلةٌ عن المشروع التحليلي للسلوكي، وكلتاهما باقية في توصيفات العقل المضادة للسلوكية عن وعي ودراية. هكذا قد يَسَع المرءَ أن يفترض أن امتلاك عقل ما هو إلا امتلاكُ نوعٍ معين من التنظيم، تنظيم ينجم عنه ما يجب أن نسميه سلوكًا ذكيًّا. وقد يَسع المرءَ أن يتخيل أن امتلاك حالةٍ ذهنيةٍ معينةٍ ما هو إلا أن تكون في حالةٍ ما أو أخرى تسهم بطريقة مميزة في عمل هذا الجهاز المنظَّم.

هذه الثيماتُ محوريةٌ بالنسبة للمذهب الوظيفي functionalism، وهو تصوُّرٌ عن العقل سوف نبحثه بتفصيلٍ أكبر في الفصل الرابع. وبِحَسْبِنا الآن أن نسجل، ببساطة، إغفال السلوكية للبُعد الكيفي للحالات العقلية. فإذا كان وجود صداع لديك هو مسألة سلوكك، أو استعدادك للسلوك، بطريقةٍ معينة، تغدو الطبيعة الكيفية الداخلية لِأَيِّما شيءٍ مسئولٍ عن سلوكك بهذا النحو، أو استعدادك للسلوك، تغدو مسألةً خارجةً عن الموضوع. وهذا واضح صريح في مماثلة الجعران في العلبة لفتجنشتين. وهذا الملمح في السلوكية، كما سوف نرى، قد وَرِثَه المذهبُ الوظيفي.
ماذا تُرانا نَعنِي ﺑ «الطبيعة الكيفية الداخلية» intrinsic qualitative nature؟ أفضل طريقةٍ لِفَهمِ فكرة الكيفية الداخلية١٢ (الباطنية/الجوانية) هو مقابلتُها بالفكرة المكمِّلة، فكرة الطابع الخارجي extrinsic. الكيفية الداخلية هي كيفية يحوزها موضوعٌ ما بحقِّه الشخصي. فالكروية كيفية داخلية لكرة البلياردو. أما كونها قرب مركز طاولة البلياردو فهو مَلمَحٌ خارجي، غير داخلي، للكرة.١٣ فَكِّرْ في الكيفيات الداخلية بوصفها مُتَأَصِّلةً (مُبَيَّتة) في الأشياء، وفي الخصائص الخارجية بوصفها مملوكةً للأشياء بفضل العلاقات التي تحملها هذه الأشياء بالنسبة للأشياء الأخرى ليس إلا. في حالة الجعران في العلبة تخيَّلْ أن علبةَ أحد الأشخاص تحوي بِلية، وعلبة شخص آخر تحوي مكعبَ سكر. إذن الطبيعة الداخلية لما هو في كل علبة تختلف وتتنوع. وهذا بالتحديد هو ما «سقط من الاعتبار بوصفه غيرَ ذي صلة».

يمكننا أن نميز بين طبيعة الشيء الكيفية الداخلية وبين استعداداته أو قواه العِلِّية. فَكُرةُ البلياردو لديها القوة على التدحرج عبر الطاولة، والقوة على أن تكسر لوحًا زجاجيًّا، والقوة على أن تعكس الضوءَ بطريقةٍ معينة. ولكنَّ لدى الكرة أيضًا طبيعةً كيفيةً معينة؛ شكلًا معينًا، حجمًا معينًا، درجة حرارة معينة. والعلاقة بين قُوَى الشيء أو استعداداته وبين خصائصه الكيفية هي أمرٌ دقيقٌ كما سوف نرى لاحقًا. وبحسبنا الآن أن ندرك أن من الممكن فيما يبدو التمييز بين الجوانب الكيفية للشيء وميوله أو قواه العِلِّية. ومرة أخرى تَعتبِر السلوكيةُ الطبيعةَ الكيفيةَ الداخليةَ للحالات العقلية غير ذات صلة.

ويمكن بتعبير آخر عن هذا أن نقول إن السلوكية تَرَى أن الحالات العقلية، «بما هي حالاتٌ عقلية» qua states of mind، تفتقر إلى طبيعةٍ كيفيةٍ داخلية. انظرْ مرةً ثانيةً في مماثلة الجعران في العلبة. أَيُّما شيءٍ في العلبة فَلَهُ طبيعةٌ كيفيةٌ داخليةٌ ما. ولكن هذه الطبيعة غير ذات صلة بحقيقة أن العلبة تحتوي جعرانًا، بما هو جعران — أي مُعتبَرًا كجعرانٍ فحسب — فإن ما تحويه العلبةُ يفتقر إلى الكيفيات الداخلية.
إن رأيًا بهذا الشكل قد يبدو شاذًّا غير مقبول، فمن المؤكد أن صداعكَ له طبيعةٌ كيفية داخلية، وأن هذا جزء مهم فيما يجعل صداعًا ما صداعًا. وقد راج في هذه الأيام أن تعبر عن هذه النقطة بقولك: «ثمة شيءٌ ما يشبه أن يكونه»، أن يكون بك صداع. «ما يشبه أن يكون» أن تعاني صداعًا يختلف عما يشبه أن يكون أن تَخبُر أنواعًا أخرى من الخبرة الواعية. إن جزءًا مما يجعل خبرةً واعيةً معينةً صُداعًا هو بالضبط هذا اﻟ «يشبه أن يكون».١٤

لقد قلتُ إن إنكار هذا قد يبدو غير مقبول، إلا أن السلوكيين ينكرونه بالفعل. وكما سوف نرى، فإن كثيرًا من الفلاسفة، الفلاسفة الرافضين للسلوكية، ينكرونه أيضًا. يُحاجُّ هؤلاء الفلاسفةُ بأن الحالات العقلية تعود هويتُها لا إلى طبيعتها الكيفية الداخلية (إن صَحَّ حقًّا أن لديها مثل هذه الطبيعة أصلًا)، بل تعود حصريًّا إلى قواها العِلِّية أو، كما أُفَضِّل أن أسميه، استعداداتها. ولن يَتَسَنَّى لنا تقييمُ مثل هذه الدعاوي إلا بعد أن يستوِي لنا فهمٌ للمسائل الميتافيزيقية التي تتبطنها. ولكن قبل أن نُكِبَّ على هذا المشروع، دعونا ننظر باختصار إلى السلوكية السيكولوجية.

السلوكية السيكولوجية

السلوكية الفلسفية هي دعوى عن معنى الحدود العقلية، وجوهريًّا، حول طبيعة المفاهيم العقلية. ويَعتبر أنصارُها أن الأسئلة الفلسفية حول طبيعة العقل يمكن ردها إلى أسئلة حول طابع هذه المفاهيم. وهم يفكرون هكذا: إذا أردنا أن نعرف ماذا تكونه العقول فيجب علينا أن نصرِّح بما تعنيه كلمة «عقل» ومُشابِهاتها. ويذهبون إلى أن هذا يعني التصريح بكيف تُستعمَل كلمةُ «عقل» ومُشابِهاتُها في الحديث اليومي. فالعقول هي أيُّما شيء ينطبق على كلمة «عقل».

مثلُ هذا التصور يفرق بدقة بين الفلسفة وعلم النفس. فمهمةُ الفلاسفة توضيح دقائق تصور العقل المَذخور في اللغة العادية. أما السيكولوجيون وغيرهم من العلماء التجريبيين فيدرسون طبيعة العالَم. إن لغتنا تُقَطِّع العالمَ بطريقةٍ معينة. وليس بِوُسعِنا أن نُؤَوِّل الدعاوي العلمية إلا بعد أن نقارن المفاهيمَ المستخدمة في هذه الدعاوي بالمفاهيم المُرَمَّزة في اللغة العادية. عندما يتحدث السيكولوجيون عن «اعتقاد» أو «انفعال» أو «صورة ذهنية»، فهل يَعنون ما تعنيه اعتياديًّا كلمة «اعتقاد» و«انفعال» و«صورة ذهنية»؟ لكي نتبيَّن ذلك، فإن علينا أن نرى كيف تعمل هذه التعبيرات في النظريات السيكولوجية، ونقارن ذلك باستعمالها في اللغة اليومية.

عندما نفعل ذلك، وفقًا لفلاسفةٍ مثل فتجنشتين ورايل، نكتشف أن السيكولوجيا في أغلب الأحيان قد استخدَمَت المصطلحات المألوفة بطرقٍ غير مألوفة. وقد يؤدي هذا إلى إساءة فهمٍ منظَّمةٍ للدعاوى السيكولوجية. يصوغ فتجنشتين هذا الأمر هكذا: «في السيكولوجيا ثمة مناهج تجريبية (experimental) وخلطٌ مفاهيمي» (١٩٥٣م، ١٩٦٨م، ص٢٣٢). هذا «الخلط المفاهيمي» conceptual confusion يَسرِي على تأويل السيكولوجيين لعملهم ذاته بقدر ما يَسرِي على تأويل الشخص العامي. نحن نُدخِل فكرةً تكنيكية مستخدِمين لفظةً مألوفة. وقد تكون الفكرة التكنيكية مختلفة اختلافًا مهمًّا عن معنى اللفظة في الاستخدام اليومي. ونحن إذن نؤسِّس حقائقَ تتعلق بالفكرة التكنيكية. ويَنتُج الخلطُ عندما نؤَوِّل هذه الحقائق على أنها تَسرِي على أي شيء تَسرِي عليه اللفظةُ الأصلية. الأمرُ هنا كما لو أننا قررنا أن نعطي كلمة «حمامة» معنًى صارمًا هو: منتَجٌ مصنوعٌ ذو أربع أرجل وله سطحٌ منبسطٌ يُستعمَل لِسَندِ الأشياء، ثم مضينا نُثبِت أن الاعتقاد الشائع بأن الحَمام يمكنه أن يطير ويضع بيضًا ويتكاثر هو خرافة.
وقد تولَّدت السلوكية في علم النفس لا بِفِعل القلق حول معاني الحدود العقلية، بل بفعل الحِرص على الوضع العلمي للسيكولوجيا. كان السيكولوجيون في القرن التاسع عشر يُسَلِّمون بلا نقاش بوجهة نظر تقليدية للعقل، ترى أن الحالات العقلية حالاتٌ خصوصيةٌ غيرُ قابلةٍ للتفَحُّص العام. فبينما «المَنفَذ» إلى حالاتك العقلية مَنفذٌ مباشِر، فليس بِمُكنةِ الآخرين إلا أن يلاحظوا تأثيراتها على سلوكك. فإذا افترضنا، مثلما افترض السلوكيون الأوائل، مثل وَطسون J. B. Watson (١٨٧٨–١٩٥٨) وسكِينَر B. F. Skinner (١٩٠٤–٩٠)، أن ما يقبل الملاحظة العامة هو وحده الموضوع الملائم للعلم، فسوف نُقصِي الحالات العقلية (كما تُتَصَوَّر تقليديًّا) من الاعتبار العلمي. وإذا افترضنا أيضًا أن الحديث عن بنودٍ غير قابلة للتحقق العام هو حديث كريه، أو ربما لا معنى له، فسنكون في حقيقة الأمر قد استبعدنا التصور التقليدي للعقل من نطاق البحث الجاد.١٥

وبوسعنا أن نعبِّر عن ذلك بقولنا إنه وفقًا للتصور السلوكي، فالعقول والخبرات الواعية وما إليها لا وجود لها، والحديث عن مثل هذه الأشياء إنما يعكس فحسب ماضيًا خرافيًّا كانت فيه الخصائصُ المشاهَدة للأشياء تُفَسَّر بالإحالة إلى أشباحٍ وأرواح اعتُبِرَت قاطنةً فيها، وإن إنكار الأشباح والأرواح — والحالات العقلية — لا يعني إنكار أن الأشياء والمخلوقات الذكية لها سماتٌ معقدة قابلة للملاحظة، ولا أن هذه قابلة للتفسير العلمي الصارم. وبالضبط مثلما نفضنا أيدينا من تفسيرات السلوك المعتوه التي تلجأ إلى التلبس بالأرواح الشريرة، كذلك ينبغي أن ننفض أيدينا من التفسيرات التي تلجأ إلى الوقائع الداخلية الخصوصية. هذا ما شَرَعَ السلوكيون في فعله.

