المذهب الوظيفي والنظرية التمثيلية في العقل
لا يعني ذلك أن المذهب الوظيفي ليس له منتقدون، فكثيرٌ من الفلاسفة والعلماء التجريبيين، على العكس، وجدوا المذهبَ الوظيفي مَعِيبًا. غير أن مُناوِئي المذهب الوظيفي قلما يتفقون فيما بينهم بخصوص أين مَواطنُ القصور فيه على التحديد. الحق أن المناوِئين في الأغلب الأعم يُسَلِّمون عن طيب خاطر بأن الوظيفية على حق في بعض الأشياء وإن كانوا، مرةً ثانية، لا يُجمِعون على ما تَكُونُه هذه الأشياء. وبالنظر إلى عدم وجود منافِسين واضحين للمذهب الوظيفي، فقد اختار كثيرٌ من المُنَظِّرين التمسكَ بالوظيفية رغم اعترافهم بوجود ثغراتٍ ونقائصَ بها، على الأقل إلى أن يظهر في الأفق شيءٌ ما أفضل. بهذه الطريقة، فإن المذهب الوظيفي يفوز لِتَغَيُّب المنافِسين.
الصورة الوظيفية
تَنتُجُ اقتصادياتُ (وفورات) الحجم عندما ننتقل من التروس والأسطوانات النحاسية إلى الأنابيب المفرغة، ثم مرةً ثانيةً عندما ننتقل من الأنابيب المفرغة إلى الترانزستورات. هذه الاقتصاديات تُحدِث فارقًا عمليًّا في نطاق العمليات الحوسبية التي يمكن أن نتوقع من جهازٍ معين أن يؤديها. غير أننا عندما ننظر في الحسابات نفسها فقط، فإن كل هذه الأجهزة سواسية. قد يكون أحدُها أسرعَ أو أكثر ثباتًا أو أقل تكلفة من الآخر، ولكنها جميعًا تُنَفِّذ نفس الأنواع من الحوسبة. لهذا السبب، فإننا عندما نَعرِض للحَوسبات — أي تناول الرموز وفقًا لِقواعد صورية — نضرب صفحًا عن الطبيعةِ المادية للجهاز الذي يؤديها. ونحن إذ نفعل ذلك فإننا نميز سلوكَ الأجهزة الحاسبة على «مستوًى أعلى».
يمكننا أن نتصور الآلة الحاسبة (الحاسوب) كجهازٍ يعمل بطريقةٍ تتيح لنا أن نصفه بأنه يؤدي حسابات على رموز. مثل هذا الجهاز يمكن أن يُصنَع من أي عدد من المواد — أو حتى، ربما، من خامةٍ روحية لا مادية — وأن يُنَظَّم بأي عددٍ من الطرق. إذن، عندما نتصور جهازًا على أنه آلةٌ حاسبة (حاسوب)، فنحن نتصوره دون اعتبارٍ لتركيبِه المادي. وتمامًا مثلما نَضرِبُ صَفحًا عن حجم ولون وموضع شكلٍ هندسيٍّ ما عندما يكون موضوعَ برهانٍ هندسي، فإننا نضرب صفحًا عن التركيب المادي لحاسوبٍ ما عندما ننظر إليه كجهازٍ حَوسبي.
العقول كآلاتٍ حاسبة
لنفترِض الآن أننا تصورنا العقولَ بنفس الطريقة على التقريب. فالعقل هو جهاز قادر على تأدية أنواعٍ معينة من العمليات. والحالات العقلية تشبه العمليات الحوسبية، على الأقل بقدر ما يمكن أن يشارك فيها، من حيث المبدأ، أيُّ عدد من الأنظمة المادية (وربما غير المادية). أن نتحدث عن عقولٍ وعملياتٍ عقلية هو أن نضرب صفحًا عن أيِّما شيءٍ يحققها، هو أن نتحدث على مستوًى أعلى.
إذا كان هذا صحيحًا، فسيبدو إذن أن ليس ثمة سر عميق في كيف تتصل العقول والأجسام. فالعقول ليست جواهرَ لا مادية متمايزة لها علاقة عِلِّية بالأجسام. والحديث عن العقول هو مجرد حديث عن منظومات مادية على «مستوًى أعلى». والشعور بألمٍ أو التفكير في فِيِنَّا ليس عملياتٍ دماغية إلا بقدر ما تكون عمليةٌ حوسبيةٌ ما، جمعُ عددين صحيحين مثلًا، عمليةً ترانزستورية. إن العمليات الدماغية وعمليات العتاد الصلب «تنفِّذ» (تؤدِّي/تحقِّق) الأفكار والحوسبة. غير أن هذه الأشياء — الأفكار، والمشاعر، والحوسبة — متعددة التنفيذ. إن بإمكانها أن تتجسد فيما لا نهاية له من الكائنات أو الأجهزة.
التفسير الوظيفي
يمكننا إذ نَتَلَبَّث في اللحظة الحاضرة مع أنالوجي الآلة الحاسبة، أن نتعرف على خيطين في المقاربة الوظيفية إلى العقل؛ الخيط الأول تفسيري، والآخر أنطولوجي. ولننظر أولًا إلى التفسير الوظيفي.
قارن مهمةَ فهم برنامج جهازٍ ما بمهمةِ فهمِ طبيعتِه الميكانيكية. من شأن حاسوبٍ غريبٍ أن يجذب اهتمامًا كبيرًا بين المهندسين الكهربيين. سيودون أن يعرفوا كيف تم تركيبه، وكيف يشتغل. إنما ينصرف اهتمامُهم إلى طبيعته الفيزيائية وليس إلى عتاده المرن. إن تفسير المبرمِج لعملِ الحاسوب وتفسير المهندس لَنَوعان مختلفان تمامًا من التفسير؛ أحدهما يفسِّر على «مستوَى العَتاد الصلب»، والآخر يفسِّر على مستوًى أعلى، «مستوَى العتاد المرن». وليس علينا أن نفهم هذين التفسيرين على أنهما في صراع، إنما هما تفسيران للشيء نفسه (وهو تشغيلُ جهازٍ ما) على مستويين مختلفين.
وبنفس الطريقة يمكننا أن نتخيل علماءَ أعصاب يفحصون الأجهزةَ العصبية لمخلوقاتٍ ذكية، ويقدمون تفسيرات تشغيلاتها وسلوكها على مستوى العَتاد الصلب. هذه التفسيرات ليست بالضرورة في منافسة مع التفسيرات التي يقدمها السيكولوجيون على مستوى العتاد المرن.
وبالمثل، يجب أن نتوقع أن يستفيد علماءُ السيكولوجيا وعلماءُ الأعصاب من اطِّلاعِ كلِّ طرفٍ على أعمال الطرف الآخر في مواصلةِ مشروعِه الخاص. وعلى قانِصي الخَلَل (الأطباء، السيكولوجيين الإكلينيكيين، الأطباء النفسيين) أن يكونوا متهيئين لتشخيص اختلالات متباينة، مثل الاختلالات السيكولوجية (بَق العتاد المرن)، أو الفيزيولوجية (أعطاب العَتاد الصلب العصبي).
أنطولوجيا المذهب الوظيفي
يهيب الوظيفيون بمستويات تفسيرية مماثلة لمستويَي العَتاد الصلب والعتاد المرن اللذين نجدهما في تفسيرات عمل الحواسيب. غير أن المذهب الوظيفي ملتزم أيضًا بتمييز مستويات أنطولوجية. فالأمر ليس مجرد أن الحديث عن العقول وعملها هو طريقة أعلى مستوًى للحديث عَمَّا هو، في حقيقته وصميمه، نظامٌ ماديٌّ خالص، بل إن الألفاظ العقلية الأعلى مستوًى تُسَمِّي خواصَّ تُعَدُّ متمايزةً عن الخواص التي تسميها الألفاظ الأدنى مستوًى التي يتخذها العلماء المعنيون بالتركيب المادي للعالم. فرغم أن الحالات والخواص العقلية تُنَفَّذ (تُحَقَّق) بواسطة حالات وخواص مادية، فإن الحالات والخواص العقلية لا تقبل التماهي مع تلك الحالات والخواص المادية. الآلام، مثلًا، وفقًا للوظيفي، تُنَفَّذ في الجهاز العصبي، ولكن خاصةَ كونِ المرء في ألم ليست خاصةً مادية. فكيف يكون ذلك؟
تأملْ مرةً ثانيةً في أنالوجي الحاسوب. إن من الممكن لعمليةٍ حوسبيةٍ معينة أن تُؤَدَّى (تُنَفَّذ/تُحَقَّق) في تنويعةٍ من الأجهزة المادية المتباينة، في آلة باباج التحليلية، وفي حجرة مليئة بالأنابيب المفرغة والأسلاك، وفي جهازٍ مكوَّن من السليكون والترانزستورات، وحتى في جهازٍ هيدروليكي مكونٍ من أنابيبَ مملوءةٍ بالماء وصمامات. والأدمغة، وكثير من المنظومات البيولوجية في الحقيقة، تبدو قادرةً على تأدية حوسبات. وإذا كان ثمة شيء من قبيل الأرواح اللامادية، فإن لدينا كل ما يدعونا إلى الاعتقاد بأن هذه أيضًا يمكن أن تؤدِّي عملياتٍ حوسبية. حقيقة الأمر أنه لا نهاية لِضروب الأجهزة التي قد تكون قادرةً على الانخراط في حوسبةٍ معينة. ولكن إذا كان الأمر كذلك، فإن تأدية عمليةِ حوسبةٍ لا يمكن أن تكون نوعًا من العمليات المادية.
تأمل العمليةَ التي نَفَّذَت عمليةَ حوسبةٍ معينة — جمع ٧ و٥ لِتُنتِجَ ١٢ — في آلة حاسبة مبكرة. تكوَّنَت هذه العملية من مجريات كهربية في حشدٍ من الأسلاك والأنابيب المفرغة. ولكن جمع ٧ و٥ لِتُنتِج ١٢ ليست عملية أنابيب مفرغة وسلك. وإذا كانت كذلك لما أمكن أن تُؤَدَّى على مِعداد (جهاز حساب مكون من خرزات منسلكة على قضبان في إطارٍ صلب) أو في دماغ طفل في السادسة يتعلم الجمع. إن المِعداد والأدمغة لا تحتوي على أسلاك ولا على أنابيب مفرغة.
