الفصل الخامس

النظريات التأويلية في العقل: والمذهب الحذفي (الاستبعادي)

تُعَدُّ المقارباتُ إلى العقل التي عَرَضنا لها حتى الآن «واقعية» realist في طابعها. فجميعها تفترض أن العقولَ ومحتوياتِها هي مظاهرُ حقيقيةٌ للعالم تقف جنبًا إلى جنب مع الموائد والأحجار والإلكترونات. غير أن من الممكن اعتبار العقول بناءات constructs. أن تَعزو أفكارًا إلى كائناتٍ فاعلة، وفقًا لهذا التصور، هو أشبه بأن تَعزو ارتفاعًا وطولًا لمكانٍ على سطح الأرض. على أنه من الخطأ بغير شك أن نتصور أن الارتفاعات والأطوال ضروبٌ من الكيانات، شأنها شأن الأنهار والوديان وسلاسل الجبال. إن طفلًا ينظر إلى كرة جغرافية ويظن خطَّ الاستواء مَلمحًا من ملامح سطح الأرض؛ إنما يخلط بين خصيصةٍ لجهازنا الوصفي وخصيصةٍ لكوكب الأرض.
قد يبدو صعبًا الاعتقادُ بأن أحدًا يمكن أن ينزلق إلى افتراض أن العقول تشبه المنظومات الإحداثية؛ فنحن، بعد كل شيء، نبدو على اتصالٍ وثيق بعقولنا الخاصة، وهذا الاتصال لا يبدو من قبيل أننا نفرض على أنفسنا أي شيء يشبه منظومة الإحداثيات. علاوة على ذلك، وربما أهم من ذلك، أن من الصعب أن نرى كيف يمكن لأي نظرية كهذه أن تعمل. ولنفترض، للحظة، أن عَزو حالاتٍ عقلية يشبه فرضَ منظومةِ إحداثيات على منطقةٍ من المكان. هذا الفرض هو شيءٌ نعمله، شيء يعتمد بشكلٍ واضح على امتلاكنا أفكارًا ومقاصدَ ومَدًى عريضًا من الحالات العقلية المحددة. ولكن هذا يومئ إلى أن كل عقل سيعتمد في وجوده على عقلٍ مسبق. فإذا كان وجود عقلٍ من العقول يعتمد على إقحام ما يشبه منظومةَ إحداثيات، إذن فهذا العقل المسبق لا بد أنه، هو أيضًا، يعتمد في وجوده على عقلٍ آخر. وهكذا نَتَأَدَّى إلى نكوصٍ (لا نهائي)١ لِعقولٍ يعتمد كل عقلٍ منها على وجودٍ مسبق لعقلٍ ما متمايز عنه.
ولكن دعونا نضرب صفحًا، للحظة، عن هاجس النكوص هذا، وننظر بتفصيلٍ أكبر إلى محاولات صوغ ما سأطلق عليه أوصافًا «تأويلية» interpretive للعقل. وما إن نتبيَّن مَبلَغَ هذه الأوصاف حتى نكونَ في موضعٍ يتيح لنا تقييمَ خطورةِ النكوص المتصوَّر. وخُطتي في ذلك أن ننظر إلى عمل فيلسوفَين واسعَي التأثير، هما دونالد ديفيدسون Donald Davidson ودانييل دينيت Daniel Dennett. وكلاهما يقدم تصورًا تأويليًّا للعقل. وسوف نرى أن الأمورَ أقلُّ وضوحًا مما قد يوحِي به مخطَّطِي الاستقرابي الآنف الذكر لمشكلة النكوص.

ديفيدسون والمواقف القضوية

يركز ديفيدسون حصريًّا على ما يسميه الفلاسفةُ «المواقف القَضَوِيَّة» propositional attitudes؛ الاعتقادات، والرغبات، والآمال، والمخاوف، والمقاصد، وما شابَه، ما دامت هذه تُعَدُّ حائزةً على «مُحتوًى قَضَوِي» propositional content. لم يَقُلْ ديفيدسون شيئًا عن طبيعةِ الإحساس والخيال على سبيل المثال. ولأن عمل ديفيدسون قدَّم الكثيرَ لِتأسيسِ برنامج فلسفة العقل، فقد اعتَنَقَ بعضُ الفلاسفة وجهةَ الرأي القائلة بأن العقول يجب ألا تُفهَمَ إلا على أنها كَومةٌ من المواقف القضوية. أما الجوانب الأخرى من العقلية البشرية، فإما أن تُعَد قابلةً للتحليل في حدود المواقف القضوية، وإما أن تُغفَل. ورغم ذلك، فلا شيء من هذا يدخل في برنامج ديفيدسون. الحق، كما سأحاول أن أبَيِّن، أن ذلك البرنامج لا يمكن تصورُه في غياب مجموعةٍ من حالات العقل «اللاقَضَوِية».

لِنَدَعْ جانبًا مثلَ هذه الاعتبارات ونستكشف وصفَ ديفيدسون للمواقف القضوية بصيغتِه الخاصة. تأملْ، كخطوةٍ أولَى، التصورَ التقليدي لموقفٍ قَضَوِي. إن امتلاكَكَ اعتقادًا، اعتقادًا بأن السماء ستُمطِر، مثلًا، عبارة عن اتخاذك نوعًا معينًا من الموقف — الاعتقاد أو القبول — تجاه قضيةٍ معينة، قضية أنها ستمطر. قد تُكِنُّ نفسَ الموقف تجاه قضية محددة، حيث لديك فيه اعتقادٌ مختلف، أو قد يكون لديك موقفٌ آخر تجاه نفس القضية؛ قد تعتقد، ترغب، تأمل، تخشَى، أو (إذا كنتَ صانعَ مطر) تقصد، أنها ستُمطِر.

لستُ أعرف طريقةً بسيطة لتوصيف القضايا. على مستوًى حَدسِي، قد نُفَرِّق بين القضايا والجُمَل. هكذا يمكن القول عن الجمل التالية إنها تُعبِّر عن نفس القضية:

It is raining
Il pleut
Es regent

إنها تُمطِر.

بهذا الاعتبار تُعَد القضايا «كيانات مجردة». وهي من هذه الزاوية تماثل الأعداد، كشيء متميز عن الأرقام، أي الرموز التي نستخدمها (مثل «خمسة»، five, cinq، 5, V) لِنُسَمِّي الأعداد. وقد ماهَى الفلاسفةُ بين القضايا وتنويعةٍ من الأشياء الدخيلة الأخرى، بما فيها مجموعات العوالمِ الممكنة٢ والأوضاع الممكنة. ويذهب بعضُ الفلاسفة ممن يتحدثون عن المواقف القضوية، بما فيهم ديفيدسون، إلى أن الحديث عن القضايا يمكن إعادة صياغته واستبداله بحديث عن شيءٍ آخر. وفي غرضنا الحالي، يمكننا أن نَدَعَ فكرةَ القضية على مستوًى حدسي، فالقضية هي ما تُعَبِّر عنه الجملة. (وكل مَن يَعُد القضايا كياناتٍ مجردة فمِن حقِّنا عليه أن يصف لنا كيف للبشر أن يتفاعلوا مع مثل هذه الأشياء.)

العَتامة السيمانتية (الدلالية)

من الملامح الملحوظة للمواقف القضوية دقتُها وتحديدُها. إن اعتقادَك أن سقراط حكيم يختلف عن اعتقادك أن زوج زَنْتِيبِي حكيم، على الرغم من أن سقراط هو زوج زَنتِيبي. تَرِثُ الاعتقاداتُ هذا الملمح — intensionality المَفهومية (تُتَهَجَّى بحرف s)٣ — من القضايا؛ فقضية أن سقراط حكيم تختلف عن قضية أن زوج زنتيبي حكيم. قد تعتقد أن سقراط حكيم، ولكن لأنك لم تسمع قَط عن زنتيبي، فإنك لا يتسنَّى لك أن تعتقد أن زوج زنتيبي حكيم (أو حتى إن زوج زنتيبي غير حكيم). النقطة (التكنيكية بعض الشيء) هنا هي أن الاعتقاد وغيرَه من المواقف القضوية تمتلك عَتامةً سيمانتية semantic opacity. إن القدرة على الاعتقاد تشتمل على القدرة على التفكير أفكارًا تختلف لا من حيث «ما» تمثِّله فحسب، بل أيضًا من حيث «كيف» تمثله.

يذهب ديفيدسون إلى أن أي وصف للاعتقاد يجب أن يحسب حسابًا للعَتامة السيمانتية. يعني ذلك أنه لا معنى لأن تَعزُو لِكائنٍ ما اعتقاداتٍ إلا إذا كان ثمة معنًى لأن تفترض أن هذا الكائن المَعنِيَّ لديه قدرةٌ على أن يُمَثِّل الأوضاع بطرائق مختلفة. هل يمتلك كلبُ الجيران، سبوت، مثلَ هذه القدرة؟ هل يمكننا أن نفترض، ويكون لافتراضنا معنًى، أن سبوت يُمَثِّل سيدَه أو صحنَ طعامِه بِطرائقَ مختلفة؟ أو هل التمثيلاتُ التي نميل إلى أن نعزوها لسبوت «شفافةٌ سيمانتيًّا»، هل هي مجردُ وسائلَ بسيطة للإشارة إلى العالم؟

مثل هذه الأسئلة تطرح مجموعةً من المسائل التي علينا أن نضعها جانبًا في هذه اللحظة. سأمضي قُدُمًا وأسجِّل ببساطةٍ أنه، وفقًا لديفيدسون، ثمة رابطةٌ وثيقةٌ بين القدرة على استخدامِ لغةٍ مكتملةِ الدعائم والقدرةِ على ما أسميتُه تمثيلَ العالمِ بطرائقَ مختلفة. إذا كان ديفيدسون على صواب، إذن فليس قادرًا على التفكير سوى الكائنات القادرة على اللغة. ربما تجد هذه النتيجةَ غيرَ سائغة. من المؤكد أن سبوت لديه اعتقادات! من المؤكد أن الكائن الإنساني الرضيع قبل-اللغوي٤ يفكر! إذا كان هذا جوابك، فإن عليك إذن أن تُقَيِّمَ بعنايةٍ مقاربةَ ديفيدسون إلى الموضوع، وتنظرَ أين تعتقد أنه حادَ عن الصواب.

التأويل الجِذري: خلفيات

وفقًا لديفيدسون، ينبغي على أي فهمٍ للاعتقادات أو الرغبات أو المقاصد أو أي موقفٍ قَضَوِي آخر أن يتضمن فهمًا لما هو لازم من أجل تأويل الكلام. تَأَمَّلْ فيما قد يشتمل عليه فهمُكَ لما أقوله عندما أنطق جملةً ما. إذا كنا، أنت وأنا، مشتركَين في لغةٍ واحدة، فإنك إذن تَفقَهُ قولي تلقائيًّا ودون إعمال فكر. ورغم ذلك، فإن قدرتك على فهم ما أقول، كمقابلٍ لمجرد سماع عباراتي كأنماطٍ من الأصوات، كما قد يفعل الطفلُ الرضيع، تشتمل على قدرة معقدة، قدرة لا يتمتع بها أولئك الذين لا يَألَفون لغتَنا. بوسعنا أن ننظر إلى هذه القدرة على أنها امتلاكُ تكنيك معين، مجموعة من المبادئ التي تتيح لك أن تُلحِقَ معنًى بكل عبارةٍ من عباراتي.