المعطيات بالنسبة للسلوكية السيكولوجية هي شواهد السلوك، السلوكات، ما تَعمله الكائنات العضوية. نحن نفسر شاهدًا (مثالًا) من شواهد السلوك لا بافتراض حالات عقلية داخلية غير قابلة للملاحظة، بل بالإحالة إلى المثيرات البيئية التي تُحدِث السلوك. والنموذج الحاكم هو المنعكَس البسيط. فأنا أَقرَع ركبتَكَ فتهتز رجلُك بطريقةٍ مميزة. ها هنا جزئية سلوكية — استجابة، اهتزاز رِجلِك، تُفَسَّر بوقوع مثير — قَرعي لِركبتِك. وما يربط المنبِّه والاستجابة هو آلية انعكاسية مباشرة. نحن نصف هذه الآلية بالإحالة حصريًّا إلى دورها في علاقات المثير-الاستجابة stimulus-response (S-R).
اعتَقَدَ السلوكيون أن كل السلوك، حتى السلوك المعقد، يمكن تفسيرُه تفسيرًا تامًّا في حدود المثير-الاستجابة S-R، وأن الاستجابات المعقدة هي، ببساطة، نتيجةُ مثيراتٍ معقدة، ومهمة السلوكي هي أن يقدم توصيفًا منهجيًّا منظمًا لهذه العلاقات S-R. ومن وجهة علم النفس فإن الكائن العضوي هو «صندوق أسود»، أَيْ شيءٌ ما، يمكن وصفُ طبيعتِه النفسية وصفًا جامعًا بالإشارة إلى استجابته للمثيرات (شكل ٣-١). إن للصناديق السوداء وللكائنات العضوية بنيةً داخلية، شيئًا ما يمكن أن يُبحث بِحَقِّه الشخصي. ولكن هذا هو نطاق البيولوجيِّ أو الفيزيولوجيِّ، لا نطاق السيكولوجي.
fig13
شكل ٣-١
يُحَرِّم السلوكيون ذِكرَ الميكانزمات الداخلية إلا بقدر ما تكون هذه قابلةً للتوصيف الجامع الكامل في حدودِ علاقاتٍ بين مثيراتٍ (مُدخَلات قابلة للملاحظة) واستجابات مُخرَجة (سلوك ملاحَظ). والكائنات العضوية المعقدة قادرة على التعلم، بمعنى أنها قادرة على تعديل علاقات S-R لديها. والميكانزم، مرةً أخرى، مباشرٌ مستقيم. ويمكن لنوعٍ معين من الاستجابة أن «يُدَعَّم» be reinforced إذا كان حدوثُه مُثابًا (أو مُكافَأً) rewarded. فقد يكون الفأرُ مثلًا غيرَ ميال لدى حدوث صوتٍ معين إلى أن يضغط على قضيبٍ في قفصه، ولكنه إذا اكتشف، ربما بالصدفة، أنه سينال كُرَيَّةً من الطعام إذا ضغط على القضيب عند سماع الصوت، فإن استجابته للمثير السمعي بالضغط على القضيب سوف تتدعم.

إن الحديثَ هنا عن «اكتشاف» الفأر لِصِلةٍ بين الصوت والقضيب الذي في القفص، ونَيل كُرَيَّة طعام، هو بالطبع حديثٌ مجازي صرف؛ إذ إنه يُوحِي بعمليةٍ داخلية من الصنف الذي يستهجنه السلوكيون. فإذا ما التزمنا بالوقائع السلوكية الخالصة، نجد أن الفأر يضغط على القضيب عند حدوث صوتٍ معين ويتلَقَّى كُرَيَّةَ طعام. وفيما بعد يصبح ضغط الفأر على القضيب مرتبطًا بحدوث وقعات الصوت. وبتعبيرٍ أدق، فإن احتمال أن الفأر سيضغط على القضيب عند حدوث الصوت يزداد زيادةً مشهودة. وفي النهاية يضغط الفأر على القضيب أثناء، وفقط أثناء، فترةٍ تَعقُبُ حدوثَ الصوت مباشرةً. هذه، في حقيقة الأمر، هي غاية ما يعنيه «اكتشاف» الفأر لِلصِّلة.

يفترض السلوكيون أن كل التعلم يمكن تفسيره في حدود الآليات الترابطية البسيطة. وهذا يفترض أن المهام المعقدة (تَعَلُّمكَ مثلًا لعب البرجيس Parcheesi، أو وصولك إلى التمكن من الإنجليزية) يمكن أن يُفَتَّتَ إلى مَهامَّ أبسط، كل مهمة منها يمكن تفسيرها بشيء يشبه الطريقة التي يُفَسَّر بها ضغط الفأر على القضيب. وفي عام ١٩٥٩م، أصدر نعوم تشومسكي Noam Chomsky مراجعةً لكتاب سكينر «السلوك اللفظي» Verbal Behavior، يُحاجُّ فيها بأن محاولات سكينر الامتداد بالنموذج السلوكي للتعلم إلى ضروبِ الأداء اللغوي للبشر هي محاولاتٌ قاصرةٌ بدرجةٍ مُوئسة. ادَّعَى تشومسكي أن القدرات اللغوية لا يمكن تفسيرُها، حتى من حيث المبدأ، دون افتراض أن الكائنات البشرية تمتلك مخزونًا هائلًا من البِنيات المعرفية المعقدة التي تَحكُم استخدامَهم للغة.١٦

كان لهذه الهجمة على الثيمات السلوكية المركزية تأثيرٌ مدمِّر على البرنامج السلوكي. فأصبح كثيرٌ من السيكولوجيين غيرَ قانعين بالمذاهب السلوكية المتصلبة، وأخذوا يمضون بالفعل في اتجاهات جديدة. لقد قَرَّرَتْ مراجعةُ تشومسكي — بالاشتراك مع اهتمام متنامٍ بالنشاطات المحكومة بقواعد بصفة عامة — قَرَّرَت مصيرَ السلوكية بشكلٍ نهائي. ولم تَعُد لها أبدًا تلك السطوةُ التي كانت لها في يومٍ من الأيام. وأخذ يتضح يومًا بعد يوم أن السلوكية تأسست على وجهةِ نظر عن المشروعية العلمية، وجهةِ نظر متجذرة في مذاهب فلسفية غير مستحبة ترتد في الزمن إلى باركلي على أقل تقدير. لقد اشترط السلوكيون على كل تعبير مقدَّر علميًّا أن يكون بالإمكان ترجمته في حدود من الملاحظات التي من شأنها أن تؤيد تطبيقَه، وهم بذلك قد صَدُّوا ضروبًا من التفسير ثبتَ أنها مثمرة في علومٍ أخرى. مَيَّزَت هذه الضروبُ من التفسير، كما لم يميز السلوكيون في الأغلب، بين الكيانات المفترضة من أجل أن تفسر الملامحَ الملاحَظة للعالم، وبين الملاحظات التي تشكِّل الدليل على هذه الكيانات.

ثمة صعوبة أخرى متأصلة في صميم البرنامج السلوكي يجدر ذكرُها. تَأَمَّل الفكرةَ المركزية للسلوك. ما الذي يشكِّل السلوك؟ ومتى يَصلح «سلوكان» اثنان أن يُعَدا مثالين لنفس السلوك، ومتى يُعَدان مختلفين؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة من الأهمية بمكان. يتطلب السلوكيُّ مزاوجةً صارمةً بين المثيرات وسلوك الاستجابة. كان النموذج الذي بدأنا به هو منعكَس الرُّكبة:١٧ تُقرَع ركبتُكَ فتهتز رِجلُك. هذه الاستجابةُ نفسُها — اهتزاز رجلِك — تحدث كلما قُرِعَت ركبتُك. إذا كان اهتزازُ رجلِك مثالًا للسلوك، لَبَدا إذن أن السلوك يجب أن يُفهَم على أنه حركةٌ جسميةٌ، فيكون مثالان من السلوك هما نفس الشيء فقط في حالة ما إذا كانا مثالين لنفس الحركة الجسمية.

لكن الأشياء لِسوء الحظ ليست بهذه البساطة. تأملْ ضغطَ الفأر على القضيب. وافترِضْ أن الفأر يضغط على القضيب مرةً بمخلبه الأيمن، ثم عاد بعد ذلك وضغط بمخلبه الأيسر. نحن نَعُد هذين المثالين من نفس السلوك — «سلوك ضغط القضيب» — وإن كانت الحركتان الجسميتان ليستا نفس الشيء. ولكننا الآن قد ابتعدنا عن نموذج المنعكَس الأساسي. إن من السهل نسبيًّا أن تتصور آليةً بسيطةً تُعَلِّل لاهتزاز رجلك عندما تُقرَع ركبتُك. ولكن الآلية المسئولة عن ضغط الفأر على القضيب عند حدوث صوتٍ معين ليست كهذه، فهذه الآلية تربط حدوث صوتٍ معين بتنويعةٍ من ضروبٍ شتى من الحركة الجسمية. ولا يجمع بين هذه الحركات الجسمية إلا أن كلًّا منها يؤدي إلى ضغط القضيب. والآن يبدو كأن أي ميكانزم وراء سلوك ضغط الفأر للقضيب يجب أن يحدَّد بالإحالة إلى ما نَصِفُه نحن غيرَ السلوكيين بِخَجَلٍ على أنه رغباتُ الفأر أو أغراضه. وهذه الأشياء لسوء الحظ حالاتٌ عقليةٌ غير قابلة للملاحظة، ومن ثم فهي محظورة رسميًّا عند السلوكي.

وحين نأتي إلى السلوك البشري المعقد فالموقف بَعدُ أسوأ. تأملْ ردَّكَ على الباب عندما يرنُّ جرسُ الباب. قد نُسَمِّي هذا سلوكَ الرد على الباب. ولكن ليس ثمة بالضرورة حركات جسمية مشتركة لهذا السلوك. فقد تمشي أحيانًا بهدوء إلى الباب وتفتحه. وقد تهرول، مرات أخرى، إلى الباب، أو تتسحب على أطراف أصابع قدميك، أو قد تكتفي إذا كنتَ مشغولًا بأن تصيح: «ادخلْ». مرة أخرى، من الصعب تَخَيُّلُ أن الميكانزم الذي يربط رنين جرس الباب بسلوك ردك-على-الباب هو ميكانزم منعكَسٍ بسيط. إنه يبدو، للعالم كله، مثل حالة عقلية معقدة نسبيًّا.

وتَسرِي على فكرة السلوكي عن «المثير» stimulus اعتباراتٌ مماثلة. فعندما ننظر إلى ما يَعُده السلوكيون أمثلةً لنفس المثير، نكتشف أن هذه الأمثلة تفتقر إلى تلك الملامح المشتركة التي يتطلبها المدخل السلوكي فيما يبدو. ﻓ «سلوك-فتح-الباب» قد يثيره قَرعٌ عالٍ على الباب، أو نَقرَةٌ رفيقة، أو رنين جرس الباب، أو لمحُك من خلال النافذة لِجارٍ يَذرَع المَمشَى. هذه المثيراتُ لا يجمعها شيءٌ عدا أنها مسئولةٌ بسببٍ ما عن فتحك الباب.

افترِض أننا لا يمكننا أن نخلص إلى توصيفٍ مستقلٍ وغير دائري ﻟ «مثير فتح-الباب»، ذلك الذي لا يستحضر الشيءَ نفسَه الذي لأجله افتُرِضَ مثيرًا، أعني «سلوك فتح-الباب». عندئذٍ يبدو كأن اللجوء إلى مثل هذه المثيرات في تفسيرات السلوك سيغدو تافهًا: استجابة يُحدِثُها مثير. أيُّ مثير؟ المثير المحدِث للاستجابة. ليس يعني ذلك أن توكيد السلوكي بأن كل سلوك هو قابل للتفسير بالإحالة إلى علاقات المثير-الاستجابة، وأن التعلم يمكن تفسيرُه بالإحالة فحسب إلى التدعيمات العارضة لِهذه العلاقات، هو بذلك توكيدٌ مُدان. إلا أنه يُوحِي بقوةٍ أن الأفكار المركزية للمثير والاستجابة لا تكتسب اعتمادًا إلا باتخاذ إحداها طلاءَ الأخرى. وإذا كان ذلك كذلك، فالنظرية لا تقول شيئًا.

ربما يمكن التغلب على هذا القلق بإزاء خواء التفسير السلوكي. ولكن حتى لو أمكن ذلك، فثمة ما يدعو إلى الشك بأن النموذج السلوكي مُضَلَّلٌ في صميمه. تأملْ لحظةً في استجابتِكَ لِمُثيرٍ معطًى، وهو ظهورُ دب في طريقك على سبيل المثال. إنه لَيبدو، بصريح العبارة، أن الدب ليس هو ما يُحدِث استجابتَك (أيًّا ما تكون هذه الاستجابة)، بل إدراكُك أو ملاحظتُك، بطريقةٍ ما، للدب. فإذا ظهر الدب في طريقك وبقيتَ غافلًا عنه فلن يثيرك الدب. وبالمثل تمامًا، فأنت قد تعمد إلى استجابةِ تَجَنُّب الدب حتى لو كان الدب غيرَ موجود. فقد تنفعل بشدة إذا ظننتَ أن هناك دبًّا في طريقك، أيًّا ما كان مبرِّرُ هذا الظن.

يومئ هذا المثالُ إلى أن استجاباتنا السلوكية تتحدد، لا بواسطة المثيرات بالوصف السلوكي، بل بواسطة إدراكنا لهذه المثيرات، أو تأثيرها علينا، أو بواسطة إدراكات ظنية لِمثيرات. فما كان لوجود الدب أن يفسر سلوكَك إلا إذا أدى بك إلى إدراك الدب. هذا الإدراك يتوسَّط سلوكَك اللاحق. غير أن إدراك (أو مظنة إدراك) دب يتضمن مكوِّنًا ذهنيًّا.١٨ وقد كانت هذه الوسائط الذهنية بالتحديد هي ما تستبعده السلوكية فيما يبدو.

لا شيء من هذه التأملات يكيل حجةً قاضيةً ضد السلوكية. فقد حاول السلوكيون أن يردوا على شبهاتٍ من الصنف الذي وَجَّهناه. وأنا لن أقتفي تلك الردودَ هنا. ولننطلق بدلًا من ذلك إلى مجالات قد تكون أرحب وأخصب.