والوظيفي إذ يَدَّعِي أن الخواص العقلية (أو لِنَقُل في مَقامِنا هذا الخواص الحوسبية) ليست خواصَّ مادية، فإنه لا يومئ بذلك إلى أن الخواص العقلية هي خواص لا مادية، خواص جواهرَ لا مادية. فباستبعاد الخيالات الوهمية، فإن امتلاك خاصة عقلية (أو الانخراط في حوسبةٍ ما) قد يتطلب بالفعل «قاعدة» مادية، امتلاك خاصةٍ ماديةٍ أو أخرى تحقِّق الخاصة العقلية (أو الحوسبية). إنما يقصد الوظيفي أن خواص المستوى الأعلى، مثل التأَلُّم أو حساب مجموع ٧ و٥، ينبغي ألا تتماهى مع، أو تُرَدَّ إلى، أو يُخلَط بينها وبين، مُحَقِّقاتِها.
وسيتوجب علينا في النهاية أن ننظر بمزيد من الإمعان في فكرة التحقيق (التنفيذ) التي نهيب بها هنا. ولكنْ لنحاولْ، قبل أن نمضي في ذلك، أن نكمل هذا الوصف المبدئي التقريبي للمذهب الوظيفي.
المذهب الوظيفي والمادية
كما رأينا للتو، فإن الوظيفيين يؤكدون أنه في مثل هذه الحالات هناك شيئان؛ الحوسبة، والعمليات التي تُؤَدِّي (تنفِّذ/تحقِّق) أو تجسِّد الحوسبة. تخطئ نظريةُ الهوية، التي عَرَضنا لها في الفصل الثالث؛ إذ تَسلُك هذين الشيئين معًا. يرى الوظيفيُّ أن هذا خلطٌ بين مظاهر المستوى الأعلى للأنظمة ومظاهر المستوى الأدنى المنفِّذة. صحيحٌ أنه من خلال مروره بتغيراتٍ معينة في الحالة يؤدي حاسبُ جيبِكَ أو آلة باباج التحليلية حساباتٍ معينة. ولكنْ قارِنْ: بتحريك ذراعِك بطريقةٍ معينة أنت تعطِي إشارةً بانعطافةٍ إلى اليسار، إلا أننا يجب ألا نستنتج من هذا أن التأشير بانعطافةٍ يُسرَى هو نوعٌ من حركة الذراع. (اذكر الطرقَ التي قد تؤشِّر بها دون تحريك ذراعِك بهذه الطريقة.) كذلك فإن تأدية حوسبةٍ معينةٍ ليست نوعًا من تغير حالة السليكون، أو نوعًا من حركة التروس.
ربما يتعين على العمليات الحوسبية (شأن الإشارة باعتزام المرء الالتفاف) برغم قابليتها لتعددية التنفيذ، أن تنفَّذ في منظومةٍ مادية أو أخرى. إذا كان الأمرُ كذلك، لربما أمكن تبرير المادية. ولكن هل الأمر كذلك؟ يبدو متصوَّرًا على أقل تقدير أن هناك أرواحًا غير مجسَّدة، أي كيانات لا مادية بوسعها أن تمر بتغيرات لا مادية مختلفة في الحالة. قد يتبين إذ ذاك أن بوسع عملية حوسبية معينة متعددة التنفيذ أن تُنَفَّذ في منظومة إكتوبلازمية لا مادية. فإذا كانت مثلُ هذه المنظومات ممكنةً لَبَدا أن الوظيفية، بقدر ما تَحَدَّدت لنا حتى الآن، ليست متسقةً مع المادية، الحوسبات لا يلزم أن تكون مجسَّدةً ماديًّا.
الأمور هنا خَدَّاعة. وسوف نحتاج على كل حالٍ نظرة أكثر وضوحًا إلى النطاق الميتافيزيقي قبل أن نغدو في أي موقع يسمح لنا بتقييمها. ولَسوف نعود إليها في الوقت المناسب. ولنَخلُصْ مبدئيًّا، في نفس الوقت، إلى أن الوظيفية، كما أوضحنا بدقة حتى الآن، يمكن أن تكون صحيحة، حتى لو تكَشَّفَ أنْ ليس ثمة أشياء أو خواص أو أحداث لا مادية، أو حتى أن الأشياءَ والخواص والأحداث اللامادية هي لسببٍ ما غيرُ ممكنة. إذن، أن يعتنق المرءُ المذهبَ الوظيفي لا يعني أن يدير ظهرَه للمادية.
عناصر المذهب الوظيفي
الخواص الوظيفية
ولننظرْ بتَمَعُّنٍ أكثر إلى الخاصة الأخيرة من هذه الخواص؛ خاصة كونِه نائبَ رئيس. إن امتلاك وِين هذه الخاصةَ عبارةٌ عن إيفائه بوصفٍ وظيفي معين؛ ذلك أن وِين هو نائب رئيس بفضل دوره في عمليات شركة صناعات جارجانتشوان المحدودة. وأيُّما شخص يَشغَل نفس الدور، بغضِّ النظر عن جنسه وطوله، وحتى بنيته البيولوجية (قد نتخيل وِين يُستبدَل به شمبانزي ذكي، أو إنسانٌ آليٌّ أقل كلفة)، فسيمتلك بذلك خاصة كونه نائب رئيس.
إن خاصةَ كَونِ المرءِ نائبَ رئيس هي خاصةٌ وظيفية. وامتلاك شيءٍ ما خاصةً وظيفيةً هي مسألة إيفاء ذلك الشيء بوصف وظيفي معين. ولكي ترى هذه النقطة تأملْ خاصةً أخرى؛ خاصة كون الشيء ساعة. يمتلك شيءٌ ما هذه الخاصة (بعربيةٍ واضحةٍ: يكون شيءٌ ما ساعةً) لا لأن له نوعًا محددًا من التركيب أو التنظيم الداخلي، بل بسبب ما يعمله، بسبب وصفِه الوظيفي. قد تُصنَع الساعاتُ من الشموع والتروس والبندولات، أو من اللوالب والبلورات المهتزة ومنظومات الأنابيب المملوءة ماء والصمامات. إن الشيءَ هو ساعةٌ لا لأنه مركَّبٌ بطريقةٍ معينة أو مصنوعٌ من موادَّ من صنفٍ معين، بل بسببِ خاصةٍ وظيفية. (قد يُصِر المرءُ على أن الساعة يجب أن تكون منتَجًا مصنوعًا، فالشيء الطبيعي الذي يحفظ الوقت لن يُعتَبَر ساعة. وأنا أَدَع جانبًا هذه المشكلةَ، فهي غيرُ فارقة في تبيان النقطة التي نحن بصددها. كما أدع جانبًا، في الوقت الحالي، مسألة ما إذا كان كون الشيء ساعة، أو كونه نائب رئيس هما خاصتان أصيلتان.)
إن مثال خاصة كون الشيء ساعة، ووصفي للخواص الوظيفية كخواص تمتلكها الأشياء بفضل وصفها الوظيفي؛ هذا المثال قد يولِّد انطباعًا بأن الخواصَّ الوظيفية هي بشكلٍ ما خواصُّ مفتعَلة أو «مصنوعة». ولكن تأمل الخاصة البيولوجية لكون الشيءِ عينًا. وللتقريب المبدئي، فإن العين هي عضوٌ يَستخلِص معلوماتٍ عن الأشياء من الإشعاع الضوئي المركَّب المنعكس بواسطة هذه الأشياء. يمكن أن تكون العين، وأن تُصنَع، من موادَّ مختلفة كثيرة، وأن تأخذ أشكالًا مختلفة كثيرة. فالعين المركبة عند النحلة تختلف عن عين الحصان، وعين الحصان غير عين الإنسان. وبوسعنا أن نتخيل أعينًا، بَعدُ، أبعدَ اختلافًا، في روبوتات أو مخلوقات من أماكن أخرى من العالم. إن شيئًا ما هو عين، شيئًا ما يمتلك خاصة كونِه عينًا، فقط في حالة أنه يَشغَل دورًا معينًا في المنظومة التي ينتسب إليها، إنه (لِنفترِضْ) يَستخلِصُ معلوماتٍ من إشعاع الضوء، ويجعل تلك المعلوماتِ متاحةً للمنظومة التي يخدمها.
قد نقول إن شيئًا ما يمتلك خاصةً وظيفيةً بفضل شغلِه دورًا معينًا. ولكن ماذا يعني أن «يَشغَل دورًا»؟ يحب الوظيفيون أن يفكروا في الأدوار على نحوٍ عِلِّيٍّ. يشغل شيءٌ ما دورًا معينًا إذا استجاب بطرقٍ معينةٍ لِمُدخَلاتٍ عِلِّية لِيُنتِجَ أنواعًا معينةً من المُخرَجات. القلبُ عضوٌ يدير الدم. يمتلك شيءٌ ما خاصةَ كونِه قلبًا بشرط أن يَشغَل هذا الدورَ العِلِّي. والقلوب، شأنها شأن الأعين، قد تختلف عبر الأنواع اختلافًا دراميًّا. ومع مجيء القلوب الصناعية لم يعد ضروريًّا للقلب أن يكون كيانًا بيولوجيًّا على الإطلاق.
بالعودة إلى الآلات الحاسبة، يمكننا أن نرى أن العملياتِ الحوسبيةَ قابلةٌ للتمثيل بواسطة أُطُرٍ أو عُقَدٍ في رسومٍ بيانية. يمثل كلُّ إطار أو عقدة وظيفةً تأخذ أنواعًا معينة من المُدخلات، وتُنتِج أنواعًا معينةً من المُخرَجات. والجهاز الذي يؤدي هذه الوظائف يعمل ذلك لأنه يمتلك الصنفَ الصحيحَ من البِنية العِلِّية. وهو يمتلك هذه البِنيةَ بفضل تكوين وترتيب أجزائه المادية.
الخواص العقلية كخواص وظيفية
يَعتبِرُ المذهبُ الوظيفيُّ الحالاتِ والخواصَّ العقليةَ حالاتٍ وخواصَّ وظيفية. تُعَد حالةٌ ما حالةً وظيفيةً من نوعٍ معين إذا كانت تَفِي بوصفٍ وظيفي معين، أي إذا كانت تلعب دورًا عِلِّيًّا من نوعٍ معين في المنظومة التي تنتمي إليها. وتُعَد خاصةٌ ما خاصةً وظيفيةً إذا كان امتلاكُها من جانبِ شيءٍ ما يعود إلى إيفاءِ ذلك الشيءِ بدورٍ عِلِّيٍّ من نوعٍ معين.
