الفصل الرابع

المذهب الوظيفي والنظرية التمثيلية في العقل

لم تَنعم نظريةُ الهوية بالرواج بين الفلاسفة إلا لفترةٍ قصيرة. غير أن انحدارها لم يكن نتيجة هجماتٍ ثنائيةٍ مضادة، بل لِصعود تصورٍ جديدٍ للعقل؛ المذهب الوظيفي (الوظيفية) functionalism. لم يستنكف الوظيفيون من التزام أصحاب مذهب الهوية بالمادية، فرغم أن الوظيفية، كما سوف نرى، ليست نظرية مادية في ذاتها، فإن من الممكن أن تُرَى كنظريةٍ متوافقةٍ مع روح المذهب المادي، كما أن معظم الوظيفيين يَعُدُّون أنفسَهم ماديين بشكلٍ أو بآخر. هكذا يُجِيز الوظيفيون أنه على الرغم من أن الجواهر اللامادية — الأرواح مثلًا — يمكن تصورها، فإن كل جوهر هو على الأرجح جوهرٌ مادي. فإذا كان الأمر كذلك، فإن كل خاصة يمتلكها جوهرٌ هي مملوكةٌ لجوهرٍ مادي. هل هذا يتضمن أن كل خاصة هي خاصة مادية؟ هل الخواص العقلية جنسٌ من الخاصة المادية؟ إن الأمور هنا ضبابية. وسوف نستكشفها في الأقسام التالية.
إن المذهب الوظيفي يسود الساحةَ هذه الأيام في فلسفة العقل، وفي العلم المعرفي cognitive science، وفي علم النفس. يقدِّم المذهب الوظيفي منظورًا إلى العقل يلائم احتياجات كثير من العلماء التجريبيين، منظورًا يقدِّم حلولًا لحشدٍ من الألغاز الفلسفية المزمنة حول العقول وعلاقتها بالأجسام المادية. ومن الواضح أن الوظيفية — المذهب، إن لم يكن اللافتة — قد حفرت طريقَها إلى الخيال الشعبي عن طريق التليفزيون والصحافة. عندما تُعرَض المبادئُ الأساسية للوظيفية على غير الفلاسفة فإن الاستجابة في كثير من الأحيان هي «حسنٌ، هذا واضح، أليس كذلك؟»

لا يعني ذلك أن المذهب الوظيفي ليس له منتقدون، فكثيرٌ من الفلاسفة والعلماء التجريبيين، على العكس، وجدوا المذهبَ الوظيفي مَعِيبًا. غير أن مُناوِئي المذهب الوظيفي قلما يتفقون فيما بينهم بخصوص أين مَواطنُ القصور فيه على التحديد. الحق أن المناوِئين في الأغلب الأعم يُسَلِّمون عن طيب خاطر بأن الوظيفية على حق في بعض الأشياء وإن كانوا، مرةً ثانية، لا يُجمِعون على ما تَكُونُه هذه الأشياء. وبالنظر إلى عدم وجود منافِسين واضحين للمذهب الوظيفي، فقد اختار كثيرٌ من المُنَظِّرين التمسكَ بالوظيفية رغم اعترافهم بوجود ثغراتٍ ونقائصَ بها، على الأقل إلى أن يظهر في الأفق شيءٌ ما أفضل. بهذه الطريقة، فإن المذهب الوظيفي يفوز لِتَغَيُّب المنافِسين.

الصورة الوظيفية

تَزامَنَ ظهورُ المذهب الوظيفي مع اندلاع الاهتمام بالحَوسَبة والآلات الحاسبة في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. عندما نتأمل العمليات الحَوسَبِية التي تؤديها آلةٌ حاسبةٌ، فإننا نَضرِب صَفحًا عن عَتادِها الصُّلب hardware. ومِن الممكن لِميكانِزمَين مختلفين في التركيب اختلافًا شديدًا أن يؤديا نفس العمليات. يُعزَى، عادةً، إلى شارلس باباج Charles Babbage (١٧٩٢–١٨٧١) تصميم أول آلة حاسبة قابلة للبرمجة. تَطَلَّبَ تصميمُ باباج جهازًا مصنوعًا من تروس وأسطوانات وقضبان وروافع نحاسية وعُدَدٍ ميكانيكية متنوعة. كان مُقَدَّرًا لهذه الأعجوبة الميكانيكية (أسماها باباج المحرِّك التحليلي) إذ يتم تجميعُها أن تكون بحجم قاطرة سكة حديدية. ورغم أن هذه الآلة لم تكتمل قط، فليس لنا أن نشك بأنها لو كانت اكتمَلَت لَتَمَكَّنَت من تأدية (وإنْ بطريقةٍ أبطَأَ كثيرًا) نفس الضروب من الحوسبة التي تؤديها اليوم الحواسيب الإلكترونية. وبينما استخدم باباج تروسًا وأسطوانات، فقد استَخدَمَت الحواسيبُ المبكِّرةُ، التي شُيِّدَت في الخمسينيات وأوائل الستينيات، الأنابيب المفرغة. ونحن اليوم نستخدم صفوفًا من ملايين الترانزستورات الدقيقة المطمورة في رقائق السليكون.

تَنتُجُ اقتصادياتُ (وفورات) الحجم عندما ننتقل من التروس والأسطوانات النحاسية إلى الأنابيب المفرغة، ثم مرةً ثانيةً عندما ننتقل من الأنابيب المفرغة إلى الترانزستورات. هذه الاقتصاديات تُحدِث فارقًا عمليًّا في نطاق العمليات الحوسبية التي يمكن أن نتوقع من جهازٍ معين أن يؤديها. غير أننا عندما ننظر في الحسابات نفسها فقط، فإن كل هذه الأجهزة سواسية. قد يكون أحدُها أسرعَ أو أكثر ثباتًا أو أقل تكلفة من الآخر، ولكنها جميعًا تُنَفِّذ نفس الأنواع من الحوسبة. لهذا السبب، فإننا عندما نَعرِض للحَوسبات — أي تناول الرموز وفقًا لِقواعد صورية — نضرب صفحًا عن الطبيعةِ المادية للجهاز الذي يؤديها. ونحن إذ نفعل ذلك فإننا نميز سلوكَ الأجهزة الحاسبة على «مستوًى أعلى».

هل العمليات الحَوسبية عملياتٌ مادية؟ يُفَضِّل أصحابُ النزعةِ الوظيفيةِ أن يقولوا إن العمليات الحوسبية «تُنَفَّذ» realized (تُحَقَّق/تُؤَدَّى) في أنظمةٍ مادية. فالعملية المادية التي تُنَفِّذ سلسلةً حوسبية في آلة باباج تختلف عن العمليات المادية التي تحققها في آلةٍ حاسبة حديثة أو في جهازٍ قديم مزوَّد بأنابيب مفرغة بدلًا من الترانزستورات. (وإذا كان ثمة شيء من قَبِيل الجواهر اللامادية، فربما يمكن أن يكون للعملية عينِها تنفيذٌ لا مادي.) يَضُمُّ الوظيفيون هذه النقاطَ معًا إذ يصفون العملياتِ الحوسبية على أنها «متعددة التنفيذ» (متعددة التحقيق) multiply realizable.

يمكننا أن نتصور الآلة الحاسبة (الحاسوب) كجهازٍ يعمل بطريقةٍ تتيح لنا أن نصفه بأنه يؤدي حسابات على رموز. مثل هذا الجهاز يمكن أن يُصنَع من أي عدد من المواد — أو حتى، ربما، من خامةٍ روحية لا مادية — وأن يُنَظَّم بأي عددٍ من الطرق. إذن، عندما نتصور جهازًا على أنه آلةٌ حاسبة (حاسوب)، فنحن نتصوره دون اعتبارٍ لتركيبِه المادي. وتمامًا مثلما نَضرِبُ صَفحًا عن حجم ولون وموضع شكلٍ هندسيٍّ ما عندما يكون موضوعَ برهانٍ هندسي، فإننا نضرب صفحًا عن التركيب المادي لحاسوبٍ ما عندما ننظر إليه كجهازٍ حَوسبي.

العقول كآلاتٍ حاسبة

لنفترِض الآن أننا تصورنا العقولَ بنفس الطريقة على التقريب. فالعقل هو جهاز قادر على تأدية أنواعٍ معينة من العمليات. والحالات العقلية تشبه العمليات الحوسبية، على الأقل بقدر ما يمكن أن يشارك فيها، من حيث المبدأ، أيُّ عدد من الأنظمة المادية (وربما غير المادية). أن نتحدث عن عقولٍ وعملياتٍ عقلية هو أن نضرب صفحًا عن أيِّما شيءٍ يحققها، هو أن نتحدث على مستوًى أعلى.

وإنما عمدتُ إلى هذا التمييز المبدئي لكي أنقل لك نكهةَ المذهب الوظيفي. وينبغي ألا تُنَفِّرَك فكرةُ أن مثلنا من المخلوقات، المخلوقات التي تمتلك عقولًا، «لا تَعدو أن تكون آلات». ليس القصد من تشبيه الحاسوب أن يوحِي بأننا روبوتات آلية، مبرمَجون بتصلُّبٍ على أن نسلك كما نسلك. وإنما القصد أن العقول تحمل علاقةً بتجسيداتها المادية تشبه العلاقة التي تحملها برامج الحاسوب بالأجهزة التي تَجري عليها هذه البرامج. إن كل برنامج هو «مُجَسَّد» embodied، ربما، في جهازٍ مادي أو آخر. ولكن البرنامج بعينه يمكن أن يجري على أنواع مختلفة جدًّا من الأجهزة المادية. وبنفس القياس يمكننا أن نفترض أن كل عقل له تجسيدُ ماديٌّ ما، رغم أن العقول قد يختلف بعضُها عن بعض اختلافًا بعيدًا في نوع التجسيد المادي. ففي حالة الكائنات البشرية، فإن أدمغتنا تشكِّل العَتاد الصلب (العُدَّة الصلبة) الذي عليه تجري برامجنا العقلية (عَتادنا الرِّخو أو المَرِن). وفي المقابل، يشاركنا «سكان ألفا سنتوري» Alpha Centaurians سيكولوجيتَنا، عَتادَنا الرِّخو العقلي، إلا أن لها عتادًا صُلبًا مختلفًا جدًّا، وربما غير متقوِّم بالكربون.

إذا كان هذا صحيحًا، فسيبدو إذن أن ليس ثمة سر عميق في كيف تتصل العقول والأجسام. فالعقول ليست جواهرَ لا مادية متمايزة لها علاقة عِلِّية بالأجسام. والحديث عن العقول هو مجرد حديث عن منظومات مادية على «مستوًى أعلى». والشعور بألمٍ أو التفكير في فِيِنَّا ليس عملياتٍ دماغية إلا بقدر ما تكون عمليةٌ حوسبيةٌ ما، جمعُ عددين صحيحين مثلًا، عمليةً ترانزستورية. إن العمليات الدماغية وعمليات العتاد الصلب «تنفِّذ» (تؤدِّي/تحقِّق) الأفكار والحوسبة. غير أن هذه الأشياء — الأفكار، والمشاعر، والحوسبة — متعددة التنفيذ. إن بإمكانها أن تتجسد فيما لا نهاية له من الكائنات أو الأجهزة.

التفسير الوظيفي

يمكننا إذ نَتَلَبَّث في اللحظة الحاضرة مع أنالوجي الآلة الحاسبة، أن نتعرف على خيطين في المقاربة الوظيفية إلى العقل؛ الخيط الأول تفسيري، والآخر أنطولوجي. ولننظر أولًا إلى التفسير الوظيفي.

تخيَّلْ أنكَ عالِمٌ بإزاء حاسوبٍ أَودَعَته على كوكبِ الأرض مركبةُ فضاءٍ غريبة. قد تريد أن تعرف كيف تمَّت برمجةُ هذا الجهاز. وهذا فعلٌ يتضمن قدرًا من «الهندسة العكسية» reverse engineering. ستمضي رُجُعًا بأن تلاحظ المُدخَلاتِ والمُخرَجات، وتفترض عمليات حوسبية تَصِل المُدخَلاتِ بالمُخرَجات، وتختبر هذه الفرضيات بصدد مدخلات ومخرجات جديدة، وتنقح تدريجيًّا فهمَكَ لبرنامج الجهاز الغريب. يتصور الوظيفيون البحثَ العلمي في العقل كمشروعٍ مماثل لِهذا، فالسيكولوجيون يواجَهون ﺑ «صناديق سوداء»، بالآليات التي تتحكم في السلوك الإنساني. ومهمتُهم هي تقديم وصفٍ للعتاد الرِّخو (المَرِن) الذي يحكم تشغيل هذه الآليات (تَذَكَّرْ شكل ٣-١).

قارن مهمةَ فهم برنامج جهازٍ ما بمهمةِ فهمِ طبيعتِه الميكانيكية. من شأن حاسوبٍ غريبٍ أن يجذب اهتمامًا كبيرًا بين المهندسين الكهربيين. سيودون أن يعرفوا كيف تم تركيبه، وكيف يشتغل. إنما ينصرف اهتمامُهم إلى طبيعته الفيزيائية وليس إلى عتاده المرن. إن تفسير المبرمِج لعملِ الحاسوب وتفسير المهندس لَنَوعان مختلفان تمامًا من التفسير؛ أحدهما يفسِّر على «مستوَى العَتاد الصلب»، والآخر يفسِّر على مستوًى أعلى، «مستوَى العتاد المرن». وليس علينا أن نفهم هذين التفسيرين على أنهما في صراع، إنما هما تفسيران للشيء نفسه (وهو تشغيلُ جهازٍ ما) على مستويين مختلفين.

وبنفس الطريقة يمكننا أن نتخيل علماءَ أعصاب يفحصون الأجهزةَ العصبية لمخلوقاتٍ ذكية، ويقدمون تفسيرات تشغيلاتها وسلوكها على مستوى العَتاد الصلب. هذه التفسيرات ليست بالضرورة في منافسة مع التفسيرات التي يقدمها السيكولوجيون على مستوى العتاد المرن.

ورغم أنه مريحٌ لنا أن نتصور مستويَي العَتاد الصلب والعتاد المرن كمستويين متمايزين، فمن الممكن في الممارسة أن نتوقع قدرًا كبيرًا من التواصل العابر للمستويات بين العلماء. فإذا كنتَ منخرطًا في محاولة فك شفرة البرنامج الخاص بحاسوبٍ معين، فقد يفيدك فهم أشياء معينة عن التنظيم الميكانيكي للآلة. وكذلك الحال بالنسبة لِمهندسٍ يحاول فهمَ العَتاد الصلب للجهاز، فقد يفيد كثيرًا من فهم كيف تمت برمجته. وافترِضْ أننا نُدخِل طرفًا ثالثًا في الصورة، قانِص خَلَل trouble shooter، مهمتُه إصلاحُ الجهاز عندما يختل سلوكُه. إن قانص الخَلَل سيحتاج إلى أن يفهم العَتادَ الصلبَ والمرنَ للجهاز كليهما. وقد يعطب الحاسوب بسبب «بَقَّة» عتادٍ مرن، أو بسبب عيبٍ أو قصورٍ بالعَتاد الصلب. (الحق أن تعبير «بق» يرجع إلى الأيام التي كانت الحواسيب فيها تشغل حجراتٍ بأكملها ممتلئة بالأسلاك والأنابيب المفرغة، وعرضةً للتَلَف بواسطة بَقٍّ حَيٍّ حقيقي. وتروي الأسطورةُ أن لفظة «بق» نشأت عندما اكتشف الملازم أول جريس هوبَر Grace Hopper عُثةً محتبسة داخل ENIAC، وهو أول كمبيوتر رقمي حديث.)

وبالمثل، يجب أن نتوقع أن يستفيد علماءُ السيكولوجيا وعلماءُ الأعصاب من اطِّلاعِ كلِّ طرفٍ على أعمال الطرف الآخر في مواصلةِ مشروعِه الخاص. وعلى قانِصي الخَلَل (الأطباء، السيكولوجيين الإكلينيكيين، الأطباء النفسيين) أن يكونوا متهيئين لتشخيص اختلالات متباينة، مثل الاختلالات السيكولوجية (بَق العتاد المرن)، أو الفيزيولوجية (أعطاب العَتاد الصلب العصبي).

أنطولوجيا المذهب الوظيفي

يهيب الوظيفيون بمستويات تفسيرية مماثلة لمستويَي العَتاد الصلب والعتاد المرن اللذين نجدهما في تفسيرات عمل الحواسيب. غير أن المذهب الوظيفي ملتزم أيضًا بتمييز مستويات أنطولوجية. فالأمر ليس مجرد أن الحديث عن العقول وعملها هو طريقة أعلى مستوًى للحديث عَمَّا هو، في حقيقته وصميمه، نظامٌ ماديٌّ خالص، بل إن الألفاظ العقلية الأعلى مستوًى تُسَمِّي خواصَّ تُعَدُّ متمايزةً عن الخواص التي تسميها الألفاظ الأدنى مستوًى التي يتخذها العلماء المعنيون بالتركيب المادي للعالم. فرغم أن الحالات والخواص العقلية تُنَفَّذ (تُحَقَّق) بواسطة حالات وخواص مادية، فإن الحالات والخواص العقلية لا تقبل التماهي مع تلك الحالات والخواص المادية. الآلام، مثلًا، وفقًا للوظيفي، تُنَفَّذ في الجهاز العصبي، ولكن خاصةَ كونِ المرء في ألم ليست خاصةً مادية. فكيف يكون ذلك؟

تأملْ مرةً ثانيةً في أنالوجي الحاسوب. إن من الممكن لعمليةٍ حوسبيةٍ معينة أن تُؤَدَّى (تُنَفَّذ/تُحَقَّق) في تنويعةٍ من الأجهزة المادية المتباينة، في آلة باباج التحليلية، وفي حجرة مليئة بالأنابيب المفرغة والأسلاك، وفي جهازٍ مكوَّن من السليكون والترانزستورات، وحتى في جهازٍ هيدروليكي مكونٍ من أنابيبَ مملوءةٍ بالماء وصمامات. والأدمغة، وكثير من المنظومات البيولوجية في الحقيقة، تبدو قادرةً على تأدية حوسبات. وإذا كان ثمة شيء من قبيل الأرواح اللامادية، فإن لدينا كل ما يدعونا إلى الاعتقاد بأن هذه أيضًا يمكن أن تؤدِّي عملياتٍ حوسبية. حقيقة الأمر أنه لا نهاية لِضروب الأجهزة التي قد تكون قادرةً على الانخراط في حوسبةٍ معينة. ولكن إذا كان الأمر كذلك، فإن تأدية عمليةِ حوسبةٍ لا يمكن أن تكون نوعًا من العمليات المادية.

تأمل العمليةَ التي نَفَّذَت عمليةَ حوسبةٍ معينة — جمع ٧ و٥ لِتُنتِجَ ١٢ — في آلة حاسبة مبكرة. تكوَّنَت هذه العملية من مجريات كهربية في حشدٍ من الأسلاك والأنابيب المفرغة. ولكن جمع ٧ و٥ لِتُنتِج ١٢ ليست عملية أنابيب مفرغة وسلك. وإذا كانت كذلك لما أمكن أن تُؤَدَّى على مِعداد (جهاز حساب مكون من خرزات منسلكة على قضبان في إطارٍ صلب) أو في دماغ طفل في السادسة يتعلم الجمع. إن المِعداد والأدمغة لا تحتوي على أسلاك ولا على أنابيب مفرغة.

ويمضي الوظيفي في تبيان فكرتِه، والآن فإن نفس الأمر ينطبق على حالات العقل. تأملْ كونَك في ألم، رغم أنه ممكنٌ تمامًا أن انقداح ألياف C لديك هي في الحقيقة مسئولة عن كونك في ألم (أي إن تَأَلُّمَك يُنفَّذ بواسطة انقداح ألياف C)، فإن كونك في ألم ليس، كما سيعتبره أصحاب مذهب الهوية، نوعًا من انقداح ألياف C. ولو كان الأمر كذلك لما أمكن للمخلوقات التي تفتقر إلى ألياف C أن تَخبُر ألمًا. غير أن لدينا كل ما يدعونا إلى الاعتقاد بأن مخلوقاتٍ ذاتَ تكويناتٍ مادية واسعة التباين (وربما أرواح لا مادية إنْ كان ثمة أيٌّ منها) يمكن أن تكون في ألم.