قبل أن أتقدم أكثر، عليَّ أن أسجل أنني في حديثي عن «المعنى» هنا إنما أتحدث عما يمكن تسميتُه — لافتقاد أي لفظ أفضل — «المعنى الحَرفي» literal meaning. بوسعنا أن نميز المعنى الحرفي عن «المعنى عند المتحدث»٥  speaker meaning. توضح التمييزَ حالةٌ أنطق فيها: «النجيل بحاجةٍ إلى قَص»، وأعنِي أنني أريدك أن تقص النجيل. إن المعنى الحرفي لعبارتي هو أن النجيل يحتاج إلى قَص. إلا أنني إذ أنطق هذه الجملة إنما أعنِي لك أن تدرك — عن طريق فهمك للمعنى الحرفي للجملة — أنني أريدك أن تقص النجيل. أنت تفهم المعنى الحرفي لعباراتي عندما تفهم الجملَ التي أنطقها. أما هل تفهم ما آمل أن أنجزه بنطقي لتلك الجمل، ما أرمِي إليه، أو هل لديك استيعابٌ للمعنى «الأعمق»، إنْ كان، الذي أُضمره في عقلي، فهذا أمرٌ مختلف.
دعنا نركز لحظةً على الجُمَل الإخبارية البسيطة. والجمل الإخبارية declarative («النجيل يحتاج إلى قَص») تفترق عن الجمل الاستفهامية interrogative («هل يحتاج النجيل إلى قَص؟») والجمل الطلبية أو الأمر imperative («قُصَّ النجيل»)، وما شابه. وقد جرى العرفُ طويلًا على أن الجمل الإخبارية هي الأساسية، على الأقل بمعنى أن فهمنا لأي جملة يعتمد على فهمنا لِجِذرِها الإخباري. والآن تأملْ ماذا عساه أن يكون فهمُك لجملةٍ إخبارية، فهمُك لما تقوله مثلُ هذه الجملة. أحد الأجوبة الممكنة أنك تفهم ما تقوله جملةٌ ما إذا كنتَ تفهم «شروط صدق»٦  truth-conditions هذه الجملة: ماذا يكون الحال إذا كانت الجملةُ صادقة (أو ماذا يكون الحال إذا كانت غيرَ صادقة). يُقصَد بفكرة شرط الصدق أن تُطابِق ما أسميتُه آنفًا «المعنى الحرفي».
ما فائدة أيٍّ من هذا؟ حسنٌ، نحن نبحث عن توصيفٍ لما هو متضمَّنٌ في فهمك لعبارتي. على أقل تقدير، يبدو هذا متضمِّنًا قدرتَك على أن تربط شرطَ صدقٍ بالعبارات التي أُنتِجها. تتشكل هذه القدرة، وفقًا لديفيدسون، بواسطة امتلاكك «نظرية صدق» theory of truth — وهي ما سأُطلِق عليه «T-theory» (نظرية-د) — لهذه العبارات. ورغم التسمية، فإن نظرية-د ليست نظرية عن طبيعة الصدق. نظريات-د تقيض شروطَ صدقٍ للجُمَل التي ينطقها المتحدثُ أو قد ينطقها. وبمنأًى عن تفسير الصدق، تفترض هذه النظرياتُ مسبقًا فهمًا أوليًّا لمفهوم الصدق. وعليه، فأنت في موضعٍ لأن تُطلق نظرية-د فقط إذا كنتَ تفهم بالفعل ما الذي يجعل الجُمَلَ صادقة (أو غير صادقة).
تتبع نظريات-د نموذج نظريات الصدق التي ابتكرها ألفرد تارسكي Alfred Tarski ﻟ «اللغات الصورية» formal languages من النوع الذي يطلقه المناطقة. إذا كنتَ قد درستَ المنطقَ أو برمجة الحاسوب فقد صادفتَ أمثلةً للغات الصورية. تُوَلِّد نظرية-د، عن طريق مجموعاتٍ متناهيةٍ من القواعد، جملة-د T-sentence لكل جملة في اللغة. لجمل-د الصورة التالية:

س صادقة إذا وفقط إذا ص.

حيث س وصفٌ لجملة منطوقة (أو جملة يمكن أن تُنطَق)، ص تُعَبِّر عن شروط صدق الجملة.

لعلك ترى مثل هذا الإجراء فِجًّا على نحوٍ يدعو إلى اليأس. فانظر في الجملتين التاليتين:

جوكاستا تجري.

أم أوديب تجري.

إن «جوكاست» و«أم أوديب» مشتركان في المرجِع،٧ إذن هاتان الجملتان لهما نفس شروط الصدق، ولكن ليس لهما، رغم ذلك، نفس المعنى. كيف يمكننا إذن أن نأمل في استخدام نظرية تركز على شروط الصدق لتوضح ماذا نعمل عندما نُؤَوِّل — أي نفهم — معاني العبارات؟

إن الفجوة بين ما نعتبره عادةً معنى جملةٍ ما وبين الشروط التي تحتها تكون الجملةُ صادقة؛ هذه الفجوة تضيق رغم ذلك عندما ندرك أن نظرية الصدق تُنتِج شروط الصدق على نحوٍ منظم لكل جملة في لغةٍ من اللغات. تشمل اللغاتُ الطبيعيةُ عددًا لا نهائيًّا من الجُمَل، ونظريات الصدق نهائية. وكنتيجةٍ لذلك، يتعين على نظرية الصدق أن تستخدم البنية التركيبية للغة. تُشَيَّد الجمل من عناصر — كلمات — تظهر في جُمَلٍ أخرى. تعتمد شروط صدق (أو معاني) الجمل على هذه العناصر وترتيباتها. إذا كان ممكنًا أن تقدم نظريةَ صدق على طريقة تارسكي للغةٍ طبيعية (وهو شرطٌ ثقيل)، فيجب على جمل-د التي تتضمنها هذه النظرية أن تعكِس، أو على الأقل تُقارِب، أحكام الناطقين الأصليين عن المعنى.

هذه الملاحظات الملغزة ينبغي أن تغدو أكثر وضوحًا عندما ننظر إلى أمثلة من جمل-د. وسوف نكتشف أن جمل-د — الجمل التي تحدد شروط الصدق — ﻟ «جوكاستا تجري» وﻟ «أم أوديب تجري» مختلفة. والدرس المستفاد هو: إن نظرية-د تعمل أكثر من مجرد ربط جملٍ بشروط صدق، وتعمل ذلك بطريقةٍ تميِّز الجمل التي تختلف في المعنى غير أنها تَصدُق أو لا تَصدُق تحت نفس الظروف. هذه النتيجة يؤكدها متطلَّب أن نظريات-د تضم مجموعاتٍ متناهيةً من القواعد.

ما هي دلالة هذا الحديث عن «مجموعات متناهية من القواعد». إن اللغات الصورية التي يُطلِقها المناطقة، وكذلك اللغات الطبيعية، مثل الفرنسية والأوردو والإنجليزية، تحتوي على ما لا نهاية له من الجُمَل. غير أننا نحن مستخدِمي هذه اللغات كائناتٌ متناهية. يومئ هذا إلى أننا، أيًّا ما كان مبلغُ فهمِنا للغةٍ ما، فإن الأمر لا يمكن أن يرجع فحسب إلى أننا قد تعلَّمنا أن نربط معنًى معينًا أو شرطَ صدقٍ بكل جملةٍ من الجمل، بل يبدو، بالأحرى، أننا نتعلم عناصرَ لغتِنا مع مجموعةٍ صغيرةٍ نسبيًّا من المبادئ لِضَمِّ هذه العناصر في جُمَلٍ ذات معنًى. إن فهمَك للكلمتين «نمر» و«يُغَرِّد»، مع استيعابِكَ لِقواعد ضم هاتين الكلمتين، يُمَكِّنانك من فهم جملة «النمور تغرد»، رغم أنه من أبعد الاحتمالات أن تكون قد صادفتَ هذه الجملة من قبل.

ليست القواعدُ المَعنيَّة هنا قواعدَ تضمرها أو تطبقها بوعي. إنها من هذه الوجهة تشبه القواعدَ التي تتعلمها عندما تتعلم لعبةً ما عن طريق ممارسة هذه اللعبة. نحن نتعلم قواعدَ لعبة الداما ولعبة التكْتكتُو بهذه الطريقة. ورغم أننا قد نتمكن من هاتين اللعبتين، فإن معظمنا سيجد عُسرًا في أن يوضِح القواعدَ التي نتبعها عندما نلعبهما. وبوسعك أن تدرك مبلغَ تَعَقُّدِهما بأن تحاول تخيُّل برمجة حاسوبٍ لكي يلعب الداما أو التكتكتو. إذ ذاك ستكون مضطرًّا أن تُصَرِّح بالقواعد تصريحًا تامًّا.

الفكرة إذن هي أننا نستطيع أن نقدِّم وصفًا لما يتضمنه فهمُكَ لِعباراتي إذا استطعنا أن نصرِّح بمجموعةٍ متناهية من القواعد التي تربط معنًى أو قيمةَ صدقٍ بكل جملةٍ قد أَفُوهُ بها. من متضمَّنات مثل هذا الرأي أن فهمَ جملةٍ واحدةٍ في لغةٍ ما يتطلب فهم اللغة كلها. إذا بَدا لكَ هذا غيرَ معقول فتأملْ، ثمة شيءٌ ملغز حول فكرة أن أحدًا استطاع فهم عبارتَي «الطيور تغرد» و«النمور تهر»، ولكن لا يدري شيئًا عما تعنيه جملة «النمور تغرد».

تَصَوَّر الكلمةَ من الكلمات نظيرةً لقطعة شطرنج. أنت تفهم دلالةَ قطعةِ شطرنج — الرُّخ مثلًا — إذا ما فهمتَ جميعَ التحركات التي يمكنها والتي لا يمكنها اجتراحُها. وبالمثل، أن تفهم كلمةً ما هو أن تفهمَ دورَها في الجُمَل، إسهامَها في معنى الجمل التي ترد فيها. فإذا كان فهمُ جملةٍ واحدةٍ يتطلب فهمَ الكلمات التي تُشَيِّدُ هذه الجملة، وفهمُ تلك الكلمات يتطلب فهمَ أدوارِها في جميع الجمل، فإن فهمَ عناصر لغةٍ من اللغات، إذن، يتضمن بالضرورة فهمَ اللغة كلها، اللغة المُشَيَّدة بتلك العناصر.

ولكنْ مَهلًا. من المؤكد أن بِوُسعِ امرئٍ أن يفهم الجملة الفرنسية «Il pleut» (إنها تمطر) دون أن يفهم بقية الجُمَل الفرنسية.
المسائل هنا دقيقة، وحَلُّها على نحوٍ وافٍ قد يأخذنا بعيدًا عن موضوعنا. الفكرة، رغم ذلك، هي أنه إن كان بوسعك أن تفهم عبارة «Il pleut» دون أن تفهم بقية الجمل الفرنسية، فما ذلك إلا لثقتك أن هذه الجملة تحمل علاقة بجمل المتحدِّث الفعلية والممكنة تعكِس العلاقةَ التي تحملها جملة «إنها تمطر» بِجُمَل العربية.٨ وتقوم ثقتُك على معلومات إضافية تمتلكها تتعلق بالكائنات الإنسانية واستخدامها للغة. لاحظ، رغم ذلك، أنك قد تكون مخطئًا في هذه الحالة. فالشخص الذي ينطق «Il pleut» قد لا يكون متحدثًا بالفرنسية على الإطلاق، بل بلغةٍ أخرى تحتوي على جملة تشبه الجملة الفرنسية صوتيًّا، ولكنها تَعنِي شيئًا مختلفًا كليًّا.
إحدى الطرق لتحليل المعلومات المتفرقة إلى عوامل، ومن ثم رؤية ما يتضمنه فهمُ الجُمَل، هو أن تتخيل أنك تقوم بمهمة ترجمة منطوقات (عبارات) متحدثٍ ليس لديك بِلُغَتِهِ أيةُ معرفة، وكل ما هو متاح لك أن تعمل عليه هو منطوقات (عبارات) المتحدث، والسياق الذي تُنطَق فيه، والسلوك غير اللغوي للمتحدث؛ إيماءاتُه واتجاهُ نظرتِه وما شابه. ويمكننا القول إن أي وصف لما يشتمل عليه فهمُ أي شخص لأي عبارة يجب ألا يُهِيب إلا بالمصادر المتاحة لمثل هذا «المُؤَوِّل الجِذري» radical interpreter. وأن تمضي وراء ذلك هو أن تفترض شطرًا مما نحن نحاول تفسيرَه. هذه، على أية حال، هي فكرة ديفيدسون.