نظرية الهُوِية

دعونا مؤقتًا ننفي أفكار المذهب السلوكي-الفلسفي والسيكولوجي، ونعود إلى نقطة بدايتنا الديكارتية. ولنَزعُمْ أن الحالات العقلية هي حالات جوهرٍ مفرد، العقل، وأن العقل متمايز عن الجسم. إذا كانت الحالات العقلية ليست حالات الجسم، فهي ليست أيضًا حالات جزءٍ ما من الجسم، الدماغ مثلًا.

إلا أننا كلما عرفنا أكثر عن الجهاز العصبي اكتشفنا علاقاتٍ واضحةً بين الوقائع العقلية والمجريات النيورولوجية في الدماغ (وأنا أتبع العُرفَ وأتحدث عن مجريات في الدماغ، ولكن هذا يجب أن يُفهَم على أنه اختزال لمجريات في الجهاز العصبي المركزي. وبوسعنا، بديلًا عن ذلك، أن نتحدث عن الدماغ على أنه موزَّعٌ خلال الجسم). افترِضْ أن هذه الارتباطات كانت تامة، فكل حالة أو عملية عقلية يمكن مضاهاتها بحالةٍ ما أو عملية نيورولوجية. ماذا علينا أن نصنع بهذا؟ أحد الاحتمالات هو ذلك الذي يؤيده الديكارتيون؛ أن الارتباطات قائمة على تفاعل (تأثير متبادل) بين العقول والأدمغة. من هذه الناحية، فهي تشبه الارتباطات بين هبوط البارومترات وبين المطر. واحتمال آخر هو مذهب الظاهرة الثانوية؛ أن الارتباطات هي نتيجة أن المجريات العقلية منتَجةٌ كنواتج ثانوية مصاحبة للنشاط النيورولوجي. واحتمال ثالث، هو أن كل حدث عقلي أو مادي هو مُرادٌ من الله بطريقةٍ ما بحيث تجري المجريات في أنماطٍ منتظمة.

هذه الاحتمالات قائمةٌ كلها على افتراض أن الحالات أو الأحداث العقلية متمايزة عن الحالات أو الأحداث الجسمية. ترفض نظرية الهوية identity theory هذا الافتراض. فَعَلَى الرغم من المظاهر، فإن الوقائع العقلية هي المجريات التي في الدماغ لا أكثر. فإذا صَحَّ ذلك فإن من المضلِّل أن تقول إن الوقائع مرتبطة بالعمليات الدماغية. المجريات العقلية هي العمليات الدماغية، والشيء لا يَصِحُّ أن يقال إنه مرتبط بنفسه. إن الارتباطات التي نكتشفها ظاهرية فحسب، شأنها شأن الارتباطات في أماكن وجود الساقي والقاتل عندما يكون الساقي هو القاتل.
يُحاجُّ أنصارُ نظرية الهوية بأنها، مع تساوي بقية الأشياء،١٩ مفضَّلة على منافِساتها الثنائية لسببين؛ الأول، والأكثر وضوحًا، هو أن نظرية الهوية تقدم حلًّا مباشرًا مستقيمًا لمشكلة العقل-الجسم. فإذا كانت الأحداث العقلية ما هي إلا الأحداث النيورولوجية، فليس ثمة إذن صعوبة معينة في فهم العلاقات العِلِّية القائمة بين الأحداث العقلية والأحداث المادية؛ فحدثٌ عقليٌّ مسبِّبٌ حدثًا ماديًّا (والعكس بالعكس) هو، ببساطة، عبارة عن حدث نيورولوجي مسبِّب لِحَدَثٍ نيورولوجي آخر.
واعتبار آخر لتفضيل نظرية الهوية، هو «الاقتصاد»٢٠  parsimony. إن كلًّا من نظرية الهوية والثنائية تُسَلِّم بوجود الأدمغة والمجريات النيورولوجية. ولكن الثنائية تفترض بالضرورة أنه بالإضافة إلى، وفوق، الأدمغة والمجريات النيورولوجية، ثمة عقول ومجريات عقلية. ولكن لماذا نضع هذه البنود الإضافية ما لم نكن مضطرين إلى ذلك؟ إذا كان بوسعنا تفسير الظواهر العقلية بالإشارة إلى الأدمغة وخواصها، فلماذا نتبع الثنائيَّ فنتصور عالمًا مستقلًّا من العقول والخواص العقلية؟
لقد سبق أن صادفنا احتكاماتٍ إلى الاقتصاد داخل المعسكر الثنائي. فقد ذهب أصحابُ مذهب الظاهرة الثانوية إلى أن مذهبهم يقدم وصفًا أبسط، ومن ثم وصفًا أفضل، للعقل وعلاقته بالأجسام المادية، مما تقدمه النظرياتُ الثنائية المنافِسة. وفي تقييم هذا الخط من التفكير فقد لاحظنا أن الاحتكام إلى البساطة ينبغي ألا يُفهَم على أنه قائمٌ على الافتراض بأن العالم لا بد أن يكون بسيطًا، أيًّا ما كان معنى هذه البساطة. بل إذا كانت نظريتان تفسران الظواهر، ولكن إحداهما أبسط — بمعنى أنها تضع عددًا أقل من أنواع الكيانات أو العمليات — فإن عبء البرهان عندئذٍ يقع على أنصار النظرية الأقل بساطة.٢١ النظريات الأبسط مُفَضَّلةٌ «غيابيًّا»٢٢  by default.

يبدو إذن أن نظرية الهوية — شريطة أنها هي والثنائية كلتيهما تفسران الظواهر — تفوز «غيابيًّا». ولكن هل نظرية الهوية حقًّا تفسر الظواهر؟

جاذبية الصورة الديكارتية

لنبدأ بسؤال، هل من الممكن أن تكون الحالات العقلية هي حالات الجسم، أو، بتحديدٍ أكبر، حالات الدماغ أو الجهاز العصبي المركزي؟ إن السبب الرئيسي لافتراض أن الحالات العقلية لا يمكن أن تكون حالات الدماغ هو أن الحالات العقلية والحالات المادية تبدو مختلفة في النوع اختلافًا جذريًّا.

من الجهة الإبستمولوجية، كما قد أُتيح لنا أن نتبين للتو، فإن «المَنفَذ» access الذي نتمتع به إلى حالات العقل غير متماثل asymmetrical بشكلٍ واضح. إن حياتك الذهنية «خصوصية» private بطريقةٍ لا يَتَّسِمُ بها أيُّ شيء أو حالة مادية على الإطلاق. فأنتَ على درايةٍ بحالاتك الذهنية الخاصة وبكيفيات خبراتك الواعية، بشكلٍ مباشرٍ ودون دليلٍ أو ملاحظة. أما أنا، في المقابل، فليس لديَّ مَنفَذٌ إلى حياتك العقلية إلا بشكلٍ غير مباشر. إنني «أستدِل على» infer أفكارك ومشاعرك عن طريق ملاحظة سلوكك، اللفظي أو غيره. افترِضْ أنني ألاحظ المجريات التي في دماغك، وافترِضْ أن هذه المجريات هي مؤشرات وثيقة على حالتك الذهنية. أنا إذن في وضعٍ قوي إبستمولوجيًّا لكي أعرف ما تفكر فيه وتشعر به. إلا أن مَنفَذِي إلى أفكارك ومشاعرك يختلف عن مَنفَذِك. إن عليَّ أن أستدل على ما تَخبُرُه أنت خبرةً «مباشرة».

يفسر الديكارتي هذا اللاتماثل الإبستمولوجي بقوله إن معرفة الغير لحالات المرء الذهنية تعتمد على الملاحظة، لا ملاحظة الحالات نفسها، بل ملاحظة تأثيراتها على الأجسام المادية. الحق أن من المضلِّل أن تتصور أنك تلاحظ أفكارك ومشاعرك بالمعنى الحرفي للملاحظة. خُذ الأفكار مثلًا، إن كل فكرة تحمل معها إمكانيةً للدراية الذاتية (وهي نقطة أكدها كانت منذ زمنٍ طويل). فالتفكير ليس شيئًا يحدث لك (مثل دقات قلبك، التي أنت مجرد متفرج تجاهها)، التفكير شيءٌ تفعله. وأنت، ككل شيء تفعله بوعي، لا يلزمك أن تلاحظ نفسَك في الفعل لكي تميز ما أنت بِصَدَدِه (ولنضرِبْ صَفحًا الآن عن حالات العقل غير الواعية). عندما تضمر فكرةَ أنها تمطر وتميز بوعيٍ أن هذا ما تفكر فيه، فإن تمييزك الواعي ليس قائمًا على فعلٍ ثانٍ من الملاحظة الداخلية للفكرة الأصلية، وإنما هذه الفكرة تُفَكَّر بوعي ذاتي. إذا كانت كل فكرة هي «بالقوة» فكرةٌ واعية ذاتيًّا، إذن من الممكن لهذه الفكرة الواعية ذاتيًّا أن تُضمَر بوعيٍ ذاتي، بمعنى أن بمُكنتِك أن تكون على دراية بأنك تفكر أنك تفكر أنها تمطر. جَرِّب ذلك، ولاحظ أن هذه الفكرة مستقلة بذاتها تمامًا. إنها فكرةٌ مفردةٌ لا سلسلةٌ من الأفكار المتمايزة.

إن كل وصفٍ للعقل لا بد، فيما يبدو، أن يستوعب هذا الصنف من الوعي الذاتي. والنظرة الديكارتية تفعل ذلك بأن تجعل هذا الوعي الذاتي متأصلًا في طبيعة العقليات، فَكَونُ الحالاتِ العقلية تتحلى بهذه القدرة هو مجرد جانب من الجوانب التي تختلف فيها العقول عن الأجسام المادية. وعلى كل مَن يأمل في أن يستوعب العقول في الأجسام (أو الأدمغة على الأخص) أن يكون مستعدًّا للرد على الديكارتي بهذا الصدد.

والعقبةُ الثانيةُ التي تواجه كل من يريد أن يبدل الصورة الديكارتية هي عقبة أنطولوجية؛ إن الأحداث والحالات والخواص العقلية لتبدو مختلفةً تمامًا في النوع عن الأحداث والحالات والخواص المادية. والفرق لافتٌ عندما نتأمل كيفيات حالاتنا الخاصة العقلية الواعية، ونقارنها بكيفيات الأجسام المادية، بما فيها كيفيات الأدمغة. إن خبرتك البصرية بطماطمة ناضجة في ضوء الشمس الساطع تبدو مختلفة كيفيًّا اختلافًا شديدًا عن المجريات التي في جهازك العصبي. أما المجريات النيورولوجية، فتمكن ملاحظتها ووصفها بدقةٍ كبيرة، ولكن لاحظ كما سوف نفعل، يبدو أننا لا نجد للخبرة الواعية شبيهًا على الإطلاق.

لعلك تحاول أن تتجنب هذه المشكلة بأن تلجأ إلى الحقيقة الظاهرة بأن العلم كثيرًا ما ينبئنا بأن الأشياء ليست كما تبدو عليه. خُذْ مثلًا الطماطمة الناضجة. نحن نَخبُر الطماطم على أن له لونًا معينًا، ولكن علماء الفيزياء ينبئوننا أن اللون المُحَس هو بمعنًى ما وهم؛ ذلك أن سطح الطماطم يُبدِي نسيجًا جزيئيًّا معينًا. ومن شأن الأسطح التي لها هذا التركيب أن تعكس الضوء بطريقة معينة. ومثل هذا الضوء المنعكس حين يُحَلِّله الجهازُ البصري البشري يُفضِي إلى خبرة بالأحمر. وإنه لَمِن الخطأ أن نأخذ مَلمَحًا من ملامح خبرتنا ونضعه في الطماطم. إن العالم المادي، معتبَرًا في ذاته، لا لون له.٢٣ وإذا كان ذلك كذلك، فلا عجب أننا لا نلاحظ قَطُّ أيَّ شيء من ملامح خبرتنا عندما نلاحظ تشغيلات الأدمغة؛ ذلك أن الأدمغة، بعد كل شيء، هي كيانات مادية.

هذا الخط من الاستدلال لا يُجدِي قضيةَ أعداء الديكارتية كثيرَ جدوَى. فإذا كانت طبائع الخبرات الواعية بالألوان ليست طبائع الأجسام المادية، فطبائع ماذا تُراها تكون؟ بِوُسعِ الفيزيائي أن ينفيها إلى العقل، ولكن هذا يعني أن العقول ذاتها لا تُمْكِن موضَعتُها في العالم المادي. وبتعميمٍ أكبر: إذا كنا نميز بين المظهر والواقع المادي بأن ننسب المظاهر إلى العقل، فإننا فيما يبدو نضع العقول خارج النطاق المادي. وإذ نفترض أن العلم مكرَّس لِبَحثِ العالَم المادي، فإننا نكون قد عدنا إلى تصورٍ ديكارتي: العقول متمايزة عن الأجسام المادية.

برغم هذه المصاعب، فإن كثيرًا من الفلاسفة (وغير الفلاسفة) قد راقتهم وجهةُ النظر القائلة بأن العقول، في حقيقة الأمر، لا تعدو أن تكون الأجسام المادية: عندما ينتظم جسمٌ مادي بطريقةٍ معينة، بالطريقة التي ينتظم بها الدماغُ البشري مثلًا، فإن النتيجة عقل: كيانٌ ذكيٌّ شاعرٌ واعٍ. الخصائصُ العقلية هي في النهاية، وبرغم المظاهر، خصائصُ مادية.