والوظيفي إذ يَدَّعِي أن الخواص العقلية (أو لِنَقُل في مَقامِنا هذا الخواص الحوسبية) ليست خواصَّ مادية، فإنه لا يومئ بذلك إلى أن الخواص العقلية هي خواص لا مادية، خواص جواهرَ لا مادية. فباستبعاد الخيالات الوهمية، فإن امتلاك خاصة عقلية (أو الانخراط في حوسبةٍ ما) قد يتطلب بالفعل «قاعدة» مادية، امتلاك خاصةٍ ماديةٍ أو أخرى تحقِّق الخاصة العقلية (أو الحوسبية). إنما يقصد الوظيفي أن خواص المستوى الأعلى، مثل التأَلُّم أو حساب مجموع ٧ و٥، ينبغي ألا تتماهى مع، أو تُرَدَّ إلى، أو يُخلَط بينها وبين، مُحَقِّقاتِها.

وسيتوجب علينا في النهاية أن ننظر بمزيد من الإمعان في فكرة التحقيق (التنفيذ) التي نهيب بها هنا. ولكنْ لنحاولْ، قبل أن نمضي في ذلك، أن نكمل هذا الوصف المبدئي التقريبي للمذهب الوظيفي.

المذهب الوظيفي والمادية

سبق أن وصفتُ المذهبَ الوظيفي بأنه متوافق compatible مع المادية، ذلك الرأي القائل بأن كل شيء، وحالة، وعملية، هو شيء وحالة وعملية مادية. وفي ضوء ما قيل حول أنطولوجيا المذهب الوظيفي، يمكننا أن نرى الآن لماذا يناوئ الوظيفيون ما يعتبرونه الميول الردِّية المتأصلة في التصورات المادية للعقل. انظرْ مرةً ثانيةً في أنالوجي الحاسوب. كما رأينا لِتَوِّنا، فإن العملية الحوسبية يمكن أن يتعدد تنفيذُها، رغم أن عمليةً من نوعٍ معين في منظومةٍ مادية قد تُنَفِّذ عمليةً حوسبيةً مُعطاة، فإن العمليات الحوسبية لا ينبغي أن تتماهى مع عمليات مادية من هذا النوع. افترضْ مثلًا أن آلة باباج التحليلية تجمع ٧ و٥ برصف صفٍّ من التروس النحاسية. إننا لَنكونُ مُخَبَّلين إذا تخيلنا أن عملية الجمع هي مسألة تجميع صفوف من التروس النحاسية. وبِوُسعِ حاسبِ اليد الذي تستخدمه لِترصيد حساب دفتر شيكاتك أن يؤدِّي الحِسبةَ عينَها، ولكنه لا يحوي تروسًا على الإطلاق.

كما رأينا للتو، فإن الوظيفيين يؤكدون أنه في مثل هذه الحالات هناك شيئان؛ الحوسبة، والعمليات التي تُؤَدِّي (تنفِّذ/تحقِّق) أو تجسِّد الحوسبة. تخطئ نظريةُ الهوية، التي عَرَضنا لها في الفصل الثالث؛ إذ تَسلُك هذين الشيئين معًا. يرى الوظيفيُّ أن هذا خلطٌ بين مظاهر المستوى الأعلى للأنظمة ومظاهر المستوى الأدنى المنفِّذة. صحيحٌ أنه من خلال مروره بتغيراتٍ معينة في الحالة يؤدي حاسبُ جيبِكَ أو آلة باباج التحليلية حساباتٍ معينة. ولكنْ قارِنْ: بتحريك ذراعِك بطريقةٍ معينة أنت تعطِي إشارةً بانعطافةٍ إلى اليسار، إلا أننا يجب ألا نستنتج من هذا أن التأشير بانعطافةٍ يُسرَى هو نوعٌ من حركة الذراع. (اذكر الطرقَ التي قد تؤشِّر بها دون تحريك ذراعِك بهذه الطريقة.) كذلك فإن تأدية حوسبةٍ معينةٍ ليست نوعًا من تغير حالة السليكون، أو نوعًا من حركة التروس.

ربما يتعين على العمليات الحوسبية (شأن الإشارة باعتزام المرء الالتفاف) برغم قابليتها لتعددية التنفيذ، أن تنفَّذ في منظومةٍ مادية أو أخرى. إذا كان الأمرُ كذلك، لربما أمكن تبرير المادية. ولكن هل الأمر كذلك؟ يبدو متصوَّرًا على أقل تقدير أن هناك أرواحًا غير مجسَّدة، أي كيانات لا مادية بوسعها أن تمر بتغيرات لا مادية مختلفة في الحالة. قد يتبين إذ ذاك أن بوسع عملية حوسبية معينة متعددة التنفيذ أن تُنَفَّذ في منظومة إكتوبلازمية لا مادية. فإذا كانت مثلُ هذه المنظومات ممكنةً لَبَدا أن الوظيفية، بقدر ما تَحَدَّدت لنا حتى الآن، ليست متسقةً مع المادية، الحوسبات لا يلزم أن تكون مجسَّدةً ماديًّا.

الأمور هنا خَدَّاعة. وسوف نحتاج على كل حالٍ نظرة أكثر وضوحًا إلى النطاق الميتافيزيقي قبل أن نغدو في أي موقع يسمح لنا بتقييمها. ولَسوف نعود إليها في الوقت المناسب. ولنَخلُصْ مبدئيًّا، في نفس الوقت، إلى أن الوظيفية، كما أوضحنا بدقة حتى الآن، يمكن أن تكون صحيحة، حتى لو تكَشَّفَ أنْ ليس ثمة أشياء أو خواص أو أحداث لا مادية، أو حتى أن الأشياءَ والخواص والأحداث اللامادية هي لسببٍ ما غيرُ ممكنة. إذن، أن يعتنق المرءُ المذهبَ الوظيفي لا يعني أن يدير ظهرَه للمادية.

عناصر المذهب الوظيفي

المذهب الوظيفي functionalism، شأنه شأن معظم ما ينتهي ﺑ ism في الفلسفة، ليس وجهة رأي فريدة أحادية المعنى. يبدأ الوظيفيون بمجموعة مشتركة من البصائر والقَناعات، ثم يمدونها بطرائق مختلفة. وقد سبق أن رأينا أن المذهب الوظيفي قد ازدهر مع مجيء الآلات الحاسبة. فنحن نميز بين البرامج والحوسبات، وبين العتاد الصلب الذي يُقال إنه يؤدِّيها. وبوسعنا، فيما يرى الوظيفيون، أن نطلق نفس التمييز في تفسير العقل. تَصَوَّر العقولَ كأجهزةٍ تُجرِي برامجَ (عتادًا مرنًا) على مقاديرَ وافرةٍ معقدة من العتاد الصلب، التي هي الدماغ البشري في حالة الكائنات الإنسانية. ومثلما أن العمليات الحوسبية تُؤَدَّى بواسطة عمليات في العَتاد الصلب للحاسوب دون أن تكون متماهية مع هذه العمليات، كذلك فإن الحالات العقلية تؤدَّى بواسطة حالات الدماغ دون أن تكون متماهية مع هذه الحالات.

الخواص الوظيفية

هذه المماثلة (الأنالوجي) بالحاسوب هي مجرد حالة خاصة من فكرةٍ أَعَم. تأمَّلْ وِين Wayne. وِين إنسانٌ ذكرٌ، طوله خمس أقدام وعشر بوصات، وهو نائب رئيس شركة صناعات جارجانتشوان المحدودة. يمتلك وِين، فيما يبدو، عددًا من الخواص؛ خاصة كَونِه إنسانًا، وخاصة كَونِه ذكرًا، وخاصة كونِه خمسَ أقدامٍ وعشرَ بوصات طولًا، وخاصة كونِه نائبَ رئيس.

ولننظرْ بتَمَعُّنٍ أكثر إلى الخاصة الأخيرة من هذه الخواص؛ خاصة كونِه نائبَ رئيس. إن امتلاك وِين هذه الخاصةَ عبارةٌ عن إيفائه بوصفٍ وظيفي معين؛ ذلك أن وِين هو نائب رئيس بفضل دوره في عمليات شركة صناعات جارجانتشوان المحدودة. وأيُّما شخص يَشغَل نفس الدور، بغضِّ النظر عن جنسه وطوله، وحتى بنيته البيولوجية (قد نتخيل وِين يُستبدَل به شمبانزي ذكي، أو إنسانٌ آليٌّ أقل كلفة)، فسيمتلك بذلك خاصة كونه نائب رئيس.

إن خاصةَ كَونِ المرءِ نائبَ رئيس هي خاصةٌ وظيفية. وامتلاك شيءٍ ما خاصةً وظيفيةً هي مسألة إيفاء ذلك الشيء بوصف وظيفي معين. ولكي ترى هذه النقطة تأملْ خاصةً أخرى؛ خاصة كون الشيء ساعة. يمتلك شيءٌ ما هذه الخاصة (بعربيةٍ واضحةٍ: يكون شيءٌ ما ساعةً) لا لأن له نوعًا محددًا من التركيب أو التنظيم الداخلي، بل بسبب ما يعمله، بسبب وصفِه الوظيفي. قد تُصنَع الساعاتُ من الشموع والتروس والبندولات، أو من اللوالب والبلورات المهتزة ومنظومات الأنابيب المملوءة ماء والصمامات. إن الشيءَ هو ساعةٌ لا لأنه مركَّبٌ بطريقةٍ معينة أو مصنوعٌ من موادَّ من صنفٍ معين، بل بسببِ خاصةٍ وظيفية. (قد يُصِر المرءُ على أن الساعة يجب أن تكون منتَجًا مصنوعًا، فالشيء الطبيعي الذي يحفظ الوقت لن يُعتَبَر ساعة. وأنا أَدَع جانبًا هذه المشكلةَ، فهي غيرُ فارقة في تبيان النقطة التي نحن بصددها. كما أدع جانبًا، في الوقت الحالي، مسألة ما إذا كان كون الشيء ساعة، أو كونه نائب رئيس هما خاصتان أصيلتان.)

إن مثال خاصة كون الشيء ساعة، ووصفي للخواص الوظيفية كخواص تمتلكها الأشياء بفضل وصفها الوظيفي؛ هذا المثال قد يولِّد انطباعًا بأن الخواصَّ الوظيفية هي بشكلٍ ما خواصُّ مفتعَلة أو «مصنوعة». ولكن تأمل الخاصة البيولوجية لكون الشيءِ عينًا. وللتقريب المبدئي، فإن العين هي عضوٌ يَستخلِص معلوماتٍ عن الأشياء من الإشعاع الضوئي المركَّب المنعكس بواسطة هذه الأشياء. يمكن أن تكون العين، وأن تُصنَع، من موادَّ مختلفة كثيرة، وأن تأخذ أشكالًا مختلفة كثيرة. فالعين المركبة عند النحلة تختلف عن عين الحصان، وعين الحصان غير عين الإنسان. وبوسعنا أن نتخيل أعينًا، بَعدُ، أبعدَ اختلافًا، في روبوتات أو مخلوقات من أماكن أخرى من العالم. إن شيئًا ما هو عين، شيئًا ما يمتلك خاصة كونِه عينًا، فقط في حالة أنه يَشغَل دورًا معينًا في المنظومة التي ينتسب إليها، إنه (لِنفترِضْ) يَستخلِصُ معلوماتٍ من إشعاع الضوء، ويجعل تلك المعلوماتِ متاحةً للمنظومة التي يخدمها.

قد نقول إن شيئًا ما يمتلك خاصةً وظيفيةً بفضل شغلِه دورًا معينًا. ولكن ماذا يعني أن «يَشغَل دورًا»؟ يحب الوظيفيون أن يفكروا في الأدوار على نحوٍ عِلِّيٍّ. يشغل شيءٌ ما دورًا معينًا إذا استجاب بطرقٍ معينةٍ لِمُدخَلاتٍ عِلِّية لِيُنتِجَ أنواعًا معينةً من المُخرَجات. القلبُ عضوٌ يدير الدم. يمتلك شيءٌ ما خاصةَ كونِه قلبًا بشرط أن يَشغَل هذا الدورَ العِلِّي. والقلوب، شأنها شأن الأعين، قد تختلف عبر الأنواع اختلافًا دراميًّا. ومع مجيء القلوب الصناعية لم يعد ضروريًّا للقلب أن يكون كيانًا بيولوجيًّا على الإطلاق.

fig14
شكل ٤-١
رغم أن قلبَك شيءٌ مادي، فإن خاصةَ كونِ الشيءِ قلبًا (إذا قبلنا الصورة الوظيفية) ليست خاصة مادية. إنها خاصةٌ يمتلكها قلبُكَ بفضل تكوينِه المادي الخاص الذي يُوَفِّقُهُ لدورٍ معين في عمل جهازِك الدوري. إن تكوينه المادي (وهو مثالٌ لِخاصةٍ ماديةٍ لا لبسَ فيها) يُنَفِّذ (يؤدي/يحقِّق) الخاصةَ الوظيفية، خاصةَ كونِه قلبًا. وهو يحقق هذه الخاصة الوظيفية لأنه يسبغ على الشيء الذي يمتلكه الصنفَ الصحيحَ من الأدوار العِلِّية. يُمَثِّل الشكل ٤-١ العلاقة بين خاصة كون الشيء قلبًا، والخاصة الأدنى مستوًى، خاصة كونه نوعًا معينًا من الهيئة البيولوجية. الخاصة الأخيرة تحقِّق الأُولى. والخاصتان ليستا متماهيتين؛ فكونُ الشيءِ قلبًا لا يَقبل الردَّ إلى كونِهِ نوعًا معينًا من الهيئة البيولوجية. والشيءُ الذي لديه خاصةُ كونِه قلبًا بفضل امتلاكِه خاصةَ كونِه هيئةً بيولوجية من النوع «ك» يمتلك كلتا الخاصتين. (كما سنرَى في الفصل السادس، فإن هذا من المترتبات ذات الدلالة الخاصة للمذهب الوظيفي.)

بالعودة إلى الآلات الحاسبة، يمكننا أن نرى أن العملياتِ الحوسبيةَ قابلةٌ للتمثيل بواسطة أُطُرٍ أو عُقَدٍ في رسومٍ بيانية. يمثل كلُّ إطار أو عقدة وظيفةً تأخذ أنواعًا معينة من المُدخلات، وتُنتِج أنواعًا معينةً من المُخرَجات. والجهاز الذي يؤدي هذه الوظائف يعمل ذلك لأنه يمتلك الصنفَ الصحيحَ من البِنية العِلِّية. وهو يمتلك هذه البِنيةَ بفضل تكوين وترتيب أجزائه المادية.

الخواص العقلية كخواص وظيفية

يَعتبِرُ المذهبُ الوظيفيُّ الحالاتِ والخواصَّ العقليةَ حالاتٍ وخواصَّ وظيفية. تُعَد حالةٌ ما حالةً وظيفيةً من نوعٍ معين إذا كانت تَفِي بوصفٍ وظيفي معين، أي إذا كانت تلعب دورًا عِلِّيًّا من نوعٍ معين في المنظومة التي تنتمي إليها. وتُعَد خاصةٌ ما خاصةً وظيفيةً إذا كان امتلاكُها من جانبِ شيءٍ ما يعود إلى إيفاءِ ذلك الشيءِ بدورٍ عِلِّيٍّ من نوعٍ معين.

لقد تحدثتُ في عرضي للمذهب الوظيفي عن الخواص والحالات. وسأدخر العرضَ المفصَّل للخواص لفصلٍ لاحق. وبوسعنا في الوقت الحالي أن نمضي لِنُمَيِّزَ الحالات عن الخواص كما فعلنا في الفصل الثالث. الحالةُ هي امتلاك شيءٍ ما لِخاصةٍ ما في وقتٍ واحد. أما الأحداث أو العمليات فتتضمن تغيرات للحالة. عندما يمضي شيءٌ ما إلى حالةٍ معينة فإنه يأتي إلى امتلاكِ خاصةٍ معينة، وعندما تتغير حالةُ شيءٍ ما يتوقف عن امتلاك خاصةٍ ما ويأتي إلى امتلاك خاصة متمايزة عنها. بوسعنا أن نتصور العمليات على أنها سلاسلُ منَمَّطة من الأحداث.

وأنا أذكر كل هذا ببساطة لكي أُخَفِّف ضروبًا ممكنة من القلق من جراء المراوحة بين الحديث عن الخواص والحديث عن الحالات (أو العمليات أو الأحداث). الحالة ليست خاصة، ولا الخاصة حالة. إلا أنه في مناقشة المذهب الوظيفي يكون من المريح أحيانًا الحديث عن خواص، وأحيانًا أخرى الحديث عن حالات.

تَدمِج صورةُ المذهب الوظيفي على اللوحة؛ تَدمِجُ الفكرةَ المركزية الخاصة بتعددية التنفيذ. فالخواصُّ العقليةُ قابلةٌ للتنفيذ (التحقيق) بواسطة، ولكنْ ليست متماهيةً مع، الخواصِّ المادية. فالخاصة العقلية نفسها، خاصة التأَلُّم مثلًا، قد تُنَفِّذها خاصةٌ معينة في الإنسان، وخاصةٌ أخرى مختلفةٌ تمامًا في أحد اللافقاريات. تخيلْ أنك الآن تعاني ألمًا معينًا، صداعًا مثلًا، وافترِض أن حالة نيورونية معينة تؤدي هذا الألم. إن الحالة النيورونية لها تكوينٌ مادي يمكن تحديدُه. ربما يمكن أن يضطلع علمُ «عتادٍ صلب» ذو مستوًى أدنى، النيوروبيولوجيا، بدراسة هذا. إلا أن ما يجعل الحالةَ تأديةً للألم ليس التكوين المادي، بل شغلها نوعًا معينًا من الدور العِلِّي داخل جهازك العصبي. وبتعبير نود بلوك Ned Block يمكننا أن نقول إن ما يجعل الألمَ ألمًا ليس امتلاكه طبيعةً مادية معينة، بل شغله الصنفَ الصحيح من الدور العِلِّي.
تحذير: في وصفي للمذهب الوظيفي أستبعد نوعًا من الوظيفية قَدَّمَه د. م. أرمسترونج ود. لويس. اعتَبَر أرمسترونج ولويس الخواصَّ العقلية خواصَّ وظيفية، ولكنهما وَحَّدا بين هذه وبين ما يَعُده غيرُهما من الوظيفيين كمحقِّقاتٍ realizers لها. الحالة العقلية، عند أرمسترونج ولويس، هي الشاغل لدورٍ عِلِّيٍّ معين. أما المذهب الوظيفي الذي نعرضه في هذا الفصل فيوَحِّد (يُماهِي) بين حالات العقل وبين الأدوار، وليس شاغليها.