نظريات-د T-theories

وفقًا لديفيدسون، عندما تَفهَم عبارة (منطوقة) معينة، فأنتَ تربط العبارة بشرطِ صدقٍ. افترض أنك تفهم عبارة «Il pleut». إن فهمك يساوي إدراكك أن العبارة المنطوقة صادقة إذا كانت السماء تمطر، وكاذبة إذا كانت غير ذلك. وهذا ينعكس في «الجملة-د» T-sentence.
«Il pleut» صادقة إذا وفقط إذا كانت تُمطِر،

التي هي مثال من المخطط المعروض آنفًا:

س صادقة إذا وفقط إذا ص.

مرةً ثانية، س هو وصفٌ لِجملةٍ منطوقة (أو عبارة ممكنة)، ص هو تعبيرٌ عن شروط صدق س.

ويجب أن نميز اللغة المصوغ فيها جمل-د (لغتك)، عن اللغة التي تُؤَوِّلها. يُطلِق الفلاسفة على الأخيرة «اللغة الموضوع» object language، وعلى اللغة التي تستخدمها أنت المؤَوِّل «ميتا لُغة»٩ (اللغة الشارحة) meta-language. فإذا كنتَ ناطقًا للإنجليزية، وتُؤَوِّل عبارات ينتجها متحدثٌ فرنسي، فالإنجليزية هي اللغة الشارحة (الميتا لُغة)، والفرنسية هي اللغة الموضوع. وإذا نحن تخيلنا مُجِيبَكَ الفرنسيَّ يُؤَوِّلكَ أنت، ففي هذه الحالة من التأويل ستكون الفرنسيةُ هي اللغة الشارحة (الميتا لغة)، والإنجليزية هي اللغة الموضوع.
افترِض الآن أن كلينا، أنت وأنا، ناطقان بالإنجليزية، وأنا أنطق جملة «إنها تمطر»، وأنت تفهم منطوقي. فَبِأَي معنًى يلزمك أن تُؤَوِّلَني؟ إذا كنا مشتركَين في لغةٍ واحدة، وإذا كنا نعرف هذا، فإن فهمك لعباراتي سيساوِي، على الإجمال، أخذَك هذه العبارات بظاهرِ معناها. [بصفةٍ عامة، ولكن ليس دائمًا، قد أخطئ النطقَ أو أستخدم الكلمات استخدامًا مختلفًا اختلافًا ضئيلًا عن استخدامك. فقد تكتشف مثلًا أني في نطقي «إنها intolerant (قليلة التحمل)»، أعني أنها intolerable (لا تُحتمَل)]. في هذه الحالة، فإن اللغة الشارحة واللغة الموضوع تتطابقان. إذا كان الأمر كذلك، فإن شروط صدق جملةٍ منطوقة يمكن تحديدها باستخدام الجملة نفسها. إذا كنتَ مثلًا تقدم نظرية-د بالإنجليزية لعباراتي التي أنتجها أنا الناطق مثلك بالإنجليزية، فقد تعبر عن شروط الصدق لعبارتي «النمور مخطَّطة» باستخدام هذه العبارة ذاتها:

(د١) «النمور مخططة» (التي ينطقها ج. ﻫ) صادقة إذا وفقط إذا كانت النمور مخططة.

في هذه الحالة، فإن نظريات-د ستتكون من جملة داخل علامتَي تنصيص، تتبعها «صادقة إذا وفقط إذا» تتبعها الجملة نفسها «منزوعًا منها علامتا التنصيص».١٠

لا تَستنكِف التفاهةَ الظاهرة ﻟ «د١». فنظرية-د يجب أن تتضمن مصادر لتوليد كل جملة من اللغة التي تنطبق عليها. ومعرفتك شروطَ صدقِ جملةٍ ما تتضمن أنك قد تمكَّنتَ (وإن يكن عن غير وعي ذاتي على الإطلاق) من نظرية تتضمن مبرهنةً من الصورة «د»، جملة-د، لهذه الجملة. إلا أن مثل هذه النظرية تتضمن جُمَل-د كثيرةً لا نهاية لها. أنت لا تفهم نُطقي لجملةٍ معينة إلا إذا كنتَ في موضع يجعلك تفهم نطقي جملًا كثيرة لا نهاية لها. وفقًا لهذه الوجهة من الرأي، فإن إدراكك معنى جملةٍ ما لا يستلزم فقط إدراكك معاني جملٍ كثيرة، بل يستلزم أيضًا أن تفهم العلاقات المنهجية بين جملٍ من النوع الذي تحصره القواعد المستخدمة لتوليد جمل-د.

من نظريات-د إلى نظريات-ت

يذهب ديفيدسون إلى أنك لكي تُؤَوِّل كلامي ينبغي أن تكون في وضعٍ يتيح لك أن تربط معانيَ أو شروطَ صدقٍ بعباراتي الفعلية والممكنة، وأن تعمل ذلك على نحوٍ منهجي منظم. ولكن هذا في رأيه لا يتسنى إلا إذا كنت في نفس الوقت في وضع يتيح لك فَكَّ رموز مواقفي القضوية؛ اعتقاداتي، ورغباتي، ومقاصدي. فأنا ألفظ جملةً ما بمقصدٍ معين — لِأُخبِر، لِأَخدَع، لأُضحِك، لِأُهَدِّد — بسبب ما أعتقده، وما أرى أن الجملة تعنيه، وما آمل أن أنجزه بنطقي لها. تقدم نظرية التأويل theory of interpretation (ما سأطلق عليه «نظرية-ت» I-theory) وصفًا لكل هذه المواقف في آنٍ معًا. لكي تفهم كلامي، ينبغي أن تفهم ما أعتقده وما أرغب فيه، وفهم اعتقاداتي ورغباتي يتطلب منك أن تفهم منطوقاتي (عباراتي).١١ فكيف يمكن أن نكسر هذه الحلقة؟١٢
يومِئ ديفيدسون إلى أن التأويل يعتمد على موقفٍ أوليٍّ ﺑ «اعتبار الصدق» holding true يُطبَّق على الجمل. (تعني الجمل، هنا وفيما سيأتي، الجمل المنطوقة في مناسباتٍ معينة، أو المنطوقات، أو المنطوقات الممكنة.) فأنت دون معرفة سابقة بِلُغَتِي أو اعتقاداتي ورغباتي قد تؤكد أني أعتبر جملةً معينة صادقة. وهذا ليس افتراضًا مسبقًا بأنك تعرف ما أعنيه بنطق هذه الجملة أو بما أعتقده. لهذا السبب، فإن اكتشافك أنني أَعُد جملةً ما صادقةً يمكن أن يشكل دليلًا مؤيدًا لأي فرضية قد تغامر بأنها ما أعنيه وما أعتقده. سأعتبرها صادقة جملة «النمور مخططة» في حالة ما إذا كنتُ أعتقد أن النمور مخططة، وآخذ الجملة على أنها تَعنِي أن (أو أنها صادقة إذا وفقط إذا كانت) النمور مخططة. في تأويل كلامي إذن أنت تبدأ بتخمينات عما أعتقده وما تعنيه منطوقاتي، وتضاهي هذه التخمينات بالجمل التي تعتبرني أعدُّها صادقة.
تَصَوَّر الجملَ المعتبَرة صادقة على أنها كميات موجَّهة vectors، نواتج قوتين؛ الاعتقادات والمعاني (شكل ٥-١). افترِضْ مثلًا أني أعتبرها صادقةً جملةَ «فيثاغوراس غريب الأطوار». إنني أفعل ذلك بسبب ما أعتقد (بين أشياء أخرى أن فيثاغوراس غريب الأطوار) وما آخذ جملة «فيثاغوراس غريب الأطوار» على أنها تعنيه (أي: إن فيثاغوراس غريب الأطوار) (انظر شكل ٥-٢).
fig20
شكل ٥-١
fig21
شكل ٥-٢
مع احترامنا لبعض المُنَظِّرين، فإن هذا لا يتضمن أنه إذا كان عليك أن تُؤَوِّلَني فإن عليَّ أن أكون صادقًا. فقد تكتشِف، مثلًا، أنني لكل جملة، ق، بعامةٍ أعتَبِر لا-ق صادقة عندما أنطق ق. من المفيد في هذا الصدد أن نفرق فكرة «التصديق» assent على الجُمَل عند كواين عن موقف اعتبار الصدق، فإن بوسعنا أن نصدق، ونحن نصدق بالفعل، على ما لا نعتبره صادقًا. وما دام لديك طريقةٌ لاكتشاف أي الجُمَل أنا أعتبرها صادقة، فإن لديك طريقة لاختبار فرضيات حول ما تعنيه منطوقاتي (عباراتي)، باتصالٍ مع ما أعتقده. (إذا كان هذا يصدمك كمهمةٍ مستحيلةٍ، ففَكِّرْ في الأحاجي التي فيها يُطلَب منك أن تستجوب أشخاصًا يُدلون بمعلومات، بعضهم يقول الحقيقةَ والبعض كذابون مزمنون، كَيما تكتشف جوابًا عن سؤالٍ ما.)
يقدم التكنيك التأويلي المتصوَّر على استبصارٍ تقدمه نظريةُ القرار decision theory. تقدم نظريةُ القرار وصفًا صوريًّا للاختيار أو التفضيل في حدود الاحتمالات والمنافع. والفكرةُ المرشِدةُ هي أن تفضيل فاعلٍ ما لِمَسارٍ من الفعل على مَسارٍ منافسٍ أو أكثر يعتمد على رغبة «الفاعل» النسبية في نتائج الأفعال والاحتمالات التي يربطها «الفاعل» بهذه النتائج (انظر شكل ٥-٣).
fig22
شكل ٥-٣

عليك أن تختار بين الذهاب إلى السينما أو أخذ نزهة مشيًا على الأقدام. قد يكون لِنتائج هذين الاختيارين قيمٌ أو منافع مختلفة لك، وقد تتأثر هذه القيم أو المنافع بظروفٍ ممكنةٍ شتى. فقد يكون المشيُ ممتعًا لك أكثر من السينما، مثلًا، ولكن ليس إذا كانت السماء تمطر. وستحدد تفضيلَك الإجماليَّ المنافعُ أو المرغوبيةُ النسبية للنتائج مقدَّرةً باحتماليتها. فإذا كان احتمال المطر ضئيلًا فأنت تختار المشي، وإلا فأنت تختار السينما.

يمكن التعبير عن الاحتمالات والمنافع بالأرقام، ويمكن إعطاء نظرية القرار توصيفًا صوريًّا دقيقًا. من مترتبات النظرية أنه من الممكن، بإعطاء تفضيلات الفاعل لمختلف مسارات الفعل، أن نستمد تحصيصًا فريدًا من الاحتمالات والمنافع بالنسبة للفاعل. وهذا يُبَيِّن أن نظريةَ القرار نظريةٌ إمبيريقيةٌ قويمة: نحن نفترض احتمالاتٍ ومنافعَ — اعتقادات ورغبات — ونختبر فرضيتَنا بتسجيل تفضيلات الفاعلين.

المظهر مُضَلِّل. فقد يُظَن أن نظرية القرار تقدم إطارًا يمكن أن نرسم داخله ملامحَ بنيويةً مهمةً لصناعة القرار البشرية. وهي في هذا الجانب تشبه المنظومات الإحداثية أو أنظمة القياس المألوفة، والتي لديَّ المزيد لِأَقولَه عنها حالًا. وسأكتفي الآن بتسجيل أنه وفقًا لرأي ديفيدسون فإن نظرية التأويل — نظرية-ت — تشتمل على مُكَوِّنَين: (١) نظرية صدق على طريقة تارسكي، نظرية-د. (٢) نظرية قرار. والبَيِّنة (الدليل) بالنسبة لنظرية التأويل تتكون من مواقف الفاعلين تجاه الجُمَل المنطوقة، ولا سيما موقف اعتبار الصدق. وبالضبط مثلما أنه في حالة نظرية القرار التقليدية تؤخذ اعتقادات الفاعلين ورغباتهم (مُؤَوَّلةً كاحتمالاتٍ ومنافع) كمحدِّداتٍ لتفضيلاتهم، فإنه في نظرية التأويل تؤخذ اعتقادات الفاعلين ورغباتهم ومعانيهم (شروط الصدق المرتبطة بالجمل) كمحدِّدات لأي الجمل يعتبرها صادقةً هؤلاء الفاعلون. فأنت في تأويلك لي إنما تقدم في حقيقة الأمر نظريةً تَعزو لي عالَمًا من الاعتقادات والرغبات والمعاني، وتضبطها جملٌ تَرَى أنني أعتبرها صادقة.