إن القوة الدافعة لِنظرية من هذا الصنف هي قوة مزدوجة. أولًا، أننا كلما زادت دراستُنا للدماغ تَكَشَّفَت لنا علاقةٌ وثيقة بين المجريات النيورولوجية وحياتنا العقلية. ثانيًا، أن نظريةً بمقتضاها يكون ثمة نوع واحد على الأكثر من الجوهر، الجوهر المادي، هي نظريةٌ مفضَّلةٌ على النظرية الثنائية، بالاستناد إلى «البساطة» simplicity. وإذا أمكننا بطريقةٍ ما تفسير الملامح المركزية لحياتنا العقلية دون حاجة إلى إدخال جواهرَ غيرِ مادية، فلن يعود هناك أي مبرِّر لافتراض أن هناك جواهر غير مادية.

الخواص والمحمولات

ظهرت النظريةُ التي صارت تُعرَف ﺑ «نظرية الهُوية» identity theory على نحوٍ مستقل في كل من الولايات المتحدة وأستراليا في الخمسينيات من القرن العشرين في أوراق بحثية أصدرها هربرت فايجل Herbert Feigl، ي. ت. بلاس U. T. Place، ج. ج. س. سمارت J. J. C. Smart. وفقًا لِنظرية الهوية، فإن العقولَ كياناتٌ مادية، هي الأدمغة، والخواصَّ العقليةَ، كحقيقةٍ تجريبيةٍ، خواصُّ ماديةٌ للأدمغة والأجهزة العصبية المركزية. وإذ يَدَّعِي فايجل وبلاس وسمارت أن الخواصَّ العقليةَ خواصُّ ماديةٌ، فإنهم لا يَدَّعون فحسب أن الخواص العقلية هي خواص الأجسام المادية، فقد يرى المرءُ هذا الرأيَ ويتصور مع ذلك أن الخواص العقلية مختلفة تمامًا عن الخواص المادية غير العقلية، وتكون النتيجةُ واحديةَ الجوهر مقرونةً بثنائيةِ الخواص. إلا أن أصحاب نظرية الهوية يُحاجُّون بأن كل خاصة عقلية هي في الواقع خاصةٌ فيزيقية، أي خاصةٌ من الصنف الذي تُقِرُّه، على نحو مستقل، العلومُ الفيزيائية.

لقد تحدثتُ سابقًا عن الطبائع والحالات العقلية والمادية. ويتحدث أصحابُ نظرية الهوية عن تَماهِي العمليات العقلية مع عمليات الدماغ. وأنا أصوغ الآن نظرية الهوية كنظريةٍ عن الخواص. هذه التذبذبات الاصطلاحية تستحق التعليق.

في الفصل الثاني مَيَّزنا بين صفات الجواهر وأحوالها. الأحوال modes عند ديكارت هي ما تعارفنا أكثر على تسميته خَواص properties، والصفات attributes الديكارتية هي ضروبٌ من الخواص. وبتعبيرٍ مربِكٍ بعضَ الشيء، فإن الجوهر هو شيءٌ مفردٌ يمتلك خواصَّ، والخواص هي ما يمتلكُه الجوهرُ. وتختلف الجواهرُ نفسُها أحدُها عن الآخر من حيث خواصها. وفقًا لِديكارت، يمتلك الجوهرُ المادي صفةَ الامتداد، والجوهرُ العقليُّ صفةَ الفكر. والخواص التي تمتلكها الأجسامُ الماديةُ هي أحوال (modes) الامتداد، طرائق كونِ الشيءِ ممتدًّا. والأفكار المعينة والمشاعر والخبرات الحسية التي تمتلكها الجواهرُ غير المادية هي حالات الفِكر، طرائق التفكير. والجوهر الذي يمتلك خواصَّ من نوعٍ ما لا يمتلك البتة خواصَّ من النوع الآخر، فالحق أن امتلاك نوعٍ من الخواص يَحُول دون امتلاك النوع الآخر.
ترفض الثنائيةُ اللاديكارتيةُ هذه الدعوى الأخيرة، فرغم أن العقول متمايزة عن الأجسام المادية، فإن الجواهر العقلية — الجواهر التي تمتلك خواصَّ عقلية — يمكن أن تمتلك خواصَّ ماديةً أيضًا. أنت نفسُك جوهرٌ عقلي. أنت لديك أفكارٌ ومشاعرُ وخبراتٌ واعية. ولكنك أيضًا ممتد، لك طولٌ معين ولك كتلة معينة. هذه الخواص properties (ديكارت سيسميها أحوالًا modes) تنتمي إلى نفس الجوهر الذي يفكر ويشعر. مثل هذا الرأي يحتفظ بالتمييز الديكارتي بين الخواص العقلية والخواص المادية، ولكنه يرفض توكيد ديكارت على أن هذه الخواص لا يمكن أن تجتمع لجوهرٍ واحد. فمثل هذا الجوهر الذي يمتلك خواص عقلية ومادية معًا هو جوهر عقلي ومادي في الوقت نفسه. صحيحٌ أن العقولَ أو الأنفسَ متمايزةٌ عن الجواهر البيولوجية التي تتجسد فيها، ولكن الأنفس تشارك هذه الأجسامَ في الخواص.

وأنتَ قد تَصدِفُ عن ثنائية جوهرٍ من هذا النوع، وتشارك الثنائيَّ رغم ذلك في إصرارك على تمييزٍ بين الخواص العقلية والخواص المادية. وفقًا لهذه الوجهة من الرأي، هناك جوهرٌ واحد، الجسم، وهذا الجوهر يمتلك الخواص العقلية والخواص المادية معًا. إلا أن هذا غيرُ ما يَقِرُ في عقل أصحاب نظرية الهوية، إنما يذهب هؤلاء إلى أن كل خاصة عقلية هي في هويةٍ مع (متماهية مع) خاصةٍ ماديةٍ ما. (سنبحث حالًا فكرةَ الهوية بدقة أكبر.)

لقد نظرنا باختصار إلى الخواص، ولكن ماذا عن الحالات والأحداث والعمليات وما شابَه؟ ولتنظرْ في الحالة state على أنها امتلاكُ جوهرٍ فردٍ لِخاصةٍ property من الخواص. افترِضْ أن الغضب هو خاصةٌ علينا أن نصنفها كخاصةٍ عقلية، إذن امتلاكك هذه الخاصة هو، بالنسبة لك، أن تكون في حالة غضب. إذا تَكَشَّفَ أن حالة الغضب هي حالةٌ نيورولوجيةٌ معينة، إذن فهي كذلك لأن خاصة كونِك غاضبًا متماهية مع (ما هي إلا) خاصة نيورولوجية معينة. إن بوسعنا أن نتصور الأحداث والعمليات كانتقالات حالة، فحين يصير شيءٌ ما إلى أن يكون في حالةٍ معينة (يصير إلى أن يمتلك خاصةً معينة)، فإن صيرورته إلى أن يكون في هذه الحالة هي حدث event، والعملية process هي سلسلةُ أحداث. والحالة، أو الحدث، أو العملية «أ» تكون متماهية مع الحالة أو الحدث أو العملية «ب» فقط إذا كانت الخواص المتضمَّنة متماهية.

افترِضْ أن شعورك بالدُّوار هو عبارة عن كونك في حالة ذهنية معينة. إن كونك في هذه الحالة هو امتلاكك خاصةً عقلية معينة (معقدة ربما). افترِض الآن أن السؤال يَبرُز: هل شعورُك بالدوار — أي كونك في هذه الحالة العقلية — ما هو إلا كونك في حالة دماغية معينة (ولا أكثر من ذلك)؟ إذا كنتَ متفقًا مع صاحب نظرية الهوية في أن هذا ما يكونه شعورك بالدوار — أي كون دماغك في حالة معينة — فسوف تَقبَل إذن المُماهاةَ بين الخاصة العقلية لِكونِك في دُوار، وبين خاصةٍ نيورولوجية معينة.

والمَغزَى هو: ما دمنا نضع باعتبارنا أن هوية الحالة والحدث والعملية تتطلب هوية الخاصة، فإن بوسعنا أن نتحدث، دون اكتراث، عن نظرية الهوية على أنها تُوَحِّد (تُماهِي) بين الحالات والعمليات والأحداث العقلية وبين الحالات والعمليات والأحداث المادية.

قبل أن نَعرِض لِهوية الخواص، سيكون من المفيد أن نتوقف ونفرق بين الخواص والمحمولات. المحمولات predicates هي أدوات لغوية تُستخدَم لِتسمية الخواص. فالتعبير الإنجليزي is round (يكون مستديرًا) هو محمولٌ يُسَمِّي خاصةً معينة، تلك الخاصة التي تمتلكها كثيرٌ من العُملات على سبيل المثال. والمحمول «يكون نحاسيًّا» يَسرِي على نفس العُملة بفضل امتلاكها خاصةً أخرى؛ خاصةَ كونِها نحاسية.

من الأسباب التي تستدعي الانتباه إلى التمييز بين المحمولات والخواص أننا، كما سنرى لاحقًا، يجب أن نفعل ذلك كيما نفهم مَبلغَ الدعاوي حول هوية الخواص. وسببٌ آخر، هو أن كثيرًا من الفلاسفة يفترضون بدون حُجة أن كل محمول ما دام يمكن استخدامُه استخدامًا ذا معنًى فهو يُسَمِّي خاصةً. مثلُ هذا الرأي غيرُ موفَّق، فما تكونه الخواصُّ يُسأل عنه العلمُ بالأساس. أما المحمولات فيمكن تشييدُها ارتجالًا بلا قيد أو حد. تأمَّل المحمولَ «يكون أُذُنًا يُسرَى»، أو «مصنوعٌ من النحاس». هذا المحمول يَسرِي على أشياء كثيرة. فهو يسرِي على أي شيء يكون أذنًا يسرى (لذا فهو يَسرِي على أذنك اليسرى)، وأي شيء مصنوع من النحاس (لذا فهو يَسرِي على البِنس الذي على تسريحتك). كما أن المحمول يَسرِي على الأشياء بفضل الخواص التي تمتلكها، ولكن لا يترتب على هذا أن المحمول يُسمِّي خاصةً.

هذه مياهٌ عميقةٌ، وسوف نعود إليها في فصولٍ قادمة. وبِحَسْبِنا في نفس الوقت أن نضع باعتبارنا أن الخواص والمحمولات، حتى تلك المحمولات التي تُسمِّي خواص، تنتمي إلى أنظمةٍ مختلفة؛ المحمولات مظاهر لغوية للأشياء، والخواص مظاهر غير لغوية لها.

مفهوم الهوية

يذهب أصحاب نظرية الهوية إلى أن الخواص العقلية في هوية مع الخواص المادية أو الفيزيقية (الجسمية). وقد آن لنا أن نقول ماذا يعني هذا بالضبط. ولننظرْ أولًا كيف تنطبق الهويةُ على الأشياء.

إن مفهومنا للهوية identity (أو الذاتية selfsameness) مفيدٌ؛ لأن من الشائع أن نتحدث، أو نفكر، في شيءٍ واحدٍ بطرقٍ مختلفة. افترِضْ أنك اكتشفت أن جون لوكاري هو (is)٢٤ ديفيد كورنويل. إن is هنا، is الهوية،٢٥ يجب تفرقتها عن is الحَمل،٢٦ كما في: لوكاري «هو» إنجليزي. أن تقول لوكاري هو كورنويل، أي لوكاري وكورنويل متماهيان، هو أن تقول إن الرجل المدعو «لوكاري» والرجل المدعو «كورنويل» هما الفردُ عَينُه.
يمكن لأي شيء أن يُعطَى أسماءً متعددة، ولأي شيء أن يوصَف بطرقٍ مختلفة. وأنت قد تعرف شيئًا ما تحت اسمٍ أو وصفٍ ما، ولكن لا تعرفه تحت اسمٍ أو وصفٍ آخر. تخيلْ أنك مسافر في أستراليا، وتزمع أن تزور إرز روك Ayres Rock، وفي الطريق إليها سمعتَ حديثًا عن صرحٍ صخري مثير يُسَمَّى أولُرو، فأسِفتَ أن ليس لديك وقتٌ كافٍ لزيارتها أيضًا. ثم بعد ذلك بزمانٍ اكتشفتَ أن أولُرو هي إرز روك. إنك في تَجوالِك حول إرز روك قد زرتَ أولُرو دون أن تعلم ذلك.

إن نظرية الهوية تَمُد فكرةَ الهوية إلى الخواص. فالخواص، شأنها شأن الأشياء، قد تشملها دعاوي الهوية. «أحمر» هو لون الطماطم الناضج. ها هي خاصةٌ مفردة، لون، تُسَمَّى بمحمولين متمايزين: «يكون أحمر»، «يكون لون الطماطم الناضج». ومثلما يجوز للمرء أن يُلِمَّ بإرز روك وألُرو دون أن يعرف أن إرز روك وألُرو متماهيان، كذلك يجوز أن يفشل المرءُ في إدراك أن محمولين اثنين يُسَمِّيان في الحقيقة نفس الخاصة. فأنتَ قد تَعلم أن لونًا معينًا هو أحمر دون أن تعلم أنه لون الطماطم الناضجة (إذا كنتَ مثلًا تجهل الطماطم).