الوظيفية والسلوكية

الوظيفيون إذن يرفضون نظرية الهوية. يَعتَبِر الوظيفيون أصحابَ مذهب الهوية رَدِّيِّين ضَيِّقِي الأفق، وفلاسفةً يهدفون إلى أن يَرُدوا العقليَّ (وربما أيَّ شيءٍ آخر) إلى الفيزيقي. الوظيفيون مناوِءون صارمون للردِّية، وملتزمون بصلابةٍ بتَصَوُّرٍ للعالم على أنه يتضمن مستوياتٍ من الخواص متمايزةً وغيرَ قابلة للرَد. ورغم أن المستويات الأعلى يُعتقَد أنها «مستقلة» فيما يتعلق بالمستويات الأدنَى (المستويات الأعلى لا يمكن أن تُرَدَّ إلى، ولا تتماهَى مع، ولا تنحدر إلى، المستويات الأدنى) فإن المستويات الأعلى توصَف عادةً بأنها «تَعرِض ﻟ supervene on» (تعتمد على و/أو تتحدَّد ﺑ) المستويات الأدنى. (سيكون لديَّ المزيد لِأقوله في الفصل السادس عن التبعية/العارضية١  supervenience، والتحديد والاعتماد فيما بين المستويات.)
والوظيفيون ليسوا أقل صلابةً في رفض السلوكية. أن تكون في حالةٍ ذهنيةٍ معينة، وفقًا للسلوكيين، هو أن تستجيب للمثيرات بطريقةٍ معينة؛ أن تكون في ألمٍ هو أن تستجيبَ لِصنوفٍ معينةٍ من المثيراتِ بِطرائقَ مألوفةٍ، أو على الأقل أن تكون ميالًا (لديك استعداد) للاستجابة. إن فكرةَ الاستعداد (النزوع) التي يهيب بها السلوكيون هي فكرةٌ واهية بشكلٍ ملحوظ. فالسلوكيون لا يعتبرون الاستعدادات كحالاتٍ أصيلة للأشياء، فإذا كانت الزَّهريةُ هشةً فليس ذلك أنها في حالةٍ معينة، بل هشاشة الزهرية هي ببساطة أنها يَصدُق عليها، بافتراض تَساوي كل شيء آخر،٢ أنها إذا ضُرِبَت فسوف تنكسر. فكل ما في أمر امتلاك الزهرية هذا الاستعداد هو انطباق هذه القضية الشرطية conditional (المقيَّدة qualified) عليها. وقد صُمِّمَ المقيِّد «مع تساوِي كل شيء آخر» لكي يستوعب «الاستثناءات»؛ ذلك أن الزهرية لن تنكسر مثلًا إذا كانت مُحاطةً بغلافٍ فقاعي، أو إذا ضُرِبَت بمضرب ستيروفوم.٣
fig15
شكل ٤-٢
إذا وجدتَ صعبًا أن تفهم كيف لشيءٍ لديه استعدادٌ معين ألا يكون ذلك مسألة كون هذا الشيء في حالة معينة؛ إذا وجدتَ ذلك صعبًا فلستَ وحدك. ومع ذلك، وبِغَضِّ النظر عن هذه المسألة، فالأوصاف السلوكية لحالات العقل تفشل فيما يبدو بشروطها ذاتها. فعندما نحاول أن نقول إلامَ يميل (يكون لديه استعداد) شخصٌ يمتلك حالةً ذهنيةً معينةً أن يفعل، فإننا نجد أنفسنا بلا استثناء مضطرين لِذِكر حالاتٍ ذهنيةٍ أخرى. فسوف تميل إلى أن تأكل شطيرة برجر كنج التي أمامك إذا كنتَ جوعانَ، مثلًا، فقط إذا كنتَ تميزه كطعام، وتعتقد أنه قابل للأكل، ولستَ تقبل شتى تعاليم النباتيين. الدرسُ هنا عامٌّ تمامًا؛ امتلاكُك حالةً ذهنيةً معينةً سيجعلك تميل إلى أن تسلك بطريقةٍ معينة فقط بالنظر إلى حالات ذهنية أخرى. وحلم السلوكي باطِّراح العقليِّ من خلال التحليل analyzing away هو حلمٌ لا يمكن تحقيقُه.
يتقبل الوظيفيون بسرورٍ هذه الملاحظةَ باعتبارِ حالاتِ العقل حالاتٍ وظيفيةً، حالات تتحدد بواسطة موضعها في شبكةٍ عِلِّيَّةٍ معقدة. الآلام مثلًا قد تتحدد بالإشارة إلى أسبابٍ معهودة (تَلَف الأنسجة، الضغط، درجة الحرارة المفرطة الارتفاع أو الانخفاض)، وإلى علاقاتها بحالاتٍ أخرى للعقل (فهي تُفضِي إلى اعتقادك بأنك في ألم، وإلى رغبتك في التخلص من مصدر الألم)، وإلى مُخرَجات سلوكية (أن تحرك جسمَك بطرائق معينة، أن تئن، أن تَتَعَرَّق). تصورْ تَأَلُّمَكَ كنتيجةٍ لِإمساكِك مقبضَ قِدرٍ حديدية تُرِكَت تسخن على الموقد (شكل ٤-٢).
هنا، كونُك في ألمٍ عبارة عن كونك في حالةٍ معينة، حالة تقف في علاقاتٍ عِلِّيَّةٍ ملائمة مع مُدخَلاتٍ حسية، وسلوكٍ مُخرَجٍ، وحالاتٍ أخرى للعقل. هذه الحالات الأخرى للعقل هي ذاتها يمكن أن تتحدد بالإحالة إلى أدوارها العِلِّية. والشكل ٤-٢ يقدِّم إلماعًا إلى هذه العلاقات.

توصيف الحالات الوظيفية

يُوحِي هذا المثال بأن التوصيفات الوظيفية لحالات العقل هي في خطر السقوط في الدور المنطقي circularity. فإذا كانت السلوكية تفشل في محاولة تقديم أوصافٍ غير دائرية لحالات العقل (أي أوصاف لا تتطلب هي نفسها ذِكرًا لِحالاتٍ عقلية أخرى)٤ فَبِأَي معنًى تكون الوظيفية محصَّنةً من نفس الصعوبة. يقول الوظيفيُّ إن تَأَلُّمَك عبارة عن كونك في حالةٍ تَشغَل دورًا عِلِّيًّا ملائمًا في اقتصادك السيكولوجي. ولكن هل هذه الحالة مما يمكن توصيفه على نحو يضيف محتوًى معلوماتيًّا؟ هل بوسعنا أن نحددها دون ذِكرٍ لِحالاتٍ عقليةٍ أخرى يتطلب تحديدُها ذِكرًا لِمَزيدٍ من الحالات العقلية، وهكذا حتى نعود القَهقَرَى في النهاية إلى الحالات التي بدأنا بها؟
من الردود المبدئية على هذه الصعوبة أن تُبَيِّنَ أن الوظيفية لا تهدف إلى أن «تَطِّرِح بالتحليل» analyze away حالات العقل. وكما يوضح شكل ٤-٢ فالوظيفي يَعتبِر حالاتِ العقل حقيقيةً تمامًا. الحق أن حالات العقل تؤخذ على أنها تَشغَل عُقَدًا في شبكةٍ عِلِّيَّة. فلا الألم ولا أي حالة عقلية أخرى يمكن أن توجد في غياب مثل هذه الشبكة العِلِّية. والعقول، بخلاف الحوائط الصخرية، لا تُبنَى بِضَمِّ عناصرَ مكتفيةٍ بذاتِها، بل بِخَلْق ترتيبٍ للعناصر يَعرِض الصنفَ الصحيحَ من البِنية العِلِّية. وتَدِين العناصرُ التي تُشَيِّد البِنيةَ — أي حالات العقل — بهويتها لِعلاقاتها بعناصرَ عقليةٍ أخرى. وجودُ حالةٍ عقليةٍ إذن يتطلب وجودَ كثيرٍ (من الحالات العقلية).

إلا أن هذا المَلمَح بالتحديد للعقلي يثير الهواجس حول الدور المنطقي. فإذا كانت الحالة العقلية تَدِين بطابعها لِعلاقاتها التي تحملها بحالاتٍ أخرى، فكيف يمكن لأي حالة أن يكون لها أي طابع؟ حاولْ أن تتخيل اقتصادَ مجتمعٍ كلُّ شخصٍ فيه يكسب قوتَه بِتَجريفِ شخصٍ آخَر.

قَدَّمَ ديفيد لويس خطًّا من الاستجابة لهذا الهاجس؛ يرى الوظيفيُّ أن الحالات العقلية يمكن توصيفها بالإحالة إلى موضعها داخل شبكةٍ عِلِّية. إذا كان الأمرُ كذلك لَوَجَبَ أن يكون بالإمكان تحديد هذه الشبكة ككلٍّ دون ذِكرٍ لأي حالة عقلية معينة. تخيلْ أن العقول يمكن تمثيلها بواسطة مخطط انسياب بيانات flow chart من النوع الموضَّح في شكل ٤-٢. مثل هذه المخططات الانسيابية قد تكون معقدة حقًّا. قد تحتوي مثلًا على ما لا نهاية له من الصناديق التي تُفَرِّع وصلات لا نهاية لها بصناديق أخرى.
تخيلْ أننا تَمَكَّنَّا من تحديد شبكة عقلية كاملة، فشيَّدنا مخططَ انسيابٍ كثيفًا عبر الخطوط المبيَّنة في شكل ٤-٢. وافترِض الآن أننا مَحَونا اللافتات داخل كل صندوق، واستبدلنا بها تعبيرات محايدة؛ فوضعنا F1 بدلًا من «حالة الألم»، F2 بدلًا من «الاعتقاد بأن المقبض ساخن»، F3 بدلًا من «الرغبة في مرهم»، F4 بدلًا من «الاعتقاد بأن المرهم في خزانة الدواء»، وهكذا (شكل ٤-٣). ولأنها لا تتضمن أي أفكار عقلية، يمكننا أن نترك تحديد المُدخَلات الحسية والمخرَجات السلوكية كما هو. (الحقيقة أنك، كما لاحظنا في فحصنا للسلوكية في الفصل الثالث، قد تشك في أن المُدخلات والمُخرجات يمكن أن تُعطَى ذلك النوع من التحديد المحايد المتصوَّر. إلا أنني، بُغيةَ الوضوح والبساطة، سأتغاضى عن هذه الصعوبة.) وأَطلِقْ على مخطط الانسياب الناتج وصفًا وظيفيًّا تامًّا. حالة الألم، إذن، هي حالة تَشغَل مكان F1 في أي منظومة تمتلك المِعمار العِلِّي causal architecture الذي تعرضه المنظومة الوظيفية التامة.
fig16
شكل ٤-٣

الفكرة هي: لأن هوية كل حالة تعتمد على العلاقات التي تحملها بالحالات الأخرى، فإننا لا يمكننا أن نحدد البنود العقلية بالتجزئة، بل فقط بتحديد الكل معًا. تأمل النقط في منظومةٍ إحداثية. إن كل نقطة لا تتميز إلا بعلاقاتها الفريدة بكل نقطة أخرى. ليس يعني ذلك أن الحديث عن نقاطٍ مفردة في فضاء إحداثي هو حديث دائري دائمًا وأبدًا، وإنما يعني أننا يجب أن نحدد المنظومة ككل. فنحن لا يمكننا أن نبدأ بتحديد عنصر مستقل مفرد، أو مجموعة عناصر، ثم نستخدم هذه لبناء تصور عن العناصر الباقية. وبالطبع فإننا ما إن تستوي لنا المنظومة في موضعها حتى يمكننا تمامًا أن نتحدث عن النقاط المفردة داخلها.

وبنفس الطريقة، ما إن تستوِي لنا مُصَبَّعَةٌ عقليةٌ حتى يمكننا أن نتحدث عن مواضع مفردة على تلك المصبعة؛ آلام مفردة ورغبات واعتقادات. كيف نصل إلى مثل تلك المصبَّعة؟ ربما أننا نكتسبها في تَعَلُّمِنا، ونحن أطفال، أن نتحدث عن الآلام والرغبات والاعتقادات. ورغم أننا نكتسب القدرة على فِعل ذلك عبر الزمن، فإننا لا نكتسبها بالتجزئة. وإنما، كما يعبر فتجنشتين: «يشرق النورُ شيئًا فشيئًا على الكل»٥   (1969), § 141.

إذا كان هذا ما زال يبدو مغرِقًا في الغموض، تأملْ في عملية اكتساب طفلٍ لمهارةٍ معقدة، ركوب الدراجة مثلًا. يتطلب ركوبُ الدراجةِ تناسقَ عددٍ هائل من المهارات الصغيرة المكوِّنة. غير أن الطفل لا يتعلم هذه المهارات بمفردها أو على حِدة، بل يتمكن من المهارات معًا، والتمكن من كل مهارة يعتمد بدرجةٍ ما على التمكن من الأخريات. وبعد التمرس يغدو الطفل ممتلكًا للمهارات كوحدةٍ واحدة. وما إن يتم التمكن من المهارات حتى يمكن الارتقاء والامتداد بها إلى غير حد.

الوظيفيون إذن، بخلاف السلوكيين، لديهم فيما يبدو مَصادرُ لتحديد حالات العقل دون دَورٍ منطقي. قد يستفيد السلوكيون بالطبع من نفس الحيلة، فمنظومتنا الوظيفية الكلية هي، بعد كل شيء، مُرساةٌ في مُدخَلاتٍ ومُخرَجاتٍ سلوكية. هل يعني ذلك أن المذهبَ الوظيفي هو، في حقيقة الأمر، مجردُ صورةٍ مُبَهرَجةٍ من السلوكية؟

ربما لا. فالسلوكي قد يصف كونَك في ألمٍ على أنه استجابتُك لنوعٍ معين من المُدخَل بنوعٍ معين من السلوك، ويستخدم تحديدنا لمنظومةٍ وظيفية كلية على أنها طريقة لِتَبيين العبارة المعتادة «مع تساوِي كل شيءٍ آخر» other things equal. غير أن السلوكيَّ إذ يتخذ هذا الطريقَ فهو قد يُؤَوِّل العُقَدَ في توصيفنا الوظيفي لا كتسميةِ حالاتٍ داخلية للفاعلين الذين انطبقَ عليهم التوصيفُ، بل كمجردِ وسائلَ حسابيةٍ فارغةٍ تقدِّم ربطًا ملائمًا للاستجابات السلوكية بالمثيرات الخارجية. بهذا التأويل قد يكون التوصيفُ الوظيفي مجردَ خوارزمية معقدة، طريقة لاستدلالِ مُخرَجاتٍ سلوكية من أوصاف المُدخَلات.٦

أما الوظيفيون، في المقابل، فيأخذون العُقَد في التوصيف الوظيفي على أنها تُسَمِّي حالاتٍ داخليةً أصيلةً فَعَّالةً عِلِّيًّا لمنظوماتٍ تعكِس هيئتُها العِلِّيةُ الهيئةَ المُبَيَّنة في توصيفنا الوظيفي الكلي.

المنظومات الوظيفية الكلية

لِنَعُدْ لحظةً إلى فكرةِ المنظومة الوظيفية الكلية، ونتأمل فئتين فحسب من الحالات العقلية؛ الاعتقادات والرغبات. رغم أننا متماثلون في جوانبَ كثيرة — فكلنا لدينا اعتقادات ورغبات — فالبشر لا يلزمهم أن يتشاركوا في جميع اعتقاداتهم ورغباتهم. غير أن أي منظومتين كليتين تختلفان إذا اختلفتا من جهةِ أيٍّ من اعتقاداتهما ورغباتهما. والحق أنه لما كانت اعتقاداتُك ورغباتُك في تغير مستمر، فإن المنظومة الوظيفية الكلية التي تشكل عقلَك في لحظةٍ ما يُحتمَل أن تختلف عن المنظومة التي تشكل عقلك في لحظةٍ سابقةٍ عليها أو لاحقةٍ لها. والآن تَخَيَّل المجموعة — مجموعة لا نهاية لها بلا شك — المكوَّنة من كل منظومة وظيفية كلية ممكنة لكائنٍ إنساني راشد. إذا كان المذهب الوظيفي على المضمار الصحيح، إذن فكل عقل إنساني ممكن هو قابل للتحديد بتمامِه بالإحالة إلى عناصر هذه المجموعة.٧

هذه الصورة الكلية التي يومئ إليها الحديث عن المنظومات الوظيفية الكلية تحتاج إلى قيد. قد نتخيل أن البشرَ الراشدين، بصفة عامة، يُبدون منظوماتٍ وظيفيةً كلية متشابهة على نطاقٍ واسع. وفي المقابل، لا بد أن تكون الهيئةُ الوظيفية (المِعمار الوظيفي) للرُضَّع وللمخلوقاتِ غيرِ البشرية أبسطَ بلا شك. هل يعني ذلك أن الأطفال الرُّضَّع والمخلوقات غير البشرية تفتقر إلى العقول؛ أنها لا يمكنها أن تُضمِر أفكارًا أو تُكِنَّ رغباتٍ أو تستشعر ألمًا؟

قد يُجِيب الوظيفيُّ على ذلك بأن يُسَلِّم بأن الرضَّعَ والمخلوقاتِ غيرَ البشرية تختلف وظيفيًّا عن الكائنات البشرية الراشدة. غير أن مِعمارها الوظيفي المقابل يتداخل مع معمار البشر الراشدين بطرائقَ دالة. وهكذا، فالمنظومات الوظيفية الكلية للرضع والمخلوقات غير البشرية تَدمِج حالاتٍ تلعب دور حالات الألم (F1 في شكل ٤-٢) من حيث المُدخَلات والمُخرَجات. ولا تضعف منظوماتهم إلا من حيث الحالات الوسيطة المتنوعة، تلك التي تَشغَل العُقَد المناظرة للاعتقادات والرغبات على سبيل المثال.
يومئ هذا إلى أنه قد تكون هناك حالاتٌ بينية، حالات، بسبب قلة التعقيد، تجعلنا بالضرورة لا نعرف ماذا نقول. هل المخلوقات البدائية، ديدان الأرض مثلًا، أو الباراميسيا paramecia، تحس بالألم؟ مثل هذه المخلوقات تنسحب مبتعدة عن المثيرات الضارة، وهي من هذه الجهة تُبدِي امتلاكها لحالاتٍ تحمل شَبَهًا مهمًّا بحالات الألم عندنا. ولكن المِعمار الوظيفي الكلي للمخلوقات البدائية قد يكون بحالٍ تجعلنا لا نعرف على اليقين ماذا علينا أن نقول عنها. في هذا الصدد قد يعكس المذهبُ الوظيفي ميلَنا الطبيعي إلى أن نَبقَى غيرَ موقنين فيما يتعلق بهذه الحالات. حقًّا، نحن قد نتخيل مُتَّصَلًا من المنظومات الوظيفية الكلية، تمتد من تلك التي تُبدِيها الكائناتُ البشرية الراشدة إلى تلك التي يمتلكُها الرُّضَّعُ، نُزُلًا إلى تلك التي تخص الكائنات الوحيدة الخلية. ورسمُ خَط على هذا المُتَّصَل يمثِّل حَدًّا قاطعًا بين المخلوقات القادرة على الإحساس بالألم وتلك التي تفتقر إلى هذه القدرة. وضع هذا الخَط قد يكون إلى حد كبير مسألة قرار لا مسألة مبدأ.

النظرية التمثيلية في العقل

تَأَمَّلْ طريقةً بديلةً لتحديد منظومةٍ وظيفية كلية، منظومة أكثر مطابقةً لمخطط الانسياب المنشور في توصيف برامج الحاسوب. ومرةً ثانية، تَوَخِّيًا للتيسير، دعنا نركزْ على الاعتقادات والرغبات. وبدلًا من تصور الاعتقادات والرغبات كل على حِدة، نتصور العقلَ على أنه يتضمن «صندوق اعتقاد» و«صندوق رغبة» (شكل ٤-٤).
fig17
شكل ٤-٤
الفكرة أن تكوينَك اعتقادًا بأن النافذة مفتوحة هو عبارة عن رمزٍ يعبر عن القضية القائلة بأن النافذة مفتوحة مُودَعًا في صندوقِ اعتقادِك. وبنفس القياس، فإن رغبتك في أن تكون النافذةُ مفتوحةً هي امتلاكُك مثل هذا الرمز في صندوق رغبتك. ويتصل صندوقُ اعتقادِك وصندوقُ رغبتِك بطرائقَ محددةٍ ببقيةِ المنظومةِ التي تشكل عقلَك. فإذا كان رمزٌ يمثل قضيةَ أن النافذة مغلقة مودَعًا في صندوق رغبتك مثلًا، فقد يؤدي هذا، مقترنًا مع وجود رموزٍ ملائمة في صندوقَي الاعتقاد والرغبة، إلى أن تمشي عبر الغرفة وتفتح النافذة. وقد يؤدي وجود نفس الرمز في صندوق اعتقادك (بافتراضِ غيابِه من صندوق رغبتك)، ومرةً ثانية، مقترنًا بوجود رموزٍ أخرى في صندوقَي اعتقادك ورغبتك؛ قد يؤدي إلى سلوكٍ مختلفٍ جدًّا (انظر شكل ٤-٥).
fig18
شكل ٤-٥
هذه الطريقة في تصور المنظومات الوظيفية الكلية تُمَكِّننا من أن نرى بوضوح أكبر كيف يمكن أن نرى إلى مخلوقات ذات اعتقادات ورغبات متباينة للغاية، على أنها رغم ذلك متساوية وظيفيًّا. فأنت، وطفلٌ رضيع، وأنا، قد نلائم جميعًا النموذجَ المبسَّط جدًّا في شكل ٤-٤، غير أننا نختلف من حيث الرموز القمينة بأن تَظهرَ في صناديق الاعتقاد والرغبة الخاصة بكل منا.
هذا التصور للعقل، النظرية التمثيلية في العقل The Representational Theory of Mind، قد دافع عنه جيري فودور Jerry Fodor زمنًا طويلًا. تتطلب النظرية التمثيلية في العقل التسليم بمنظومةٍ من الرموز تعمل ﮐ «تمثيلاتٍ عقلية» mental representations. هذه الرموز تُشَيِّد ما أسماه فودور «لغة الفكر»٨  language of thought، وهي شفرةٌ ثابتة بيولوجيًّا مماثلة ﻟ «شفرة الآلة» المُبَيَّتَة في العَتاد الصلب للحاسوب المعتاد. فتكوينُك لاعتقادٍ بأن النافذة مفتوحة هو عبارة عن جملةٍ في لغة الفكر مناظِرةٍ للجملة العربية «النافذة مفتوحة»، تكتسب دورًا وظيفيًّا ملائمًا، أو — كما عَبَّرنا آنفًا — عبارة عن هذه الجملة إذ تنسرب إلى داخل صندوق اعتقادك.