لقد تحدثتُ في عرضي للمذهب الوظيفي عن الخواص والحالات. وسأدخر العرضَ المفصَّل للخواص لفصلٍ لاحق. وبوسعنا في الوقت الحالي أن نمضي لِنُمَيِّزَ الحالات عن الخواص كما فعلنا في الفصل الثالث. الحالةُ هي امتلاك شيءٍ ما لِخاصةٍ ما في وقتٍ واحد. أما الأحداث أو العمليات فتتضمن تغيرات للحالة. عندما يمضي شيءٌ ما إلى حالةٍ معينة فإنه يأتي إلى امتلاكِ خاصةٍ معينة، وعندما تتغير حالةُ شيءٍ ما يتوقف عن امتلاك خاصةٍ ما ويأتي إلى امتلاك خاصة متمايزة عنها. بوسعنا أن نتصور العمليات على أنها سلاسلُ منَمَّطة من الأحداث.
وأنا أذكر كل هذا ببساطة لكي أُخَفِّف ضروبًا ممكنة من القلق من جراء المراوحة بين الحديث عن الخواص والحديث عن الحالات (أو العمليات أو الأحداث). الحالة ليست خاصة، ولا الخاصة حالة. إلا أنه في مناقشة المذهب الوظيفي يكون من المريح أحيانًا الحديث عن خواص، وأحيانًا أخرى الحديث عن حالات.
الوظيفية والسلوكية
توصيف الحالات الوظيفية
إلا أن هذا المَلمَح بالتحديد للعقلي يثير الهواجس حول الدور المنطقي. فإذا كانت الحالة العقلية تَدِين بطابعها لِعلاقاتها التي تحملها بحالاتٍ أخرى، فكيف يمكن لأي حالة أن يكون لها أي طابع؟ حاولْ أن تتخيل اقتصادَ مجتمعٍ كلُّ شخصٍ فيه يكسب قوتَه بِتَجريفِ شخصٍ آخَر.
الفكرة هي: لأن هوية كل حالة تعتمد على العلاقات التي تحملها بالحالات الأخرى، فإننا لا يمكننا أن نحدد البنود العقلية بالتجزئة، بل فقط بتحديد الكل معًا. تأمل النقط في منظومةٍ إحداثية. إن كل نقطة لا تتميز إلا بعلاقاتها الفريدة بكل نقطة أخرى. ليس يعني ذلك أن الحديث عن نقاطٍ مفردة في فضاء إحداثي هو حديث دائري دائمًا وأبدًا، وإنما يعني أننا يجب أن نحدد المنظومة ككل. فنحن لا يمكننا أن نبدأ بتحديد عنصر مستقل مفرد، أو مجموعة عناصر، ثم نستخدم هذه لبناء تصور عن العناصر الباقية. وبالطبع فإننا ما إن تستوي لنا المنظومة في موضعها حتى يمكننا تمامًا أن نتحدث عن النقاط المفردة داخلها.
إذا كان هذا ما زال يبدو مغرِقًا في الغموض، تأملْ في عملية اكتساب طفلٍ لمهارةٍ معقدة، ركوب الدراجة مثلًا. يتطلب ركوبُ الدراجةِ تناسقَ عددٍ هائل من المهارات الصغيرة المكوِّنة. غير أن الطفل لا يتعلم هذه المهارات بمفردها أو على حِدة، بل يتمكن من المهارات معًا، والتمكن من كل مهارة يعتمد بدرجةٍ ما على التمكن من الأخريات. وبعد التمرس يغدو الطفل ممتلكًا للمهارات كوحدةٍ واحدة. وما إن يتم التمكن من المهارات حتى يمكن الارتقاء والامتداد بها إلى غير حد.
الوظيفيون إذن، بخلاف السلوكيين، لديهم فيما يبدو مَصادرُ لتحديد حالات العقل دون دَورٍ منطقي. قد يستفيد السلوكيون بالطبع من نفس الحيلة، فمنظومتنا الوظيفية الكلية هي، بعد كل شيء، مُرساةٌ في مُدخَلاتٍ ومُخرَجاتٍ سلوكية. هل يعني ذلك أن المذهبَ الوظيفي هو، في حقيقة الأمر، مجردُ صورةٍ مُبَهرَجةٍ من السلوكية؟
أما الوظيفيون، في المقابل، فيأخذون العُقَد في التوصيف الوظيفي على أنها تُسَمِّي حالاتٍ داخليةً أصيلةً فَعَّالةً عِلِّيًّا لمنظوماتٍ تعكِس هيئتُها العِلِّيةُ الهيئةَ المُبَيَّنة في توصيفنا الوظيفي الكلي.
المنظومات الوظيفية الكلية
هذه الصورة الكلية التي يومئ إليها الحديث عن المنظومات الوظيفية الكلية تحتاج إلى قيد. قد نتخيل أن البشرَ الراشدين، بصفة عامة، يُبدون منظوماتٍ وظيفيةً كلية متشابهة على نطاقٍ واسع. وفي المقابل، لا بد أن تكون الهيئةُ الوظيفية (المِعمار الوظيفي) للرُضَّع وللمخلوقاتِ غيرِ البشرية أبسطَ بلا شك. هل يعني ذلك أن الأطفال الرُّضَّع والمخلوقات غير البشرية تفتقر إلى العقول؛ أنها لا يمكنها أن تُضمِر أفكارًا أو تُكِنَّ رغباتٍ أو تستشعر ألمًا؟
النظرية التمثيلية في العقل
الآلات السيمانتية (الدلالية)
بَذَلَ فودور وأشياعُه جهدًا كبيرًا في المُحاجَّة بأن النظرية التمثيلية في العقل (ومعها فرضية لغة الفكر) هي خيارنا الوحيد. تقدم النظرية التمثيلية طريقةً في فهم كيف يمكن أن تؤثر العقول، كيانات المستوى الأعلى، تأثيرًا منظمًا وتتأثر بالمجريات الجسمية. فإلى أن يُنتِج أحدٌ نظريةً منافِسةً جادة، تظل النظريةُ فائزةً لتغيُّب الخصم، أو هكذا يزعمون.
كم جملةً يحتويها الصندوق؟ إنه يحتوي مثالين أو نسختين لجملةِ نمطٍ واحدة.
وأنا لن أُربِكَ النصَّ بالإشارة الصريحة متى أَعرِض للجمل النُّسَخِ ومتى أَعرِض للجمل النمط. فالسياق يبيِّن أيها المقصود، فعندما يتحدث أنصارُ النظرية التمثيلية في العقل عن الجُمَل التي تَشغَل صناديقَ الاعتقاد مثلًا، أو الجمل التي لها أدوار في العمليات العِلِّية، فمن الواضح أنهم يتحدثون عن جملٍ نُسَخٍ لا أنماط، كياناتٍ فردةٍ لا أنواعٍ أو أنماطٍ من الكيانات.
تأمل الجُمَلَ في هذه الصفحة. إن كل جملة هي نتيجةُ عمليةٍ عِلِّيةٍ ماديةٍ معتادة. وكل جملة تُنتِج معلولاتٍ ماديةً معتادة؛ تعكس الضوءَ، مثلًا، بطريقةٍ معينة. لكي نرى أهمية ذلك، دعونا نفرِّق بين الجمل والقضايا التي تعبر عنها (أو القضايا التي تُستخدم الجملُ للتعبير عنها). عندما نَلقَى جملًا في لغتِنا الأصلية فإن معانيها (أي القضايا التي تعبر عنها) تَثِب إلينا للتو. ولكننا بالطبع قد نَلقَى جملًا لا نعرف شيئًا عما تعنيه. يحدث ذلك كلما واجهنا جملًا في لغةٍ لا نفهمها.
هل مثل هذا الجهاز ممكن؟ ليست الآلات السيمانتية ممكنة فحسب، بل موجودة بالفعل، وبأعدادٍ كبيرة! فالحاسوب العادي آلةٌ سيمانتية. ونحن نصمم ونبرمج الحواسيب لكي تتناول الرموز وفقًا لمبادئ تراكيبية وصورية خالصة. إن الرموز ذات معنًى بالنسبة لنا، ولكن الآلات التي تُطلِق الرموز لا تَعبَأ البتة بهذا، فهي تشتغل على رموزٍ غير مفسَّرة، ولكن بطريقةٍ تحترم الضوابطَ السيمانتية. (هذه مجرد طريقة خيالية للقول بأن الحواسيب تتناول الرموز بطريقةٍ تعطِي إفادةً — لنا — في ضوء معانيها.)
(أي: حيث «ق» و«ك» جُمَلٌ اعتسافية، فإن «إذا ق إذن ك»، مقترنةً ﺑ «ق»، تتضمنُ «ك».)
إذا كانت السماءُ تمطر فسأحتاج إلى مظلة.
وجملة
السماءُ تمطر.
إذن فمن حقك أن تخلص إلى جملة
سأحتاج إلى مظلة.
هذا شيء يعرفه أي ناطق بالعربية، أي شخص يفهم العربية. تَعكِس أنساقُ المنطق الصوري هذا النوعَ من المعرفة السيمانتية في قواعد لا يتطلب استخدامُها أيَّ معرفة سيمانتية.
على هذه الخلفية يكون أيسر لك أن تدرك صلةَ فكرة الآلة السيمانتية. الآلة السيمانتية هي جهاز يؤدي عملياتٍ رمزية — يتناول رموزًا — بطريقةٍ تعكِس العلاقات السيمانتية القائمة بين هذه الرموز، ولكنها تفعل ذلك حصريًّا بواسطة مبادئ صورية وتراكيبية، أي دون اعتبار لمعاني هذه الرموز. يمكننا إذن أن نفترض أن العقول تعالج تمثيلاتٍ عقلية، دون أن نُضطر لافتراض أن العقول تحتوي على مكوِّنات — أُناسٍ صغار، أقزام — تَفهَم معاني هذه التمثيلات. والحواسيب المعتادة هي تحقيقاتٌ للآلات السيمانتية، وربما الأدمغة أيضًا. فإذا صَحَّ ذلك، وإذا كان الدماغُ لديه تنظيمٌ وظيفيٌّ ملائم، نكون إذن، فيما يبدو، قد قطعنا شوطًا كبيرًا تجاه تفسير كيف تَعمَل العقول.