تركز نظريات الهوية على ما أسماه سمارت «الهويات النظرية» theoretical identities. هذه الهويات يميط عنها اللثامَ العلماءُ الذين يستكشفون الطريقة التي يَتَرَكَّب بها العالَم. فالبَرق، فيما اكتشفنا، هو تفريغٌ كهربي، والماء هو H2O، والحرارة هي متوسط الطاقة الحركية للجزيئات، والسيولة هي نوع معين من الترتيب الجزيئي. يذهب صاحب نظرية الهوية إلى أنه رهانٌ جيد أن أبحاث الدماغ سوف تُفْضِي إلى اكتشاف أن خواص معينة نُسَميها اليوم باستخدام ألفاظٍ عقلية هي خواصُّ للأدمغة. الألم مثلًا قد يتكشَّف أنه قَدْحُ ألياف C في الدماغ. (هذا المثال، وهو المثال القياسي، قد ضُعِّفَ تجريبيًّا، ولكنه سيكون مُجدِيًا لتوضيح النقطة.) فإذا صَحَّ ذلك لَتَبَيَّنَ أن خاصةَ كونِكَ متألمًا هي في هويةٍ مع الخاصة النيورولوجية لِقَدحِ ألياف C.

لا تزعمُ نظريةُ الهوية أنها تقدم دعاوى هويةٍ معينة. فتأسيس هذه الدعاوى إنما هو مهمة الباحثين في الدماغ الذين يكتشفون ارتباطات بين المجريات في الدماغ وإفادات الأشخاص عن خبراتهم، بل تقدم نظريةُ الهوية تأويلًا لهذه النتائج، حين نُدلِي بخبراتنا الواعية فإننا نُدلِي بمجرياتٍ في دماغنا. وسوف تتكشف التفاصيلُ كلما تقدمَت علومُ الأعصاب.

سؤال ٦٤$

السؤال الذي لا بد أن نواجهه، والذي لا يمكننا أن نُسَوِّفَه أكثر من ذلك، هو: هل من المعقول (ولو معقولية بعيدة) أن نفترض أن الخواص العقلية، تلك الصنوف من الخواص التي قد يشكل امتلاكُك إياها مكابدتَك لِخبرةٍ واعية ما على سبيل المثال، هل من المقبول أن نفترض أنها خواصُّ الدماغِ لا أكثر؟ يبدو أن هناك أسبابًا قوية للشك في هذا. فكما لاحظنا سابقًا، فإن الكيفيات التي نواجهها عندما تُلِم بنا خبرةٌ واعية ما تبدو مختلفةً عن الكيفيات التي نجدها عندما نفحص الأدمغة، ولا تشبهها من قريب أو بعيد (من أجل قائمة مريحة انظر شكل ٢-١).

تَخَيَّلْ أنك في يومٍ مشرقٍ وأنت تقف في ميدان ترافالجر تشاهد باصًا أحمر ذا طابقين يمر عليك مُدَمدِمًا. إن لديك خبرةً بصرية بباصٍ أحمر، أنت تسمعه، ومحتملٌ جدًّا أنك تشمه، ومن خلال أخمصَي قدميك تحس مرورَه. إن كيفياتِ خبراتِك الواعية ناطقةٌ، ويمكن تَذَكُّرُها. ولكن هل يمكن الآن أن يفكر أيُّ أحدٍ جِدِّيًّا أننا لو فتحنا جمجمتَكَ ولاحظنا تشغيلات دماغك وأنت تمر بهذه الخبرة فسنواجِه هذه الكيفيات؟ وإذا كان هذا لا يُعقَل، فكيف يمكن أن نفترض أن خبرتَك هي مجردُ عمليةٍ في دماغك؟

ثمة نقطةٌ تمهيدية يجدر ذكرُها. افترِضْ لحظةً أن نظريةَ الهوية صائبةٌ؛ حالات العقل هي حالات الدماغ، ومرورك بخبرةٍ ما — رؤية وسماع وحس وشم باصٍ عابر — يُفترَض أنها عبارة عن مرور دماغك بسلسلة معقدة من العمليات. تخيل الآن أن أحد العلماء يلاحظ دماغَك وهو يمر بهذه السلسلة من العمليات. إن خبرات العالِم الواعية بدماغك هي نفسها، فيما يُفترَض، لا تعدو أن تكون سلسلةً معقدةً من العمليات في دماغ العالِم. (تذكر أننا نفترض جدلًا أن نظرية الهوية صحيحة). ولكن هل هو واضحٌ حقًّا أن كيفيات خبرتك تختلف عن الكيفيات التي يلاحظها العلماءُ عندما يفحصون الأدمغة؟ (لا تخلطْ بين كيفيات خبرة العالِم بدماغِك وكيفيات خبرتك بالباص العابر أو، ما يؤدي نفس الشيء إذا صَحَّت نظريةُ الهوية، كيفيات دماغك.)

إن الكيفيات التي نقارنها في هذه الحالة هي كيفيات العمليات في دماغ العالِم، والتي تتزامن مع ملاحظته لدماغك. ما نقارنه، بعد كل شيء، هو، بصريح العبارة، كيف تبدو خبرةٌ واعيةٌ ما للملاحِظ، وكيف هي عند مَن يكابدها. يعني هذا أننا يجب أن نقارن كيفيات الخبرات الواعية للعالِم الذي يلاحظ دماغَك (التي، بحكم الفرضية، هي نفسها مجريات نيورولوجية) بكيفيات خبراتِكَ الواعية (هي أيضًا، فيما نفترض، أحداث نيورولوجية). ورغم أن هاتين المجموعتين من الكيفيات ستكونان مختلفتين — إذ إن ملاحظةَ دماغٍ هي شيءٌ مختلف كيفيًّا عن ملاحظة باصٍ عابر — فليس ثمة مبرِّر للاعتقاد بأنهما لا بد أن تكونا مختلفتين في النوع اختلافًا دراميًّا.

والدرس المستفاد هو أننا إذا شئنا أن نقارن كيفيات الخبرات الواعية بكيفيات الأدمغة، فينبغي علينا أن نحرص على أن نقارن الأشياء الصحيحة. إذا صَحَّت نظريةُ الهوية، فإن تمتعَك بخبرة واعية، إذن، هو عبارةٌ عن اعتمال عمليات معقدة في دماغك. وإذا أردنا أن نقارن كيفيات خبرتك الواعية بملاحظات دماغك، إذن فالهدف الصحيح للمقارنة هو دماغ الملاحِظ. فالمجرات في دماغ الملاحِظ هي ما يشكِّل، بالنسبة للملاحِظ، «مَرأَى وحِسَّ» look and feel دماغِك.

ما أردتُ من كل هذا إلا أن أؤكد على نقطة بسيطة؛ أن مكابدةَ خبرةٍ ما هي شيء، وملاحظةَ مكابدةِ خبرة (خبرةٍ محدَّدة) هي، مرةً أخرى، شيءٌ آخر، فكيفيات هاتين ستكون مختلفةً يقينًا. النظر إلى دماغٍ هو، بعد كل شيء، لا يشبه من قريب أو بعيد مشاهدة باص عابر. غير أن الكيفيات لا يتعين أن تكون مختلفة في النوع اختلافًا جذريًّا، مختلفة جذريًّا بالطريقة التي يطنُّ بها الثنائيون.

قد يبدو هذا كأنه يغفل النقطةَ الخاصة بهمنا الأصلي. كان مفادُ تلك النقطة أننا عندما نتأمل ماذا تشبه أن تكون مشاهدةُ باصٍ عابر، عندما نتأمل في كيفيات هذه الخبرة، فإن هذه الكيفيات لا تبدو مرشَّحةً لكيفياتٍ ممكنةٍ للأدمغة. نحن نعرف ماذا تشبه أن تكون خبراتُنا الواعية، ونعرف ماذا تشبه الأدمغة، ومن الواضح أن الخبرات الواعية ليست كالمجريات النيورولوجية. ولكن حتى لو صَحَّ ذلك، فإن نظرية الهوية لا يمكن أن تغادر الساحة.

علينا أن نمضي هنا بحذر. فمن المغرِي أن تفكر كما يلي: عندما تلاحظ باصًا عابرًا، فأنت تلاحظ شيئًا ما أحمرَ، صاخبًا، له شميمُ أبخرةِ الديزل. ولكن الحمرة والصخب ورائحة الديزل المميزة ليست موجودةً في دماغك. وإذا تَفَحَّصتُ دماغَك وأنت تمر بهذه الخبرة فلن أجد أيَّ شيء له هذه الكيفيات. يقدم الفيلسوف ليبنتز مماثلة analogy:

«كما أن علينا أن نعترف أن الإدراك الحسي وذلك الذي يعتمد عليه لا يمكن أن يُفَسَّر ميكانيكيًّا، أي بصورٍ وحركات. افترضْ أن هناك آلة مُشَيَّدة بحيث تُنتِج تفكيرًا وشعورًا وإدراكًا حسيًّا، فإن بوسعنا أن نتخيلها وقد زِيدَت في الحجم، بينما هي محتفظةٌ بنفس النِّسَب، بحيث يمكن للمرء أن يَدخُلَها مثلما يَدخل طاحونة. عند ولوجنا بالداخل لن نرى إلا الأجزاء يرتطم أحدها بالآخر، ولن نرى ثَمَّ أيَّ شيء يمكن أن يفسِّر إدراكًا حسيًّا.»

(p. 181, 1787/1973)

(يمضي ليبنتز لِيُحاجَّ بأن «تفسير الإدراك يجب أن يُلتمَس في جوهرٍ بسيطٍ، وليس في مركَّبٍ أو في آلة».)

هذا الخط من الاستدلال مغلوط. فعندما تكابد خبرةً واعيةً ما — عندما تلاحظ باصًا عابرًا مثلًا — فإن خبرتك تكون مشبَّعةً كيفيًّا، ولكن ما هي كيفياتها بالضبط؟ أيًّا ما كانت تلك الكيفيات، فإنه ينبغي عدم الخلط بينها وبين كيفيات الشيء الملاحَظ (الباص في هذه الحالة). إن خبرتك للباص، أي كيفيات خبرتك للباص، ينبغي عدم الخلط بينها وبين كيفيات الباص.

إن نظرية الهوية تُماهِي (تُوَحِّد) بين خبرتك بالباص وواقعةٍ ما تَجرِي في دماغِك. ونحن في الأغلب نصف خبراتنا بالإشارة إلى الأشياء التي تُسببها في العادة. إن بإمكانك أن تُوَصِّل لي خبرةً أَلَمَّت بك في ميدان ترافالجر، بأن تنبئني أنها كانت خبرةً بباصٍ أحمر عابر ذي طابقين. وأنا لديَّ فكرةٌ لا بأس بها عما تشبه أن تكون ملاحظةُ باصاتٍ حمراء عابرة ذات طابقين، ولذا أكتسب حِسًّا بما خبرتَه أنت. ولكن، مرةً ثانية، فإن كيفيات الخبرة يجب عدم الخلط بينها وبين كيفيات الأشياء التي تُنتِجها. إن خبرةً بشيءٍ ما أحمر وضخم وذي رائحة ليست هي ذاتها حمراء وضخمة وذات رائحة.

هذه النقطة كانت واحدة مما أكد عليه سمارت Smart في دفاعه الأصلي عن نظرية الهوية، ولكنها لم تُقَدَّر دائمًا تقديرًا كاملًا. يعتمد التأثير البلاغي للدعوى بأن من الواضح جدًّا أن كيفيات الخبرة تختلف عن كيفيات الدماغ؛ يعتمد بشدة على توحيدنا المضمَر، كما يفعل ليبنتز فيما يبدو، بين كيفيات الخبرات وكيفيات الأشياء المخبورة. وما إن نميز بينها (ولا بد أن نميز بينها في أي رأي) حتى يغدو أقل وضوحًا بكثير أن كيفيات الخبرات لا يمكن أن يتبين أنها كيفيات نيورولوجية. وأيما شخص يُصِر على الادعاء بأن الكيفيات الخبروية تختلف نوعيًّا عن الكيفيات النيورولوجية؛ عليه أن يقدِّم لنا الحُجة. ما هي بالضبط كيفيات الخبرة؟ وما المبرر الذي لدينا لكي نعتقد أنها لا يمكن أن تكون كيفيات الأدمغة؟

ولقد أشرتُ إلى أن التمييز بين كيفيات الخبرات وكيفيات الأشياء المخبورة هو تمييزٌ محايدٌ نظريًّا، فالتمييز واجب على الثنائيين وعلى الماديين أيضًا. وجدير بالإشارة أنه ما دمنا نحفظ التمييز برسوخ في بالنا، يمكننا أن نبدأ في فهم نطاق من الظواهر العقلية التي قد تبدو ملغزة. هكذا الأمر، أيًّا ما يكون ما سنخلص إليه في النهاية عن وضع الكيفيات العقلية.

تأمل الأحلام، والصور الذهنية، والهلاوس، وما شابه. لقد أراد بعض المنظِّرين أن يُهَوِّن من شأن هذه الظواهر، أو يردها إلى عمليات معرفية محضة. المشكلة أنه لا مُتَّسَع في الدماغ للصور أو الهلاوس أو الأحلام، والتي تبدو كيفياتها مختلفة اختلافًا شديدًا عن الكيفيات القابلة للكشف في الأدمغة. افترض أنك تهلوس (ترى هلوسةً) طائرَ بطريقٍ ورديَّ اللون (أو تحلم أو تكوِّن صورةً ذهنية لطائرِ بطريقٍ وردي)، لا شيءَ في دماغك ورديٌّ أو بطريقيُّ الشكل. الحق أنه من الممكن تمامًا ألا يكون هناك أي شيء في أي مكان بقربك (أو، في هذه الحالة، في أي مكان على الإطلاق) هو وردي وبطريقي الشكل.