الآلات السيمانتية (الدلالية)

بَذَلَ فودور وأشياعُه جهدًا كبيرًا في المُحاجَّة بأن النظرية التمثيلية في العقل (ومعها فرضية لغة الفكر) هي خيارنا الوحيد. تقدم النظرية التمثيلية طريقةً في فهم كيف يمكن أن تؤثر العقول، كيانات المستوى الأعلى، تأثيرًا منظمًا وتتأثر بالمجريات الجسمية. فإلى أن يُنتِج أحدٌ نظريةً منافِسةً جادة، تظل النظريةُ فائزةً لتغيُّب الخصم، أو هكذا يزعمون.

ولكن كيف يُفترَض لكل هذا أن يعمل؟ ماذا تُراه يعني أن تتحدث عن جُمَلٍ في لغة الفكر تَشغَل صندوقَي الاعتقاد والرغبة؟ لاحِظْ أولًا أن التركيز هو على «الجُمَل النُّسَخ»٩  sentence tokens. والجملةُ النسخة — النقش المعَيَّن — هي كيانٌ عياني، شيءٌ ما يمكن أن يكون له دورٌ عِلِّيٌّ. والجملةُ النسخةُ تَجِبُ تفرقتُها عن الجملةِ النمط sentence type. ولكي تُدرِكَ الفرقَ انظرْ في الصندوق أدناه.

كم جملةً يحتويها الصندوق؟ إنه يحتوي مثالين أو نسختين لجملةِ نمطٍ واحدة.

وأنا لن أُربِكَ النصَّ بالإشارة الصريحة متى أَعرِض للجمل النُّسَخِ ومتى أَعرِض للجمل النمط. فالسياق يبيِّن أيها المقصود، فعندما يتحدث أنصارُ النظرية التمثيلية في العقل عن الجُمَل التي تَشغَل صناديقَ الاعتقاد مثلًا، أو الجمل التي لها أدوار في العمليات العِلِّية، فمن الواضح أنهم يتحدثون عن جملٍ نُسَخٍ لا أنماط، كياناتٍ فردةٍ لا أنواعٍ أو أنماطٍ من الكيانات.

تأمل الجُمَلَ في هذه الصفحة. إن كل جملة هي نتيجةُ عمليةٍ عِلِّيةٍ ماديةٍ معتادة. وكل جملة تُنتِج معلولاتٍ ماديةً معتادة؛ تعكس الضوءَ، مثلًا، بطريقةٍ معينة. لكي نرى أهمية ذلك، دعونا نفرِّق بين الجمل والقضايا التي تعبر عنها (أو القضايا التي تُستخدم الجملُ للتعبير عنها). عندما نَلقَى جملًا في لغتِنا الأصلية فإن معانيها (أي القضايا التي تعبر عنها) تَثِب إلينا للتو. ولكننا بالطبع قد نَلقَى جملًا لا نعرف شيئًا عما تعنيه. يحدث ذلك كلما واجهنا جملًا في لغةٍ لا نفهمها.

والآن تخيلْ جهازًا استطاع أن يتناول الجُمَل دون اعتبارٍ لمعانيها، بل فَعَلَ ذلك بطريقةٍ تتوافق مع الطريقة التي سيتناولها بها شخصٌ ما يَعرِف معانيها. مثل هذا الجهاز، وهو ما أَطلَقَ عليه جون هوجلَند John Haugeland «آلة سيمانية» (آلة دلالية) semantic engine، من شأنه أن يحاكي تمامًا أداءَ المتحدث الأصلي، ولكنه سيفعل ذلك دون اعتماد (كما يفعل المتحدث الأصلي) على معاني الجُمَل التي يتناولها. هذه الجُمَل قد تُعَبِّر عن قضايا (على الأقل تعبر عن قضايا عندما يستخدمها الناطقون الأصليون)، ولكن الجهاز لا يهمه إلا أشكالُها، أو «تركيبها» syntax. (التركيب يتعلق بالملامح البنيوية الخالصة للجُمَل؛ أما السيمانطيقا semantics فتتعلق بمعانيها.) إن الجهاز الذي نتخيله، أي الآلة السيمانتية، يعمل على المبادئ التراكيبية الخالصة والعلاقات «الصورية» formal بين الجُمَل، تلك العلاقات التي تتحدد فقط بالإحالة إلى الخصائص التراكيبية للجُمَل.

هل مثل هذا الجهاز ممكن؟ ليست الآلات السيمانتية ممكنة فحسب، بل موجودة بالفعل، وبأعدادٍ كبيرة! فالحاسوب العادي آلةٌ سيمانتية. ونحن نصمم ونبرمج الحواسيب لكي تتناول الرموز وفقًا لمبادئ تراكيبية وصورية خالصة. إن الرموز ذات معنًى بالنسبة لنا، ولكن الآلات التي تُطلِق الرموز لا تَعبَأ البتة بهذا، فهي تشتغل على رموزٍ غير مفسَّرة، ولكن بطريقةٍ تحترم الضوابطَ السيمانتية. (هذه مجرد طريقة خيالية للقول بأن الحواسيب تتناول الرموز بطريقةٍ تعطِي إفادةً — لنا — في ضوء معانيها.)

كيف يمكن ذلك؟ كيف يمكن للتراكيب أن تعكس الدلالة؟ إذا كنتَ في حياتك قد درستَ المنطق، فقد لاقيتَ بالفعل مثالًا هامًّا لنسقٍ يَستخدِم مبادئَ تركيبيةً وصورية خالصة في تناول الرموز، ولكن بطريقةٍ تحترم العلاقاتِ السيمانتيةَ (الدلالية) بين هذه الرموز. فالقواعد المعتادة للاستدلال inference لا تشير إلا إلى أشكال الرموز. خذ القاعدة التي تُعرَف عامةً ﺑ «الحد المطروح» modus ponens
ق ك
ق/ ك

(أي: حيث «ق» و«ك» جُمَلٌ اعتسافية، فإن «إذا ق إذن ك»، مقترنةً ﺑ «ق»، تتضمنُ «ك».)

تنبئنا هذه القاعدة بأنه إذا كان لديك هيئةٌ معينة من الرموز (هنا: ق ك، ق)، فإن لك أن تكتب رمزًا جديدًا (في هذه الحالة: ك). انظر إلى على أنه يعبِّر عن عبارة شرطية (بنية «إذا … إذن …»). في صياغة القاعدة استخدمتُ متغيرين (ق، ك) يرمزان إلى جملتين. تقول القاعدة، في الحقيقة، إنه كلما كان لديك محاطة بجملتين، ومعها جملة تتفق مع الجملة التي عن يمين ، فإن لك أن تستخلص الجملة التي عن يسار.
ما يهم لغرضنا الحالي حول قاعة اﻟ modus ponens هو أنها تُصاغ وتُطلَق دون اعتبار للسيمانطيقا (الدلالات/المعاني)، أي دون اعتبار لمعاني الجُمَل التي تنطبق عليها. ولكن برغم ذلك، فإن استخدامات القاعدة تعطِي معنًى، فهي تخضع لسيمانطيقا الاستدلال. فإذا ما قبلتَ جملة

إذا كانت السماءُ تمطر فسأحتاج إلى مظلة.

وجملة

السماءُ تمطر.

إذن فمن حقك أن تخلص إلى جملة

سأحتاج إلى مظلة.

هذا شيء يعرفه أي ناطق بالعربية، أي شخص يفهم العربية. تَعكِس أنساقُ المنطق الصوري هذا النوعَ من المعرفة السيمانتية في قواعد لا يتطلب استخدامُها أيَّ معرفة سيمانتية.

حسنٌ، ولكن ما شأن ذلك بالعقول؟ تخيلْ أن هدفنا هو أن نفسر العقلَ البشري بافتراض أن العقول تتناول تمثيلاتٍ عقلية، جُمَلًا في لغة الفكر. قد يبدو أن هناك اعتراضًا واضحًا على هذا المشروع: إذا كانت العقول تتناول جملًا، تمثيلات رمزية، فإن هذا، إذن، يبدو متطلِّبًا ﻟ «فاهِمِ جُمَلٍ»، أيْ مُكَوِّنٍ ما من مكونات العقل يفسر الرموز. سيعنِي هذا أننا نفسر العقلَ بأن نضع داخله عقلًا آخر: قَزَمًا١٠  an homunculus، فاعلًا ذكيًّا صغيرًا تتطلب مهمتُه أن يفهم الجُمَل التي في لغة الفكر. وإن تفسيرًا من هذا القبيل ليس تفسيرًا على الإطلاق. والنقطة هنا عامةٌ تمامًا. هب أننا، أنتَ وأنا، نلاحظ آلةً تُصَنِّف وتُغَلِّف قضبانًا من الحَلوَى، وأنت مندهش وتسأل كيف تعمل هذه الآلة. فَأَرُدُّ عليك: «الأمر بسيط، هناك جهازٌ داخلها يتحكم في تشغيلاتها.»

على هذه الخلفية يكون أيسر لك أن تدرك صلةَ فكرة الآلة السيمانتية. الآلة السيمانتية هي جهاز يؤدي عملياتٍ رمزية — يتناول رموزًا — بطريقةٍ تعكِس العلاقات السيمانتية القائمة بين هذه الرموز، ولكنها تفعل ذلك حصريًّا بواسطة مبادئ صورية وتراكيبية، أي دون اعتبار لمعاني هذه الرموز. يمكننا إذن أن نفترض أن العقول تعالج تمثيلاتٍ عقلية، دون أن نُضطر لافتراض أن العقول تحتوي على مكوِّنات — أُناسٍ صغار، أقزام — تَفهَم معاني هذه التمثيلات. والحواسيب المعتادة هي تحقيقاتٌ للآلات السيمانتية، وربما الأدمغة أيضًا. فإذا صَحَّ ذلك، وإذا كان الدماغُ لديه تنظيمٌ وظيفيٌّ ملائم، نكون إذن، فيما يبدو، قد قطعنا شوطًا كبيرًا تجاه تفسير كيف تَعمَل العقول.

قد تَرَى أن هناك مشكلة واضحة في هذا الرأي، فعندما نفتح الدماغ لا نرَى شيئًا من قبيل الرموز أو جُمَل في لغة الفكر. فكيف للأدمغة أن تحتوي جُمَلًا؟

تَصَوَّرْ حاسوبًا عاديًّا. مما لا خلاف عليه أن الحواسيب تعالج رموزًا، غير أنك إذا ما تَفَحَّصتَ باطنَ حاسوب وهو منخرط في تناول رموز، فلن ترى شيئًا يشبه الرموز، ولن تصادف أي أصفار أو آحاد، تلك المكوِّنات الأساسية للمخزون الرمزي للحاسوب؛ ذلك أن الوحدات الإلكترونية التي تعمل كرموز في الحاسوب لا يتعين عليها أن تشبه رموز القلم والورقة لدينا؛ إذ يتناولها الحاسوب أكثر مما يسعك أن تأمل في قراءة قطعة موسيقية بأن تتمعَّن الانحرافات في أخدود مسجِّل فونوغراف أو تراك قرصٍ مُدمَج.١١

إذا كان العقل آلةً سيمانتية يحققها الدماغ، إذا كانت العمليات العقلية تتضمن تناول رموز، جُمَل في لغة الفكر، إذن تجسيد هذه الرموز في الدماغ لا يلزمه أن يشبه الرموز التي نكتبها بالقلم والورقة. قد تتضمن الرموز حالاتٍ كهربية أو كيميائية دقيقة، قد تتجسَّد في وصلاتٍ بين النيورونات، قد تتوزَّع على نطاقٍ واسع في شبكات النيورونات. وعلى كل الأحوال، ليس ثمة ما يدعو إلى أن تتخيل أن مثل هذه الرموز يمكن أن تُقرأ في الدماغ بالطريقة التي تقرأ بها الكلمات في هذه الصفحة. إذا كان ثمة لغة فكر، فإن جُمَلَها قد تكون أيضًا غيرَ منظورة من زاوية الملاحِظ الذي يتفحص البِنيةَ الدقيقةَ للدماغ.

الحجرة الصينية

النظريةُ التمثيلية للعقل تُصَوِّر العقلَ كآلةٍ سيمانتية، جهازٍ يعمل وفقَ مبادئَ صوريةٍ وتراكيبيةٍ محضة، ولكنْ بطريقةٍ تحترم المعاني (السيمانطيقا). يعني ذلك على وجه التقريب أن العمليات العقلية، رغم أنها تَعمَى عن معاني الرموز التي تتناولها، فإن تناولها لا يفترق بحالٍ عن تناول مَن امتلَكَ فهمًا لهذه الرموز. فأنت حين تُصدِر أمرًا، مكتوبًا أو منطوقًا، لِحاسوبِك بأن يطبع مستنَدًا ما، فإن الجهاز لا يقوم بتفسير المُدخَل في خطوةٍ أولى ثم يعمل بعد ذلك بناءً على فهمِه لذلك التفسير؛ ذلك أن الآليات التي تعالج أمرَك الذي أصدرتَه لا تكترث البتة بمعناه، إلا أن الجهاز مبرمَجٌ بطريقةٍ من شأنها أن تجعل التركيب syntax يَعكِس الدلالة semantics، إنه يعمل بالضبط كما لو كان يفهم أمرَك.

هذا بالنسبة لِأنصارِ لغةِ الفكر هو كل ما هنالك في عملية الفهم. أنت تفهم الجملَ التي في هذه الصفحة، ولكن الآلياتِ المسئولةَ عن فهمِك هي نفسُها لا تفهم. وإذا قلنا بأنها فَعَلَت لَما كنا قد فَسَّرنا ماذا هنالك في عمليةِ فهمِك للجُمَل، وإنما سنكون قد زحزحنا المشكلةَ إلى الخَلفِ لا أكثر (رَحَّلنا المشكلة)، سنكون الآن بحاجةٍ إلى أن نعلِّلَ لتلك الآلياتِ الخاصةِ بالفهم.

ولكن هل هذا هو كل ما هنالك في عملية الفهم؟ لقد أجاب جون سيرل John Searle أنْ كلَّا. وتقوم حُجةُ سيرل على تجربةٍ فكريةٍ١٢ نوقِشَت على نطاقٍ واسع. يُهِيب بِكَ سيرل أن تتخيل أنك تقعد في حجرة ضيقة بلا نوافذ، وعند قدميك سلةٌ كبيرة ممتلئة بأحرفٍ صينية بلاستيكية، وإن تكن على جهل تام بما تكونه هذه الأشياء. فأنت تجهل الصينية، وكل ما بمقدورك أن تَحدِس به هو أن هذه الوحدات بالسلة ربما تكون زخارف من البلاستيك أُعِدَّت لِتصميمٍ تجريدي، خربشات. تخيل الآن أنك، من خلال شقٍّ بالجدار، تستقبل كل حين دفعةً من الأحرف الصينية. ورغم أن هذه الأحرف لا تعني شيئًا بالنسبة لك، فأنتَ مزوَّد بدليل إرشادي طوع يدك يرشدك إذا ما شهدتَ تتابعًا بعينِه من الخربشات البلاستيكية يأتي من خلال الشق، بأن عليك أن تقدم تتابعًا معينًا آخر من مخزونك بالسلة. وافترِضْ أنك أصبحتَ ضليعًا في هذه العملية، وكلما أُدخِل لك مُدخلٌ من الخربشات المتتابعة قدمتَ بسرعةٍ مُخرَجًا من تتابعاتٍ يرشدكَ إليها الدليل. وبوسعنا حتى أن نتخيل أنك مع الوقت قد حفظتَ الدليل عن ظهر قلب بحيث صار تناولُك للخربشات شبهَ تلقائي.

تخيل الآن أن هناك، خارج الحجرة، مجموعة من العلماء الصينيين، لستَ تدري بهم على الإطلاق. هؤلاء العلماء بوسعهم أن يقرءوا الأحرفَ التي تُدفَع داخل وخارج الحجرة. إن أرتال الخربشات التي يدفعونها إلى الحجرة تبلغ أن تكون أسئلةً باللغة الصينية، وأرتال الخربشات التي تَرُدُّ بها تبلغ أن تكون إجاباتٍ عن هذه الأسئلة. (بوسعنا أن نتجاهل حقيقةَ أنه لكي تكون الإجاباتُ ذاتَ معنًى في ضوء الأسئلة، سيتعين حقًّا أن يكون الدليلُ معقدًا للغاية.) إنك ستبدو للعلماء الصينيين كما لو أنك تفهم الصينية، ولكن من البَيِّن، كما يقول سيرل، أنك لا تفهم، إنما أنت تسلك كما لو كنتَ تفهم. الحق أنك تعمل كآلةٍ سيمانتية، غير أنك لا تفهم من الصينية شيئًا، ومَبلغُكَ أنكَ تُقَلِّد الناطقَ بالصينية.

وأفضل تفسيرٍ لِتجربة سيرل الفكرية «حجرة اللغة الصينية» Chinese Room هو أن تُفسَّر في ضوء اختبارٍ اقترحه سنة ١٩٥٠م أ. م. تورِنج A. M. Turing (١٩١٢–٥٤)، وهو رياضيٌّ نابِهٌ، وعملُه في نظرية الحوسبة يتبطن شغلَ الحواسيب الحديثة. كان تورنج مشغوفًا بالسؤال عما إذا كان من الممكن تشييدُ آلةٍ ذكية. وبعد مراجعة المحاولات الفاشلة لِتعريف «الذكاء» (ومن أجل هذا الأمر، «الآلة»). اقترح تورنج أن يعرِّف الذكاءَ «إجرائيًّا» operationally، وبهذه الطريقة يتنكَّب تمامًا السؤال المحير عما يشكل الذكاء على التحديد. يأخذ التعريف الإجرائي صورةَ اختبارٍ لِتحديد ما إذا كان الحد المعرَّف ينطبق. واختبار تورنج مُصَمَّم لِيضمنَ أن أَيَّما شيء يجتاز الاختبار يوصف بالذكاء.
يقوم اختبار تورنج على لعبةٍ يطلق عليها تورنج «لعبة المحاكاة» Imitation Game. ولعبة المحاكاة يلعبها ثلاثةُ أشخاصٍ عاديين؛ أحدهم، المستجوِب، يضع أسئلةً للاعبَين الآخرَين، وهما رجلٌ وامرأة، ويحاول أن يخمن أيهما هذه وأيهما ذاك. أحد هذين اللاعبين يجب أن يجيب بصدق، أما الآخر فيحاول أن يضلِّل المستجوِب. ولِتَجَنُّب المفاتيح البصرية والسمعية غير الملائمة يوضع اللاعبان في غرفةٍ منفصلةٍ، ويتواصلان مع المستجوِب بواسطة الكتابة المُبرَقة teletype. وبواسطة الأسئلة الذكية سوف يفوز المستجوِب أحيانًا، ولكنه سيخسر أيضًا في بعض الأحيان. ولنتخيلْ أن المستجوِب يفوز (أي يكتشف أي اللاعبَين هو أيهما) حوالي ٣٠٪ من المرات.

يقول تورنج: والآن افترِضْ أننا نستبدل بأحد اللاعبَين حاسوبًا. فإذا استطاعت آلةٌ ما أن تخدع مستجوِبًا ماهرًا بنفس القدر الذي يستطيعه لاعبٌ بشري، فإن علينا من ثم أن نقول إنها اجتازت الاختبار، إنها ذكية. (إذا كان هذا يبدو سهلًا جدًّا، فبوسعك أن تتأمل حقيقةَ أنه ليس ثمة حاسوب موجود أو متصوَّر في الوقت الراهن يقترب (ولو من بعيد) من إبداء ذلك القدر من الدهاء والفطنة المطلوب لخداع مستجوِبٍ متوسط الكفاءة.)