قد تَرَى أن هناك مشكلة واضحة في هذا الرأي، فعندما نفتح الدماغ لا نرَى شيئًا من قبيل الرموز أو جُمَل في لغة الفكر. فكيف للأدمغة أن تحتوي جُمَلًا؟
إذا كان العقل آلةً سيمانتية يحققها الدماغ، إذا كانت العمليات العقلية تتضمن تناول رموز، جُمَل في لغة الفكر، إذن تجسيد هذه الرموز في الدماغ لا يلزمه أن يشبه الرموز التي نكتبها بالقلم والورقة. قد تتضمن الرموز حالاتٍ كهربية أو كيميائية دقيقة، قد تتجسَّد في وصلاتٍ بين النيورونات، قد تتوزَّع على نطاقٍ واسع في شبكات النيورونات. وعلى كل الأحوال، ليس ثمة ما يدعو إلى أن تتخيل أن مثل هذه الرموز يمكن أن تُقرأ في الدماغ بالطريقة التي تقرأ بها الكلمات في هذه الصفحة. إذا كان ثمة لغة فكر، فإن جُمَلَها قد تكون أيضًا غيرَ منظورة من زاوية الملاحِظ الذي يتفحص البِنيةَ الدقيقةَ للدماغ.
الحجرة الصينية
هذا بالنسبة لِأنصارِ لغةِ الفكر هو كل ما هنالك في عملية الفهم. أنت تفهم الجملَ التي في هذه الصفحة، ولكن الآلياتِ المسئولةَ عن فهمِك هي نفسُها لا تفهم. وإذا قلنا بأنها فَعَلَت لَما كنا قد فَسَّرنا ماذا هنالك في عمليةِ فهمِك للجُمَل، وإنما سنكون قد زحزحنا المشكلةَ إلى الخَلفِ لا أكثر (رَحَّلنا المشكلة)، سنكون الآن بحاجةٍ إلى أن نعلِّلَ لتلك الآلياتِ الخاصةِ بالفهم.
تخيل الآن أن هناك، خارج الحجرة، مجموعة من العلماء الصينيين، لستَ تدري بهم على الإطلاق. هؤلاء العلماء بوسعهم أن يقرءوا الأحرفَ التي تُدفَع داخل وخارج الحجرة. إن أرتال الخربشات التي يدفعونها إلى الحجرة تبلغ أن تكون أسئلةً باللغة الصينية، وأرتال الخربشات التي تَرُدُّ بها تبلغ أن تكون إجاباتٍ عن هذه الأسئلة. (بوسعنا أن نتجاهل حقيقةَ أنه لكي تكون الإجاباتُ ذاتَ معنًى في ضوء الأسئلة، سيتعين حقًّا أن يكون الدليلُ معقدًا للغاية.) إنك ستبدو للعلماء الصينيين كما لو أنك تفهم الصينية، ولكن من البَيِّن، كما يقول سيرل، أنك لا تفهم، إنما أنت تسلك كما لو كنتَ تفهم. الحق أنك تعمل كآلةٍ سيمانتية، غير أنك لا تفهم من الصينية شيئًا، ومَبلغُكَ أنكَ تُقَلِّد الناطقَ بالصينية.
يقول تورنج: والآن افترِضْ أننا نستبدل بأحد اللاعبَين حاسوبًا. فإذا استطاعت آلةٌ ما أن تخدع مستجوِبًا ماهرًا بنفس القدر الذي يستطيعه لاعبٌ بشري، فإن علينا من ثم أن نقول إنها اجتازت الاختبار، إنها ذكية. (إذا كان هذا يبدو سهلًا جدًّا، فبوسعك أن تتأمل حقيقةَ أنه ليس ثمة حاسوب موجود أو متصوَّر في الوقت الراهن يقترب (ولو من بعيد) من إبداء ذلك القدر من الدهاء والفطنة المطلوب لخداع مستجوِبٍ متوسط الكفاءة.)
بوسعنا أن نرى إلى حجرة سيرل الصينية على أنها ضربٌ من اختبار تورنج. فيمكننا أن نتخيل أن العلماء الصينيين المجتمعين خارج الحجرة يلعبون دورَ المستجوِب في لعبةِ المحاكاة، وأنك أنتَ (جالسًا في الحجرة مع دليلك الإرشادي وسلة الخربشات الصينية) تمثل الحاسوب (وقد نتخيل اللاعب الآخر هو ناطق صيني عادي يجلس بجوارك). افترِضْ أنك تَخدَع المستجوِبين بقدر ما سيخدعهم ناطقٌ صينيٌّ أصلي. ماذا يُثبِت ذلك؟ يُحاجُّ سيرل بأن ذلك لا يثبت إلا أنك قد زُوِّدتَ بِسَنَدٍ عبقري — بدليلٍ إرشادي مذهل في مهارته — يُمَكِّنك من أن تلعب دور ناطقٍ صيني، ولكنك لا تتحدث ولا تفهم الصينية. ولأنك تعمل بالضبط كما يجدر بحاسوبٍ أن يعمل (الدليل الإرشادي يشكل برنامجَك)، فيجب ألا نقول إن حاسوبًا يجتاز اختبار تورنج هو ذكي حقًّا، أو إنه يفهم الجُمَل التي يستقبلها كمُدخَل أو يُنتِجها كمُخرَج.
يأمل سيرل أن يستخلص من كل هذا نتيجة عامة؛ يقوم الصنف الذي عرضناه من المذهب الوظيفي، النظرية التمثيلية للعقل، على فكرة أن العقل آلة سيمانتية، تتكون العمليات العقلية من تشغيلات على رموز غير مفسَّرة (جمل في لغة الفكر). ولكن يؤكد سيرل أن التجربة الفكرية لحجرة اللغة الصينية تبين بوضوحٍ أن العقول أكثر من ذلك. فالجهاز (الروبوت ربما) الذي يحقق «دماغُه» آلةً سيمانتية، وبذلك يَفِي بمتطلبات النظرية التمثيلية في العقل، قمينٌ أن يخدعنا بغير شك، سنظنه ذكيًّا، وأن لديه عقلًا، ولكننا سنكون على خطأ، فمبلَغ الجهاز أن يقلد الذكاء والفهم، بالطريقة التي قد ينتج بها الحاسوب نمطَ طقسٍ زائفًا أو مثالًا لِرابطةٍ جزيئية.
وقد اتهم بعض أنصار نظرية التمثيل في العقل؛ اتهموا سيرل بالمصادرة على المطلوب. يفترض سيرل أنه ليس ثمة فهمٌ أصيلٌ في الحجرة الصينية. ولكن هؤلاء المنظِّرين يُحاجُّون بأن ذلك في الظاهر فقط. فإذا بدا أن ليس ثمة فهم فَلِأن التجربة الفكرية تدعونا إلى أن نركز على مكوِّنٍ واحد فقط — وهو أنت، جالسًا على مقعدك تَفرِز الأحرفَ الصينيةَ بالسلة — بدلًا من التركيز على النظام ككل، ذلك النظام الذي لا تَعدو أنتَ أن تكون أحدَ مكوِّناتِه. هكذا، فبينما أنت حقًّا تجهل الصينية، فإن النظامَ الذي يَشمَلُك، الحجرة ككل، يفهمُ الصينية.
قد يحس المشاهدون المحايدون لهذا الخلاف بأنهم منجذبون في اتجاهاتٍ شتى. إن سيرل، من ناحية، يبدو على شيء. ومن ناحيةٍ أخرى، فإن هناك بعض الوجاهة في شكوى الوظيفيين بأن جاذبية الحجرة الصينية تنبع من ميلها إلى أن تجعلنا نركز على مكوِّنٍ من مكوناتِ المنظومة لا على المنظومة ككل. غير أني سأترك الجدال هنا، وأمضي لكي أنظر في سؤال كيف تكتسب الجملُ التي في لغة الفكر معانيها (سيمانتياتها). وسوف أقترح في الموضع المناسب (في الفصل السادس) طريقةً للتوفيق بين هذه المسائل. غير أن هذا الأمر يتطلب منا أن نتجاوز المذهبَ الوظيفي والنظريةَ التمثيلية في العقل، ونأخذ رحلة ممتدة في الميتافيزيقا.
من التراكيب إلى السيمانطيقا
ولكن إذا كانت الرموزُ العقليةُ غيرَ مفسَّرة، فَفِيمَ يقيم معناها؟ تأملْ لحظةً في عمل الحواسيب المعتادة. وافترِضْ أننا نبرمج حاسوبًا لكي يحفظ قائمةَ الجرد في سوبر ماركت. يحفظ البرنامجُ تسلسلَ الموز وعلب الحساء وكرتونات اللبن. قد نقول إن الحاسوب الذي يجري عليه البرنامج يخزن معلومات عن الموز وعلب الحساء وكرتونات اللبن، إلا أن الآلة تؤدي عملياتٍ على رموزٍ تُسَمِّي هذه البنودَ من غير اعتبار لما تسميه. نحن قد نتخيل حقًّا أن البرنامج عينَهُ يمكن أن يجري على آلةٍ مختلفة، أو على نفس الآلة في مناسبة مختلفة، لكي يحفظ تسلسل بنودٍ في محل خردوات. في هذه الحالة قد يخزن الجهازُ معلوماتٍ عن مسامير وغراء ومصائد نمل. وقد نتخيل حتى أن الرموز عَينَها التي تمثل، في حالة السوبر ماركت، الموز وعلب الحساء وكرتونات الحليب، تمثل في هذه الآلة المسامير والغراء ومصائد النمل على الترتيب.
إذن ما الذي يُعطِي رمزًا يتناوله أحدُ الحواسيب معناه؟ ما الذي يجعله يُسَمِّي كارتونات اللبن وليس مصائد النمل؟ وقد نسأل ما الذي يعطي الجُمَل التي بلغةِ الفكر معناها، فرغم أنه قد يبدو خلافيًّا ما إذا كانت حالاتُ الحاسوب ذاتَ معنًى بأي وصف، فإنه ليس خلافيًّا بالتأكيد أن أفكارنا لديها معنًى. إن مشروع لغة الفكر بأسرِه محمولٌ على افتراض أن الأفكار ذات معنًى، وأن هذا شيءٌ بحاجةٍ إلى التفسير.