الإحسان وعدم التحديد

تُقَيِّض نظرية-ت التي تُنشِئها محتوياتٍ أو «مضموناتٍ» لِمنطوقاتي ولِمواقفي القضوية في نفس الوقت. بوسعك أن تواجه المنطوقات الظاهرة الشذوذ بأن تفترض أنك على خطأ حول ما أعنيه، أو أن لديَّ رغبةً في أن أخدعك، مثلًا، أو أني أتهكم، أو بأن تفترض أني أضمر اعتقادًا خاطئًا. قد يُوحِي هذا بأنه ليس على النظرية-ت أن تستجيب إلا لمطلب الاتساق. إذا كانت نظريتُك تُفضِي إلى تنبؤٍ غيرِ معقول بما أعتبره صادقًا، فإن لك الحريةَ في أن تعدِّل النظرية — بتغيير ما تَعُدُّني أعتقده أو أعنيه — لكي يَستوِي لك تنبؤٌ أكثرُ قبولًا.

تخيَّلْ أنك تأخذني في جولةٍ سياحيةٍ بلندن، وأننا ندخل وسط المدينة، وأنا أسجل ملاحظتي: «إنه من المدهش أن أرى كل هذا العدد من الناس يرتدون bowling hats (قبعات البولنج).»١٣ وأنت تتحير لحظةً: قبعات البولنج؟ ثم تدرك أني عنيتُ أنه من الغريب أن ترى كل هذا العدد من الناس يرتدون البولر١٤  bowler. إنك بفعلك هذا تنخرط في شيءٍ من التأويل الجِذري radical interpretation. إن لديك بَيِّنَةً على أنني أعتبرها صادقةً جملة «إن من المدهش أن أرى كل هذا العدد من الناس يرتدون قبعة البولنج». فماذا تُراني أَعنِي؟ حسن، أحد الاحتمالات أنني أعتقد أننا محاطون بناسٍ يرتدون قبعات البولنج وآخذ تعبيرة «قبعات البولنج» بمعنى قبعات البولنج. احتمالٌ آخر هو أني عنيتُ ﺑ «قبعات البولنج» ما تعنيه أنت بالبولرز، وأنني (في الحقيقة) أعتقد أننا محاطون بناسٍ ترتدي البولرز. كلتا الفرضيتين متسقة مع بَيِّنَتِك، فهل معنى ذلك أن كلتا الفرضيتين متساويتان في الكفاءة؟
ديفيدسون لا يعتقد ذلك. فعمليات عَزو موقف قضوي يحكمها مبدأُ الإحسان١٥  principle of charity: إن عليك أن تَعُدَّني على صوابٍ في معظم الأشياء. فإذا كنتَ تحاول أن تكتشف ما أعتقده وما تعنيه منطوقاتي، فإنك لا تملك إلا أن تفترض أن اعتقاداتي صادقة إلى حد كبير. وبدون هذا الافتراض ستكون كل نظرية-ت متسقة متساوية في الجودة مع أي نظرية-ت. إن على نظرية-ت، إذن، أن تجعل صدق اعتقاداتي أقرب ما يكون إلى الكمال في نفس الوقت الذي تُسبِغ فيه معنًى على منطوقاتي.

في الحالة الراهنة، يعني هذا أنك ستُؤَوِّل كلامي عن «قبعات البولنج» على أنه كلام عن قبعات البولر. أن تفعل غير ذلك، أن تتخيل مثلًا أنني أعني ﺑ «قبعات البولنج» ما تعنيه أنت بالضبط بهذا الحد، سيضطرك أن تفترض أنني كنتُ أُضمِر مجموعةً من الاعتقادات الخاطئة، بما فيها الاعتقاد بأن قبعات البولر تُرتدَى لِلَعِب البولنج. يقتضيك الإحسانُ أن تُكَيِّف نظريتَك التأويلية بطريقةٍ تجعل اعتقاداتي أقرب شيءٍ إلى الصدق.

لعل القراء الأذكياء قد خمنوا أنه، حتى بافتراض مبدأ الإحسان، ليس ثمة ضامن أن هناك نظرية تأويل وحيدة لأي متحدِّث. إن بالإمكان أن يكون ثمة نظريات تأويل شديدة التباعد لِمُتَحدِّثٍ معين، ومتوافقة مع كل بَيِّنَةٍ فعليةٍ أو ممكنة. افترِضْ أنك أنت ورفيقًا لك تُشَيِّدان، كل بمعزِلٍ عن الآخر، نظريتَي تأويلٍ لي. كلتا النظريتين تطابق البَيِّنةَ التي لدَى كلٍّ منكما، أو التي يمكن أن تكون لديه، وكلتاهما تُمَكِّنك من أن تُضفِي معنًى على منطوقاتي، وأن تتحادث معي في موضوعات لا نهاية لها. وعند مقارنة الملاحظات، رغم ذلك، تكتشف أن النظريتين تُقَيِّضان، بشكلٍ منظَّم، معانيَ لمنطوقاتي! وفي الحالة القصوى أنت تُؤَوِّل نطقي لجملةٍ معينة على أنها تَعنِي «النمور لها خطوط»، ورفيقك يُؤَوِّل نفسَ العبارة على أنها تَعنِي «النمور ليس لها خطوط». أين مَكمَن الخطأ هنا؟ أَيُّكُما على صواب، إن كان أحدُكما على صواب؟ وكيف لك أن تُقَرِّرَ هذا؟

ها نحن وجهًا لوجهٍ مع المذهب المُشَهَّر الخاص بعدم التحديد في التأويل indeterminacy of interpretation. لقد حاجَّ كواين Quine، وهو سلف ديفيدسون في هذه الموضوعات، بأن كل عبارة منطوقة فهي قابلة لتأويلاتٍ، أو «ترجمات»، لا نهاية لها، وافية تمامًا ولكنها غير متوافقة إحداها مع الأخرى. (في عرضي لِكواين سأتحدث، مثلما يفعل، لا عن تأويلات interpretations، بل عن ترجمات translations. ورغم أهمية التمييز بين اللفظتين، فهو لا تأثير له في النقطة الحالية.) هذه الترجمات يمكن أن تكون متوافقة مع كل ما يقوله متحدثٌ أو يود أن يقوله. قد تظن أن هذا يعني أنه سيكون صعبًا أو مستحيلًا علينا أن نقول أي ترجمة من ترجمتين متنافستين هي الصحيحة. ولكن فكرة كواين أشد صدمًا، كل ما هنالك فيما يعنيه متحدثٌ يُفصَح عنه في الترجمة التي تلائم كل شيء يقوله المتحدث أو يود أن يقوله. وإمكان ترجمات منافسة ولكن وافية بنفس القدر تثبت أنه ليس ثمة «حقيقة واقعة» أخرى فيما يتعلق بما يعنيه المتحدثون.
يُفَرِّق كواين ما يسميه «عدم التحديد في المعنى» indeterminacy of meaning عن ذلك النوع من «التحديد الناقص» underdetermination الذي نقابله في تقييم النظريات العلمية. إن من الجائز لنظريتين علميتين أن تلائما جميعَ الأدلة (حقًّا جميع الأدلة التي يمكننا تخيلها)، ومع ذلك، فقد تكون إحداهما هي الصحيحة والأخرى غير ذلك. في مجال العلم تُوهِم النظرياتُ بأنها تحصر واقعًا مستقلًّا. ولكن عندما نأتي إلى المعاني، في رأي كواين، فليس ثمة واقع مستقل، ليس ثمة واقعٌ وراء ميول المتحدثين المحصورة في الترجمات المنهجية لمنطوقاتهم. ليس يعني ذلك أن هذه الترجمات لا يمكن أن تكون خاطئة، فَعَلَى العكس، قد تفشل بعضُ الترجمات في أن تنسجم مع الملاحظات، الفعلية والممكنة، الخاصة بالسلوك الكلامي للفاعلين. غير أن كل ترجمة تتمشى فعلًا مع هذه الملاحظات يحق لها على السواء أن تدعي أنها تقبض على المعنى عند المتحدثين.

يتفق ديفيدسون مع كواين في أن هذه الضروب من عدم التحديد هي أمرٌ محتوم. إلا أنه يختلف عن كواين في أنه (أي ديفيدسون) يشير بأن عدم التحديدات التي تظهر في نظريات-ت لا خطر منها على الإطلاق. فلو أن نظريتَي-ت متساويتين في ضوء مبدأ الإحسان كانتا متسقتين مع جميع تفضيلات فاعلٍ ما، فإنهما «تدوينان مختلفان» لِنفس الشيء لا أكثر. الوضع هنا يشبه الوضع الذي تُقاس فيه الحرارة بالفهرنهايت أو بالدرجة المئوية. فأنا أقول إن الماء يتجمد عند ٣٢ درجة فهرنهايت، وأنت تذهب إلى أنها تتجمد عند صفر مئوية. أي التقديرَين هو الصحيح؟ هذا السؤال يفترض ما هو خطأ، أي يفترض أن ثمة ملمحًا ما محددًا للعالم يختلف في شأنه هذان التقييمان. وإنما وجه الأمر أنهما، ببساطة، طريقتان لحصر نفس الحقيقة. في هذا الجانب يجب أن نفرِّق تصورَ ديفيدسون للتأويل الجذري عن تصور كواين للترجمة الجذرية. فالترجمة الجذرية تترك المجال مفتوحًا لمزيدٍ من عدم التحديدات الأساسية البعيدة المدى. إن أسباب ذلك أسبابٌ تكنيكية لا داعيَ لأن تشغلنا هنا؛ فهدفُنا هو أن نكتسب حِسًّا بتصور ديفيدسون الخاص عن العقل.

المُؤَوِّل الكُلِّي العِلم

قلنا إن مبدأ الإحسان يفرض علينا أن نعزو اعتقادات للفاعلين، بحيث نجعل صدق هذه الاعتقادات أقرب إلى الكمال. يَعنِي هذا في الممارسة أن تعزو لي اعتقادات بحيث تَتَبَدَّى لك أقربَ شيءٍ إلى الصدق، فتجعل اعتقاداتي متسقة مع اعتقاداتك قدر المستطاع. غير أننا الآن نواجه صعوبةً ظاهرة؛ ثمة فارقٌ واضح وهام بين ما هو حق وما يعتقد أي فاعل مُتناهٍ أنه حق. افترِضْ أن كثيرًا من اعتقاداتك، أو معظمها، خاطئة، إن تأويلك الإحساني، إذ ذاك، لكثيرٍ من اعتقاداتي سيجعل اعتقاداتي بدورها خاطئة.

إلا أن ديفيدسون يُحاجُّ بأن هذه الطريقة في تصور المسألة تُغفِل ملمحًا مهمًّا لمبدأ الإحسان. خذ اعتقاداتك مثلًا، إن اعتقاداتك التي لديك بالفعل هي تلك الاعتقادات التي يحق أن يعزوها لك مؤَوِّلٌ عرف عنك كل ما يجب أن يُعرَف عنك وعن ظروفك، مؤوِّل يضع يده على كل بَيِّنَة، «مُؤَوِّلٌ كُلِّيُّ العِلم» omniscient interpreter.

يعني ذلك بالضبط أن تقول إن اعتقاداتك يجب في الحقيقة أن تكون صادقةً غايةَ الصدق. وإذا كانت اعتقاداتُك صادقةً للغاية بالضرورة، فلا يمكن إذن أن يكون ثمة فرقٌ عميقٌ بين عَزوِكَ اعتقاداتٍ لي بهذه الطريقة متسقةً للغاية مع اعتقاداتك، وعَزوِكَ لي اعتقاداتٍ بطريقة تجعل عزوَك يقرِّب الحقيقة إلى الكمال.