بوسعنا أن نرى إلى حجرة سيرل الصينية على أنها ضربٌ من اختبار تورنج. فيمكننا أن نتخيل أن العلماء الصينيين المجتمعين خارج الحجرة يلعبون دورَ المستجوِب في لعبةِ المحاكاة، وأنك أنتَ (جالسًا في الحجرة مع دليلك الإرشادي وسلة الخربشات الصينية) تمثل الحاسوب (وقد نتخيل اللاعب الآخر هو ناطق صيني عادي يجلس بجوارك). افترِضْ أنك تَخدَع المستجوِبين بقدر ما سيخدعهم ناطقٌ صينيٌّ أصلي. ماذا يُثبِت ذلك؟ يُحاجُّ سيرل بأن ذلك لا يثبت إلا أنك قد زُوِّدتَ بِسَنَدٍ عبقري — بدليلٍ إرشادي مذهل في مهارته — يُمَكِّنك من أن تلعب دور ناطقٍ صيني، ولكنك لا تتحدث ولا تفهم الصينية. ولأنك تعمل بالضبط كما يجدر بحاسوبٍ أن يعمل (الدليل الإرشادي يشكل برنامجَك)، فيجب ألا نقول إن حاسوبًا يجتاز اختبار تورنج هو ذكي حقًّا، أو إنه يفهم الجُمَل التي يستقبلها كمُدخَل أو يُنتِجها كمُخرَج.

يأمل سيرل أن يستخلص من كل هذا نتيجة عامة؛ يقوم الصنف الذي عرضناه من المذهب الوظيفي، النظرية التمثيلية للعقل، على فكرة أن العقل آلة سيمانتية، تتكون العمليات العقلية من تشغيلات على رموز غير مفسَّرة (جمل في لغة الفكر). ولكن يؤكد سيرل أن التجربة الفكرية لحجرة اللغة الصينية تبين بوضوحٍ أن العقول أكثر من ذلك. فالجهاز (الروبوت ربما) الذي يحقق «دماغُه» آلةً سيمانتية، وبذلك يَفِي بمتطلبات النظرية التمثيلية في العقل، قمينٌ أن يخدعنا بغير شك، سنظنه ذكيًّا، وأن لديه عقلًا، ولكننا سنكون على خطأ، فمبلَغ الجهاز أن يقلد الذكاء والفهم، بالطريقة التي قد ينتج بها الحاسوب نمطَ طقسٍ زائفًا أو مثالًا لِرابطةٍ جزيئية.

وقد اتهم بعض أنصار نظرية التمثيل في العقل؛ اتهموا سيرل بالمصادرة على المطلوب. يفترض سيرل أنه ليس ثمة فهمٌ أصيلٌ في الحجرة الصينية. ولكن هؤلاء المنظِّرين يُحاجُّون بأن ذلك في الظاهر فقط. فإذا بدا أن ليس ثمة فهم فَلِأن التجربة الفكرية تدعونا إلى أن نركز على مكوِّنٍ واحد فقط — وهو أنت، جالسًا على مقعدك تَفرِز الأحرفَ الصينيةَ بالسلة — بدلًا من التركيز على النظام ككل، ذلك النظام الذي لا تَعدو أنتَ أن تكون أحدَ مكوِّناتِه. هكذا، فبينما أنت حقًّا تجهل الصينية، فإن النظامَ الذي يَشمَلُك، الحجرة ككل، يفهمُ الصينية.

قد يحس المشاهدون المحايدون لهذا الخلاف بأنهم منجذبون في اتجاهاتٍ شتى. إن سيرل، من ناحية، يبدو على شيء. ومن ناحيةٍ أخرى، فإن هناك بعض الوجاهة في شكوى الوظيفيين بأن جاذبية الحجرة الصينية تنبع من ميلها إلى أن تجعلنا نركز على مكوِّنٍ من مكوناتِ المنظومة لا على المنظومة ككل. غير أني سأترك الجدال هنا، وأمضي لكي أنظر في سؤال كيف تكتسب الجملُ التي في لغة الفكر معانيها (سيمانتياتها). وسوف أقترح في الموضع المناسب (في الفصل السادس) طريقةً للتوفيق بين هذه المسائل. غير أن هذا الأمر يتطلب منا أن نتجاوز المذهبَ الوظيفي والنظريةَ التمثيلية في العقل، ونأخذ رحلة ممتدة في الميتافيزيقا.

من التراكيب إلى السيمانطيقا

في القلب من النظرية التمثيلية في العقل فكرةُ أن العقول تتناول تمثيلاتٍ عقليةً في شكلِ جُمَلٍ غيرِ مفسَّرة، جملٍ بِلغةِ الفكر. تَعنِي «غير مفسَّرة»،١٣ في هذا السياق، أن العمليات التي بواسطتها يتم تناول الرموز العقلية تعمل دون اعتبارٍ لِمعانِي الرموز. تُعَدُّ العملياتُ العقليةُ من هذه الناحية مماثلةً للعمليات الحوسبية. وهي تماثل أيضًا أداءَكَ البارعَ في الحجرة الصينية.

ولكن إذا كانت الرموزُ العقليةُ غيرَ مفسَّرة، فَفِيمَ يقيم معناها؟ تأملْ لحظةً في عمل الحواسيب المعتادة. وافترِضْ أننا نبرمج حاسوبًا لكي يحفظ قائمةَ الجرد في سوبر ماركت. يحفظ البرنامجُ تسلسلَ الموز وعلب الحساء وكرتونات اللبن. قد نقول إن الحاسوب الذي يجري عليه البرنامج يخزن معلومات عن الموز وعلب الحساء وكرتونات اللبن، إلا أن الآلة تؤدي عملياتٍ على رموزٍ تُسَمِّي هذه البنودَ من غير اعتبار لما تسميه. نحن قد نتخيل حقًّا أن البرنامج عينَهُ يمكن أن يجري على آلةٍ مختلفة، أو على نفس الآلة في مناسبة مختلفة، لكي يحفظ تسلسل بنودٍ في محل خردوات. في هذه الحالة قد يخزن الجهازُ معلوماتٍ عن مسامير وغراء ومصائد نمل. وقد نتخيل حتى أن الرموز عَينَها التي تمثل، في حالة السوبر ماركت، الموز وعلب الحساء وكرتونات الحليب، تمثل في هذه الآلة المسامير والغراء ومصائد النمل على الترتيب.

إذن ما الذي يُعطِي رمزًا يتناوله أحدُ الحواسيب معناه؟ ما الذي يجعله يُسَمِّي كارتونات اللبن وليس مصائد النمل؟ وقد نسأل ما الذي يعطي الجُمَل التي بلغةِ الفكر معناها، فرغم أنه قد يبدو خلافيًّا ما إذا كانت حالاتُ الحاسوب ذاتَ معنًى بأي وصف، فإنه ليس خلافيًّا بالتأكيد أن أفكارنا لديها معنًى. إن مشروع لغة الفكر بأسرِه محمولٌ على افتراض أن الأفكار ذات معنًى، وأن هذا شيءٌ بحاجةٍ إلى التفسير.

لاحِظْ أولًا أن نصيرَ النظرية التمثيلية في العقل يفترض (كما يَفترِض معظمُ الفلاسفةِ هذه الأيام) أن معنى أي رمزٍ ما ليس باطنًا في هذا الرمز. ما يَعنِيه الرمز ليس متأصِّلًا في ذلك الرمز، بل يعتمد على كيف يُطلَق الرمز من جانب الفاعلين (أو المنظومات) التي تطلقه. إن الرموز التي يعالجها حاسوبٌ ما تَدِينُ بدلالتِها للاستخدام الذي وُضِعَت له من جانب الفاعلين الذين يُبَرمِجون ويُدخِلون البيانات داخل الآلة لِأغراضٍ معينة. فعندما تطبع «موز» إلى الحاسوب، وهذا النقش يُحَوَّل إلى نمطٍ من الانحرافات المغناطيسية، فإن هذا النمط من الانحرافات المغناطيسية، بقدر ما تعمل كرمز، يُسَمِّي الموز لأن هذا هو ما تعنيه ﺑ «موز».

يمكننا القول بأن معاني الرموز المعالَجة بحاسوبٍ عادي مشتقةٌ من المعاني التي يعطيها لِهذه الرموز فاعلون يستخدمون الحاسوبَ وبرنامجَه. ولكن هذا لا يمكن أن يكون تفسيرَ معاني الرموز التي في لغة الفكر. فأفكارُك لا تَعنِي الذي تَعنِيه لأنك قَيَّضتَ تلك المعاني، ومفاهيمُك العقلية لا تُسَمِّي ما تُسَمِّيه لأنك تقرر ما تسميه. يُفتَرَض للغة الفكر أن تفسر كيف يمكن أن يكون لدينا أفكارٌ ذاتُ معنًى. فإذا كانت معاني التعبيرات التي بلغة الفكر تتطلب أن نقيِّض لهذه التعبيرات معنًى، فنحن لم نفسر إذن شيئًا، فتقييضُ معانٍ هو نشاطٌ يَفترِض مسبقًا فكرًا ذا معنًى. إذا كان علينا أن نعلِّل لسيمانطيقا (دلالة) لغةِ الفكر لَتَعَيَّنَ علينا أن نفعل ذلك دون افتراض ما نأمل تفسيره.

ما هو إذن مصدرُ المعنى بالنسبة للغة الفكر؟ إلى أي شيء تَدين بدلالاتها؟ يمكننا أن نستبعد احتمال أن التعبيرات في لغة الفكر تمتلك دلالةً باطنةً مُبَيَّتة. ويمكننا أن نستبعد احتمال أن معاني تلك التعبيرات تعتمد على الأنشطة التأويلية للمفكرين. فأي خيارات تتبقَّى؟

ربما هذا: التعبيرات في لغة الفكر تَدِين بدلالتِها للعلاقات العِلِّية التي تحملها تلك التعبيرات بالمجريات في محيطنا. هكذا، فإن لفظًا معينًا في لغة الفكر قد يُسَمَّى الموز (وبذلك يَعكِس الكلمةَ العربيةَ «موز»)؛ لأنه يُستدعَى بحضور الموز، ولفظًا آخر قد يُسَمَّى علب الحساء (عاكسًا التعبير العربي «علبة حساء»)؛ لأن أمثلة له تَتَسَبَّب بالاتصال العِلِّي للفاعلين مع علب الحساء.

هذا المخططُ، للعِلم، مبسَّطٌ أكثر مما يجب. غير أن النقطة هي أن المجال مفتوح لنصير النظرية التمثيلية في العقل لأن يقدم وصفًا عِلِّيًّا بعامةٍ لسيمانطيقا لغة الفكر. مثلُ هذا الوصفِ حري أن يكون معقدًا، وأن يتضمن عناصرَ غيرَ عِلِّية. قد يكون ما يُسمَّى الحدود المنطقية (مثل تلك المناظِرة للتعبيرات العربية: «كل»، «بعض»، «و»، «أو»، «لا»، «إذا … إذن …») قابلًا للتفسير بالإحالة فحسب إلى العلاقات التي تحملها الجمل في لغة الفكر بعضها لِبَعض. ولكن الفكرة الأساسية هي أن سيمانطيقا الفكر يحددها سياقُ المفكرين. وفي هذا الجانب أيضًا، فإن الفاعلين العاديين يماثلون الحواسيب. تعتمد دلالة الرموز التي يعالجها جهازُ حاسوب معين على السياق الذي فيه يُطلَق الجهاز.

وسوف يكون لديَّ المزيدُ لكي أقولَه عن هذه المسائل وما إليها في الفصلين الخامس والسادس. ولنَعُدْ في غضون ذلك إلى فحصنا لأنطولوجيا المذهبِ الوظيفي.

الرؤية الطبقية للعالم The Layered View of the World

يهيب فودور صراحةً بنموذجِ الحاسوبِ في العقل؛ فالعملياتُ العقلية هي تشغيلاتٌ تؤدَّى على رموزٍ هي جُمَلٌ في لغة الفكر. ويهدف علم النفس إلى استنباط البرامج التي تتحكم في سلوكنا. وهذه يمكن أن تُمَثَّل مثلما يمكن أن تُمَثَّل برامج الحاسوب، بواسطة مخططات انسياب تحدد البنيةَ العِلِّيةَ للمنظومات التي تصفها. وعلم النفس، وفقًا لهذا النموذج، هو «علم مستوًى أعلى» a higher-level science، علمٌ يضربُ صفحًا عن التفاصيل التنفيذية على المستوى الأدنَى.

من مزايا هذه النظرة أنها تمكِّننا من أن نرى كيف يمكن أن تنسلِكَ العقولُ بانسجامٍ في العالم المادي، وكيف ترتبط العقولُ بالأدمغة. فالعقول ترتبط بالأدمغة بطريقةٍ تشبه الطريقةَ التي ترتبط بها برامجُ الحاسوب بالعَتاد الصلب الذي فيه تُنَفَّذ. والعقولُ غير قابلة للتماهي مع، أو الرَّد إلى، الأدمغة، لِنفس السبب الذي يجعل البرامجَ أو التشغيلاتِ الحوسبيةَ غيرَ قابلة للتماهي مع، أو الرد إلى، العتاد الصلب الذي تجري عليه. الأدمغة تنفِّذ (تحقِّق/تؤدِّي) العقولَ كما تنفذ الحواسيبُ برامجَ معينة (إلى حد بعيد). ومثلما نحن في وصف تشغيلات حاسوبٍ على مستوى البرامج نَصِف بِنيتَه العِلِّيَّةَ بصرف النظر عن عَتاده الصلب؛ كذلك في وصف التشغيلات العقلية نَصِف البِنيةَ العِلِّيةَ للفاعلين الأذكياء، بصرف النظر عن عتادِهم الصلب البيولوجي.

كل هذا، فيما يبدو، يَفُض الإلغازَ عن العقل. فيمكننا أن نرى كيف أن محاولات رد العقول إلى كيانات مادية مُقَدَّر لها الفشل دون أن يحملنا ذلك على اعتناق الفكرة الثنائية القائلة بأن العقولَ جواهرُ لا مادية. ولكن فض الإلغاز هذا ربما بلغ حد الشطط. فقد يؤَرِّقك أن التصور الحَوسبي للعمليات العقلية يُنذِر بتحويلنا إلى روبوتاتٍ مبرمَجةٍ بتصلب، إلى كائناتٍ مفتقرةٍ تمامًا للتلقائية أو الإرادة الحرة.

على أن الفكرةَ الوظيفية لا تعني أننا نَتَّبِع روتيناتٍ شكليةً اتباعًا أعمى بحيث نعجز عن التغيير. فالسلوك الذكي سلوكٌ مبدئي (ذو مبادئ). وبوسعنا أن نتصور المبادئ التي نتبناها (أو نغرسها، أو نتعلمها، أو نرثها مع جِبِلَّتِنا البيولوجية) على أنها مكوِّناتٌ صميمةٌ في برنامجنا العقلي. وهذا مُتَّسِقٌ تمامَ الاتساق مع أغلب تصورات الإرادة الحرة.

المستويات التصنيفية والعلوم الخاصة

لِتَعُدْ لحظةً إلى فكرة أن تشغيلات الحاسوب العادي يمكن أن تُوصَف على مستوياتٍ مختلفة. للمهندس الكهربائي أو العالِم الفيزيائي أن يصفَ عملَ حاسوبٍ معين على مستوى العَتاد الصلب. وهو إذ يفعل ذلك يُطلِق عددًا مميَّزًا من المفاهيم. أما مبرمِجُ الحاسوبِ إذ يصف تشغيلاتِ الجهازِ عينِهِ فإنه يَمتَحُ من مخزونٍ مفاهيمي مختلفٍ تمامًا.

يتحدث فودور في مثل هذه الحالات عن «تصنيفات» taxonomies متمايزة، أو طرائق متمايزة لتقسيم تفسيرات الظواهر. تقسِّم علومُ المستوى الأدنى وعلوم المستوى الأعلى الظواهرَ بطريقةٍ جِد مختلفة. إن الفئات التصنيفية التي تحدد الكيانات المهمة على مستويات أعلى لا يلزمها، ولن يحدث في عامة الأحوال، أن تُعَرَّف في حدود الفئات الموجودة على المستويات الأدنى. ونحن في حالة الحاسوب لا يمكننا أن نحدِّد التشغيلات الحوسبية بِلُغَةِ التفاعلات المادية في العَتاد الصلب الذي يؤدِّي (ينفِّذ/يحقِّق) تلك التشغيلات. فمن المشكلات الواضحة مع محاولات فِعل ذلك مشكلةٌ تنشأ من حقيقة أن تشغيلاتِ الحاسوب متعددةُ التحقيق؛ فالعمليةُ عينُها يمكن أن تؤَدَّى في ضروبٍ شديدة التباين من المنظومات المادية. وقد تحسب أن بإمكاننا أن نحدد تشغيلات المستوَى الأعلى بواسطة فصلٍ لِمجريات المستوى الأدنى. وعليه فإن عملية الجَمع١٤ قد توصَف إما كنوعٍ معيَّن من عمل ترس وسِنٍّ نحاسي (في آلة باباج)، أو نوع معين من التشغيل في جهازٍ مصنوع من أنابيب مفرغة، أو نوع معين من الشغل القائم على الترانزستور، أو …

يَوَد الوظيفيون أن يبينوا أن مثل هذه الاستراتيجية تواجِه صعوبةً واضحة. فالنقط التي في نهاية التوصيف الفصلي للنموذج تشير إلى أننا سنحتاج أن نضيف أوصافًا لِمَزيدٍ من عمليات المستوى الأدنى إذا شئنا أن نقدِّم وصفًا وافيًا على المستوى الأدنى لفئتنا ذات المستوى الأعلى. غير أن هناك فيما يبدو طرائق لا نهاية لها على المستوى الأدنى لتحقيق أي عملية معقدة على المستوى الأعلى. فدلائل النجاح في رد فئات المستوى الأعلى إلى فئات المستوى الأدنى، مهما طالت بنود الفصل من المستوى الأدنى، هي دلائل غير مشجِّعة.

وحتى لو أتحنا تخطيطًا منهجيًّا لفئات المستوى الأعلى على بنود فصلٍ طويلة، وربما لا نهائية الطول، من فئات المستوى الأدنى، فإن الاستراتيجية الردِّية تبدو متحدية للممارسة العلمية واليومية. افترِضْ أننا نميز الفيزياء (أو «الفيزياء الأساسية»)، وهي العلم الأساسي للمستوى الأدنى، عن مختلف علوم المستوى الأعلى. تزودنا الفيزياء بذخيرة من الجسيمات الأولية والقوانين التي تحكم سلوك تلك الجسيمات. تُطلِق علوم المستوى الأعلى تصنيفات مستوًى أعلى، بينما يتحدث الفيزيائيون عن الكواركات والقوى الأساسية، ويركز الكيميائيون على الذرات والجزيئات، ويتولى البيولوجيون البِنيات الجزيئية المعقدة؛ الكائنات العضوية الحية. وعلى مستويات أعلى، بَعدُ، يكدُّ السيكولوجيون والاجتماعيون والاقتصاديون في صناعتهم.

يتميز كلُّ علمٍ من هذه العلوم بواسطة الطريقة التي يُقَطِّع بها الواقع. تقسِّم الفئاتُ المحددة لتصنيفٍ من المستوى الأعلى الواقعَ بطرائق تبدو اعتسافيةً من منظور علوم المستوى الأدنى. تَأَمَّلْ مماثلةً بسيطة: عندما تلعب الشطرنج فأنت تحرك قِطَعَ الشطرنج بطرائق معينة. حين يُنظَر إلى الأمر من منظور الكيمياء والفيزياء سيبدو مجالُ النقلاتِ الصحيحة (تلك التي تسمح بها قواعد الشطرنج) غيرَ خاضعٍ لِمبادئَ على الإطلاق. فالأنماط والاطِّرادات التي تُعرَض في مباريات الشطرنج لا تظهر إلا على مستوًى أعلى. والفئات البيولوجية كذلك حين تُنظَر من منظور الفيزياء لا بد أن تبدو اعتباطية. تقسِّم البيولوجيا العالَمَ بطرائقَ تبدو، ما بقينا على مستوى الكواركات والإلكترونات، احتياليةً مفتعَلة. كذلك الحال مع السيكولوجيا؛ فالمفاهيم السيكولوجية — الألم والاعتقاد على سبيل المثال — تحدِّد حدودًا غيرَ منظورةٍ على المستويات الأدنى.