لاحِظْ أولًا أن نصيرَ النظرية التمثيلية في العقل يفترض (كما يَفترِض معظمُ الفلاسفةِ هذه الأيام) أن معنى أي رمزٍ ما ليس باطنًا في هذا الرمز. ما يَعنِيه الرمز ليس متأصِّلًا في ذلك الرمز، بل يعتمد على كيف يُطلَق الرمز من جانب الفاعلين (أو المنظومات) التي تطلقه. إن الرموز التي يعالجها حاسوبٌ ما تَدِينُ بدلالتِها للاستخدام الذي وُضِعَت له من جانب الفاعلين الذين يُبَرمِجون ويُدخِلون البيانات داخل الآلة لِأغراضٍ معينة. فعندما تطبع «موز» إلى الحاسوب، وهذا النقش يُحَوَّل إلى نمطٍ من الانحرافات المغناطيسية، فإن هذا النمط من الانحرافات المغناطيسية، بقدر ما تعمل كرمز، يُسَمِّي الموز لأن هذا هو ما تعنيه ﺑ «موز».
يمكننا القول بأن معاني الرموز المعالَجة بحاسوبٍ عادي مشتقةٌ من المعاني التي يعطيها لِهذه الرموز فاعلون يستخدمون الحاسوبَ وبرنامجَه. ولكن هذا لا يمكن أن يكون تفسيرَ معاني الرموز التي في لغة الفكر. فأفكارُك لا تَعنِي الذي تَعنِيه لأنك قَيَّضتَ تلك المعاني، ومفاهيمُك العقلية لا تُسَمِّي ما تُسَمِّيه لأنك تقرر ما تسميه. يُفتَرَض للغة الفكر أن تفسر كيف يمكن أن يكون لدينا أفكارٌ ذاتُ معنًى. فإذا كانت معاني التعبيرات التي بلغة الفكر تتطلب أن نقيِّض لهذه التعبيرات معنًى، فنحن لم نفسر إذن شيئًا، فتقييضُ معانٍ هو نشاطٌ يَفترِض مسبقًا فكرًا ذا معنًى. إذا كان علينا أن نعلِّل لسيمانطيقا (دلالة) لغةِ الفكر لَتَعَيَّنَ علينا أن نفعل ذلك دون افتراض ما نأمل تفسيره.
ما هو إذن مصدرُ المعنى بالنسبة للغة الفكر؟ إلى أي شيء تَدين بدلالاتها؟ يمكننا أن نستبعد احتمال أن التعبيرات في لغة الفكر تمتلك دلالةً باطنةً مُبَيَّتة. ويمكننا أن نستبعد احتمال أن معاني تلك التعبيرات تعتمد على الأنشطة التأويلية للمفكرين. فأي خيارات تتبقَّى؟
ربما هذا: التعبيرات في لغة الفكر تَدِين بدلالتِها للعلاقات العِلِّية التي تحملها تلك التعبيرات بالمجريات في محيطنا. هكذا، فإن لفظًا معينًا في لغة الفكر قد يُسَمَّى الموز (وبذلك يَعكِس الكلمةَ العربيةَ «موز»)؛ لأنه يُستدعَى بحضور الموز، ولفظًا آخر قد يُسَمَّى علب الحساء (عاكسًا التعبير العربي «علبة حساء»)؛ لأن أمثلة له تَتَسَبَّب بالاتصال العِلِّي للفاعلين مع علب الحساء.
هذا المخططُ، للعِلم، مبسَّطٌ أكثر مما يجب. غير أن النقطة هي أن المجال مفتوح لنصير النظرية التمثيلية في العقل لأن يقدم وصفًا عِلِّيًّا بعامةٍ لسيمانطيقا لغة الفكر. مثلُ هذا الوصفِ حري أن يكون معقدًا، وأن يتضمن عناصرَ غيرَ عِلِّية. قد يكون ما يُسمَّى الحدود المنطقية (مثل تلك المناظِرة للتعبيرات العربية: «كل»، «بعض»، «و»، «أو»، «لا»، «إذا … إذن …») قابلًا للتفسير بالإحالة فحسب إلى العلاقات التي تحملها الجمل في لغة الفكر بعضها لِبَعض. ولكن الفكرة الأساسية هي أن سيمانطيقا الفكر يحددها سياقُ المفكرين. وفي هذا الجانب أيضًا، فإن الفاعلين العاديين يماثلون الحواسيب. تعتمد دلالة الرموز التي يعالجها جهازُ حاسوب معين على السياق الذي فيه يُطلَق الجهاز.
وسوف يكون لديَّ المزيدُ لكي أقولَه عن هذه المسائل وما إليها في الفصلين الخامس والسادس. ولنَعُدْ في غضون ذلك إلى فحصنا لأنطولوجيا المذهبِ الوظيفي.
الرؤية الطبقية للعالم The Layered View of the World
من مزايا هذه النظرة أنها تمكِّننا من أن نرى كيف يمكن أن تنسلِكَ العقولُ بانسجامٍ في العالم المادي، وكيف ترتبط العقولُ بالأدمغة. فالعقول ترتبط بالأدمغة بطريقةٍ تشبه الطريقةَ التي ترتبط بها برامجُ الحاسوب بالعَتاد الصلب الذي فيه تُنَفَّذ. والعقولُ غير قابلة للتماهي مع، أو الرَّد إلى، الأدمغة، لِنفس السبب الذي يجعل البرامجَ أو التشغيلاتِ الحوسبيةَ غيرَ قابلة للتماهي مع، أو الرد إلى، العتاد الصلب الذي تجري عليه. الأدمغة تنفِّذ (تحقِّق/تؤدِّي) العقولَ كما تنفذ الحواسيبُ برامجَ معينة (إلى حد بعيد). ومثلما نحن في وصف تشغيلات حاسوبٍ على مستوى البرامج نَصِف بِنيتَه العِلِّيَّةَ بصرف النظر عن عَتاده الصلب؛ كذلك في وصف التشغيلات العقلية نَصِف البِنيةَ العِلِّيةَ للفاعلين الأذكياء، بصرف النظر عن عتادِهم الصلب البيولوجي.
كل هذا، فيما يبدو، يَفُض الإلغازَ عن العقل. فيمكننا أن نرى كيف أن محاولات رد العقول إلى كيانات مادية مُقَدَّر لها الفشل دون أن يحملنا ذلك على اعتناق الفكرة الثنائية القائلة بأن العقولَ جواهرُ لا مادية. ولكن فض الإلغاز هذا ربما بلغ حد الشطط. فقد يؤَرِّقك أن التصور الحَوسبي للعمليات العقلية يُنذِر بتحويلنا إلى روبوتاتٍ مبرمَجةٍ بتصلب، إلى كائناتٍ مفتقرةٍ تمامًا للتلقائية أو الإرادة الحرة.
على أن الفكرةَ الوظيفية لا تعني أننا نَتَّبِع روتيناتٍ شكليةً اتباعًا أعمى بحيث نعجز عن التغيير. فالسلوك الذكي سلوكٌ مبدئي (ذو مبادئ). وبوسعنا أن نتصور المبادئ التي نتبناها (أو نغرسها، أو نتعلمها، أو نرثها مع جِبِلَّتِنا البيولوجية) على أنها مكوِّناتٌ صميمةٌ في برنامجنا العقلي. وهذا مُتَّسِقٌ تمامَ الاتساق مع أغلب تصورات الإرادة الحرة.
المستويات التصنيفية والعلوم الخاصة
لِتَعُدْ لحظةً إلى فكرة أن تشغيلات الحاسوب العادي يمكن أن تُوصَف على مستوياتٍ مختلفة. للمهندس الكهربائي أو العالِم الفيزيائي أن يصفَ عملَ حاسوبٍ معين على مستوى العَتاد الصلب. وهو إذ يفعل ذلك يُطلِق عددًا مميَّزًا من المفاهيم. أما مبرمِجُ الحاسوبِ إذ يصف تشغيلاتِ الجهازِ عينِهِ فإنه يَمتَحُ من مخزونٍ مفاهيمي مختلفٍ تمامًا.
يَوَد الوظيفيون أن يبينوا أن مثل هذه الاستراتيجية تواجِه صعوبةً واضحة. فالنقط التي في نهاية التوصيف الفصلي للنموذج تشير إلى أننا سنحتاج أن نضيف أوصافًا لِمَزيدٍ من عمليات المستوى الأدنى إذا شئنا أن نقدِّم وصفًا وافيًا على المستوى الأدنى لفئتنا ذات المستوى الأعلى. غير أن هناك فيما يبدو طرائق لا نهاية لها على المستوى الأدنى لتحقيق أي عملية معقدة على المستوى الأعلى. فدلائل النجاح في رد فئات المستوى الأعلى إلى فئات المستوى الأدنى، مهما طالت بنود الفصل من المستوى الأدنى، هي دلائل غير مشجِّعة.
وحتى لو أتحنا تخطيطًا منهجيًّا لفئات المستوى الأعلى على بنود فصلٍ طويلة، وربما لا نهائية الطول، من فئات المستوى الأدنى، فإن الاستراتيجية الردِّية تبدو متحدية للممارسة العلمية واليومية. افترِضْ أننا نميز الفيزياء (أو «الفيزياء الأساسية»)، وهي العلم الأساسي للمستوى الأدنى، عن مختلف علوم المستوى الأعلى. تزودنا الفيزياء بذخيرة من الجسيمات الأولية والقوانين التي تحكم سلوك تلك الجسيمات. تُطلِق علوم المستوى الأعلى تصنيفات مستوًى أعلى، بينما يتحدث الفيزيائيون عن الكواركات والقوى الأساسية، ويركز الكيميائيون على الذرات والجزيئات، ويتولى البيولوجيون البِنيات الجزيئية المعقدة؛ الكائنات العضوية الحية. وعلى مستويات أعلى، بَعدُ، يكدُّ السيكولوجيون والاجتماعيون والاقتصاديون في صناعتهم.