ولكن إذا كان لهذا أن يُوقِع الشكَّ في الهلوسة أو الحلم أو الخيال، فإنما يعتمد ذلك على خلطنا بين كيفيات الأشياء المهلوَسة (أو الحلمية أو المتخيَّلة) وبين كيفيات المهلوِس (الحالم، المتخيِّل). إن الهلوسة البصرية ببطريق وردي تشبه امتلاك خبرة بصرية ببطريق وردي، ولا تشبه بطريقًا ورديًّا. ومثلما أن الخبرة ليست وردية وبطريقية الشكل، كذلك الهلوسة ليست وردية أو بطريقية الشكل. ولا يلزمنا أيضًا أن نفترض أن الهلوسة أو التخيل أو الحلم ببطريقٍ وردي هو مسألة ملاحظة داخلية لمنظرٍ خيالي، يشبه الصورة، لِبطريقٍ وردي. إن فهم هذه النقاط يُمَكِّننا أن نسترخي قليلًا ونفكر بوضوحٍ أكبرَ حول طبيعة الهلوسة والخيال الذهني والحلم. (سيكون لديَّ المزيدُ لأقولَه عن أهمية الخيال وكيفيات الخبرات الواعية في الفصل السادس.)

مَهامُّ إبستمولوجية ناقصة

ماذا بوسع صاحب نظرية الهوية أن يقوله عن لاتماثل «المَنفَذ» إلى الحالات الذهنية؟ إن لديك «مَنفَذًا ذا امتياز» privileged access إلى أفكارك وخبراتك الحسية، ولدَى بقيتِنا، على أفضل الأحوال، منفذًا غير مباشر إلى حياتك العقلية. ولكن إذا كان العقل هو الدماغ، إذا كانت الخواص العقلية هي الخواص النيورولوجية، فإن من الصعب أن نرى كيف يمكن أن يكون هذا الأمر على هذا النحو. إن الخواصَّ العقليةَ خصوصيةٌ، والخواص النيورولوجية عامة.

هذه مسائلُ صعبة. وإذا وَجَبَ أن يكون لدينا بصيصُ أملٍ في توضيحها داخل الإطار المادي الذي تقدمه نظريةُ الهوية، فلا بد أن نفسر بطريقةٍ ما ذلك اللاتماثلَ دون اللجوء إلى فكرة أن البنودَ والمجريات العقلية مخبوءةٌ في حجرة داخلية ولا يمكن أن يراها إلا صاحبُها. هذا هو النموذج الذي أجاد حصرَه مثالُ فتجنشتين عن الجعران في العلبة. ولكن كيف يمكن حصرُ اللاتماثل على نحوٍ آخر؟

تأملْ، أولًا، ملاحظةً سِيقَت آنفًا بخصوص الفكر الواعي. إن التفكير هو شيءٌ ما نقوم به. ومثل أي شيء نفعله، فنحن في فِعلِنا إياه نكون في وضعٍ يسمح لنا أن ندرك أننا بصدد فِعلِه. ونحن، على ذِكر ذلك، قلما نعبأ بالتأمل في حقيقة أننا نفعل ما نفعله، غير أننا عندما نتأمل حقًّا فنحن لا نعمل ذلك كملاحِظين (ملاحظين في موقع جيد إبستمولوجيًّا) لما نحن نفعله. إن تمييزك لما أنت بصدده ينجم من حقيقة أنه أنت الذي بهذا الصدد.

تخيلْ أنك ترسم رسمًا بيانيًّا على السبورة لإيضاح محاضرة في اقتصاد بريطانيا ما قبل الرومان، وأنا ضمن المستمعين. قارن فهمَك للرسم بفهمي له. أنا أشاهد ما رسمتَه وأحاول أن أُؤَوِّلَه في ضوء محاضرتك. وأنت، في المقابل، تفهم دلالته مباشرةً. أنت قادرٌ على أن تفعل هذا لا لأن لديك نظرةً أفضل وأوثق للرسم، بل لأنه رسمُك، أنت رسمتَه بهذه الدلالة. أنت تحمل علاقةً مماثلة بأفكارك الخاصة. أنت تفهم دلالة تلك الأفكار لا لأن رؤيتَك إياها جيدةٌ بشكل خاص أو غيرُ معاقة، بل لأنك تفكر بها. تنطبق هذه النقطة لا على مجرد التفكير، بل على أي نوع من الفعل العمد. إن قدرتك على أن تنط الحبل تتضمن قدرتك على أن تميز أن هذا هو ما أنت بصدد فِعلِه.

ولأننا لسنا دائمًا نفعل ما شرعنا في فعله، فإن قدرتنا على أن نميز ما نفعله غير معصومة. فقد أَعُدُّ نفسي سائرًا غربًا، في حين أنني في الحقيقة سائرٌ شرقًا. وقد أحسبني أفكر في جدتي بينما في الحقيقة أنا لا أفكر في جدتي؛ ذلك أن الشخص الذي كنتُ أفترض دائمًا أنه جدتي هو شخصٌ دَعِيٌّ.

ماذا عن «مَنفذنا ذي الامتياز» إلى أحداثنا الحسية. من الواضح أن تمييزك أنك تعاني صداعًا هو تمييز مباشر وغير متوسَّط بشكل لا يرقى إليه منفذي أنا إلى صداعك على الإطلاق. هل علينا أن نفترض أن ضروبَ الصداع أشياء أو أحداث لا تمكن رؤيتُها إلا لمن يعانيها؟

ثمة نقطتان تستحقان الذكر؛ أولًا: في معاناتك خبرةً حسية واعية فأنت لا (١) تَخبُر الخبرةَ، و(٢) تلاحظ الخبرةَ، ربما بوثوقٍ خاص وبعضوٍ أو متفرِّسٍ إدراكي موجَّهٍ إلى الداخل. إن درايتك بالخبرة تتشكل، جزئيًّا على الأقل، من حيازتِك إياها. هذا هو ما يجعل الحديثَ عن «مَنفَذ» إلى خبرات المرء الحسية حديثًا مضلَّلًا. إن تمييزك أن بك صداعًا يتشكل، جزئيًّا، من حيازتك أو معاناتك للصداع. وبتعبيرٍ آخر: إن خبرتك الواعية بالصداع هي مسألة حيازتك صداعًا، فليس الأمر أن الصداع يحدث وأنت، إذ تلاحظه داخليًّا، تَخبُر حدوثَه.

ثانيًا، وترجيعًا لنقطةٍ سِيقَت آنفًا، يجب أن نفرِّق بين منظومةٍ إذ تمر بعمليةٍ ما أو تكون في حالةٍ ما، وبين ملاحظةِ منظومةٍ هي في عملية أو في حالة. إن ثلاجتي تُزيل الصقيعَ أوتوماتيكيًّا. فإزالةُ النظام للصقيع ذات مرة هي، على نحوٍ واضح، مختلفةٌ جدًّا عن ملاحظتي لإزالتها الصقيع. وبالمثل، معاناتك ألمًا هو شيء مختلف جدًّا عن ملاحظتي لمعاناتك الألم. والآن، إذا كانت «الملاحظة المباشرة لإحساسٍ» تساوي امتلاك هذا الإحساس، فليس ثمة لغز على الإطلاق في فكرة أنك أنت وحدك من يمكنه أن «يلاحظ مباشرةً» إحساساتك. وليس هذا أكثر إلغازًا من فكرة أن ثلاجتي فقط هي ما يمكن أن تزيل صقيعها.

مثل هذه الاعتبارات تشهد ضد الصورة الديكارتية، لا بتقديم دحض لتلك الصورة، بل بتقديم تصويرٍ بديل لما قد يكون متضمَّنًا في عملية الوعي الذاتي. وفقًا للنموذج الديكارتي، فإن الوعي الذاتي يشبه الوعيَ بأشياء وأحداث «خارجية»، وقد حُوِّلَ إلى الداخل. غير أننا، كما بَيَّنَ العَرضُ السابق بوضوح، لا يلزمنا أن نعتنق هذه الطريقةَ في النظر إلى المسألة. ويبدو أننا، بِغَضِّ النظر عن التصور الديكارتي، ينبغي ألا نقبلها.

ليس يعني ذلك أننا يجب أن ننبذَ الثنائيةَ ونقبل نظريةَ الهوية أو شكلًا ما آخَر من المادية، بل يعني حقًّا أن اعتبارًا يحبِّذ الثنائية، فيما يبدو، يحتاج إلى إعادة نظر. فقد يكون من الممكن استيعاب اللاتماثل الإبستمولوجي الذي نكتشفه عندما نتأمل الحالات العقلية، دون اللجوء إلى الثنائية. وسوف تكون لدينا مناسبة في الفصل السادس للعودة إلى هذا الموضوع.

مُجمَل

تقدِّم نظرية الهوية نفسَها كبديلٍ عن الثنائية، بديلٍ يضطلع بتفسير الظواهر التي تفسرها الثنائية ولكن بطريقة أكثر أناقة. ولقد لمستُ جانبًا من الجوانب التي تُضفِي وَجاهةً على نظرية الهوية. أحيانًا ما يُحاجُّ الثنائيون كما لو أن من الجلي الواضح أن خواص الحالات العقلية لا يمكن أن تكون هي خواص الأدمغة، أو خواص أي كيانٍ مادي في الحقيقة. وقد أومأتُ إلى أن قوة هذه الحجة تعتمد إلى حد كبير على دمجٍ ضمني لكيفيات الخبرات وكيفيات الأشياء المخبورة. والحق أن الأخيرة مختلفة تمامًا عن الكيفيات التي نَخبُرُها أثناء مشاهدة الأدمغة. ولكن هذا ليس بالشيء الذي ينبغي أن يُقلِق صاحب نظرية الهوية. فإذا ما ظَل الثنائيُّ مُصِرًّا على أن كيفيات الخبرات الواعية لا يمكن أن تمتلكها الأدمغة، فإن الكرة، إذن، تعود إلى ملعب الثنائي.

لستُ أَعنِي أن أترك انطباعًا بأن هذا هو نهاية المسألة. لقد بينتُ أنه ليس من الواضح أن كيفيات الخبرات لا يمكن أن تتماهى مع كيفيات الأجسام المادية المعتادة، ولكن ليس من الواضح أيضًا أنها يمكن أن تتماهى. وإنني لأناشدُ بالشك في أَيِّما شخصٍ يَدَّعِي أن أيًّا من الجوابين على هذا السؤال واضح.

ثمة نقطة أخرى مُقلِقة تركتُها دون مَساس تتعلق بوحدة الخبرة. فمن ناحية، فإن المخ منظومةٌ معقدة نحن آخذون في فهمها أخذًا تدريجيًّا وئيدًا. ومن ناحية أخرى، فإن خبرتنا بالعالم موحَّدة على نحوٍ مميز، فرغم أننا جميعًا نمتلك مَلَكاتٍ عقلية مختلفة كثيرة، فإن كلًّا منا في اللحظة الواحدة يبدو أنا مفردة بوجهة نظر مفردة أو منظور مفرد. (ويمكن أن نحاجَّ بأن هذا صحيح حتى بالنسبة للأشخاص الذين يُقال إن لديهم شخصيات متعددة.) كيف التوفيق بين هذه الوحدة في الخبرة وبين الطبيعة الواسعة التشتت والتشظي للمعالجة العصبية؟ لقد خَبَت الآمالُ في العثور على «وَحدةِ معالجة مركزية» نيورولوجية، أيْ نظيرٍ نيورولوجي لوحدة المعالجة المركزية للآلة الحاسبة. وحتى لو وضعنا يدنا على وحدة معالجة مركزية نيورولوجية، فليس من الواضح على الإطلاق أن عملها سوف يفسِّر وحدة الخبرة. إن وجهةَ النظر ما هي إلا نقطةٌ منها يُدرَك العالم. والعلاقة بين هذه النقطة وبين العالم المخبور تشبه العلاقة بين العين والمجال البصري؛ ليست العين داخل المجال البصري، بل تقف على حَدِّه.

لقد سعَى العلمُ تقليديًّا إلى التوفيق بين المظهر والواقع بنفي المظاهر إلى العقل. فأُخِذَت كثيرٌ من الملامح الظاهرية للعالم — الألوان مثلًا — على أنها لا تنتمي إلى العالم، بل إلينا نحن، إلى نقطة نظرنا للعالم. فلو أملنا، مع ذلك، أن نجعل العقول أجزاء من واقعٍ واحد، فنحن نواجَه بمهمة إيجاد مكانٍ للمظاهر داخل الواقع. وهذا يتطلب وضع نقاط النظر إلى العالم جميعًا داخل العالم. والعمل البارع، كما رأينا في تناول كيفيات الخبرات، هو الوضوح تجاه طبيعة المظهر، طبيعة نقاط الرؤية.

ورغم أن هذه تجبهني كنقاطٍ مركزية، فهي لم تلعب دورًا ذا بالٍ في الهجمات الفلسفية على نظرية الهوية. لقد تركزت تلك الهجمات على الدعوى بأن الحالات العقلية حالات وظيفية للكائنات التي تحوزها، وليست حالات مادية. وسيأخذ «المذهب الوظيفي» functionalism مركز الصدارة في الفصل الرابع.