الفكرة هنا أن العلوم تعمل داخل تراتبٍ هرميٍّ من المستويات، حيث الفيزياءُ في القَرار، والكيمياء والبيولوجيا تشغلان مستويين متوسطين، والسيكولوجيا والعلوم الاجتماعية في المستويات الأعلى. يَفرِض كلُّ علمٍ نسقًا من الفئات، أيْ تصنيفًا taxonomy، على العالَم. ترسم الفئاتُ المحدِّدة لِعلمٍ معينٍ حدودًا، هذه الحدود تكون محجوبةً إلى حد كبير داخل علوم المستويات الأدنى. هذا هو السبب في أنه، بصفة عامة، لا يُؤَمَّل في رد علمِ مستوًى أعلَى إلى علمٍ على مستوًى ما أدنَى؛ ذلك أن هذا العملَ سيتطلب طريقةً منهجية لرسمِ تحديداتِ مستوًى أعلى باستخدام فئات مستوًى أدنَى. وهذا بالضبط هو ما يبدو أنه لا أمل فيه.

قد يُساوِرُكَ الشكُّ أن تصورًا من هذا الصنف يبلغ حدَّ الشطَط. فإذا كانت الفيزياءُ هي علم كلِّ شيء، فلماذا إذن نحتاج إلى العلوم الأخرى؟ وإذا كانت العلومُ الخاصةُ لا تَقبَل الرَّدَّ إلى الفيزياء، فلماذا إذن يجب أن نمنحها أيَّ مشروعية؟

يجيب الوظيفيون المتعاطفون مع فودور بأنه بالضبط لأن علوم المستوى الأعلى تستخدم فئاتٍ غيرَ قابلة للرد إلى فئات علوم المستوى الأدنى، فإن هذا هو ما يبرر قيامَ علومِ المستوى الأعلى. فنحن إذ نستكشف العالمَ نكتشف اطراداتٍ مهمة، والتي لا تمكن رؤيتها من منظور الفيزياء. هذه الاطراداتُ تَسرِي بين الأشياء بفضل خواصَّ تملكها تلك الأشياء، والتي لا تُناظِر بطريقةٍ مبدئيةٍ أيَّ خواصَّ مهمةٍ للفيزياء. ولكن إغفالَ مثلِ هذه الأشياء سيتطلب أن نُغفِل اطراداتٍ شائقةً وهامة لا حصر لها.

لكي تتبيَّن هذه النقطةَ، تأملْ مرةً ثانيةً عملَ الحاسوب. وافترِضْ أننا نَصِف عملَ حاسوبٍ ما على أدنى مستوًى، مستوى العَتاد الصلب، في حدود تقلباتٍ إلكترونية داخل الترانزستورات. إذا نحن حَصَرنا أنفسَنا بمثل هذه الأوصاف، ودَعْك من الأوصاف المُؤَطَّرة في حدود فئات الفيزياء، فلا بد أن تَفوتنا تعميماتٌ هامةٌ لا تظهر إلا عندما ننظر إلى الآلة على مستوى برنامجها. يمكننا، مثلًا، أن نفهم الملامح المشتركة في سلوك آلتين مختلفتين بشدة في التركيب المادي وهما تُجرِيان نفسَ البرنامج، كلتاهما مثلا تُجرِي عملياتِ جمع، أو تبعث مستنداتٍ إلى طابعة. على مستوى العَتاد الصلب المعتاد، أو على مستوى الفيزياء، مثل هذه المشتركات تختفي، بنفس الطريقة التي يتلاشَى بها النمط الذي تشكِّله ترتيبات الزهور في ساعة زهور عندما ننظر إلى النباتات الفردة.

القوانين والخواص: مستويات الواقع

قد يعترض شخصٌ ما على هذا الخَط من الاستدلال، قائلًا بأن قُصاراه أن يُثبت أننا نحتاج إلى علوم المستوى الأعلى والفئات التي تأتي بها من باب الراحة والملاءمة لا أكثر. فعلوم المستوى الأعلى تقدِّم لنا ما يُعَد من وجهة نظر الفيزياء أو الكيمياء أوصافًا فجةً بشكلٍ ميئوس منه للمجريات في العالم من حولنا. الحق، رغم ذلك، أن هذه الأوصافَ وافيةٌ تمامًا بلا ريب لأغراضنا. كما أن الأوصاف الأدق تتطلب مبذولًا من الوقت والطاقة قد يتجاوز قدرتنا. وبوسعي إذ ألزم مستوى البرنامج أن أفهم وأفسِّر وأتحكَّم في سلوك حاسوبي بطريقةٍ تَفِي تمامًا بأغراضي. ولكن بصرف النظر عن تلك الأغراض، فإن القصة الحقيقية لا تُبلَغ إلا بالنزول إلى مستوى العَتاد الصلب، وفي النهاية إلى مستوى الميكروفيزياء.

يمكننا هنا أن نقارن استخدام أحكام التجربة المألوفة في التنبؤ بالطقس: «سماء حمراء بالمساء، هي للملاح هَناء. سماءٌ حمراءُ بالنهار، فليأخذ حذرَه البحار»،١٥ «دارة حول الشمس أو القمر، تَرَبَّص الثلج أو المطر».١٦ مثل هذه الأحكام الخبروية مفيدة بغير شك، بل ربما لا غِنَى عنها عمليًّا. ورغم ذلك، فهي لا تَعدو أن تقرِّب أحكامًا أكثر تعقيدًا أو دقةً بكثير، وهي أحكام مقيمة في علوم المستوى الأدنى؛ علم الأرصاد وعلم الطقس على سبيل المثال، وفي النهاية، بطبيعة الحال، في الفيزياء. يمكننا أن نرى السيكولوجيا في نفس الضوء. تزودنا السيكولوجيا بمخزون من التعميمات التقريبية والجاهزة تسعفنا عندما نتفاعل مع شخصٍ آخر. ولكن هذه التعميمات، على أحسن تقدير، تُقَرِّب حقائقَ على مستوياتٍ أدنى. ونحن إذ نهبط من السيكولوجيا، عبر النيوروسيكولوجيا، إلى النيوروبيولوجيا، إلى الكيمياء، فنحن نُحَسِّن هذه التقريبات حتى نصل إلى الأساس الوطيد؛ الفيزياء.

يؤكد فودور بصلابةٍ أن هذه الطريقة في تصوير العلاقة بين علوم المستوى الأعلى وعلوم المستوى الأدنى هي خطأٌ في الفهم. فالفئات المطمورة في علم مستوًى أعلى، كالسيكولوجيا مثلًا، تُسَمِّي خواصَّ أصيلةً للأشياء. هذه الخواص لا تقبل الرد إلى الخواص الموجودة في علوم المستوى الأدنى. «كون المرء في ألم» و«الاعتقاد بأنها تمطر» تُسَمِّيان مثل هذه الخواص ذات المستوى الأعلى. وإذا كانت هذه الخواص لا وجود لها بين الخواص التي تَذخرها علومُ المستوى الأدنى، فما كان هذا لِيَنالَ من حقيقتِها، وما ينبغي لنا أن نستنتجَ من هذا أنها، بشكلٍ ما، أدنَى حقيقة. بل إن هذا، على العكس، هو بالضبط ما ينبغي أن نتوقعه إذا كان علمُ النفس علمَ مستوًى أعلى موثوقًا به.

ما الذي يجعل خاصةً ما خاصةً أصيلة؟ من وجهة النظر التي نحن بصددها، فالخاصة الأصيلة هي تلك التي تُحدِث فارقًا عِلِّيًّا للأشياء التي تمتلكها. فإذا كانت الحمرةُ خاصةً أصيلةً فإن الأشياء التي تمتلكها، أي الأشياء الحمراء، سوف تسلك على نحوٍ مختلف عن الأشياء التي تفتقر إليها. والوظيفيون في معسكر فودور غالبًا ما يضعون هذا بِلُغةِ القوانين العِلِّية. ومهمة العلوم الخاصة هي صياغة قوانين عِلِّية تحكم الأشياء الواقعة تحت هذه العلوم. الخواص الأصيلة إذن تكشفها القوانين العِلِّية التي نميط عنها اللثام ونحن نستقصِي عالمَنا ونبحثه. فإذا ما اكتشفنا قوانينَ عِلِّيَّةً في النيوروبيولوجيا، أو السيكولوجيا، أو الاقتصاد، قوانين تحكم أشياء مستوًى أعلى، وإذا كانت هذه القوانين تشمل خواص مستوًى أعلى، إذن فخواص المستوى الأعلى هذه لا بد أن تكون أصيلة. قد نكون بالطبع مخطئين فيما تكونه القوانين، ومخطئين من ثم فيما يتصل بالخواص الأصيلة، ولكن هذا من نوافل القول.

ثمة مَلمَحان لهذا الرأي يستحقان التوكيد.

  • أولًا: أن أنصاره ملتزمون بتصورٍ طبقي للواقع. يتضمن الواقعُ مستوياتٍ من الأشياء والخواص تحكمها مستوياتٌ من القوانين العِلِّيَّة. ورغم أن الأشياء على المستويات الأعلى مُشَيَّدَةٌ من أشياء على مستويات أدنى، فمن الحق أن لأشياءِ المستوَى الأعلى وخواصها نوعًا من الحياة قائمًا بذاتِه. إنها غيرُ قابلةٍ للرد إلى، ولا يصح القول بأنها «ما هي إلا»، ترتيبات أشياء وخواص على مستويات أدنَى.١٧ تتكون القلوب من خلايا، وفي النهاية من كواركات وإلكترونات. غير أن القلوب ليست مجرد تجميعات من الإلكترونات والكواركات، وخواص القلوب ليست خواص الإلكترونات والكواركات أو تجميعات الإلكترونات والكواركات. (الاستدلال هنا يوازي الاستدلال، المعروض بالفصل الثاني سابقًا، الذي يُفضِي بنا إلى الشك في أن القوارب ما هي إلا مجموعات من الألواح التي تُكَوِّنُها.)
  • ثانيًا: تؤخَذ قوانين المستوى الأعلى على أنها قوانين لا تَصِح إلا ceteris paribus، أي لا تصح إلا «مع تَساوِي بقية الأشياء». وهي في هذا الجانب تختلف عن القوانين التي تحكم الكيانات الأساسية التي تدرسها الفيزياء. إن القوانين التي تحكم الكيانات الأساسية هي قوانين لا استثناء لها، أما القوانين التي تحكم الكيانات على المستويات الأعلى فهي، في المقابل، قوانين تقريبية فحسب، قوانين «تَساوِي البقية». ولا يخلِطَنَّ أحدٌ بين قوانين تَساوِي البقية ceteris paribus laws والقوانين الاحتمالية من النوع الذي ذكرناه في الفصل الثاني. فالقوانين الأساسية قد يتبيَّن أنها احتمالية، ولكن تطبيقها، رغم ذلك، عمومي ولا استثناء له. أما القوانين التي نأمل أن نكتشفها في علم النفس أو الاقتصاد أو حتى النيوروبيولوجيا فهي، في المقابل، غير قاطعة بشكلٍ لا مَرَدَّ له.

وأنا أذكر هذه النقطة الثانية لأنك قد تتساءل عن قوانين علم النفس، القوانين التي تحكم عمل العقل. تأمل قانونًا قد ترى أنه يحكم الاعتقادات والرغبات:

«ق»: إذا كان فاعل — «س» — يريد «ص»، ويعتقد أنه يحتاج «ل» لكي يحصل على «ص»،

إذن «س» يريد «ل».

فإذا كنتَ تريد أن تتخذ طريقَ النفَق وتعتقد أنك لكي تتخذ النفَقَ يجب أن تشتري ماركًا، إذن فسوف تريد أن تشتري ماركًا. ورغم أن «ق» يحكم كثيرًا من أمثلة تكوين الرغبة، فليس من الصعب تخيل استثناءات. فإذا كنتَ تعتقد مثلًا أن ليس معك نقود، إذن فإن اعتقادك بأنك يجب أن تشتري ماركًا لكي تجتاز النفق سوف يؤدي بك إلى أن تتوقف عن الرغبة في اجتياز النفق، أو إلى الرغبة في أن تستعطي.

وأهم من ذلك أنك قد تفشل في تكوينِ رغبةٍ في شراء مارك؛ لأنك في اللحظة التي وقع لك أنك بحاجة لشراء مارك سقط عليك لوحٌ من الجص ففقدتَ الوعي. لاحظ أننا في هذه الحالة بإزاء نوع من التدخل يتضمن كيانات وعمليات تقع خارج نطاق علم النفس. فالأشياء لم تعد تجري في أَعِنَّتِها على المستوى السيكولوجي نتيجةً لوقائع على المستوى النيوروبيولوجي. ولكن قوانين السيكولوجيا صامتة بالضرورة بإزاء هذه الوقائع، هذا هو ما يجعل القوانين السيكولوجية قوانين سيكولوجية.

ويمكن للمثال أن ينسحب على قوانين كل علمٍ خاص. فكل علم خاص يُشَرِّح العالمَ بطريقةٍ معينة، ويحاول أن يكتشف قوانين تحكم الكيانات الواقعة تحت فئاته الخاصة. هذه الكيانات مكونة من كياناتِ مستوًى أدنى. ويمكن للمجريات التي تؤثر في هذه الكيانات من المستوى الأدنى أن تكون لها نتائج على مستوًى أعلى. فالتغيرات في جزيئات دماغك مثلًا قد يكون لها تأثيراتٌ درامية على دماغك وعلى حالتك العقلية أيضًا. ولكن قوانين كل علمٍ خاص لا تخص إلا كيانات على المستوى الملائم لهذا العلم. فالقوانين السيكولوجية لا تتضمن ذِكرًا للجزيئات، رغم أن الأحداث الجزيئية يمكن أن تؤثر على العمليات السيكولوجية. وما دمنا نعتبر قوانينَ علمٍ خاص، مثل السيكولوجيا، قوانينَ مستقلة، وما دمنا نأخذها على أنها لا تقبل الرد إلى قوانين تحكم كيانات المستوى الأدنى، فيمكننا أن نطمئنَّ إلى أن هذه القوانين لا يمكن أن تكون بلا استثناءات.

الأنطولوجيا الطبقية Layered ontology

أين يتركنا كل هذا؟ لقد أخذتُكم معي في الْتفافةٍ طويلةٍ بعضَ الشيء خلال مسائلَ في فلسفة العلم، لكي أنعشَ التصور الميتافيزيقي للعقل الذي كان له التأثير الأكبر في الدوائر الوظيفية، ولا أقصد أن أُوحِي بأن جميع الوظيفيين يؤيدون هذه الصورة. على أن الصورة أصبحت واسعةَ التأثير، سواء في الفلسفة أو في الأفرع ذات الصلة في العلوم المعرفية، واستحقت من ثم أن تُعرَضَ بوضوح. والأهم أنها تقدم أساسًا منطقيًّا للرأي القائل بأن العالمَ طَبَقِيٌّ (مكوَّن من طبقات بعضها فوق بعض) layered، فالعقول كياناتُ مستوًى أعلى، والخواص العقلية خواص مستوًى أعلى. هذا معتقَدٌ مركزيٌّ في جميع صيغ المذهب الوظيفي تقريبًا (وإن يكن صنفُ الوظيفية الخاص بأرمسترونج-لويس المذكور سابقًا استثناءً واضحًا).

يتركنا هذا مع الصورة التالية للعقل: إن التعبيرات العقلية (مثل «كون المرءِ في ألم»، «الاعتقاد بأن الدببة ذات فراء») تُسَمَّى خواص وظيفية للكيانات التي تنتسب لها. والخواص الوظيفية تُحَقَّق في النهاية في منظومات مادية بواسطة خواص لا وظيفية لهذه الأنظمة. عندما تمتلك خاصةً عقلية معينة (خاصة كونك في ألمٍ مثلًا)، فإن هذه الخاصة تُحَقَّق (تؤَدَّى/تُنَفَّذ) فيك بواسطة خاصةٍ ماديةٍ ما لِدماغِك. وفي نوعٍ آخر من المخلوقات — أخطبوط مثلًا أو ساكن ألفا سنتوري — قد تُحَقَّق هذه الخاصة نفسها (التألُّم) بواسطة خاصةٍ مادية مختلفة تمامًا. ها أنت ذا، وأخطبوط، وساكن ألفا سنتوري، تمتلكون جميعًا خاصةَ كونِكم في ألم. تتحقق فيك هذه الخاصة بواسطة نوعٍ معين من العمليات النيورولوجية، وتتحقق في الأخطبوط بواسطة نوعٍ مختلفٍ جدًّا من الأحداث النيورولوجية، وتتحقق في ساكن ألفا سنتوري بواسطة عملية غير نيورولوجية قائمة على السليكون.

الألم، شأنه شأن أية خاصة وظيفية أخرى، قابل لتعددية التحقيق multiply realizable. ولأي شخصٍ أن يُخَمِّن إلى أية حدود تمتد مُحَقِّقاتُ الألم. هل يمكن برمجة حاسوبٍ على أن يحس الألم؟ إذا أمكن لنا أن نزود حاسوبًا بالصنف الصحيح من التنظيم الوظيفي، فإنه يستطيع، وفقًا للوظيفي، أن يحس الألم. فخاصةُ التألمِ قد تتحقق بواسطة نقلاتٍ للإلكترونات عبر ترانزستورات، أو، في حالة آلة باباج، بواسطة تتابع معين من دورات تروس وأسطوانات نحاسية.

وسوف ننظر بِتَمَعُّنٍ أكثر في فكرة تعددية التحقيق، والفكرة المرتبطة بها التي تقول بأن العالم يتكون من مستوياتٍ من الكيانات والخواص، في الفصل السادس. في غضون ذلك، دعونا نتأمل خطًّا هامًّا من نقد المذهب الوظيفي، يركز على جانبٍ من جوانب العقل كثيرًا ما يُتَّهَم الوظيفيون بإغفالِه؛ الجانب الكيفي.

«الكيفيات» Qualia

افترِض أننا نقبل تصويرَ الوظيفي للحالات العقلية على أنها حالاتٌ وظيفية. يعني ذلك أنك تحوز حالةً عقليةً معينة (حالة التأَلُّم مثلًا) فقط في حالة ما إذا كنتَ في حالةٍ تَفِي بوصفٍ وظيفي معين، حالةٍ تلعب دورًا عِلِّيًّا من نوعٍ معين. فأنت، بين أشياء أخرى، في حالةٍ أحدثها تلفٌ بالأنسجة، أو ضغط أو درجة حرارة متطرفة (في السخونة أو البرودة)، حالةٍ تُحدِث مَدًى من «استجابات الألم» المميزة، السلوكية والعقلية، فأنتَ تنكمش، وأنت تكوِّن الاعتقاد بأنك في ألم، وأنت تكتسب رغبةً في أن تتخذ خطواتٍ لتخفيف الألم.

كل هذا يبدو صحيحًا تمامًا، بقدر ما يمضي. الخَطبُ أنه، فيما يبدو، لا يمضي بعيدًا بالقدر الكافي. عندما تكونُ في ألمٍ فأنت في حالةٍ تحوز بلا شك نطاقًا من الخواص العِلِّية أو النزوعية. (وأية حالة لا تتصف بذلك؟) ولكن هل هذا هو كل ما هنالك بخصوص ألمِك؟ من المؤكد أنك حين تَخبُر ألمًا فإن لِخبرتِك «حِسًّا» a feel مميزًا. وقد رأينا في الفصل الثالث أن الفلاسفة يحبون أن يلفتوا الانتباه إلى هذا الحِس بأن يقولوا إن «ثمة شيئًا ما يشبه أن يكونه»١٨ أن تتألم أو أن تكون في ألم، أن يكون لديك صُداعٌ رهيبٌ مثلًا. وهذا اﻟ «يشبه أن يكون»، البُعد الكيفي للألم، مفقود بشكلٍ واضحٍ من رواية الوظيفي. حين تعاني صداعًا فأنت تكابد نوعًا من الخبرة الواعية، خبرة لها كيفيات بارزة معينة. كثيرًا ما يشير الفلاسفة إلى هذه الكيفيات بلفظة «كواليا» qualia. وما الكواليا إلا تلك المظاهر الكيفية لحياتنا العقلية، والتي نركز عليها عندما نتأمل ما يشبه أن يكون أن تعاني ألمًا، أو أن تشاهد غروب الشمس في المحيط الهادي، أو أن يقع لسانُك على فلفل جلبي.