يتميز كلُّ علمٍ من هذه العلوم بواسطة الطريقة التي يُقَطِّع بها الواقع. تقسِّم الفئاتُ المحددة لتصنيفٍ من المستوى الأعلى الواقعَ بطرائق تبدو اعتسافيةً من منظور علوم المستوى الأدنى. تَأَمَّلْ مماثلةً بسيطة: عندما تلعب الشطرنج فأنت تحرك قِطَعَ الشطرنج بطرائق معينة. حين يُنظَر إلى الأمر من منظور الكيمياء والفيزياء سيبدو مجالُ النقلاتِ الصحيحة (تلك التي تسمح بها قواعد الشطرنج) غيرَ خاضعٍ لِمبادئَ على الإطلاق. فالأنماط والاطِّرادات التي تُعرَض في مباريات الشطرنج لا تظهر إلا على مستوًى أعلى. والفئات البيولوجية كذلك حين تُنظَر من منظور الفيزياء لا بد أن تبدو اعتباطية. تقسِّم البيولوجيا العالَمَ بطرائقَ تبدو، ما بقينا على مستوى الكواركات والإلكترونات، احتياليةً مفتعَلة. كذلك الحال مع السيكولوجيا؛ فالمفاهيم السيكولوجية — الألم والاعتقاد على سبيل المثال — تحدِّد حدودًا غيرَ منظورةٍ على المستويات الأدنى.
قد يُساوِرُكَ الشكُّ أن تصورًا من هذا الصنف يبلغ حدَّ الشطَط. فإذا كانت الفيزياءُ هي علم كلِّ شيء، فلماذا إذن نحتاج إلى العلوم الأخرى؟ وإذا كانت العلومُ الخاصةُ لا تَقبَل الرَّدَّ إلى الفيزياء، فلماذا إذن يجب أن نمنحها أيَّ مشروعية؟
يجيب الوظيفيون المتعاطفون مع فودور بأنه بالضبط لأن علوم المستوى الأعلى تستخدم فئاتٍ غيرَ قابلة للرد إلى فئات علوم المستوى الأدنى، فإن هذا هو ما يبرر قيامَ علومِ المستوى الأعلى. فنحن إذ نستكشف العالمَ نكتشف اطراداتٍ مهمة، والتي لا تمكن رؤيتها من منظور الفيزياء. هذه الاطراداتُ تَسرِي بين الأشياء بفضل خواصَّ تملكها تلك الأشياء، والتي لا تُناظِر بطريقةٍ مبدئيةٍ أيَّ خواصَّ مهمةٍ للفيزياء. ولكن إغفالَ مثلِ هذه الأشياء سيتطلب أن نُغفِل اطراداتٍ شائقةً وهامة لا حصر لها.
لكي تتبيَّن هذه النقطةَ، تأملْ مرةً ثانيةً عملَ الحاسوب. وافترِضْ أننا نَصِف عملَ حاسوبٍ ما على أدنى مستوًى، مستوى العَتاد الصلب، في حدود تقلباتٍ إلكترونية داخل الترانزستورات. إذا نحن حَصَرنا أنفسَنا بمثل هذه الأوصاف، ودَعْك من الأوصاف المُؤَطَّرة في حدود فئات الفيزياء، فلا بد أن تَفوتنا تعميماتٌ هامةٌ لا تظهر إلا عندما ننظر إلى الآلة على مستوى برنامجها. يمكننا، مثلًا، أن نفهم الملامح المشتركة في سلوك آلتين مختلفتين بشدة في التركيب المادي وهما تُجرِيان نفسَ البرنامج، كلتاهما مثلا تُجرِي عملياتِ جمع، أو تبعث مستنداتٍ إلى طابعة. على مستوى العَتاد الصلب المعتاد، أو على مستوى الفيزياء، مثل هذه المشتركات تختفي، بنفس الطريقة التي يتلاشَى بها النمط الذي تشكِّله ترتيبات الزهور في ساعة زهور عندما ننظر إلى النباتات الفردة.
القوانين والخواص: مستويات الواقع
قد يعترض شخصٌ ما على هذا الخَط من الاستدلال، قائلًا بأن قُصاراه أن يُثبت أننا نحتاج إلى علوم المستوى الأعلى والفئات التي تأتي بها من باب الراحة والملاءمة لا أكثر. فعلوم المستوى الأعلى تقدِّم لنا ما يُعَد من وجهة نظر الفيزياء أو الكيمياء أوصافًا فجةً بشكلٍ ميئوس منه للمجريات في العالم من حولنا. الحق، رغم ذلك، أن هذه الأوصافَ وافيةٌ تمامًا بلا ريب لأغراضنا. كما أن الأوصاف الأدق تتطلب مبذولًا من الوقت والطاقة قد يتجاوز قدرتنا. وبوسعي إذ ألزم مستوى البرنامج أن أفهم وأفسِّر وأتحكَّم في سلوك حاسوبي بطريقةٍ تَفِي تمامًا بأغراضي. ولكن بصرف النظر عن تلك الأغراض، فإن القصة الحقيقية لا تُبلَغ إلا بالنزول إلى مستوى العَتاد الصلب، وفي النهاية إلى مستوى الميكروفيزياء.
يؤكد فودور بصلابةٍ أن هذه الطريقة في تصوير العلاقة بين علوم المستوى الأعلى وعلوم المستوى الأدنى هي خطأٌ في الفهم. فالفئات المطمورة في علم مستوًى أعلى، كالسيكولوجيا مثلًا، تُسَمِّي خواصَّ أصيلةً للأشياء. هذه الخواص لا تقبل الرد إلى الخواص الموجودة في علوم المستوى الأدنى. «كون المرء في ألم» و«الاعتقاد بأنها تمطر» تُسَمِّيان مثل هذه الخواص ذات المستوى الأعلى. وإذا كانت هذه الخواص لا وجود لها بين الخواص التي تَذخرها علومُ المستوى الأدنى، فما كان هذا لِيَنالَ من حقيقتِها، وما ينبغي لنا أن نستنتجَ من هذا أنها، بشكلٍ ما، أدنَى حقيقة. بل إن هذا، على العكس، هو بالضبط ما ينبغي أن نتوقعه إذا كان علمُ النفس علمَ مستوًى أعلى موثوقًا به.
ما الذي يجعل خاصةً ما خاصةً أصيلة؟ من وجهة النظر التي نحن بصددها، فالخاصة الأصيلة هي تلك التي تُحدِث فارقًا عِلِّيًّا للأشياء التي تمتلكها. فإذا كانت الحمرةُ خاصةً أصيلةً فإن الأشياء التي تمتلكها، أي الأشياء الحمراء، سوف تسلك على نحوٍ مختلف عن الأشياء التي تفتقر إليها. والوظيفيون في معسكر فودور غالبًا ما يضعون هذا بِلُغةِ القوانين العِلِّية. ومهمة العلوم الخاصة هي صياغة قوانين عِلِّية تحكم الأشياء الواقعة تحت هذه العلوم. الخواص الأصيلة إذن تكشفها القوانين العِلِّية التي نميط عنها اللثام ونحن نستقصِي عالمَنا ونبحثه. فإذا ما اكتشفنا قوانينَ عِلِّيَّةً في النيوروبيولوجيا، أو السيكولوجيا، أو الاقتصاد، قوانين تحكم أشياء مستوًى أعلى، وإذا كانت هذه القوانين تشمل خواص مستوًى أعلى، إذن فخواص المستوى الأعلى هذه لا بد أن تكون أصيلة. قد نكون بالطبع مخطئين فيما تكونه القوانين، ومخطئين من ثم فيما يتصل بالخواص الأصيلة، ولكن هذا من نوافل القول.
ثمة مَلمَحان لهذا الرأي يستحقان التوكيد.
- أولًا: أن أنصاره ملتزمون بتصورٍ طبقي للواقع. يتضمن الواقعُ مستوياتٍ من الأشياء والخواص تحكمها مستوياتٌ من القوانين العِلِّيَّة. ورغم أن الأشياء على المستويات الأعلى مُشَيَّدَةٌ من أشياء على مستويات أدنى، فمن الحق أن لأشياءِ المستوَى الأعلى وخواصها نوعًا من الحياة قائمًا بذاتِه. إنها غيرُ قابلةٍ للرد إلى، ولا يصح القول بأنها «ما هي إلا»، ترتيبات أشياء وخواص على مستويات أدنَى.١٧ تتكون القلوب من خلايا، وفي النهاية من كواركات وإلكترونات. غير أن القلوب ليست مجرد تجميعات من الإلكترونات والكواركات، وخواص القلوب ليست خواص الإلكترونات والكواركات أو تجميعات الإلكترونات والكواركات. (الاستدلال هنا يوازي الاستدلال، المعروض بالفصل الثاني سابقًا، الذي يُفضِي بنا إلى الشك في أن القوارب ما هي إلا مجموعات من الألواح التي تُكَوِّنُها.)
- ثانيًا: تؤخَذ قوانين المستوى الأعلى على أنها قوانين لا تَصِح إلا ceteris paribus، أي لا تصح إلا «مع تَساوِي بقية الأشياء». وهي في هذا الجانب تختلف عن القوانين التي تحكم الكيانات الأساسية التي تدرسها الفيزياء. إن القوانين التي تحكم الكيانات الأساسية هي قوانين لا استثناء لها، أما القوانين التي تحكم الكيانات على المستويات الأعلى فهي، في المقابل، قوانين تقريبية فحسب، قوانين «تَساوِي البقية». ولا يخلِطَنَّ أحدٌ بين قوانين تَساوِي البقية ceteris paribus laws والقوانين الاحتمالية من النوع الذي ذكرناه في الفصل الثاني. فالقوانين الأساسية قد يتبيَّن أنها احتمالية، ولكن تطبيقها، رغم ذلك، عمومي ولا استثناء له. أما القوانين التي نأمل أن نكتشفها في علم النفس أو الاقتصاد أو حتى النيوروبيولوجيا فهي، في المقابل، غير قاطعة بشكلٍ لا مَرَدَّ له.
وأنا أذكر هذه النقطة الثانية لأنك قد تتساءل عن قوانين علم النفس، القوانين التي تحكم عمل العقل. تأمل قانونًا قد ترى أنه يحكم الاعتقادات والرغبات:
«ق»: إذا كان فاعل — «س» — يريد «ص»، ويعتقد أنه يحتاج «ل» لكي يحصل على «ص»،
إذن «س» يريد «ل».
فإذا كنتَ تريد أن تتخذ طريقَ النفَق وتعتقد أنك لكي تتخذ النفَقَ يجب أن تشتري ماركًا، إذن فسوف تريد أن تشتري ماركًا. ورغم أن «ق» يحكم كثيرًا من أمثلة تكوين الرغبة، فليس من الصعب تخيل استثناءات. فإذا كنتَ تعتقد مثلًا أن ليس معك نقود، إذن فإن اعتقادك بأنك يجب أن تشتري ماركًا لكي تجتاز النفق سوف يؤدي بك إلى أن تتوقف عن الرغبة في اجتياز النفق، أو إلى الرغبة في أن تستعطي.