قراءات مقترَحة

Although Democritus’ own writings have not survived, his defense of atomism — the view that everything that exists is nothing more than a fleeting arrangement of “atoms in the void” — is discussed by Aristotle, Plutarch, Galen, and other Greek philosophers. See Barnes, Early Greek Philosophy (1987), pp. 247–53; and McKirahan, Philosophy Before Socrates (1994), especially pp. 322–4 on “Compounds”. A standard collection of texts can be found in Kirk, Raven, and Schofield, The Presocratic Philosophers (1983), pp. 406–27. Francis Crick’s brand of materialism is developed in The Astonishing Hypothesis: The Scientific Search for the Soul (1994). Whether Crick’s hypothesis is “astonishing” is a matter of dispute. Thomas Hobbes defends materialism in part i of Leviathan (1651/1994). Julien Offraye de la Mettrie offers another early materialist model in Man a Machine (1747 and 1748/1994). For the biologically inclined, this edition includes, as well, La Mettrie’s Man a Plant.
The possibility of a neuroscientist who has mastered the neurophysiology of headaches but has never suffered from a headache touches on an argument that has come to be associated with Frank Jackson: the “knowledge argument”. The argument moves from the claim that, unless you have undergone an experience, you do not know what it is like to undergo that experience, to the conclusion that qualities of conscious experiences (so-called “qualia”) do not fit the materialist picture. You can know all the material facts (facts about brain goings-on, and the like) and yet fail to know facts about conscious experiences (what they are like), so facts about conscious experiences are not material facts. See Jackson’s “Epiphenomenal Qualia” (1982).
David Chalmers’s account of zombies appears in his The Conscious Mind: In Search of a Fundamental Theory (1996), chap. 3. The presence of an “explanatory gap” between material properties and the qualities of conscious experiences — what philosophers call “qualia” — is discussed by Joseph Levine, “Materialism and Qualia: The Explanatory Gap” (1983).
Wittgenstein’s best-known discussion of states of mind occurs in Philosophical Investigations (1953/1968). The extent to which Wittgenstein’s views are compatible with behaviorism is controversial. The philosopher most closely associated with behaviorism as a philosophical doctrine is Gilbert Ryle. Ryle’s position is developed in The Concept of Mind (1949). Readers of The Concept of Mind, however, may doubt that Ryle’s position is adequately captured by what is commonly called philosophical behaviorism.
On the psychological front, there is less ambiguity. J. B. Watson’s “Psychology as the Behaviorist Views It” (1913) sets out the position clearly. More up-to-date discussion and defense of psychological behaviorism can be found in B. F. Skinner’s Science and Human Behavior (1953). See also Skinner’s “Behaviorism at Fifty” (1963). Skinner’s Verbal.
١  أي على أنهما «متعاوضان» interchangeable يمكن استعمال أحدهما مكان الآخر. (المترجم)
٢  قدَّمَ فرانك جاكسون Frank Jackson مثالًا شهيرًا لذلك، هو «ماري عالِمة النيوروفيزيولوجيا». يقول جاكسون: «ماري عالِمةٌ لامعةٌ اضطُرَّت، لِأَيِّما سببٍ، إلى أن تدرس العالَمَ من غرفةٍ أبيض وأسود من خلال شاشة تلفاز أبيض وأسود. وقد تخصصَت في نيوروفيزيولوجيا الإبصار، واكتسبت، دعنا نفترض، كل المعلومات الفيزيائية التي يمكن اكتسابها عن الذي يجري عندما يرى الناسُ طماطمًا ناضجًا، أو يرَون السماءَ، ويستخدمون كلمات مثل «أحمر» و«أزرق» … إلخ. تكتشف ماري، على سبيل المثال، بالضبط أية اقترانات من الأطوال الموجية من السماء تثير الشبكية، وكيف يؤدي ذلك بالضبط، من خلال الجهاز العصبي المركزي، إلى انقباض الأحبال الصوتية وإخراج الهواء من الرئتين اللتين تنتجان التلفظ بعبارة «السماء زرقاء» … ماذا يحدث إذا أُطلِقَت ماري من غرفتها الأبيض والأسود، أو أُعطِيَت شاشة تلفاز ملونة؟ هل ستتعلم أي شيء أم لا؟ من الواضح تمامًا أنها سوف تتعلم شيئًا ما عن العالم وعن خبرتنا البصرية بالعالم. ولكن هذا يثبت على نحوٍ لا مردَّ له أن معرفتها السابقة كانت غير كاملة. وبما أنها كان لديها كل المعلومات الفيزيائية، إذن ثمة معرفة أكثر من المعرفة الفيزيائية لكي تُكتَسب، والمذهب الفيزيائي من ثم زائف» (Jackson, F., 1982, “Epiphenomenal Qualia,” Philosophical Quarterly 32: 127–136).
٣  في عملية «التعميم الاستقرائي» inductive generalization نحن نستمد خصائص فئة كلية من خصائص «عينة» sample من هذه الفئة، أو نستخلص نتيجة حول «جميع» الأعضاء في مجموعة ما من خلال ملاحظات عن «بعض» أعضاء هذه المجموعة:
ملاحظة ١: س١ يتسم بالخاصة ص.
ملاحظة ٢: س٢ يتسم بالخاصة ص.
ملاحظة ٣: س٣ يتسم بالخاصة ص.
وهكذا.
إذن كل س يتسم بالخاصة ص.
يُستخدم التعميم الاستقرائي في مجالات كثيرة، مثل البحث العلمي والمسح الاجتماعي واستطلاعات الرأي السياسية … إلخ. غني عن القول أن ملاحظة جميع الأفراد (المجتمع الأصلي population) في المجموعات الهائلة العدد هو أمر صعب ومكلِّف، وكثيرًا ما يكون مستحيلًا عمليًّا. الأمر الذي يُلجِئنا إلى إجراء «أخذ عينة» sampling، وفحص هذه العينة لِتَبَيُّنِ خصائصِها، ثم «تعميم» generalization هذه الخصائص على جميع أعضاء المجموعة الأصلية (المجتمع الأصلي). ولكي يكون هذا التعميم صائبًا أو قريبًا من الصواب ينبغي أن تكون العينة «مُمَثِّلة» representative للمجموعة بكاملها، غير متحيزة لجانب دون جانب، أو مأخوذة من ركنٍ دون ركن.
هناك طرق كثيرة لاختيار العينة بحيث تقترب من النموذج المثالي لما ينبغي أن تكونه العينة، مثل طريقة «الاختيار العشوائي» random sampling، ولكي توصف العينة بالعشوائية لا بد من أن تخضع للقرعة، وأن تكون أمام جميع أفراد «المجتمع الأصلي المدروس» population فرص متساوية للوقوع في العينة.
ويتفاوت كم العينة الكافية لتمثيل مجتمعٍ ما وفقًا لطبيعة هذا المجتمع؛ هَبْ أن لديك دَلوًا به كرياتٌ من البِلي حمراء وخضراء وصفراء وبيضاء. إن عينة مكونة من ثلاث كريات من المحال أن تمثل المجموعة الكلية أيًّا كان عددها. وفي المقابل، هب أن لديك قِدْرًا ضخمًا من الحساء أو من المعكرونة قيد الطبخ. إن بإمكانك الحكم على ملوحة الحساء بتذوق ملعقة واحدة، وبإمكانك الحكم على درجة نضوج المعكرونة بتذوق واحدة منها؛ ذلك أن التجانس تام في هاتين المجموعتين بحيث تكفي عينة مكونة من فرد واحد للحكم على الكل. كذلك الحال بإزاء مجموعة كبيرة من الفئران المستنسخة التي يكاد كل فرد منها يطابق الآخر مطابقة تامة. لعلكَ الآن قد تبينتَ الصعوبة الكامنة في تحديد كم العينة التي تُعَد كافية لتمثيل مجتمع من المجتمعات أو مجموعة من المجموعات، والذي قد يتطلب تقنيات إحصائية ورياضية معقدة، ويبقى رغم ذلك أمرًا غير يقيني، ويهيب بملَكة الحُكْم لدينا، وربما باعتقاداتنا المسبقة عن أفراد المجموعة المَعْنِيَّة (للمزيد عن التعميم الاستقرائي ومنزلَقاتِه، انظر كتابنا «المغالطات المنطقية»، المجلس الأعلى للثقافة، ٢٠٠٧م، ص٥١–٥٨).
٤  أي تكون قد «صادرت على المطلوب»، فسَلَّمتَ تسليمًا بالمسألة المطلوب البرهنة عليها من أجل البرهنة عليها! وأنت بذلك تجعل النتيجة مقدمةً، وتجعل المشكلةَ حلًّا، وتجعل الدعوى دليلًا. (المترجم)
٥  مشكلةٌ عتيدةٌ في «فلسفة العقل»، تتناول الأساس المنطقي لاعتقادِ المرءِ بأن للآخرين عقولًا، مثل عقله، وحالات عقلية. فأنا لا يمكنني الاطلاع على عقلك اطلاعًا مباشرًا، وكل ما بوسعي أن أفعله هو أن أستنتج مجرياته الداخلية من سلوكك الخارجي. إن اعتقاداتك وانفعالاتك وآلامك … إلخ مخبوءة عني؛ فالعقل فيما يبدو مكانٌ «خصوصي» غير مُجاز إلا لصاحبه. وحتى إذا أُتيح لي الاطلاع على مجريات دماغك النيورولوجية، قدح ألياف C مثلًا أثناء الألم، فإن الوجه الذاتي الكيفي لخبرتك يظل محجوبًا عني على نحوٍ لا حيلةَ فيه، كما أنني لا أعلم كيف يكون هذا الصنف من قدح هذه الألياف مصحوبًا بالوعي وبمشاعر الألم في الكائنات البشرية الأخرى مثلما هو في حالتي أنا الخاصة. والحجة الشهيرة في حل مشكلة العقول الأخرى هي «الحجة القائمة على المماثلة» argument from analogy، فأنا أشاهد الآخرين، على سبيل المثل، يسلكون كما أسلك، وتصير لهم العوارض التي تصير لي كلما وخزهم شيءٌ ووَقَعَ لهم ما أعرفه في حالتي على أنه «خبرة الألم»، فأستدل infer من ذلك على أن لهم عقولًا مثلي، وحالات عقلية مثل خبرة الألم … إلخ. غير أنني هنا فيما يبدو قد ارتكبتُ «تعميمًا غير مبرَّر» unwarranted generalization يقوم على عينة «غير ممثِّلة كميًّا» quantitatively unrepresentative sample، هي حالتي أنا، وهي واحدة، ليطبقها على مجموع البشر، وهم كُثر. (المترجم)
٦  يرى بعض الفلاسفة، مثل ديفيد شالمرز، أن أي وصف نيورولوجي للوعي، مهما بلغت دقتُه، فهو لا بد تاركٌ وراءه «فجوة تفسيرية» غير معبورة ما بين العملية النيورولوجية (المشاهَدة من الجميع) وخصائص الخبرة الواعية (المحجوبة إلا عن صاحبها). وسيبقى ما يسميه شالمرز «السؤال الصعب» the hard question قائمًا أبدًا: لماذا يتعين على تلك العملية الدماغية المعينة أن تُفضِي إلى خبرة واعية؟ إن بمقدورنا دائمًا أن نتصور عالمًا مأهولًا بكائنات لديها مثل تركيبنا النيوروبيولوجي جزيئًا لجزيء دون أن يكون لديها خبرة واعية البتة (الزومبيات zombies). أما في عالمنا القائم، فإن الوعي يمثل كيانًا واقعيًّا ماثلًا لا يمكن إغفاله، ولا يسعفنا العلم الفيزيائي في «رَدِّه». (المترجم)
٧  يترجمها د. فؤاد زكريا «أحوال».
٨  يذهب فتجنشتين إلى أن معنى أية كلمة هو طريقة استخدامها. والاستخدام الفعلي لجزء معين من اللغة هو أشبه ﺑ «لعبة» game، كالشطرنج على سبيل المثال. ولهذه اللعبة قواعد وضوابط محددة لا بد من مراعاتها من جانب من يستخدمونها. ونحن حين نتعلم «الألعاب اللغوية» نكتسب معنى الكلمات عن طريق استخدامها ومن خلاله، لَكأننا نتعلم «النحو» أو «المنطق» الخاص بكلمةٍ معينة! وإنما تنجم «المشكلات الفلسفية» عن قصورٍ في إدراك «النحو» الخاص بالكلمات. إن من يثير هذه المشكلات «مريض» يسيطر عليه نموذج لغوي معين. وما إن نفهم قواعد استخدام الكلمة على وجهه الصحيح حتى لا تعود لدينا رغبة في طرح مثل هذه المشكلات (أو «أشباه المشكلات»)، بعد أن يتم لنا الشفاء من هذه الهواجس عن طريق «العلاج الفلسفي» philosophical therapy أو التحليل اللغوي. (المترجم)