هل يمكن أن يكون هذا صحيحًا؟ ربما ما دمنا نأخذ مأخذَ الجِد منظورَ ديفيدسون إلى عزو الاعتقاد. إن موضوع اعتقادٍ ما — ذلك الذي يكون الاعتقادُ اعتقادًا عنه — تُحَدِّده، جزئيًّا، عِلَّتُه، فيما يفترض ديفيدسون. فاعتقادُك عن الشجرة يتعلق بشجرةٍ معينة لأنه يتسبب عن تلك الشجرة. نحن إذن نعزو اعتقادات، جزئيًّا، بالإحالة إلى عِلَلِها. قد نكون بالطبع على خطأ في ذلك، قد نسيء عَزوَ اعتقادات، ولكن لا يمكن أن تكون اعتقاداتُ مَن يُعزو خاطئةً في معظمها. إنها تتعلق بِعِلَلِها بمعزِلٍ تامٍّ عن مأخذ أي شخص، بما في ذلك المعتقِد، لما تكونه هذه العِلل.١٦ وهذه طريقة أكثر ابتذالًا للقول بأن الاعتقادات التي تملكها أنت — مَن يَعزو — هي تلك الحَرِيَّةُ بأن يعزوها لك مُؤَوِّلٌ كُلِّيُّ العِلم.

هل يُعقَل أن تتخيل أن الاعتقادات تتعلق بِعِلَلِها؟ إن بإمكان ضربةٍ على الرأس، بالتأكيد، أن تؤدي بي إلى الاعتقاد بأن نابليون مات في المعركة. وعِلَّةُ هذا الاعتقاد هي ضربة على الرأس، إلا أن اعتقادي لا يتعلق بالضربة، بل بنابليون.

غير أنه في القلب من فكرة ديفيدسون أن الاعتقادات، شأنها شأن المعاني، لا يمكن أن تُعزَى فُرادَى، فأنت إذ تعزو لي اعتقادًا معينًا إنما تعزو ضمنيًّا عالَمًا من الاعتقادات الأخرى، تلك الاعتقادات التي تنطوي عليها نظرية-ت التي تستدعيها. وإنما هذا الصرح الكلي هو الذي يجب أن يفي ﺑ «الإحسان»، وبمتطلَّب أن تكون موضوعات الاعتقاد محددةً بِعِلَلِها. وبِوُسع نظرية التأويل الصحيحة أن تستوعب الاعتقاد الخاطئ إزاء خلفيةٍ من الاعتقاد الموفور الصحة. وبالإحاطة بجميع الأشياء، إذن، فإن نظرية تأويل تصورني (على أساس ما أقوله وأفعله) على أنني اكتسبتُ اعتقادًا عن نابليون نتيجةً لضربةٍ على الرأس، يمكن بسهولةٍ أن تكون أكثر إحسانًا من نظريةٍ تعزو اعتقادًا عن ضربةٍ على الرأس.

التأويل والقياس

تأملْ ما هو متضمَّن في تفسير ظاهرةٍ أو حقلٍ من الظواهر. يتخذ التفسيرُ أشكالًا كثيرة، يُوهِمُ التفسيرُ بأنه يوضِّح، أو يُضفِي معنًى على، أو يُسَهِّل فهمَنا لشيءٍ ما نأمل أن نفهمه. أحد الأصناف المألوفة للتفسير هو التفكيك decomposition، فنحن نصل إلى فهم الكيانات المركبة بأن نرى كيف تتلاءم أجزاؤها معًا وتتبادل التأثير. فأنت تصل إلى فهم الحرارة بأن تدرك أن تسخين شيءٍ ما يثير جزيئاته المكوِّنة، وهذه الإثارة تنتقل إلى الجزيئات المجاورة، من الرمل الساخن على الشاطئ إلى أَخمَصَي قدميك. وأنت تفهم عملَ ساعةٍ، أو آلةٍ تغَلِّف قضبانَ الحلوى، أو جبهة باردة، أو السيولة، بأن تكتشف الآلية المسئولة عن سلوك الساعات، والآلات المغلِّفة للحلوى، أو الجباه الباردة، والمواد السائلة. في هذه الحالات أنت تصل إلى فهم الآلية برؤية كيف تعمل، وكيف تتفاعل أجزاؤها أحدُها مع الآخر، ومع الأشياء المحيطة، لكي تُنتِج نوعًا معينًا من النتائج. مثلُ هذا التفسير الميكانيكي شائعٌ في العلوم وفي الهندسة والطب وفي الحياة العملية.

ثمة صنفٌ آخر من التفسير، صنف محبَّب كثيرًا في علم النفس وفلسفة العقل، وهو التفسير الوظيفي. حين أقدِّم تفسيرًا وظيفيًّا فأنا أَغُض الطرف عن التفاصيل الفيزيائية لميكانزمٍ ما، وأرى إليه حصريًّا في حدود الأدوار العِلِّيَّة لمكوِّناته. بِوُسعِنا أن نصف عملَ آلةٍ بخارية، أو حاسوب، أو القناة الهضمية لِكائنٍ بشري، دون أن نَعبَأَ ﺑ «التنفيذ الفيزيائي» أو «التحقيق» الخاص بهذه الأشياء.

وهناك طريقة مختلفة جدًّا لفهم قطاعٍ من الأشياء، هي أن نبتكر وصفًا واضحًا لِبِنيةِ هذا القطاع. يمكن تحقيق ذلك بأن نُغَشِّي على هذا القطاع بقطاعٍ آخرَ مفهومةٍ بِنيتُه مقدمًا فهمًا جيدًا. إننا نستخدم الياردات المدرَّجة والموازين العامة وموازين الحرارة في وصف أطوال الأشياء وأوزانها وحرارتها. وبالمثل، نحن نفهم تخطيطَ سطحِ كوكبِنا بأن نفرض عليه بِنيةً إحداثية. وما إن نضع هذه المنظومة من الإحداثيات في موضعها فإنها تُمَكِّننا من أن نحدد المناطقَ والمسافاتِ والمواقعَ النسبية للأشياء والوقائع على سطح الكوكب. وتُمَكِّننا أيضًا من أن نقدم ضروبًا معينة من التنبؤ. فإذا كنتَ تعلم سرعةَ شيءٍ معين يتحرك عبر سطح الأرض، وتعلم موقعَه في وقتٍ معين، فإن بوسعك أن تتنبأ بموقعه في وقتٍ مستقبلي ما. وإذا كنتَ تعرف موقعَ شيءٍ معين وبُعدَه واتجاهَه بالنسبة لشيءٍ آخر، فإن بوسعك أن تحدد موقعَ هذا الشيء الثاني.

تمثل المنظوماتُ الإحداثيةُ co-ordinate systems حالةً خاصةً من حالات القياس؛ تطبيق قطاع الأعداد على قطاع الأشياء أو الخواص. عندما نصف شيئًا ما بأن طوله ١٢ قدمًا، وأنه يَزِن ١١٠ أرطال، فأية ملامح لهذا الشيء تُطابق هذه الأعداد؟ هذا السؤال مُضَلِّل. فالأشياء الفيزيائية المعتادة في الظروف المعتادة تُظهِر بِنيةً مستديمةً نسبيًّا، تُسلِمُ نفسَها للوصف من خلال منظوماتٍ من الأعداد مفهومةٍ جيدًا. إن بِنيةَ هذه المنظومات الوصفية، أي العلاقات فيما بين عناصرها، هي أمرٌ حاسم. وإن العناصر المعينة التي تُشَيِّدها هي في أحد جوانبها اعتسافية١٧ (arbitrary)؛ ذلك أن بوسعِنا أن نُعَبِّر عن الأوزان بالأرطال أو بالكيلوجرامات، وعن الأطوال بالأقدام أو بالأمتار. المهم أن تُظهِر الأعدادُ التي نختارها، والمبادئ التي تحكم تَضامَّها، بِنيةً ملائمة.
تأملْ مرةً ثانيةً استخدامَ منظومةٍ إحداثية في رسم خريطة سطح الأرض. إن اختيارك للمنظومة هو أمرٌ تعسفي جزئيًّا. فقد نستخدم إسقاطًا مركاتوريًّا، مثلًا، أو إسقاطًا كرويًّا. لاحِظ أن إقليمًا جغرافيًّا يَظهر بإسقاطٍ مركاتوري يمكن أن يبدو مختلفًا جدًّا عما يكونه نفسُ الإقليم إذ يُمَثَّل في إسقاطٍ كروي. أَذكرُ أني كنتُ وأنا طفلٌ محيَّرًا بالفارق الظاهر في الحجم النسبي لجرينلند على الكرة الأرضية في واجهة فصلي الدراسي بالسنة الرابعة، وعلى الخريطة الكبيرة على الحائط أعلى السبورة. كانت جرينلند على الأولى تبدو بالكاد أكبر قليلًا من تكساس، وعلى الثانية تبدو تقريبًا في كِبَر أمريكا الشمالية كلها. وكنتُ أتساءل ما حجم جرينلند حقًّا؛ فالخريطتان لا يمكن أن تَصدُقا معًا. (كان تفسير مُعَلِّمِي أن خريطة الحائط أكبر من الكرة الأرضية.) ولكنْ بالطبع كانت كلتا الخريطتين صحيحة، وكان خطئي أنني أقارن الأشياء على إحدى الخريطتين بالأشياء على الخريطة الأخرى دون أن آخذ في الاعتبار أن منظومتَي الرسم — وإن كانتا «مُتَشاكِلَتَين١٨ بِنيويًّا» structurally isomorphic — مختلفتان.

يقدم المثالُ توضيحًا جميلًا لما يقوله مبدأ اللاتحديد في التأويل وفقًا لديفيدسون. فقد تبدو نظريتا-ت كأنهما تَعزوان اعتقاداتٍ ومعانيَ مختلفةً لفاعلٍ معين، وكلتاهما مع ذلك قد تكون صحيحة. وليس يترتب على ذلك أنه لا حقيقة واقعة لما يعتقده الفاعل، رغم ذلك، أكثر مما يترتب من اختلافات الخريطتين الموضحة أعلاه أنه لا حقيقة واقعة للحجم النسبي لجرينلند. يأتي الغموض الظاهري من مقارنة وحدات عبر منظومات دون اعتبارٍ للمنظومات التي تنطمر فيها تلك الوحدات.

فلنقُلْ، إذن، إن بِنيةَ نظريات-ت وهدفها مماثلان لِبِنيةِ وهدف المنظومات الإحداثية. نحن نعلم مقدمًا أن أي شيء قابل للوصف عن طريق هذه المنظومة يجب أن تكون له خواصُّ معينة. في حالة منظومة إحداثية، إذا كان شيءٌ ما، أ، يقع شمال غرب ب، وكان ب شمال غرب ج، إذن أ يقع شمال غرب ج. والأشياء التي لا تَفِي بهذه الشروط لا يمكن أن تُمَثَّل على نحوٍ مُجْدٍ بهذه المنظومات، ولا يمكن أن يُقال إن لها مواقعَ بمعنى الكلمة. وفي حالة نظرية-ت، إذا كان فاعلٌ ما يفضِّل أ على ب، ويفضِّل ب على ج، فهو إذن يفضِّل أ على ج. والكائنات التي لا تَفِي بهذا الشرط — لا بمعنى أنها تُبدِي تفضيلاتٍ متعدِّية، بل بمعنى أنها لا تُبدِي أي شيء يمكن التعرف عليه على أنه مخزون اختيارات متعدية على نحوٍ ملائم — فلن تَفِي بنظرية-ت، ولا يمكن أن يُقال إن لها تفضيلات بمعنى الكلمة. (يمكن أن تتغير التفضيلات، بطبيعة الحال، وبالمثل يمكن أن تتغير مواقع الأشياء. والافتراض التبسيطي هنا هو أننا معنيون فقط ﺑ «شرائح زمنية» time-slices من القطاعات، أي تلك القطاعات في أوقات معينة.)