والوظيفي لا يلزمه أن ينكر أنك عندما تكون في ألم فإن لِكَونِك في ألم شعورًا أو حِسًّا مميزًا. وأحيانًا ما ينكر الوظيفيون هذا بالفعل؛ ربما لأنهم لا يجدون مكانًا في العالم لكيفيات الخبرة. إلا أن ما يتعين على الوظيفي أن ينكره هو أن البُعد الكيفي للآلام هو ما يجعل الآلام آلامًا. الوظيفي من جانبه قد يسلِّم بأن الآلامَ مصحوبةٌ دائمًا وأبدًا بمشاعر من ضروب معينة، تمامًا كما أن روك ستارز مصحوبة دائمًا بمعجَبين يصخبون من أجل أخذ تذكارات. ولكن ما يجعل حالةً معينةً حالةَ ألم (وفقًا للوظيفي) ليس ما تشبه أن تكون بالنسبة للكائن الذي في هذه الحالة، بل دورها العِلِّي في الاقتصاد النفسي للكائن.

الزومبيات Zombies

من النتائج الظاهرة لمثل هذا الرأي أنه قد يكون ممكنًا لمخلوقٍ ما أن يكون في ألمٍ، إلا أنه لا يَخبُر أي «حِس» كيفي كالذي يشغلنا عندما نكون في ألم. ولنكنْ واضحين في هذا الصدد. حين نتخيل مخلوقًا يَفِي بتصور الوظيفي للألم، ولكنه يفتقد «الحِس» الكيفي، فنحن لا نتخيل مخلوقًا مُخَدَّرًا. فالمخلوق المخدر ليس في ألم من وجهة نظر أي أحد. إنما نتخيل مخلوقًا يسلك تمامًا مثلما نسلك عندما نكون في ألم، فهو يشكو، ويتخذ خطوات لتخفيف الألم، ويبدو في معاناةٍ، تمامًا مثلما نحن حَرِيُّون أن نفعل. إن الروابط العِلِّيَّة (ومن ثم السلوك الملائم للألم) جميعها موجودة. المفقود هو الجانب الداخلي للألم، الجانب الكيفي.

لعلك تشك في إمكان وجود مثل هذه المخلوقات، إلا أن الفكرة ليست أن مخلوقات من هذا النوع — «الزومبيات» zombies — هي مخلوقات ممكنة في ضوء قوانين الطبيعة. هل من الممكن أن تكون الخنازير قادرة على الطيران؟ حسن، ليس في ضوء قوانين الطبيعة. ولكنَّ (كثيرًا ما يقال) قوانينَ الطبيعةِ عارضةٌ contingent، أي كان يمكن أن تكون غير ما هي عليه. وإذا سلمنا بأن قوانين الطبيعة كان جائزًا أن تكون مختلفة، فبإمكاننا، إذن، أن نسلِّم بأن العالم كان من الجائز أن يكون بحيث تطير الخنازير. وبنفس القياس، يعلن أولئك الذين يعتبرون الزومبي ممكنًا كشخصٍ حي، أن الزومبيات ممكنة باعتبار الفروق في قوانين الطبيعة.

لماذا يجب أن نكترث لمثل هذا الإمكان الغريب؟ حسن، إن مجرد إمكان الزومبيات يبدو أنه يتضمن أن الكيفيات الواعية ليست جوهرية للعقول، أو ليست، على أية حال، جوهرية إذا كان المذهب الوظيفي صحيحًا. فالزومبيات تَفِي بجميع المعايير الوظيفية لامتلاك المجموعة الكاملة من الحالات العقلية. إلا أن الزومبيات تفتقد أي شيء من قبيل «الحِس» الكيفي الذي يتخلل خبراتنا الواعية. يترتب على ذلك أنه كان من الممكن أن تكون على ما أنت عليه الآن، بطاقمك الكامل من الحالات السيكولوجية (بما فيها اعتقادك بأنك لست زومبيًا)، بسيكولوجيتك نفسها، إلا أنك خِلوٌ تمامًا من الخبرة الواعية. إذا كان ذلك كذلك، فسوف تقطن عالَمًا لا يفترق من الخارج عن العالم الفعلي، ولكنه من الداخل مختلفٌ جدًّا، إنه عالَمٌ لا داخلَ له.

بعضُ نقادِ المذهب الوظيفي يعتبرون إمكان الزومبي كأساسٍ كافٍ لِرفض الوظيفية. مثل هؤلاء النقاد يعتبرون الجانبَ الكيفي لحياتِنا العقلية مركزيًّا وجوهريًّا لما يعنيه أن تحوز عقلًا. وهم يتساءلون كيف يمكن أن يكون الوظيفيون جادين في قولهم بأنه يمكن أن يكون مخلوقٌ ما في ألمٍ إلا أنه خِلوٌ تمامًا من أي شيء يشبه ما نعتبره الشعور الواعي بالألم؟

أحد الردود الوظيفية على حكاية الزومبي هو القول، ببساطة، إن الزومبيات، برغم المظاهر، ليست في الحقيقة ممكنة. فصنف التنظيم الوظيفي المعقَّد المطلوب للمخلوق لكي يكون في ألم، لن يكون ممكنًا ما لم يكن المخلوق قد جرت له خبرات واعية، لها صنوف الكيفيات الخبروية التي تَبرز عندما نكون في ألم. أن يكون المرءُ في ألم ليس مجرد أن يُنتِج سلوكَ ألمٍ ملائمًا تحت الظروف الصحيحة. إنه أيضًا أن يكَوِّن اعتقاداتٍ بأنه في ألم، وأن الألم له كيفياتٌ معينة (فهو غامض أو حاد أو لاسع). والمخلوق القادر على أن يَخبُر الألمَ قادرٌ أيضًا على تصوير الألم ومُواجَدة١٩ المخلوقات الأخرى. وكل هذه الأنشطة — تَأَمُّل المرءِ لِألمه، وتصويره لِألمِ شخصٍ آخر — تبدو بعيدةَ المَنال بالنسبة للزومبيات. فإذا كان الأمر كذلك، فالزومبيات إذن حَرِيَّةٌ أن تختلف عنا وظيفيًّا، وليس ثمة ما يحملنا على الاعتقاد بأن لها عقولًا.

وقد ذهب وظيفيون آخرون إلى أن مثل هذا الرد لا يتفق مع روح المذهب الوظيفي. الوظيفيةُ ترد الخواصَّ العقلية إلى قُوًى عِلِّية. فإذا كانت الكواليا — أي البُعد الكيفي للخبرات الواعية — تقاوم الرد، فنحن أمام خيارين؛ إما أن نرفض المذهبَ الوظيفي، وإما أن نركب الصعبَ ونحتمل المِحنة، ونقبل أن الكيفيات الواعية ليست، بعد كل شيء، جوهرية للحالات العقلية.

احتمال المِحنة

ربما يكون الوعي، بكل بهائه الكيفي، هو مصاحِبٌ طبيعي، وإن يكن غيرَ جوهري على الإطلاق، للمجريات العقلية. تَضمَن قوانينُ الطبيعة أن أي مخلوق مثلنا في التركيب والتنظيم المادي سيكون مثلنا من حيث الخبرة الواعية. (يذهب ديفيد شالمرز David Chalmers أبعدَ من ذلك، فيقول بأن قوانيننا الطبيعية تضمن أن أي شيء مثلنا وظيفيًّا، بِغَضِّ النظر عن تكوينه المادي، لا بد أن يكون مثلنا من حيث الكيفيات الواعية.) ولكن ليس ثمة ضرورة أعمق في الارتباط بين كيفيات الخبرة الواعية وخواص المنظومات المادية. لقد كان من الممكن أن يكون ثمة عالَمٌ يشبه عالمَنا تمامًا في كل تفصيلةٍ مادية، ولكنه خالٍ تمامًا من الوعي. إن عالَمًا كهذا، عالَمًا زومبيًّا، سيكون، إذا صَحَّ المذهبُ الوظيفي، عالَمًا للفاعلين فيه اعتقاداتٌ ورغباتٌ وآلامٌ وعواطف. وجهُ الأمرِ أنه في العالَم الزومبي، تفتقد هذه الحالاتُ العقليةُ المألوفةُ البعدَ الكيفي الداخلي الذي تَصادَفَ أنها تُبديه في عالَمِنا هذا.

إذا كنتَ مثلي تستنكف الحديثَ عن عوالمَ بديلة، فتصورْ متضمنات المذهب الوظيفي بالنسبة للعالم الفعلي. وفقًا للمذهب الوظيفي، فالعقولُ هي ترتيباتٌ معقدة لحالاتٍ وظيفية، حالات تحمل الأنواع الصحيحة من العلاقة العِلِّية، علاقتها بعضها ببعض وبالمُدخَلات والمُخرَجات. والآن يبدو أننا استطعنا أن نخلق منظومةً حققت هذا المُتَطَلَّب، أيْ عقلًا (وفقًا للمعايير الوظيفية)، بينما هي خِلوٌ من الخبرات الواعية.

قَدَّمَ نِد بلوك Ned Block تجربةً فكريةً كثر حولها الخلاف، مصمَّمة لكي تجلب هذا الإمكان إلى عالَمنا الذي نعيش فيه: تخيَّلْ سكانَ الصين مَوصولين معًا ومع العالَم الخارجي بهواتف، ومنظَّمين بطريقةٍ مطابِقةٍ للطريقة التي، وفقًا للوظيفيين، ينتظم بها العقل البشري. يبدو أن الوظيفي مضطر إلى القول بأن هذه المنظومةَ هي عقل؛ أنها تدرك حِسيًّا، تحوز اعتقاداتٍ وآلامًا، وربما أنها واعية. ولكن هذا يَجبَه أغلبَ الناسِ كشيءٍ غير معقول للغاية. فالأفراد المكوِّنون للمنظومة واعون بالتأكيد، ولكن ليس النظام ككل.
قد يحاول الوظيفي أن ينكر أن سكان الصين يمكن أن يُنَظَّموا بطريقةٍ تعكس تنظيمَ العقلِ البشري. ومع ذلك، فإذا كان كل ما للعقل هو ترتيبٌ وظيفي ملائم، فمن الصعب أن نرى فيمَ هذا الإنكار. فإذا كان سكانُ الصين غيرَ كافين، فلنضُمَّ سكانَ الكوكب كله، أو أمة الحشرات، أو الخلايا المكوِّنة لِقناتِك الهضمية. فما داموا منظَّمين بالطريقة الصحيحة، وما داموا يُحققون منظومةً من النوع الموضح في شكل ٤-٣، فينبغي أن يُعَدُّوا عقولًا (وربما حتى عقولًا واعية). لسنا بحاجة إلى الأمثلة الخيالية. ولا عجب إذا تَكَشَّفَ أن ما يُسمَّى «الدماغ الذي في الأحشاء»٢٠  brain in the gut، أو حتى الجهاز العصبي المستقل (ذلك الجزء من الجهاز العصبي المكرَّس للتحكم في الوظائف الجسمية غير الإرادية، مثل التنفس وسرعة ضربات القلب ودرجة حرارة الجسم) قد تطابق مع شطرٍ مهم من التنظيم الوظيفي للعقل، إلا يَكُنْ عقلَ إنسانٍ راشد فليكن عقلَ طفلٍ رضيع، أو عقل مخلوقٍ ما غير بشري.

بوسع الوظيفيين أن يصمدوا للمحنة هنا، وأن يقبلوا ببساطةٍ هذه النتيجةَ على أنها نتيجةٌ واحدة مضادة للحدس لنظريةٍ مقبولةٍ فيما عدا ذلك، إلا أنك إذا كنتَ غيرَ ملتزمٍ أصلًا بالمذهب الوظيفي، فقد تجد هذا سببًا دامغًا لأن تخلص إلى أن أصحاب المذهب الوظيفي قد جانبَهم التوفيق.

الاستغناء عن الكواليا

لعل هناك ردًّا وظيفيًّا أكثر إقناعًا. تخيلْ أنك الآن تنظر إلى شجرة تنوب قريبة. إنك فيما نفترض تمر بخبرة بصرية واعية بالشجرة. ما هي كيفيات هذه الخبرة الواعية؟ من الخطأ، كما لاحظنا في الفصل الثالث، أن تخلط بين كيفيات شيءٍ ما تدركه وكيفيات خبرتك لهذا الشيء. الشجرة خضراء وطولها أربعون قدمًا. أما خبرتك بالشجرة فلا هي خضراء ولا طولها أربعون قدمًا. الحق، كما لاحظنا بالفعل، أن من الصعب أن نقول بأي درجة من الدقة ماذا عساها أن تكون كيفيات خبرتك الحسية بالشجرة.

قد يقول الوظيفي، متشبثًا بهذه النقطة، إن الخبرات نفسها ليس لها بحد ذاتها كيفيات، كيفيات يمكن تحديدها بمعزل عن كيفيات الأشياء المدرَكة. أو فلنكن أكثر حيطةً ونَقُل إنه رغم أن خبرةً ما قد يكون لها كيفيات، فهذه ليست كيفياتٍ نَعِيها بأي معنًى من المعاني ونحن نكابد الخبرة. إذا كانت خبراتك تتحقق في دماغك فستكون كيفيات خبراتك، إذن، كيفيات نيورولوجية. مثل هذه الكيفيات لا تشكل مشكلةً كبرى لدى المذهب الوظيفي.

دعونا نتخذ رغم ذلك اتجاهًا مختلفًا بعض الشيء. افترِض أن الكيفيات المتاحة لنا في الخبرات الواعية، التي يُقال لها الكواليا، ما هي إلا تلك الكيفيات التي نتمثل الأشياء على أنها تمتلكها. هذه الكيفيات يجب تفرقتها عن كيفيات التمثيلات. فتمثيلي لشجرةِ تنوب قبل فقرتين هو تمثيلٌ لِشيءٍ ما طويل وأخضر، ولكن التمثيل ليس طويلًا ولا أخضر. للتمثيل كيفيات، ولكنها ليست هذه الكيفيات. تمثيلات الشيء عينه — تمثيلات شيء ما طويل وأخضر — قد يكون لها كيفيات مختلفة لا نهاية لها تعتمد على وَسَط التمثيل. فأنا أمثل الشجرة باستخدام طابعة تنقش جملًا على ورقة بيضاء بحبر أسود. والرسام يمثلها بواسطة أصباغ ملونة على قماشة. والمصمِّم ذو الميول الإلكترونية قد يمثلها بخلق نمط من النقاط الصغيرة على شاشة حاسوب. رغم أن كل هذه التصويرات تمثل شجرة تنوب، فإن كلًّا منها يختلف عن الآخر في كيفياته الداخلية.

افترض أننا وافقنا الوظيفيَّ في أن خبرةَ شجرة عبارةٌ عن تمثيل الشجرة عقليًّا. في خبرتك البصرية بشجرة أنت تمثل الشجرة على أن لها كيفيات متعددة قابلة للاستبيان بصريًّا. يمتلك تمثيلُك أيضًا كيفياتٍ داخليةً معينة خاصة به. ستكون هذه كيفياتِ عملياتٍ نيورولوجية يتحقق فيها تمثيلُك. وإنه لَرِهانٌ آمِن أنك لا تعرف شيئًا عن هذه الكيفيات. من المؤكد أنك لا تعرف عنها شيئًا على أساس خبرتك البصرية بالشجرة وحدها. ولكن تأمل الآن الكيفيات التي نمثل الشجرة على أنها تمتلكها، ربما تكفي هذه الكيفيات — أو بالأحرى تمثيلاتنا لها — لإقناع أولئك الذين يضربون على وتر الكواليا. إن صح ذلك نكن قد اكتشفنا طريقةً للتوفيق بين ما يُسمَّى (على نحو مضلِّل) «كيفيات الخبرة الواعية»، وبين المذهب الوظيفي. يقول الوظيفي إن كيفياتِ الخبرات نفسها غيرُ موجودة في الوعي المعتاد. ولكن لا ضير، فهذا لا يشكل مشكلةً للمذهب الوظيفي. أن تصبح واعيًا بكيفياتِ خبرةٍ ما يقتضي أن تَخبُر خبرتَك، بواسطة مشاهدة عملية دماغك المكشوف جراحيًّا في مرآةٍ، على سبيل المثال.

وماذا عن تلك الكيفيات التي تبدو عقليةً خالصة، الكيفيات التي تبدو لا مكان لها في العالم المادي؟ افترِضْ أن حلمَك بأنك تشاهد رجلًا أجنبيًّا أخضر أو هلوستك برجل أجنبي أخضر عبارةٌ عن تمثيلك وجود أجنبيٍّ أخضر. إن تمثيلَك نفسَه ليس أخضر، ولا الكلمات التي في هذه الصفحة التي تمثل الأجنبي خضراء. إن الخُضرة غائبة عن الصورة. الحق أنه في هذه الحالات لا شيء على الإطلاق يتعين أن يكون أخضر. والآن تَأَمَّلْ خبرتَك بألمٍ نابض في إبهام قدمك اليُسرى. أن تحوز هذه الخبرة (فيما نفترض) عبارة عن تمثيلك حدثًا مزعِجًا نابضًا في إبهامك اليُسرى. وكما ذكرنا في الفصل الثاني، فإن الخبرة، التمثيل، لا يتعين أن تكون هي ذاتها في إبهامك اليسرى. وإذا كنت مغرَمًا بالمذهب الوظيفي فسوف تضعه، أو تضع مُحَقِّقَه، في دماغك. وفضلًا عن ذلك، فرغم أنه في الحالات العادية ستكون خبرتُك بألمٍ في إبهامك خبرةً بحدثٍ فيزيولوجي فِعلي في إبهامك، فإنها لا يتعين بالضرورة أن تكون كذلك. تجد مثالًا لذلك إذا كانت خبرتك هلوسة، أو إذا كنتَ تعاني «ألمًا شبحيًّا».

وماذا عن كيفية النبض؟ يبدو بعيد الاحتمال أن تكون هذه كيفية أي شيء في إبهامك. فعندما نفحص الإبهام لا نكتشف أي شيء ينبض. هل النبضُ كيفيةٌ لخبرتِك إذن؟ هذا أيضًا يبدو بعيدَ الاحتمال. فعندما نشقًّ عن دماغك لا نكشِف عن أي كيفيات نابضة. لعل النبض هنا مثل الخضرة التي مَثَّلنا الأجنبي على أنه يحوزها. إنها ليست كيفيةً يحوزها أيُّ شيء. نحن نمثل وقائعَ معينةً على أنها نابضة، ولكن لا شيء في الحقيقة ينبض. إذا كان المذهب الوظيفي يستغني عن مثل هذه الكيفيات، إذن، فهو لا يستغني عن أي شيءٍ علينا أن نفتقده. تلك كيفياتٌ نمثل الأشياءَ على أنها تحوزها، ولكن لا يترتب على ذلك أن أي شيء في الحقيقة يحوزها، مثلما أنه لا يترتب على قدرتنا على تمثيل حوريات البحر أن الحوريات موجودة. فتلك الأشياء التي يصفها مُناوئُ الوظيفية على أنها كيفياتُ الخبرات الواعية — الكواليا — ليست كيفياتِ أي شيء. إنها بالأحرى كيفياتٌ نتوهم الأشياء والأحداث على أنها تحوزها.

يعتبر مناهضو الوظيفية هذا الخط من الحجة على أنه نوعٌ من خِفَّة اليد. إن بوسعنا أن نقبل التمييز بين كيفيات الخبرات والكيفيات التي تُمَثَّل الأشياء المخبورة على أنها تحوزها. وأقل من ذلك وضوحًا بكثير، رغم ذلك، أن كيفيات خبراتنا غير متاحة لنا إلا من طريقٍ غيرِ مباشر نوَّهنا به سابقًا، طريق ملاحظاتنا لأدمغتنا الخاصة. فإذا سلمنا لحظةً أن الخبرات تمثيلية، فإن خبرة بصرية واقعية (غير متوهَّمة veridical)٢١ بطماطمة، وهلوسة بصرية بطماطمة، وصورة خيالية بصرية لطماطمة، تتساوى جميعًا من الوجهة التمثيلية؛ فكلها تمثل طماطمة. ولكنها تبدو بالتأكيد متساوية كيفيًّا أيضًا. فرؤيةٌ هلوسيةٌ لطماطمةٍ، مثلًا، تماثل كيفيًّا الإدراكَ البصري لطماطمة. والتماثل الكيفي بين تخيل طماطمة وإدراك طماطمة هو ما يمنح الخيالَ قيمتَه.