وأهم من ذلك أنك قد تفشل في تكوينِ رغبةٍ في شراء مارك؛ لأنك في اللحظة التي وقع لك أنك بحاجة لشراء مارك سقط عليك لوحٌ من الجص ففقدتَ الوعي. لاحظ أننا في هذه الحالة بإزاء نوع من التدخل يتضمن كيانات وعمليات تقع خارج نطاق علم النفس. فالأشياء لم تعد تجري في أَعِنَّتِها على المستوى السيكولوجي نتيجةً لوقائع على المستوى النيوروبيولوجي. ولكن قوانين السيكولوجيا صامتة بالضرورة بإزاء هذه الوقائع، هذا هو ما يجعل القوانين السيكولوجية قوانين سيكولوجية.
ويمكن للمثال أن ينسحب على قوانين كل علمٍ خاص. فكل علم خاص يُشَرِّح العالمَ بطريقةٍ معينة، ويحاول أن يكتشف قوانين تحكم الكيانات الواقعة تحت فئاته الخاصة. هذه الكيانات مكونة من كياناتِ مستوًى أدنى. ويمكن للمجريات التي تؤثر في هذه الكيانات من المستوى الأدنى أن تكون لها نتائج على مستوًى أعلى. فالتغيرات في جزيئات دماغك مثلًا قد يكون لها تأثيراتٌ درامية على دماغك وعلى حالتك العقلية أيضًا. ولكن قوانين كل علمٍ خاص لا تخص إلا كيانات على المستوى الملائم لهذا العلم. فالقوانين السيكولوجية لا تتضمن ذِكرًا للجزيئات، رغم أن الأحداث الجزيئية يمكن أن تؤثر على العمليات السيكولوجية. وما دمنا نعتبر قوانينَ علمٍ خاص، مثل السيكولوجيا، قوانينَ مستقلة، وما دمنا نأخذها على أنها لا تقبل الرد إلى قوانين تحكم كيانات المستوى الأدنى، فيمكننا أن نطمئنَّ إلى أن هذه القوانين لا يمكن أن تكون بلا استثناءات.
الأنطولوجيا الطبقية Layered ontology
يتركنا هذا مع الصورة التالية للعقل: إن التعبيرات العقلية (مثل «كون المرءِ في ألم»، «الاعتقاد بأن الدببة ذات فراء») تُسَمَّى خواص وظيفية للكيانات التي تنتسب لها. والخواص الوظيفية تُحَقَّق في النهاية في منظومات مادية بواسطة خواص لا وظيفية لهذه الأنظمة. عندما تمتلك خاصةً عقلية معينة (خاصة كونك في ألمٍ مثلًا)، فإن هذه الخاصة تُحَقَّق (تؤَدَّى/تُنَفَّذ) فيك بواسطة خاصةٍ ماديةٍ ما لِدماغِك. وفي نوعٍ آخر من المخلوقات — أخطبوط مثلًا أو ساكن ألفا سنتوري — قد تُحَقَّق هذه الخاصة نفسها (التألُّم) بواسطة خاصةٍ مادية مختلفة تمامًا. ها أنت ذا، وأخطبوط، وساكن ألفا سنتوري، تمتلكون جميعًا خاصةَ كونِكم في ألم. تتحقق فيك هذه الخاصة بواسطة نوعٍ معين من العمليات النيورولوجية، وتتحقق في الأخطبوط بواسطة نوعٍ مختلفٍ جدًّا من الأحداث النيورولوجية، وتتحقق في ساكن ألفا سنتوري بواسطة عملية غير نيورولوجية قائمة على السليكون.
وسوف ننظر بِتَمَعُّنٍ أكثر في فكرة تعددية التحقيق، والفكرة المرتبطة بها التي تقول بأن العالم يتكون من مستوياتٍ من الكيانات والخواص، في الفصل السادس. في غضون ذلك، دعونا نتأمل خطًّا هامًّا من نقد المذهب الوظيفي، يركز على جانبٍ من جوانب العقل كثيرًا ما يُتَّهَم الوظيفيون بإغفالِه؛ الجانب الكيفي.
«الكيفيات» Qualia
افترِض أننا نقبل تصويرَ الوظيفي للحالات العقلية على أنها حالاتٌ وظيفية. يعني ذلك أنك تحوز حالةً عقليةً معينة (حالة التأَلُّم مثلًا) فقط في حالة ما إذا كنتَ في حالةٍ تَفِي بوصفٍ وظيفي معين، حالةٍ تلعب دورًا عِلِّيًّا من نوعٍ معين. فأنت، بين أشياء أخرى، في حالةٍ أحدثها تلفٌ بالأنسجة، أو ضغط أو درجة حرارة متطرفة (في السخونة أو البرودة)، حالةٍ تُحدِث مَدًى من «استجابات الألم» المميزة، السلوكية والعقلية، فأنتَ تنكمش، وأنت تكوِّن الاعتقاد بأنك في ألم، وأنت تكتسب رغبةً في أن تتخذ خطواتٍ لتخفيف الألم.
والوظيفي لا يلزمه أن ينكر أنك عندما تكون في ألم فإن لِكَونِك في ألم شعورًا أو حِسًّا مميزًا. وأحيانًا ما ينكر الوظيفيون هذا بالفعل؛ ربما لأنهم لا يجدون مكانًا في العالم لكيفيات الخبرة. إلا أن ما يتعين على الوظيفي أن ينكره هو أن البُعد الكيفي للآلام هو ما يجعل الآلام آلامًا. الوظيفي من جانبه قد يسلِّم بأن الآلامَ مصحوبةٌ دائمًا وأبدًا بمشاعر من ضروب معينة، تمامًا كما أن روك ستارز مصحوبة دائمًا بمعجَبين يصخبون من أجل أخذ تذكارات. ولكن ما يجعل حالةً معينةً حالةَ ألم (وفقًا للوظيفي) ليس ما تشبه أن تكون بالنسبة للكائن الذي في هذه الحالة، بل دورها العِلِّي في الاقتصاد النفسي للكائن.
الزومبيات Zombies
من النتائج الظاهرة لمثل هذا الرأي أنه قد يكون ممكنًا لمخلوقٍ ما أن يكون في ألمٍ، إلا أنه لا يَخبُر أي «حِس» كيفي كالذي يشغلنا عندما نكون في ألم. ولنكنْ واضحين في هذا الصدد. حين نتخيل مخلوقًا يَفِي بتصور الوظيفي للألم، ولكنه يفتقد «الحِس» الكيفي، فنحن لا نتخيل مخلوقًا مُخَدَّرًا. فالمخلوق المخدر ليس في ألم من وجهة نظر أي أحد. إنما نتخيل مخلوقًا يسلك تمامًا مثلما نسلك عندما نكون في ألم، فهو يشكو، ويتخذ خطوات لتخفيف الألم، ويبدو في معاناةٍ، تمامًا مثلما نحن حَرِيُّون أن نفعل. إن الروابط العِلِّيَّة (ومن ثم السلوك الملائم للألم) جميعها موجودة. المفقود هو الجانب الداخلي للألم، الجانب الكيفي.
لماذا يجب أن نكترث لمثل هذا الإمكان الغريب؟ حسن، إن مجرد إمكان الزومبيات يبدو أنه يتضمن أن الكيفيات الواعية ليست جوهرية للعقول، أو ليست، على أية حال، جوهرية إذا كان المذهب الوظيفي صحيحًا. فالزومبيات تَفِي بجميع المعايير الوظيفية لامتلاك المجموعة الكاملة من الحالات العقلية. إلا أن الزومبيات تفتقد أي شيء من قبيل «الحِس» الكيفي الذي يتخلل خبراتنا الواعية. يترتب على ذلك أنه كان من الممكن أن تكون على ما أنت عليه الآن، بطاقمك الكامل من الحالات السيكولوجية (بما فيها اعتقادك بأنك لست زومبيًا)، بسيكولوجيتك نفسها، إلا أنك خِلوٌ تمامًا من الخبرة الواعية. إذا كان ذلك كذلك، فسوف تقطن عالَمًا لا يفترق من الخارج عن العالم الفعلي، ولكنه من الداخل مختلفٌ جدًّا، إنه عالَمٌ لا داخلَ له.
بعضُ نقادِ المذهب الوظيفي يعتبرون إمكان الزومبي كأساسٍ كافٍ لِرفض الوظيفية. مثل هؤلاء النقاد يعتبرون الجانبَ الكيفي لحياتِنا العقلية مركزيًّا وجوهريًّا لما يعنيه أن تحوز عقلًا. وهم يتساءلون كيف يمكن أن يكون الوظيفيون جادين في قولهم بأنه يمكن أن يكون مخلوقٌ ما في ألمٍ إلا أنه خِلوٌ تمامًا من أي شيء يشبه ما نعتبره الشعور الواعي بالألم؟
وقد ذهب وظيفيون آخرون إلى أن مثل هذا الرد لا يتفق مع روح المذهب الوظيفي. الوظيفيةُ ترد الخواصَّ العقلية إلى قُوًى عِلِّية. فإذا كانت الكواليا — أي البُعد الكيفي للخبرات الواعية — تقاوم الرد، فنحن أمام خيارين؛ إما أن نرفض المذهبَ الوظيفي، وإما أن نركب الصعبَ ونحتمل المِحنة، ونقبل أن الكيفيات الواعية ليست، بعد كل شيء، جوهرية للحالات العقلية.
احتمال المِحنة
إذا كنتَ مثلي تستنكف الحديثَ عن عوالمَ بديلة، فتصورْ متضمنات المذهب الوظيفي بالنسبة للعالم الفعلي. وفقًا للمذهب الوظيفي، فالعقولُ هي ترتيباتٌ معقدة لحالاتٍ وظيفية، حالات تحمل الأنواع الصحيحة من العلاقة العِلِّية، علاقتها بعضها ببعض وبالمُدخَلات والمُخرَجات. والآن يبدو أننا استطعنا أن نخلق منظومةً حققت هذا المُتَطَلَّب، أيْ عقلًا (وفقًا للمعايير الوظيفية)، بينما هي خِلوٌ من الخبرات الواعية.