إذا شئنا أن نتجنب الخلط، فإن علينا أن نميز ضوابطَ داخليةً على نظرية-ت (أو على منظومةٍ إحداثية) وأوصاف الفاعلين (أو المناطق الجغرافية) بلغة النظرية (أو المنظومة الإحداثية). حين تطلق منظومة إحداثية، فأنت تستخدم بِنيةً جغرافيةً قويمةَ المَسلَك، يمكن لملامحها أن تُوصَف بمعزِلٍ تام عن ملامح العالَم الذي تُفرَضُ عليه. وبالمثل، حين نطلق نظرية-ت فنحن نستخدم إطارًا يمكن أن يحدَّد تجريديًّا، وبمعزِلٍ عن تطبيقاته. في تطبيق منظوماتٍ إحداثية أو نظريات تأويل فنحن نُغَشِّي على قطاعٍ من الأشياء بِبِنيةٍ تَكشِف البنيةَ في القطاع المستهدَف. إن القطاع المستهدَف نفسَه يوجد على نحوٍ مستقل، مثلما توجد الأشياء والخواص التي تُشَيِّده. ومع ذلك فإن وَصفَنا لهذا القطاعِ يعكس تلك الملامحَ المستقلة وملامحَ المنظومة الإحداثية أو نظرية التأويل، معًا، في الحدود التي توصف بها تلك الملامح. وينبغي ألا نخلط بين ملامح الواحدة وملامح الأخرى. وأن نقع في ذلك سيكون أشبهَ بأن نخلط بين خطوط الطول وخطوط العَرض في خريطة للملامح الفيزيائية للأرض. إذا كان ديفيدسون على صواب، إذن فإن تخيُّلَ أن الحديثَ عن المحتوى القضوي للاعتقادات والرغبات والمقاصد هو حديثٌ عن مكوِّناتٍ ميكانيكية للفاعلين، هو وقوعٌ في خطأ من هذا النوع.

تأمَّلْ حقيقةً جغرافيةً بسيطة، كَون ميلووكي شمال شيكاغو. هذه الحقيقة تعتمد على تطبيق وتَوَجُّهِ منظومةٍ إحداثية، وعلى ملامح مستقلة عن المنظومة لِمنطقةٍ معينةٍ على كوكبِنا. تخيل الآن أنك تَعزو إليَّ، صائبًا، اعتقادَ أن النمور مخططة. إن صدق هذا العَزو يرجع إلى تطبيق نظرية-ت، وإلى ملامحَ لِي مستقلةٍ عن النظرية، وهي جوهريًّا تكويني النزوعي. من وجهة نظر ديفيدسون، فأنا أمتلك اعتقادات ذات محتويات قضوية راسخة في شيءٍ ما بطريقةٍ تشبه امتلاكَ المدنِ مواقعَ. إننا لا نتخيل أن المواقع لديها «تحقيقات» realizations فيزيائية محددة (أو أنها «متعددة التحقيق» multiply realizable)، ولا نحن ميالون لأن نفترض أن المواقع إذا لم تكن فيزيائية فلا بد أن تكون لا فيزيائية. كذلك الحال بالنسبة للمحتويات القضوية من اعتقادات ورغبات ومقاصد.

نحن نَعزو مواقفَ قضويةً للفاعلين الذين يتفق سلوكُهم (الفعلي والممكن) مع هذا العَزو. من المحتمل أنها هكذا تتفق لأن العَزو يتبيَّن، إذا صَحَّ، مكوِّناتِ ميكانِزم مسئول عن السلوك. (هذا هو صنف الصورة التي تؤيدها النظريةُ التمثيلية في العقل؛ الاعتقادات والرغبات هي جملٌ في لغة الفكر تشغل «صناديق الاعتقاد» و«صناديق الرغبة».) ولكن، إذا كان ديفيدسون على حق، فقد لا تكون ثمة حاجة لافتراض ذلك. فعَزو موقفٍ قضوي ونظرية التأويل التي تسوِّغ هذا العَزو لا يلزمها أن تقدم تفسيرات شبه ميكانيكية للسلوك، مثلما أن الحديث عن موقع مدينةٍ أو اتجاهها بالنسبة لمدينة أخرى لا يلزمه أن يقدم تقييمًا موضِّحًا جيولوجيًّا لتضاريس المنطقة.

إذا كان الأمرُ كذلك، فإن ذلك التفسير الخاص بالسلوك الذكي للفاعلين الذي نُحَصِّله بتقدير اعتقاداتهم ورغباتهم ومقاصدهم ليس تفسيرًا وظيفيًّا أو ميكانيكيًّا أو تفكيكيًّا، بل هو تفسير ينجم نجاحُه من كشفه ووصفه، بطريقةٍ منهجية، بِنيةَ ظاهرةٍ معقدة. لمثل هذه التفسيرات قوةٌ تنبؤية، لا لأنها تكشف ميكانيزماتٍ خفية، بل لأنها تنطبق على منطوقاتٍ وأعمالٍ ممكنة، ومنطوقاتٍ وأعمالٍ فعلية أيضًا. وبتعبيرٍ أكثر دقة، توضِّح تفسيراتُ الموقف القضوي، وبالتالي تفسِّر جزئيًّا، بنيةَ أنواعٍ معينة من المنظومات النزوعية. تعمل هذه التفسيرات، لا لأنها تبين التروسَ والروافعَ في الآلية التحتية، أو لأنها تميط اللثامَ عن تَشاكُلٍ بين العناصر المفسِّرة ومكونات الميكانيزم، بل تعمل لأنها تكشف منظومةً مشيَّدةً من الاستعدادات (النزوعات) قابلة للوصف بواسطة قطاعٍ مفهومٍ سلفًا فهمًا جيدًا، قطاعٍ مخطَّط في نظريات صدق ونظريات قرار.

حين نضم كلَّ هذا معًا نستطيع أن نقول إنه بقدر ما يمكن أن نكون عُرضةً لعَزو مواقف قضوية، فإن سلوكنا، أو بالأحرى الأساس النزوعي لسلوكنا، يتفق مع صنفٍ معين من النظرية. واتفاقه على هذا النحو يُنتِج نوعًا من التفسير له. ليس التفسيرُ رغم ذلك ميكانيكيًّا أو تفكيكيًّا أو وظيفيًّا؛ فهو يختلف نوعيًّا عن مثل هذه التفسيرات. والخطأُ الذي يرتكبه كثيرٌ من فلاسفة العقل وبعضُ علماء النفس هو تخيُّل أن نظرية-ت تصف ميكانيزمًا، ربما على مستوًى وظيفي، تنطبق مكوناتُه على عناصر النظرية.

التسبيب العقلي والمواقف القضوية

تبقى ثمة مشكلة. من وجهة النظر التي نَسَبتُها لديفيدسون، فإن التفسيرات التي تُهِيب بالمواقف القضوية هي تفسيراتٌ غير ميكانيكية. هذه التفسيرات تُوضِّح السلوك الإنساني باستحضار بِنيةٍ تحددها نظريةُ تأويلٍ ملائمة. ولكن إذا كان هذا، أو شيءٌ مثل هذا، صحيحًا، فسيبدو في تَعارُضٍ مع فكرةٍ لديفيدسون، وهي فكرةُ أن الأسبابَ عِللٌ١٩  reasons are causes، أي إن الاعتقادات والرغبات والمقاصد لا تفسر الأفعالَ إلا بِقَدر ما تكون عِلَلًا لِتلك الأفعال.

افترِضْ أن إدارتَكَ مفتاحَ الكهرباء تفسره رغبتُك في إنارة الحجرة، مصاحِبةً لاعتقادِك بأن إدارة المفتاح سيضيء الحجرة. افترِضْ أيضًا أن نجاح مثل هذا التفسير لا يعتمد على تحديد ميكانيزم داخلي مسئول عن إدارتك المفتاح. رغم أن نجاح التفسير يعتمد بلا شك على حالتك النيورولوجية (وعلى غير ذلك الكثير)، فإن نجاحه لا يعتمد بالضرورة على وجود تناظرٍ بسيط بين مكوِّنات تفسيرِك، وبخاصة المواقف القضوية، وأنواع معينة من الحالة أو الحدث النيوروني. إذن حتى إذا كان التفسير صحيحًا، فإن هذا لا يتضمن أي شيء عن صفة الميكانيزمات المسئولة عن سلوكِك، عدا أنها يجب أن تكون بحيث تقدر على إحداثِ سلوكٍ من هذا النوع.

يتضمن التفسيرُ، بعدُ، مكوِّنًا عِلِّيًّا هامًّا. إنه جزءٌ من الإطار التفسيري المنشود حين نُهيب بالاعتقادات والرغبات والمقاصد أن الفاعل قد يكون لديه سببٌ (عقلي) reason، س، لأن يؤدي فعلًا معينًا (حيث يتكون السبب من زوج «اعتقاد-رغبة») ويؤدي الفعل من أجل سبب، ولكن لا يؤدي الفعل من أجل السبب س. في هذه الحالة، فإن س لا يعلِّل لسلوك الفاعل لأنه ليس جزءًا من السبب الذي يؤدي بالفاعل إلى أن يفعل ما يفعله.

تخيَّلْ أنك تريد أن تتناول إفطارًا صحيًّا، وتعتقد أنك يمكن أن تتناول إفطارًا صحيًّا بأن تأكل طبقًا ساخنًا من الكرنب المسوَّق على المائدة أمامك. افترِضْ، إضافةً إلى ذلك، أنك تريد أن تتعلم الصرامةَ الذاتية، وتعتقد أن تناولك طبقًا من الكرنب المسوَّق للإفطار سيُسهم في هذا الهدف. في هذه الحالة، فأنت قد تعمل على تناول إفطارٍ صحي؛ تأكل طبقًا من الكرنب المسوَّق لأنك تريد أن تأكل إفطارًا صحيًّا، لا لأنك تريد أن تتعلم الصرامة الذاتية. ومن الصعب أن نفهم «لأن» هنا على نحوٍ غير عِلِّي. الحق، كما قد أكد ديفيدسون نفسه، أن دور المواقف القضوية في تفسيرات السلوك تبدو عِلِّيَّةً قلبًا وقالبًا؛ تفسيرات المواقف القضوية للأفعال هي تفسيراتٌ بِلُغةِ الأسباب (العقلية)، والأسبابُ عِلَل.

افترِضْ أن هذا صحيح. إن صِحَّتَه لا تعود بالضرورة إلى عَزو اعتقادٍ ورغبة — أي عَزو أسبابٍ (عقلية) — ينتخب أجزاءً من الميكانيزم العِلِّي المسئول عن فعلك لما تفعله. ما تفعله يعتمد على الطابع النزوعي (الاستعدادي) لجسمِك. هذا الطابع النزوعي هو ما يُجيز في النهاية عَزو اعتقادات ورغبات. وكما رأينا، وفقًا لديفيدسون، فإن عَزو مواقف قضوية يتضمن تطبيق شيءٍ ما أشبه بنظرية تأويل، بنظرية-ت. تقدم هذه النظرية وصفًا واضحًا لمنظومةٍ نزوعيةٍ معقدة.

كيف يساعدنا هذا في التوفيق بين وجهة نظر ديفيدسون عن عَزو الموقف القضوي، وبين قناعتنا بأن المواقف القضوية تتجلى في التفسيرات العِلِّية للأفعال؟ تأملْ لحظةً متضمَّنات فكرة أن نظريات-ت تَصدُق على الفاعلين بفضل البِنية النزوعية (الاستعدادية) لأولئك الفاعلين. يمكن للاستعدادات أن توجد، يمكن أن تجيء وتذهب، دون أن تظهر للعَلَن. قد يمتلك الشيءُ استعداداتٍ محددة لا يتبيَّن مظهرُها في مَسلَك الشيء. ومن الممكن أن يظهر واحدٌ من هذه الاستعدادات دون أن تظهر بقية الاستعدادات. قد يمتلك شيءٌ ما خاصتين متمايزتين؛ خاصة١ وخاصة٢، كل منهما، بالتوافق مع خواص الشيء الأخرى (وخواص الأشياء القريبة) تجعل الشيء يميل إلى التحول إلى اللون الأخضر عندما يُسَخَّن. عندما يُسَخَّن الشيءُ، وبالتالي يتحول إلى اللون الأخضر، فقد يكون هذا بسبب امتلاكه خاصة١، أو امتلاكه خاصة٢، أو امتلاكه كلتا الخاصتين ١ و٢. نحن قد نجد مشكلة في تحديد ما إذا كانت الخاصة١ أم الخاصة٢ أم كلتا الخاصتين هي المسئولة عن تغير اللون، ولكن هذا شأنٌ آخر.