٩  المقولة category تعني: فئة، جنس، عائلة، نمط، نوع … إلخ. وهو مصطلح يُستخدَم ليدل على شريحة أساسية في تصنيف الواقع. والخطأ المقولي هو أن تضع الشيء في الفئة الخطأ، أو أن تعرض أشياء أو وقائع من نوعٍ ما كما لو كانت تنتمي إلى نوعٍ آخر، أو أن تنسب لشيءٍ ما خاصيةً لا يمكن أن تخص هذا الشيء. أن ترتكب خطأ مقوليًّا هو أن تقرن أشياء من تصنيفات مختلفة لا يجوز عقلًا أن تجتمع، كأن تقول: أعداد حمراء، فضائل بدينة، قضايا غير قابلة للأكل، أو أن ترى الاعتقادات على أنها أشياء تشغل حيزًا مكانيًّا في الرأس، أو ترى الأعداد كأشياء مكانية كبيرة، أو الزمن كشيء يتدفق … إلخ. ولما كانت جميع الأخطاء القضوية تتضمن ضربًا ما من الإسناد الخاطئ للخصائص، فإن بإمكاننا القول بأن أي خطأ هو، بمعنًى ما، «خطأ مقولي»: وضع شيء ما في فئة غير فئته الصحيحة، أو إدراجه في تصنيف أو شريحة لا تخصه. على أن مصطلح «خطأ مقولي» في الاستخدام الفلسفي الدارج يبدو أسوأ أنواع الإسناد الخاطئ؛ إذ يتضمن التصديق على ما هو في الحقيقة «محال منطقيًّا». أن تقول: «هذه الذاكرة بنفسجية»، فأنت تضفي على كيانٍ معين خاصةً «لا يمكن» أن يمتلكها هذا الكيان، لا مجرد أنه «تصادف» ألا يمتلكها. أما حين تقول «معظم الأمريكيين سود»، فأنت رغم خطأ عبارتك لا ترتكب «خطأ مقوليًّا»؛ ذلك أن كَون معظم الأمريكيين بيضًا هو صدق «عَرَضي» (طارئ، حادث) contingent فحسب، وليس ثمة استحالة منطقية في أن تنتظم الوقائعُ وتنصرف الأمور بحيث يكون معظمهم سودًا. لكي يكشف المرءُ خطأ مقوليًّا يتعين أن يبيِّن أنه ما إن يفهم الظاهرةَ المعنِية فهمًا صحيحًا حتى يتجلى لِعقله أن الدعوى المطروحة لا يمكن «من حيث المبدأ» in principle أن تكون حقًّا.
تلتقي جميع ضروب الخطأ المقولي في أنها تتضمن إساءة فهم لطبائع الأشياء التي تتحدث عنها. فهي تتجاوز الأخطاء العادية والبسيطة، كالتي تحدث حين ننسب لشيءٍ صفةً لا يتصف بها، ولكن كان من الجائز أن يتصف بها. الخطأ المقولي هو أن ننسب للشيء صفةً من المحال منطقيًّا، وفي جميع الأحوال الممكنة، أن يتصف بها. (المترجم)
١٠  يدافع باركلي، الذي التقينا به في الفصل الثاني، عن تحليلٍ رَدِّيٍّ للحديث عن الأشياء المادية إلى حديثٍ عن «أفكار» ideas (لفظة باركلي الجامعة لحالات العقل). إذا نجح مثل هذا التحليل، فإنه خَليقٌ أن يُثبِت أننا بغير حاجة إلى افتراض أن الأشياء المادية هي أي شيء «فوق وأعلى من» الأفكار. وإن تحليلات السلوكيين لَتَمضِي في الاتجاه المُعاكِس. (المؤلف)
١١  أي إنه وقع في «دور»، أو ضرب من الحجة الدائرية arguing in a circle، وهو بصفة عامةٍ نوع خاطئ من التفكير وغير منتِج. (المترجم)
١٢  Intrinsic: يترجمها د. مراد وهبة «باطنية» و«باطنة» («باطني»: يُقال على موضوع التفكير وليس على النسبة بينه وبين موضوع آخر، المعجم الفلسفي)، وترجمتُها في المعجم الملحق بكتاب «مدخل إلى الفلسفة» لوليم جيمس إيرل «جُوَّانية»، أي «جزء من طبيعة الشيء نفسها أو طبيعة الموقف أو المفهوم … إلخ»، كمقابلٍ ﻟ «بَرَّانية» extrinsic. وقد آثرتُ في هذا المقام ترجمتها ﺑ «داخلية» (كمقابل ﻟ «خارجية») للتخفيف. (المترجم)
١٣  آثرتُ مقابلة «داخلي» ﺑ «خارجي» بدلًا من «علائقي» relational. فأن تحمل خليتان علاقةً معينة إحداهما بالأخرى هو ملمحٌ علائقي للخليتين، ولكنه ملمحٌ داخلي للكائن العضوي الذي تنتمي إليه الخليتان. (المؤلف)
١٤  يقدم لنا الوعي كيفيات qualia محسوسة للخبرات، من قبيل الإحساس بألم أو سماع صوت أو رؤية لون، تلك الخصائص الذاتية للحالات العقلية كما تقع في خبرة الفرد ووعيه، وهي التي تحدد كُنهَ خبرةٍ ما أو تحدد «ماذا تشبه أن تكون» what it is like مكابدة هذه الخبرة، باستعارة التعبير المأثور عن توماس ناجل في مقاله الشهير What is it like to be a bat? إن الخبرة الواعية شأن ذاتي يستعصي على الفهم العلمي الموضوعي، وعلى المعرفة العلمية الفيزيائية بما فيها المعرفة النيوروفزيولوجية مهما تقدمت. وفي كتابه «العقل الواعي»، يحاج الفيلسوف ديفيد شالمرز بأن أي وصف نيوروفيزيولوجي ممكن للوعي سوف يترك وراءه «فجوة تفسيرية» explanatory gap مفتوحة ما بين العملية الدماغية وخصائص الخبرة الواعية؛ ذلك أنه ليس بمقدور أي نظرية نيوروفيزيولوجية أن تجيب عما أطلق عليه «السؤال الصعب» the hard question: لماذا يتعين على تلك العملية الدماغية المعينة أن تُفضِي إلى خبرة واعية؟ إن بوسعنا دائمًا أن نتصور عالمًا يعج بمخلوقات لديها تلك العمليات الدماغية دون أن يكون لديها خبرة واعية على الإطلاق. أما في عالمنا القائم، فإن الوعي يمثل كيانًا واقعيًّا لا يمكن إغفاله، ولا يسعفنا العلم الفيزيائي في «رَدِّه». لنتأمل الألوان على سبيل المثال، نحن نعرف أن للألوان علاقةً ما بالامتصاص الانتقائي وبانعكاس الموجات الضوئية المختلفة السعة، ونعرف أيضًا أن رؤية الألوان تشتمل على كثير من العمليات النيوروفيزيولوجية المعقدة. فهل هذا هو «كل ما هنالك»؟ كلا، فيبدو أن هناك، بعدُ، شيئًا آخر؛ هناك … «خبرتنا باللون». هناك الوعي وخواصه الذاتية القائمة بمعزِلٍ، والمتأبية على أي رد فيزيائي. يترتب على ذلك أن أية قائمة صحيحة موضوعيًّا وكاملة تمامًا لما هو كائن في العالم (أنطولوجيا) ينبغي أن تتضمن، بالإضافة إلى الأشياء، من قبيل المجرات والإلكترونات والكائنات العضوية والنسيج العصبي، الخبرات المختلفة للأفراد، خبرات الوعي بكل درجاته، بما فيها الأحلام. (المترجم)
١٥  للإنصاف ينبغي أن أسجل أن السلوكيين الأوائل كانوا في حالة رَدِّ فعلٍ لِما كان مشهودًا على نطاقٍ واسعٍ من فشل علم النفس الاستبطاني في أن يأتي بأي خير. (المؤلف)
١٦  في كتابه «الأبنية التراكيبية» syntactic structures (الذي يُعَد أهم إسهام في علم اللغة النظري في النصف الثاني من القرن العشرين)، يرى تشومسكي أن السرعة التي يكتسب بها الأطفال لغتهم الوطنية لا يمكن أن تفسرها نظرية التعلم، إنما تتطلب الاعتراف بوجود استعداد عقلي فطري يتمثل في نظام نحوي عالمي سليقي غير مكتسب يزوِّد الطفلَ بأنواع القواعد التي سيفهم الطفل أنها مدمجة في أمثلة الكلام التي سيصادفها في حياته. وبلغة الحاسوب، يمكننا أن نقول إنه لو لم يكن الطفل حائزًا سلفًا على الصنف الصحيح من العتاد الرخو (المرن/البرامج) software لما تسنَّى له أن يلتقط النظام النحوي للغة بالطريقة التي يحققها بالفعل. وفي مراجعته لكتاب «السلوك اللفظي» لسكِنَر، يسوق تشومسكي الأدلة على عقم النظرية السلوكية في دراسة اللغة، ويؤكد أنها إذا كانت قد نجحت مع الفئران وحيوانات المختبر حيث المثير واضح ودقيق، والإشراط بسيط إلى أقصى حد، فإنها لا تصلح مع الإنسان، فضلًا عن التعامل مع اللغة التي تتصف فيما تتصف به بالتعقيد والإبداع والتحرر من المثير. (المترجم)
١٧  حرفيًّا «منعكَس الرَّضْفَة» patella reflex. (المترجم)
١٨  ليست الأشياء هي ما يكرب الناس، بل فكرتهم عن الأشياء. هذا هو المبدأ الرواقي الذي يقوم عليه العلاج المعرفي الحديث cognitive therapy. ثمة منطقة بين المؤثر المحض والاستجابة، هي منطقة العِرفان cognition أو الإدراك، وهي التي تحدد كل ضروب المخرَجات، الانفعالية والسلوكية. وإنما في هذه المنطقة ينبغي أن يرتكز العملُ العلاجي الذي يهدف إلى تقويم الاضطرابات الانفعالية والسلوكية. (المترجم)
١٩  other things equal.
٢٠  مبدأ الاقتصاد (البساطة/نصل أوكام) هو مصادرة أساسية في التفكير العلمي، تفيد أن من واجبنا ألا نكثر من العناصر التفسيرية بغير ضرورة، أي أن نعد أبسط التفسيرات الصالحة هو التفسير الصحيح. هكذا لا يسمح العلم إلا بأقل عدد ممكن ولا غنى عنه من المسَلَّمات في تفسير أي ظاهرة، فإذا كنا بإزاء فرضيتين، ومع تساويهما في جميع الأشياء الأخرى، فإن الفرضية الأبسط تُعَد هي الصحيحة. إنه «مبدأ موجِّه» و«مصادرة كشفية» تشير علينا بأن نتوقع من الطبيعة أنها تستخدم أبسط الطرق الممكنة للوصول إلى أية غاية لها. (المترجم)
٢١  أشار بعض المناطقة إلى أن استخدام مبدأ البساطة (الاقتصاد) يتطلب أولًا تساوي جميع المزايا الأخرى للنظريات المقارنة، وإلا لكان علينا أن نسلم بنظرية العناصر الأربعة ونظرية الكواكب الخمسة بدعوى أنهما أكثر اقتصادًا مما نعرفه الآن! بديهي إذن أن علينا أن ننبذ النظرية الأبسط إذا كانت غير متفقة مع الوقائع. يقول برتراند رسل: «إن ما يفعله العلم في حقيقة الأمر هو اختيار الصيغة الأبسط التي تتفق مع الوقائع. ولكن من الجلي أن هذه مجرد قاعدة ميثودولوجية، وليست قانونًا للطبيعة. فإذا ما تبين بعد ذلك أن الصيغة الأبسط لم تعد سارية على الوقائع، فإن علينا أن نختار أبسط الصيغ التي تَسرِي» (Russell, B., On the notion of cause, with applications to the free-will problem. In H. Feigl & M. Brodbeck (Eds.), Readings in the philosophy of science, New York: Appleton-Century-Crofts, 1953, p. 401). ولعل من الحصافة، إذن، قبل التهليل لنظرية الهوية واقتصادها، أن نتذكر أن مبدأ الاقتصاد لا يكون معيارًا حقيقيًّا للمقارنة بين نظريتين، ولا يكون محكًّا ذا صلة أصلًا، ما لم يَثبُت تعادل النظريتين فيما دون ذلك، أي ما لم يثبت في حالتنا هذه أن نظرية الهوية ونظرية الثنائية تفسران مجريات العالم بنفس الكفاءة، وإلا فمن حق الثنائي أن يقول (مع ديفيد شالمرز): «تمامًا مثلما ضحَّى مكسويل بالنظرة الميكانيكية البسيطة إلى العالم، فدفع بفرضية المجالات الكهرومغناطيسية لكي يفسر ظواهر طبيعية معينة، فنحن بحاجة إلى أن نضحي بالنظرة المادية (الفيزيائية) إلى العالم لكي نفسر الوعي» (Chalmers, D. J., The conscious mind: In search of a fundamental theory, Oxford: Oxford University press, 1996, p. 169).
٢٢  أي في حالة غياب بدائل أفضل. (المترجم)
٢٣  يمكن تدبير حجج مماثلة لإثبات أن الأصوات والطعوم والروائح والملامس، بالمعنى الموصوف، لا وجود لها في العالم المادي. وقد دأب تقليدٌ طويلٌ، يمتد في التاريخ إلى جاليليو وديكارت ولوك على أقل تقدير، على تسمية الألوان والأصوات وما شابه «الصفات الثانوية» (الكيفيات الثانوية) secondary qualities. وتُعَد الصفات الثانوية قُوًى تمتلكها الأجسام المادية على إنتاج خبرات من صنوف معينة في الملاحِظين الواعين. (المؤلف)
٢٤  آثرتُ استخدام الضمير «هو» ليقوم مَقام فعل الكينونة «يكون» is في هذا السياق. (المترجم)
٢٥  “is” of identity.
٢٦  “is” of predication.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