قد يَرُدُّ الوظيفيُّ بأن التشابهاتِ المَعنِيَّةَ جميعَها محصورةٌ داخل التمثيل. فإدراكك البصري لطماطمة، وهلوستك لطماطمة، وتخيلك لطماطمة، كلها تتضمن تمثيلات متشابهة، تمثيلات طماطمة. ولكن هذا غير كافٍ، فرسم طماطمة والنقش الكتابي لطماطمة كلاهما يمثل طماطمة، إلا أنهما يفعلان ذلك بطريقتين مختلفتين جدًّا، إنهما يشملان حالتين تمثيليتين مختلفتين كيفيًّا. إن الهلوسة والتخيل لا يشبهان الإدراك المعتاد من الناحية التمثيلية فحسب، بل يشبهانه أيضًا، وبشكلٍ حاسم، من الناحية الكيفية، أو هكذا يبدو الأمر.

لغز الوعي

أحد الردود الوظيفية الشاملة على مصاعب من هذا الصنف هو تبيان أن الوعي عميق الغموض من وجهة نظر أي شخص. فنحن لا نعلم كيف نستوعب الوعي في العالم المادي، ولا كيف نفسر ظاهرة الوعي. فإذا كانت هذه هي الحال، فبأي حق نَصِم المذهبَ الوظيفي بما يبدو أنه مترتباتٌ غيرُ مقبولة. فإلى أن نحوز فكرةً أفضلَ عن جذور الوعي، فمن ذا الذي يملك الحق في أن يقول هذا مقبول وهذا غير مقبول؟

إذا كنا نأمل في أن نغامر برأي مستنير في مثل هذه الموضوعات، فسنكون بحاجة إلى فهمٍ أكثرَ رسوخًا للمسائل الميتافيزيقية التي تتبطن هذا الخِلاف. ولكن دعونا، قبل أن ننقِّب أكثر في الميتافيزيقا، نفحص مقاربةً بديلةً إلى العقول ومحتوياتها، مقاربة تركز على ممارسةِ عَزو حالاتٍ عقلية للكائنات الفاعلة. يُحاج البعضُ بأن هذه الممارسةَ تبررها حقيقةُ أنها تُمَكِّننا من أن يفهم بعضُنا بعضًا. يحوز الفاعلون عقولًا إذا كان بوسعنا أن نجد مكانًا لهم داخل نوعٍ معين من المخطط التأويلي. وهذا، في النهاية، هو كل ما هنالك في مسألة امتلاك عقل. وسوف نَعرِض لمقارباتٍ من هذا النوع في الفصل الخامس.

قراءات مقترَحة

John Haugeland provides an excellent introduction to computers and computation in Artificial Intelligence: The Very Idea (1985). Ned Block’s “What is Functionalism” (1980b) provides an indispensable introduction to functionalism. See also Sydney Shoemaker’s “Some Varieties of Functionalism” (1981) and William Lycan’s Consciousness (1987).
D. M. Armstrong and David Lewis have both advocated versions of functionalism according to which functional properties are identified with their realizers. See Armstrong’s A Materialist Theory of Mind (1968); and see Lewis’s “An Argument for the Identity Theory” (1966), and “Mad Pain and Martian Pain” (1980). I have not discussed the Armstrong-Lewis brand of functionalism in part to keep the discussion as simple as possible, and in part because few functionalists have embraced it. The essays by Block and Shoemaker mentioned above discuss Armstrong-Lewis style functionalism and argue that it is defective. For a reply, see Lewis’s “Reduction of Mind” (1994).
The holistic strategy for characterizing states of mind, to which most functionalists are beholden (and which is illustrated in figure 4.2) is spelled out by Lewis in “Psychophysical and Theoretical Identifications” (1972).
The foremost proponent of the Representational Theory of Mind (and the language of thought) is Jerry Fodor. See The Language of Thought (1975). See also Kim Sterelny, The Representational Theory of Mind: An Introduction (1990). John Haugeland discusses the notion of a semantic engine in “Semantic Engines: An Introduction to Mind Design” (1981b).
Searle’s discussion of the Chinese Room originally appeared in “Minds, Brains, and Programs” (1980). Alan Turing’s appeal to the Imitation Game to explicate the concept of intelligence can be found in “Computing Machinery and Intelligence” (1950). A convenient summary of the Turing Test can be found in Haugeland, Artificial Intelligence: The Very Idea (1985), pp. 6–9.
Fodor sketches a reasonably accessible account of the semantics of the language of thought in his Psychosemantics (1988). A more recent version of the same story is told in The Elm and the Expert: Mentalese and its Semantics (1994). Accounts of the semantics of interior states that attempt the same thing in different ways can be found in Fred Dretske, Explaining Behavior: Reasons in a World of Causes (1988); and in Ruth Millikan, Language, Thought, and Other Biological Categories: New Foundations for Realism (1984); see, as well, Millikan’s “Biosemantics” (1989). Fodor discusses laws, properties, and the special sciences in both the volumes mentioned above.
The best-known discussion of the ineliminability of the “what it’s like” question is Thomas Nagel’s much-cited “What is it Like to be a Bat?” (1974). Nagel’s concerns applied to functionalism have yielded complex debates over the status of “qualia”, the qualities of conscious experiences.
Ned Block’s Chinese nation case appears in his “Troubles with Functionalism” (1978). Sydney Shoemaker defends functionalism from the “qualia” threat in “Functionalism and Qualia” (1975). See also “Absent Qualia are Impossible — A Reply to Block” (1984b). A different line of response to Block can be found in Lycan’s Consciousness (1987), chaps 4 and 5. The functionalist account of qualia discussed in this chapter is a hybrid of views advanced by Gilbert Harman, “The Intrinsic Quality of Experience” (1990) and Fred Dretske, Naturalizing the Mind (1995), chap. 3.
Zombies, in the special sense associated with functionalism, are the invention of Robert Kirk. See his “Zombies vs. Materialists” (1974). Kirk’s more recent views on the subject are spelled out in Raw Feeling (1996), especially chap. 3. The philosopher most impressed by zombies is David Chalmers. Chalmers, in a much-discussed book, argues that zombies, though “nomologically impossible,” are logically possible, and so make consciousness deeply mysterious; see The Conscious Mind: In Search of a Fundamental Theory (1996), especially §II, “The Irreducibility of Consciousness”.
For an accessible account of the “brain in the gut” by a journalist, see Sandra Blakeslee’s “The Brain in the Gut” (1996). The live possibility that the autonomic nervou, system satisfies functionalist criteria for the mental is eloquently defended in D. T. Ryder’s “Evaluating Theories of Consciousness Using the Autonomic Nervous System for Comparison” (1996).
١  supervenience (التبعية، العارضية): هي حالة كون الخاصة أو الصفة عارضةً أو تابعة. وتكون الخاصةُ عارضةً أو تابعة supervenient إذا كانت تعتمد على خواص أخرى، وتتوقف عليها، ولا يمكن أن تتغير ما لم تتغير تلك الخواص. تُعَد خاصةُ اللون مثلًا عارضةً أو تابعةً لأنها تعتمد على خواص فيزيائية أكثر أساسية. (المترجم)
٢  = other things equal = other things being equal = ceteris paribus.
٣  مادة رغوية يشكِّل الهواء ٩٨٪ من مكوِّناتها، وهي مادة عازلة خفيفة الوزن قابلة للطفو. (المترجم)
٤  بصفة عامة، ينبغي للأوصاف التي تتناول الأشياء أو تُعَرِّفها أو تفسرها ألا تكون دائرية. وبعبارة أخرى، «يجب ألا يشتمل التعريف (الشيئي) على اسمٍ لشيءٍ من الأشياء المراد تعريفها؛ لأننا لو فعلنا ذلك لكنا كمن يُعَرِّف الشيءَ بنفسه!» (د. محمد مهران، مدخل إلى المنطق الصوري، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، ١٩٧٦م، ص١١١). (المترجم)
٥  أصبحت هذه العبارة لفتجنشتين قولًا فلسفيًّا مأثورًا، واستجابة من جوامعِ الكَلِم لما يُسمَّى «المشكلة الهرمنيوطيقية» hermeneutical problem، أو جدل الجزء والكل. وسوف نتناول ذلك بتفصيلٍ مناسب في موضعه. (المترجم)
٦  قد يظل مفتوحًا للسلوكي أن يُؤَوِّل العُقَدَ في التوصيف الوظيفي كتسمية لحالات مادية غير عقلية. وهذا الخِيار يستدعي في الذهن ذلك الصنف من المذهب الوظيفي الخاص بأرمسترونج-لويس. (المؤلف)
٧  بالنسبة لأولئك الذين يهتمون بهذه الأشياء، فإن طريقةً أخرى لإيضاح نفس النقطة هي أن نقر بأن امتلاك أي حالة عقلية يمكن توصيفه بواسطة ضم عبارات شرطية conditional (عبارات إذا-إذن)، حيث المُقَدَّم antecedent (جملة إذا) يتضمن وصف المُدخَل وتحديد الهيئة الوظيفية الكلية، والتالي consequent (جملة إذن) تتضمن المُخرَج (السلوكي وغيره). (المؤلف)
٨  يذهب كثير من علماء النفس المعرفيين وبعض فلاسفة اللغة إلى أن بني الإنسان لديهم لغة فكر بالمعنى الحرفي للكلمة، إنها رموز داخلية تحمل خصائص القصدية والنسقية. وهي ليست شيئًا مكتسَبًا، بل هي في الحقيقة التي تفسر كيف يمكن للبشر اكتساب اللغة الطبيعية التي يتحدثون بها. إنها تؤدَّى في الدماغ، وتتم في الجهاز العصبي المركزي، وهي متأصلة منذ البداية ومبيتة في العتاد الصلب لجهازنا العصبي المركزي. ويرى فودور أن العمليات العقلية تجري بهذه اللغة المختلفة عن لغتنا القومية العادية، على أنها تتبطنها وتفسر قدرتنا عليها. وتُعَد هذه الفكرة تطويرًا لفكرة تشومسكي عن النحو العالمي (العمومي) الفطري. وهي تقوم على نوع من المماثلة (الأنالوجي) بين تشغيلات الدماغ أو العقل وتشغيلات الحاسوب، من حيث إن برامج الحاسوب هي مجموعات من التعليمات المعقدة لغويًّا، والتي نرى أن تنفيذها يفسر السلوك الظاهر للحاسوب. ولم تحظَ هذه الفرضية، من حيث هي تفسير للقدرة اللغوية ولتَعَلُّم اللغة العادية بالقبول العام. ويبدو أنها لا تفسر إلا القُوَى التمثيلية العادية للعقل إذ تهيب بأشياء فطرية من نفس الصنف. (المترجم)
٩  هناك تفرقة عامة في الفلسفة بين النمط والنسخة type/token distinction، أي بين النوع العام والشاهد أو المثال instance من هذا النوع. من ذلك مثلًا أن مصنعًا للسيارات ينتِج في العام ست سيارات (أي أنماطًا types أو موديلات من السيارات)، غير أنه ينتِج ألوفًا عديدة من السيارات (أي نسخًا tokens). وفي مجال اللغة تصبح تفرقة النمط/النسخة تفرقة بين وحدة لغويةٍ ما وبين المثال الوارد من هذه الوحدة. فإذا سألني سائل: كم عدد الكلمات في أعمال شكسبير؟ فلا بد لي من أن أستعلم منه: أتسأل عن عدد أنواع الكلمات، أي عن حجم معجم شكسبير (فهي عدة ألوف)، أم تسأل عن النسخ التي وردت من هذه الأنواع، أي الكلمات كما يمكن أن يحصيها الطبَّاع (فهي أكثر من ذلك بكثير)؟ (معجم أوكسفورد للفلسفة). وفي كلمة «فلسفة» على سبيل المثال، هناك نسختان واردتان لحرف الفاء، وتتضمن الكلمة خمس نسخ متتالية من الأحرف هي أمثلة واردة لأربعة أنماط هي: ف، ل، س، ة. (المترجم)
١٠  يُستخدَم اصطلاح «مغالطة القَزَم» homunculus fallacy في أحيانٍ كثيرة لِشَجب التفسيرات الفارغة أو الدائرية للعمليات السيكولوجية، لأنها تَعزو لجهازٍ داخلي ما تلك الخواصَّ السيكولوجية عينَها التي كانت محل البحث في المقام الأول. تأملْ مثلًا نظريةً في الإبصار تقول بأن ثمة داخل الدماغ «روحًا» أو «جهازًا حسيًّا» … إلخ «يتفرس» و«يبصر» و«يتفحص» الصور التي على شبكية العين. هذه النظرية فارغة؛ لأن «التفرس» و«الإبصار» و«التفحص» كلها أمثلة للعمليات البصرية نفسها التي من المفترَض في النظرية أن تجلوها قبل كل شيء. لَكَأَن هذه التفسيرات تدعونا إلى تخيل «إنسان صغير» (عقلة إصبع/قزم) يقعد داخل الجمجمة يتفحص شيئًا نيورولوجيًّا أشبه بشاشة تلفاز تُعرَض عليها مشاهد العالم الخارجي. مثل هذه النظريات ترتكب «خطًّا مقوليًّا» category mistake؛ إذ تضع داخل بنية الدماغ أحداثًا وعملياتٍ تنتمي إلى مستوًى أعلى من الوصف (The Oxford Companion To The Mind, Oxford University press, 1998, p. 313.) وبصفة عامة، يُطلَق مصطلح «مغالطة القزم» على كل حجة تفسر ظاهرةً ما بلغةِ الظاهرة نفسها التي اضطلعت بتفسيرها! الأمر الذي يُفضِي إلى «نكوص لا نهائي» infinite regress، فالمَرء يُبصِر لأن قزمًا في دماغه ينظر إلى المَشاهِد على شاشة الشبكية، والقزم يبصر المَشاهد لأن في دماغه قزمًا آخر يشاهد شاشة شبكيته، وهكذا إلى غير نهاية! (المترجم)
١١  ليس يعنِي ذلك أن نقول إنك لا يمكن أن تتعلم أن تفعل ذلك، غير أن تَعَلُّمَك ذلك سيتطلب منك تَعَلُّمَ قاعدة معقدة تأخذك من الأحداث الكهربية، أو أنماط الانحرافات، أو الأنماط المغناطيسية، إلى الرموز المألوفة أو العلامات الموسيقية. (المؤلف)
١٢  تُعَد «تجارب الفكر» thought experiments أداة علمية وفلسفية حقيقية. وإذا كنا في التجربة العلمية العادية نُحدِث بالفعل مسلسلًا من الأحداث، فنحن في تجربة الفكر مدعوون إلى تخيل مسلسل. وبوسعنا عندئذٍ أن نتبين أن نتيجةً ما سوف تترتب، أو أن وصفًا ما هو الملائم، أو أن عجزنا عن توصيف الموقف يحمل في حد ذاته نتائج معينة. وقد لعبت تجارب الفكر دورًا كبيرًا في تطور الفيزياء؛ فمن المحتمل مثلًا أن جاليليو لم يقم قَط بإسقاط كرتين غير متساويتَي الوزن من برج بيزا المائل كيما يدحض رأي أرسطو بأن الجسم الثقيل أسرع في السقوط من الجسم الأقل ثقلًا، بل دعانا فقط إلى تخيل جسم ثقيل على هيئة «دَمبِل» يسقط من علٍ، بينما القضيب الواصل بين كرتيه آخذٌ في النحول تدريجيًّا إلى أن ينبتر في النهاية. فهذا الشيء هو جسم ثقيل واحد حتى آخر لحظة، إذ يصير جسمين كل منهما أقل وزنًا، فمن غير المعقول أن هذه «القَصة» الأخيرة تغير سرعة السقوط تغييرًا دراميًّا كما تقتضي نظرية أرسطو. ومن تراثنا الفلسفي الإسلامي نذكر تجربة ابن سينا الشهيرة المعروفة باسم «حجة الإنسان المعلق في الفضاء»، لإثبات وجود النفس وجوهريتها، وبالتالي خلودها؛ إذ يدعونا ابن سينا إلى تخيل إنسان كامل النضج يأتي إلى الوجود فجأة وهو معلق في الفضاء معصوب العينين … إلخ، بحيث لا يكون لديه إحساسات من أي نوع، غير أنه لا شك يظل لديه الوعي والدراية بوجوده وبنفسه. وبهذه الحجة استبق ابن سينا الكوجيتو الديكارتي بقرون. ولعل تأملات ديكارت في كتابه «المقال في المنهج» كلها تجارب فكر، ومن أشهرها تجربة الشيطان الخبيث الذي يعبث بعقولنا ويرينا الباطل حقًّا. ومن تجارب الفكر الشهيرة في العصر الحديث تجربة «أينشتين-بودولسكي-روزين» عام ١٩٣٥م، لإثبات أن ميكانيكا الكوانتم لا تقدِّم وصفًا كاملًا للواقع الفيزيائي، وتجربة «قطة شرودنجر» عام ١٩٣٥م التي يحاول فيها هذا الفيزيائي النمساوي أن يثبت الطبيعة الغريبة لعالم الكوانتم، وصعوبة تصور مفاهيم عدم التعين الخاصة بهذا العالم حين تُنقل إلى عالم الأشياء اليومية المألوفة. (Oxford Dictionary of Philosophy, p. 377) ليس هناك اتفاق معقود بين الفلاسفة على الشرعية المنهجية لتجارب الفكر، سواء كبديل للتجارب الواقعية أو كأداة يعتمد عليها في إدراك الإمكانات. وقد رأى توماس كون أن تجارب الفكر تكثر في مرحلة «الأزمة» العلمية التي تتراكم فيها «الشذوذات» ويَضعُف النموذج الإرشادي للعلم القياسي. وهو يعترف بأهميتها، لكنه يتساءل: كيف تأتى لها مثل هذه التأثيرات الهامة على الرغم من أنها تتعامل مع مواقف لن تُفحص في المعمل، وأحيانًا تفترض مواقف لا يمكن أن تفحص ولا يمكن أن تحدث في الطبيعة. ومهما يكن من شيء، فإن تجارب الفكر كانت ولا تزال تُستخدم بنجاح كبير، ولا سيما في الفيزياء الحديثة. (المترجم)
١٣  uninterpreted، وتعني أيضًا غير مؤَوَّلة، وغير مترجمة. (المترجم)
١٤  الإضافة summing.
١٥  Red sky at night, sailor’s delight; red sky in morning, sailor take warning.
١٦  Ring around the sun or moon, snow or rain is coming soon.
١٧  جَرَى العُرف على أن تُستدعَى علاقة «العارضية» أو «التبعية» supervenience لكي تفسِّر علاقة أشياء وخواص المستوى الأعلى بأشياء وخواص المستويات الأدنى. والفكرة، على التقريب، هي أنه بينما أشياء وخواص المستوى الأعلى «تعتمد على، وتتحدد ﺑ» أشياء وخواص المستوى الأدنى، فإنها رغم ذلك منمازة (منفصلة) عن أشياء وخواص المستوى الأدنى. (المؤلف)
١٨  there is something it is like.
١٩  المُواجَدة empathy: هي القدرة على تَمَثُّل مشاعر الغير، أو القدرة على اتخاذ الإطار المرجعي للآخرين، وبتعبير أكثر إلفًا ووضوحًا: أن يضع المرء نفسَه في موضع الآخر (أو يقايضه موضعَه في المخيِّلة). والمواجدة هي قوام الذكاء الانفعالي emotional intelligence. (المترجم)
٢٠  من الكشوف الطبية اللافتة أن الجهاز الهضمي عند الإنسان يشتمل على شبكة كثيفة من النسيج العصبي الذي يعجُّ بأكثر من ٣٠ مُوصِّلًا عصبيًّا مهمًّا، وبخاصة السيروتونين. لهذه الكتلة من النسيج العصبي مهمات تتعَدَّى مجرد تنظيم الهضم وإخراج الفضلات. إنها بمثابة «دماغٍ ثانٍ» second brain في بطن المرء متصل بدماغ رأسه، وضالع في تحديد حالته العقلية، وفي الإسهام بدور محوري في أمراض معينة في جميع أنحاء الجسد. (Adam Hadhazy: Think Twice: How The Gut’s “Second Brain” Influences Moods and Well-Being., Scientific American, Feb 12, 2010.).
٢١  تنقسم الخبرات إلى خبرات غير متوهَّمة (حقيقية/عِلم) veridical، وأخرى متوهَّمة (حلم) non-veridical. فتكون خبرةٌ ما هي خبرةً غير متوهَّمة إذا كانت خبرة عن ذلك الذي يبدو للشخص صاحب الخبرة أنها عنه. وتكون خبرةٌ ما هي خبرة متوهَّمة إذا لم تكن عن ذلك الذي يبدو لصاحب الخبرة أنها عنه. أما الخبرات بما هي خبرات فهي واقعية سواء كانت متوهَّمة أم كانت غير متوهَّمة. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