والآن، ماذا عن الفعل؟ أنا أفسِّر فعلًا معينًا، الْتهامَك طبقًا من الكرنب المسوَّق، بِذِكرِ رغبتِك في أن تتعلم الصرامةَ الذاتية. وأنا إذ أفعل ذلك (كما نفترض) أفسِّر سلوكَك بِفرضِ إطارٍ تقدمه نظرية-ت. إن مسلكَك يَفِي بهذه النظرية. ولكنْ لاحِظْ، إن نظريةَ تأويلٍ بمقتضاها أنت تفعل بناءً على رغبتك في أن تتعلم الصرامةَ الذاتية، غيرُ نظريةِ تأويلٍ بمقتضاها أنت تفعل بناءً على رغبتك في تناول إفطارٍ صحي. صحيحٌ أن سلوكك هنا والآن، أي تناولَك طبقًا من الكرنب المسوَّق، يتفق مع كلٍّ من النظريتين، ولكن هذا مجرد جزءٍ مما تتناوله النظرية. تتمدد نظريات-ت على نطاقٍ من المنظومات النزوعية. والتكوين النزوعي للفاعل الذي يتفق سلوكُه مع النظرية الأولى يختلف عن التكوين النزوعي للفاعل الذي يتفق سلوكُه مع النظرية الثانية. ثمة، بالمناسبة، عقبةٌ إبستمولوجية يجب التغلب عليها في اكتشاف أي النظريتين هي الصحيحة. ولكن، كما في حالة المنظومات النزوعية غير العقلية المعتادة، فهذه مسألةٌ منفصلة.

إن التفسيرات التي تُهيب بالمواقف القضوية هي تفسيرات حساسة للفروق النزوعية (ومن ثم العِلِّية) في الفاعلين الذين تحاول أن تفسر سلوكَهم. وهذا، إذا كان ديفيد على صواب، لا يعتمد بالضرورة على وجود أي شيء من قبيل تناظر واحدٍ لواحد بين المواقف القضوية والمكوِّنات الجسمية. في الحالة العادية، فإن رغبتك في أن تفعل بطريقةٍ معينة لا تفسِّر فعلَك هكذا إلا إذا كنتَ حقيقًا ألا تفعل الذي فعلتَه لو كنتَ تخلو من هذه الرغبة؛ وذلك لأنك لو كنتَ فاقدًا الرغبة، أي لو كنتَ بحيث تكون نظرية-ت التي تَعزو لك الرغبةَ غير صحيحة، لكانت حالتك النزوعية بحيث لن تسلك بالطريقة التي سلكتَ في الحقيقة بها.

وماذا عن حالةٍ مثل حالة تناولك طبقًا من الكرنب المسوَّق لديك فيها سببان (عقليان) قد يُعَلِّل أيٌّ منهما لسلوكِك؟ في مثل هذه الحالات، قد يكون من الخطأ الكبير أنك لو كنت مفتقرًا لأحد السببين لما كنتَ أكلتَ الكرنبَ المسوَّق؛ إذ لو كنتَ تفتقر إلى السبب الأول، فما زلتَ تمتلك الآخر، وهذا الآخر قد يُعَلِّل لسلوكك. يقدِّم هذا المثال تذكِرةً بأن استخدام عبارات شرطية لا وقائعية٢٠  counterfactual وخائلية subjunctive لِحَصر الطبائع النزوعية للأشياء يُنتِج — في أفضل الحالات — نتائجَ جزئية. ويتعين علينا أن نهيب بالفروق النزوعية الفعلية بين الحالتين.

تأمل اثنين من الفاعلين، واين ودواين، كلاهما يضمر الرغبتين المذكورتين آنفًا؛ الرغبة في تناول إفطار صحي، والرغبة في تعلم التحكم في النفس. يعتقد كلٌّ من واين ودواين أنهما يمكن أن يُشبِعا هاتين الرغبتين عن طريق أكل طبق من الكرنب المسوَّق، وكلاهما يمتلكان أسبابًا لأكل الكرنب المسوَّق. تخيلْ أن كلًّا من واين ودواين يأكل طبقًا من الكرنب المسوق؛ واين يفعل ذلك لأنه يريد إفطارًا صحيًّا، ودواين يفعل ذلك لأنه يريد أن يتعلم التحكم في النفس. فرغم أن كلًّا من واين ودواين يميل (ينزع) إلى أكل كرنب مسوق، فإنهما يختلفان نزوعيًّا؛ يختلف الأساس النزوعي لِفِعل واين عن الأساس النزوعي لفعل دواين. وإنما بفضل هذه الاختلافات يَفِي واين ودواين بنظريتين تأويليتين متمايزتين.

إذا كان لدى واين ودواين نفس الرغبات، فلماذا يجب أن نتخيل أنهما يستوفيان نظريتَي تأويلٍ متمايزتين؟ إن الرغبات لَتختلف في الشدة. فقد نتوق أنت وأنا إلى شطيرة برجر كنج، ولكن تَوقك قد يفوق تَوقي، على الأقل بهذا المعنى؛ إذ لرغبتك قوة دافعية داخل اقتصادك النفسي أكبر مما لرغبتي داخل اقتصادي النفسي. نحن لا يلزمنا أن نلتفت إلى السؤال عما إذا كان من الممكن مقارنة قوة الرغبة بين الفاعلين. وكل ما يهم هنا هو أنه داخل الفاعل الواحد فإن القوة النسبية للرغبات قد تتفاوت كثيرًا. هذا شيء متأصل في مفهومنا للرغبة، وهو منعكس في نظرية القرار، تعكسه المنافع المحَصَّصة لنتائج الأفعال، التي هي موضوعات الرغبة.

ثمة جزء آخر من الجهاز التصوري المرتبط بالرغبة، وهو المبدأ القائل بأنه عندما يفعل الفاعلون عن عمد فإنهم يفعلون ما يرغبونه الرغبة الأشد. من الممكن إذن بالنسبة لواين ودواين أن يكون لهما رغبتان متماثلتان، ولكن يمكن لهاتين الرغبتين أن تختلفا في مستويَي القوة الدافعية لكل منهما عند كل فاعل. عندما يكون الأمر كذلك يمكن لرغبات مختلفة أن تُسَيِّر الأمور؛ فيتناول واين ودواين كلاهما طبقًا من الكرنب المسوق، ولكن واين يفعل ذلك على أساس رغبته في إفطارٍ صحي، ودواين يفعل ذلك على أساس رغبته في أن يتعلم التحكم في النفس. تقدِّم نظريةُ القرار طريقةً في تمييز واين ودواين، وهذه الطريقة تنعكس في نظريتَي-ت اللتين نطلقهما في تأويل سلوكهما. وكلتاهما تتأسس في المنظومتين النزوعيتين اللتين تتبطنان فِعلَيْ واين ودواين.

مشكلة النكوص

لقد كنا نتفحص فكرة ديفيدسون القائلة بأن عَزو المواقف القضوية، وتفسير السلوك بالإحالة إلى المواقف القضوية، عبارة عن فَرض مقياس على مجالٍ معقد، بطريقةٍ تُبرِز مكوِّنًا بنائيًّا من ذلك المجال. وعَزو اعتقادات ورغبات يشبه في هذا الجانب عَزوَنا الحرارةَ أو الطولَ أو الموقع. فنحن في كلتا الحالتين نستحضر إطارًا وصفيًّا بناؤه دقيق ومنظَّم ومفهوم مسبقًا فهمًا جيدًا. في حالة الحرارة والطول، نحن نفيد من خواص الأعداد المنظمة في أنساق بديهية بسيطة. وفي حالة المواقف القضوية، نحن نستغل الملامح السيمانتية للبنية العبارية للغتنا بالتناسق مع نظرية في الاختيار العقلاني.

والتفسيراتُ التي تهيب بالمواقف القضوية، شأن التفسيرات بعامة، إسقاطية، ومن ثم تنبؤية. إلا أن هذا (إذا صَح ديفيدسون) ليس بسبب تخطيطها لمكوناتِ ميكانيزمٍ مسئولٍ عن السلوك، بل بسبب انطباقها على فاعلين بفضل البِنية النزوعية الإجمالية لأولئك الفاعلين. نحن عُرضةٌ لأن تُضِلَّنا ممارستُنا اليومية لتفسير سلوك الفاعل في ظرفٍ معينٍ بِعَزو اعتقادات ورغبات ومقاصد فردية لهذا الفاعل، فيبدو كما لو أن المكونات المحددة للفاعل تنطبق على كلٍّ من هذه الأشياء. (وهكذا تتبدى جاذبية فكرة فودور عن لغة الفكر والنظرية التمثيلية في العقل.) غير أنه وفقًا لديفيدسون، يستند عَزو موقفٍ قضوي فردي إلى نظريةِ تأويلٍ مضمَرة. فَعَزو اعتقاد أو رغبة أو قصد يَصِح فقط في حالة ما إذا كانت تتضمنه نظرية-ت يَفِي بها الفاعل. يبدو هذا موازيًا لِعملية القياس، ولاستخدامنا للمنظومات الإحداثية، فنحن إذ نقيس أطوالَ أشياء معينة فنحن نستجلب منظومات أعداد، وإذ نحدد مواقع الأشياء في المكان نَفرِض منظومةً إحداثية. وليس بوسعنا تحديد أطوالٍ أو مواقع بمعزِلٍ عن مثل هذه المنظومات.

يُطلَق أحيانًا على عَزو مواقف قضوية «السيكولوجيا الشعبية»٢١  folk psychology. والسيكولوجيا الشعبية، شأنها شأن الطب الشعبي، مفيدة، بل لا غنى عنها. لا تهدف أيٌّ من الممارستين الشعبيتين، رغم ذلك، إلى كشف تفاصيل الميكانيزم التحتي، ولا النجاح الظاهر لكلٍّ منهما يعتمد على كشف هذه التفاصيل. ليس يعني ذلك بالضرورة أن السيكولوجيا الشعبية على وشك الإزاحة (أو الاستبعاد/الحذف elimination) بواسطة علم الأعصاب. ليس ثمة تنافس بين السيكولوجيا الشعبية وعلم الأعصاب، مثلما أنه لا تنافس هناك بين فن رسم الخرائط cartography وعلم الجيولوجيا.
هل هذه هي نهاية القصة؟ هل قدمنا نظريةً كاملةً في العقل؟ كلا بالتأكيد. فنظرية ديفيدسون لا تقول شيئًا عن الجانب الحسي لحياتنا الواعية. وحتى لو ركزنا على طبائعنا القصدية — أفكارنا مثلًا — فمن الواضح أن نظرية ديفيدسون لا يمكن أن تكون كل القصة. والحق أن هذا مضمَرٌ في القصة ذاتها، فتمتُّع الفاعلين بمواقف قضوية (اعتقادات، رغبات، أسباب فعل)، وفقًا لديفيدسون، يتوقف على عملية تأويلهم. وبالضبط مثلما أن منظومةً إحداثية ما هي شيءٌ نَفرِضه على منطقةٍ من المكان، فإن امتلاك فاعلٍ ما لاعتقادات ورغبات يرتبط بفرضِ نظرية-ت على هذا الفاعل. إلا أن من البيِّن أن فعل التأويل نفسه يتضمن امتلاك المؤَوِّلِين أنفسِهم مواقفَ قضوية. وهذا يشير إلى نكوصٍ regress مُصلَتٍ منذ بدايةِ عرضِنا لديفيدسون؛ فمواقفِي القضوية تعتمد على تأويلك لي، ومواقفك القضوية بدورها تعتمد على تأويلِ شخصٍ ما لك، ومواقف هذا الشخص القضوية تعتمد على شخصٍ ما آخر، وهكذا. كيف يمكن لهذه العملية أن تَنْفَضَّ؟

ثمة جوابان على هذه المشكلة جديران بالذِّكر؛ الأول أن فكرة ديفيدسون هي أن ممارسة إطلاق نظريات-ت وعزو مواقف قضوية تتطلَّب مجتمعًا من العازين (مَن يَعْزُون). تصورْ مجتمعًا يتكون من شخصين، أنتَ وأنا. ليست الفكرة أنني لديَّ مواقف قضوية بإذنٍ من استحضارك نظرية-ت لِتُعَلِّل لما أفعل، وأنك لديكَ مواقف قضوية من مصدرٍ ما ثالثٍ. إنما وجهُ الأمر أننا يُؤَوِّل بعضُنا بعضًا، يؤوِّل أحدُنا الآخر. نحن ننخرط في ممارساتٍ ما إن تصل إلى مستوًى ملائم من التعَقُّد حتى تشكِّل تطبيق نظريات-ت.