بوسع الوظيفيين أن يصمدوا للمحنة هنا، وأن يقبلوا ببساطةٍ هذه النتيجةَ على أنها نتيجةٌ واحدة مضادة للحدس لنظريةٍ مقبولةٍ فيما عدا ذلك، إلا أنك إذا كنتَ غيرَ ملتزمٍ أصلًا بالمذهب الوظيفي، فقد تجد هذا سببًا دامغًا لأن تخلص إلى أن أصحاب المذهب الوظيفي قد جانبَهم التوفيق.
الاستغناء عن الكواليا
لعل هناك ردًّا وظيفيًّا أكثر إقناعًا. تخيلْ أنك الآن تنظر إلى شجرة تنوب قريبة. إنك فيما نفترض تمر بخبرة بصرية واعية بالشجرة. ما هي كيفيات هذه الخبرة الواعية؟ من الخطأ، كما لاحظنا في الفصل الثالث، أن تخلط بين كيفيات شيءٍ ما تدركه وكيفيات خبرتك لهذا الشيء. الشجرة خضراء وطولها أربعون قدمًا. أما خبرتك بالشجرة فلا هي خضراء ولا طولها أربعون قدمًا. الحق، كما لاحظنا بالفعل، أن من الصعب أن نقول بأي درجة من الدقة ماذا عساها أن تكون كيفيات خبرتك الحسية بالشجرة.
قد يقول الوظيفي، متشبثًا بهذه النقطة، إن الخبرات نفسها ليس لها بحد ذاتها كيفيات، كيفيات يمكن تحديدها بمعزل عن كيفيات الأشياء المدرَكة. أو فلنكن أكثر حيطةً ونَقُل إنه رغم أن خبرةً ما قد يكون لها كيفيات، فهذه ليست كيفياتٍ نَعِيها بأي معنًى من المعاني ونحن نكابد الخبرة. إذا كانت خبراتك تتحقق في دماغك فستكون كيفيات خبراتك، إذن، كيفيات نيورولوجية. مثل هذه الكيفيات لا تشكل مشكلةً كبرى لدى المذهب الوظيفي.
دعونا نتخذ رغم ذلك اتجاهًا مختلفًا بعض الشيء. افترِض أن الكيفيات المتاحة لنا في الخبرات الواعية، التي يُقال لها الكواليا، ما هي إلا تلك الكيفيات التي نتمثل الأشياء على أنها تمتلكها. هذه الكيفيات يجب تفرقتها عن كيفيات التمثيلات. فتمثيلي لشجرةِ تنوب قبل فقرتين هو تمثيلٌ لِشيءٍ ما طويل وأخضر، ولكن التمثيل ليس طويلًا ولا أخضر. للتمثيل كيفيات، ولكنها ليست هذه الكيفيات. تمثيلات الشيء عينه — تمثيلات شيء ما طويل وأخضر — قد يكون لها كيفيات مختلفة لا نهاية لها تعتمد على وَسَط التمثيل. فأنا أمثل الشجرة باستخدام طابعة تنقش جملًا على ورقة بيضاء بحبر أسود. والرسام يمثلها بواسطة أصباغ ملونة على قماشة. والمصمِّم ذو الميول الإلكترونية قد يمثلها بخلق نمط من النقاط الصغيرة على شاشة حاسوب. رغم أن كل هذه التصويرات تمثل شجرة تنوب، فإن كلًّا منها يختلف عن الآخر في كيفياته الداخلية.
افترض أننا وافقنا الوظيفيَّ في أن خبرةَ شجرة عبارةٌ عن تمثيل الشجرة عقليًّا. في خبرتك البصرية بشجرة أنت تمثل الشجرة على أن لها كيفيات متعددة قابلة للاستبيان بصريًّا. يمتلك تمثيلُك أيضًا كيفياتٍ داخليةً معينة خاصة به. ستكون هذه كيفياتِ عملياتٍ نيورولوجية يتحقق فيها تمثيلُك. وإنه لَرِهانٌ آمِن أنك لا تعرف شيئًا عن هذه الكيفيات. من المؤكد أنك لا تعرف عنها شيئًا على أساس خبرتك البصرية بالشجرة وحدها. ولكن تأمل الآن الكيفيات التي نمثل الشجرة على أنها تمتلكها، ربما تكفي هذه الكيفيات — أو بالأحرى تمثيلاتنا لها — لإقناع أولئك الذين يضربون على وتر الكواليا. إن صح ذلك نكن قد اكتشفنا طريقةً للتوفيق بين ما يُسمَّى (على نحو مضلِّل) «كيفيات الخبرة الواعية»، وبين المذهب الوظيفي. يقول الوظيفي إن كيفياتِ الخبرات نفسها غيرُ موجودة في الوعي المعتاد. ولكن لا ضير، فهذا لا يشكل مشكلةً للمذهب الوظيفي. أن تصبح واعيًا بكيفياتِ خبرةٍ ما يقتضي أن تَخبُر خبرتَك، بواسطة مشاهدة عملية دماغك المكشوف جراحيًّا في مرآةٍ، على سبيل المثال.
وماذا عن تلك الكيفيات التي تبدو عقليةً خالصة، الكيفيات التي تبدو لا مكان لها في العالم المادي؟ افترِضْ أن حلمَك بأنك تشاهد رجلًا أجنبيًّا أخضر أو هلوستك برجل أجنبي أخضر عبارةٌ عن تمثيلك وجود أجنبيٍّ أخضر. إن تمثيلَك نفسَه ليس أخضر، ولا الكلمات التي في هذه الصفحة التي تمثل الأجنبي خضراء. إن الخُضرة غائبة عن الصورة. الحق أنه في هذه الحالات لا شيء على الإطلاق يتعين أن يكون أخضر. والآن تَأَمَّلْ خبرتَك بألمٍ نابض في إبهام قدمك اليُسرى. أن تحوز هذه الخبرة (فيما نفترض) عبارة عن تمثيلك حدثًا مزعِجًا نابضًا في إبهامك اليُسرى. وكما ذكرنا في الفصل الثاني، فإن الخبرة، التمثيل، لا يتعين أن تكون هي ذاتها في إبهامك اليسرى. وإذا كنت مغرَمًا بالمذهب الوظيفي فسوف تضعه، أو تضع مُحَقِّقَه، في دماغك. وفضلًا عن ذلك، فرغم أنه في الحالات العادية ستكون خبرتُك بألمٍ في إبهامك خبرةً بحدثٍ فيزيولوجي فِعلي في إبهامك، فإنها لا يتعين بالضرورة أن تكون كذلك. تجد مثالًا لذلك إذا كانت خبرتك هلوسة، أو إذا كنتَ تعاني «ألمًا شبحيًّا».
وماذا عن كيفية النبض؟ يبدو بعيد الاحتمال أن تكون هذه كيفية أي شيء في إبهامك. فعندما نفحص الإبهام لا نكتشف أي شيء ينبض. هل النبضُ كيفيةٌ لخبرتِك إذن؟ هذا أيضًا يبدو بعيدَ الاحتمال. فعندما نشقًّ عن دماغك لا نكشِف عن أي كيفيات نابضة. لعل النبض هنا مثل الخضرة التي مَثَّلنا الأجنبي على أنه يحوزها. إنها ليست كيفيةً يحوزها أيُّ شيء. نحن نمثل وقائعَ معينةً على أنها نابضة، ولكن لا شيء في الحقيقة ينبض. إذا كان المذهب الوظيفي يستغني عن مثل هذه الكيفيات، إذن، فهو لا يستغني عن أي شيءٍ علينا أن نفتقده. تلك كيفياتٌ نمثل الأشياءَ على أنها تحوزها، ولكن لا يترتب على ذلك أن أي شيء في الحقيقة يحوزها، مثلما أنه لا يترتب على قدرتنا على تمثيل حوريات البحر أن الحوريات موجودة. فتلك الأشياء التي يصفها مُناوئُ الوظيفية على أنها كيفياتُ الخبرات الواعية — الكواليا — ليست كيفياتِ أي شيء. إنها بالأحرى كيفياتٌ نتوهم الأشياء والأحداث على أنها تحوزها.
قد يَرُدُّ الوظيفيُّ بأن التشابهاتِ المَعنِيَّةَ جميعَها محصورةٌ داخل التمثيل. فإدراكك البصري لطماطمة، وهلوستك لطماطمة، وتخيلك لطماطمة، كلها تتضمن تمثيلات متشابهة، تمثيلات طماطمة. ولكن هذا غير كافٍ، فرسم طماطمة والنقش الكتابي لطماطمة كلاهما يمثل طماطمة، إلا أنهما يفعلان ذلك بطريقتين مختلفتين جدًّا، إنهما يشملان حالتين تمثيليتين مختلفتين كيفيًّا. إن الهلوسة والتخيل لا يشبهان الإدراك المعتاد من الناحية التمثيلية فحسب، بل يشبهانه أيضًا، وبشكلٍ حاسم، من الناحية الكيفية، أو هكذا يبدو الأمر.
لغز الوعي
أحد الردود الوظيفية الشاملة على مصاعب من هذا الصنف هو تبيان أن الوعي عميق الغموض من وجهة نظر أي شخص. فنحن لا نعلم كيف نستوعب الوعي في العالم المادي، ولا كيف نفسر ظاهرة الوعي. فإذا كانت هذه هي الحال، فبأي حق نَصِم المذهبَ الوظيفي بما يبدو أنه مترتباتٌ غيرُ مقبولة. فإلى أن نحوز فكرةً أفضلَ عن جذور الوعي، فمن ذا الذي يملك الحق في أن يقول هذا مقبول وهذا غير مقبول؟
إذا كنا نأمل في أن نغامر برأي مستنير في مثل هذه الموضوعات، فسنكون بحاجة إلى فهمٍ أكثرَ رسوخًا للمسائل الميتافيزيقية التي تتبطن هذا الخِلاف. ولكن دعونا، قبل أن ننقِّب أكثر في الميتافيزيقا، نفحص مقاربةً بديلةً إلى العقول ومحتوياتها، مقاربة تركز على ممارسةِ عَزو حالاتٍ عقلية للكائنات الفاعلة. يُحاج البعضُ بأن هذه الممارسةَ تبررها حقيقةُ أنها تُمَكِّننا من أن يفهم بعضُنا بعضًا. يحوز الفاعلون عقولًا إذا كان بوسعنا أن نجد مكانًا لهم داخل نوعٍ معين من المخطط التأويلي. وهذا، في النهاية، هو كل ما هنالك في مسألة امتلاك عقل. وسوف نَعرِض لمقارباتٍ من هذا النوع في الفصل الخامس.