رغم أن امتلاك الفاعلين لمواقف قضوية يعتمد على أن يُؤَوَّلوا، فإن معنى «يعتمد» هنا ليس معنًى عِلِّيًّا. إن العلاقة بين إطلاقِك نظرية-ت لي وبين امتلاكي مواقف قضوية ليست علاقةً عِلِّية، مثلما أن تطبيق منظومةٍ إحداثيةٍ على سطح الأرض ليس عِلِّيًّا ولا يجعل الأرضَ تمتلك ملامحَ جديدة.

إذا بدا لك أن ثمة مبالغة في التوكيد (كما يفعل ديفيدسون) على أن امتلاكك مواقف قضوية يعتمد على مكانِك في مجتمعٍ من المؤَوِّلين، فتأمل هذا الأنالوجي. تخيلْ عالمًا لا يحتوي على فاعلين واعين، هل أي شيء في هذا العالم طوله ثلاث أقدام؟ حسنٌ قد تميل إلى أن تقول «نعم» بمعنًى معين، و«لا» بمعنًى آخر. فالعالم الخالي من فاعلين واعين يمكن أن يحتوي على أشياء من شأنها إذا عُرِضَت على ياردات في عالمنا أن تحذوها تمامًا. غير أن كون شيءٍ ما ثلاث أقدامٍ طولًا يعتمد على وجود مُواضَعةٍ قياسية، وهذه تفترض مسبقًا وجود فاعلين أذكياء. افترض أن نظام الأقدام والبوصات الذي نستخدمه الآن لم يُخترَع قَط. هل من الواضح إذ ذاك أن الأشياء التي نصفها الآن بأن طولها ثلاث أقدامٍ ستكون ثلاث أقدامٍ طولًا؟ وهل من الواضح أن صِنوًا لك جزيئًا جزيئًا يقبع في عالمٍ خِلوٍ من فاعلين آخرين مثلك، يمكن أن يمتلك نفس المواقف القضوية التي تمتلكها أنت؟

وثمة جوابٌ ثانٍ على مشكلة النكوص يتخطَّى بنا ديفيدسون. من الواضح أن التفكير شيءٌ أكثر من امتلاك مواقف قضوية بمعناها الصارم عند ديفيدسون. قد يكون ديفيدسون على صواب في مسألة المواقف القضوية، ولكن قد يكون صوابًا أيضًا أن ضروب القدرة المطلوبة لامتلاك اعتقادات ورغبات وأسباب للفعل تتضمن مجموعة من القدرات العقلية غير القضوية المهمة. فرغم أن كثيرًا من تفكيرنا له نكهةٌ لغوية، فإن كثيرًا منه ليس كذلك. النجار، مثلًا، الذي يشيِّد خزانةً، يستخدم الخيالَ المكانيَّ لكي يرى كيف ستنطبق الأجزاء بعضها مع بعض. من البَيِّنِ أن هذا الخيال غير قضوي وغير لفظي، إنه يشبه كيفيًّا نطاقًا من الخبرات البصرية واللمسية المألوفة للنجار.

أرى أن مثل هذا التفكير «اللاقَضَوِي» يتَبَطَّن الفعلَ الذكي بعامةٍ، ويتبطن بصفةٍ أَخَصَّ ضروبَ الممارسة اللغوية التي يركز عليها ديفيدسون. من السهل أن نَعمَى عن مثل هذه الأشياء عندما نَشرَع في الكتابة عن هذه الموضوعات أو مناقشتها. أنت تستخدم اللغة (وهل ثمة غير ذلك؟) لكي تخبرني عما تفكر فيه، ولكي تصف أفكاري، غير أنه لا يترتب على ذلك بالضرورة أن أفكارك الفعلية، أو أفكاري، هي لغوية أو «قضوية» الطابع. حتى عندما تكون أفكارُنا لغويةً على نحوٍ صريح — عندما نتحدث إلى أنفسنا — فمن الممكن المُحاجَّةُ بأن هذا في الواقع شكلٌ من الخيال، الخيال اللفظي.

في الفصل القادم سيكون لديَّ المزيد لكي أقوله عن الخيال وعن التفكير «اللاقضوي»، وبِحَسبِي هنا أن أومئ إلى أن الممارسات التأويلية التي يعرضها ديفيدسون تطفو على سطح بحرٍ من الصفة العقلية mentality لا تقول نظريتُه شيئًا عنه. يُضَيِّق ديفيدسون مجالَ بحثِه، ولكن نحن غير ملزمين باتباعِه في ذلك. وإذا كنا نأمل في فهم العقل ككل، فإن من الأفضل ألا نَتَّبِعَه.

دينيت والموقف القصدي

يؤيد دانييل دينيت مقاربةً إلى العقل قد تظهر للوهلة الأولى مشابهةً لمقاربة ديفيدسون. هذا المظهرُ مضلِّلٌ كما سوف يتضح. يرمي دينيت إلى أن يقدِّم وصفًا للعقل مستنيرًا علميًّا. وهو يؤكد، مثل ديفيدسون، على التفرقة بين ممارسات عَزو موقفٍ قَضَوي وبين المحاولات المنهجية لفهم الآليات المسئولة عن الفعل الذكي. إلا أن دينيت، على خلاف ديفيدسون، يعتبر أن عَزوَ مواقفَ قضوية، اعتقاداتٍ ورغباتٍ ومقاصدَ، لا يقيده إلا متطلَّبٌ لَيِّنٌ من «العقلانية». إن بوسعنا أن نعزو، على نحوٍ صحيحٍ ومشروع، مواقفَ قضوية إلى أي منظومة — حيوان أو نبات أو معدن — يمكن أن يُؤَوَّل سلوكُها على أنه عقلاني في ضوء «أهداف» المنظومة. والنتيجة هي مقاربةٌ «أداتية»٢٢  instrumentalist، بشكلٍ متعمَّد، إلى العقل (وسوف تبزغ دلالةُ كل هذا في العرض التالي).

الموقف القصدي

يذهب دينيت إلى أن امتلاك مخلوقٍ من المخلوقات عقلًا يعني بالتحديد أن من المفيد عمليًّا أن نعتبره يمتلك عقلًا. يصل ذلك من الوجهة العملية إلى حد معاملة هذا المخلوق كواحدٍ منا، ككائنٍ لديه اعتقاداتٌ معينة (صحيحة في الغالب) عن العالم، ورغباتٌ في أشياء معينة، ويعمل بعقلانية في تلك الاعتقادات والرغبات. فهذا طائر أبو الحناء وأنت تشاهده يصطاد الديدان في الحديقة. إنك تفسر سلوكَ أبي الحناء — أي تُضفِي عليه معنًى — بأن تفترض أنه جائعٌ، ومن ثم يلتمس الطعام، وأنه يعتقد أن الديدان طعام، وأنها تُلتمَس في الحديقة، وبالتالي فهو يرغب في اصطياد الديدان في الحديقة. صفوةُ القول أن أبا الحناء يسلك في ضوءِ اعتقاداتِه ورغباته.

ونحن في تفسير سلوك أبي الحناء بالإحالة إلى الاعتقادات والرغبات، نتبنَّى ما يسميه دينيت «الموقف القصدي» intentional stance. إنه الموقف الذي نتخذه كيما نضفِي معنًى على سلوك أي مخلوق ونتنبأ به. لماذا يضخ ذلك الأخطبوطُ مادةً حِبرِيةً سوداء؟ لأنه يعتقد أنه قد رَصده أحدُ الضواري، وأنه يريد أن يحمي نفسَه، ويعتقد أنه يستطيع ذلك بوضع غمامةٍ قاتمةٍ بينه وبين الضاري، وأن ضَخَّ سائلٍ حِبرِي سيُسدِل غمامةً بينه وبين الضاري. وهذه الخلية الدموية البيضاء لماذا تطوِّق ذلك الميكروب؟ لأن الخلية تريد أن تدمر الغزاة، وتعتبر أن الميكروبَ غازٍ، ومن ثم تريد تدميرَه. من جانبه، يريد الميكروب أن يَغزو كرةَ دم حمراء بواسطة السباحة عشوائيًّا في مجرى الدم، ومن ثم يسبح عشوائيًّا.

هل طيورُ أبي الحناء والأخطبوطات وخلايا الدم البيضاء، لديها حقًّا اعتقاداتٌ ورغبات؟ هل مثلُ هذه الكائناتِ حقًّا تسلك عقلانيًّا، أم أنها تسلك فقط كما لو كان لديها اعتقاداتٌ ورغبات (وسلكت في ضوئها سلوكًا عقلانيًّا)؟ يرى دينيت أن أسئلةً من هذا الصنف هي أسئلةٌ مُمعِنةٌ في الخطأ، فامتلاك اعتقادات ورغبات لا يعني أكثر من القابلية للتفسير من خلال الموقف القصدي. فإذا ما أمكننا أن نُضفِي معنًى على سلوك ميكروبٍ عن طريق اتخاذ الموقف القصدي تجاه أنشطته، فالميكروب إذن لديه حقًّا اعتقاداتٌ ورغبات، ولديه من ثم أسبابٌ عقلية لما يفعل.

لعلك تعترض وتقول إذا كان هذا مَبلَغ ما يَكونه امتلاكُ اعتقاداتٍ ورغباتٍ وأسبابٍ عقلية؛ إذن فالنباتات لا بد أن لديها أيضًا اعتقاداتٍ ورغباتٍ وأسبابًا عقلية. فشجرةُ الدردار هذه تضرب جذورَها عميقًا في التربة لأنها تريد أن تجدَ ماءً وتعتقد أن الماء يُرجَّح أن يوجَد في أعماقٍ أَبعَد. وأعجب من ذلك ربما، ما الذي يمنع المصنوعات، وفقًا لمثل هذا الرأي، حاسوبَك مثلًا أو حتى ثرموستاتًا بسيطًا، من امتلاكِ اعتقاداتٍ ورغبات؟ إن حاسوبك يُظهِر على شاشته تنبيهَ «نَفِدَ ورقُ الطابعة»؛ لأنه يعتقد أن الطابعةَ قد نَفِدَ ورقُها، ويريد أن يُعْلِمَكَ بذلك. والثرموستات يُشَغِّل الأتون لأنه يعتقد أن حرارةَ الحجرة قد انخفضت إلى ما دون ٦٨ فهرنهايت، ويريد أن يزيدها إلى ٦٨ فهرنهايت على الأقل.

ولعلك تسلِّم بأننا إن كنا نتحدث بهذه الطريقة أحيانًا، فما ذلك إلا على سبيل الملاءمة التعبيرية. فلقد نرَى المُتَعَضِّيات الوحيدةَ الخلية والنباتات والمصنوعات مماثِلةً للكائنات البشرية في جوانب معينة، فنتحدث عنها كما لو كانت مثلنا في تلك الجوانب، وإن لم تكن مثلنا حقًّا، فهي تعمل وفقًا لمبادئَ أكثرَ بساطة. وأن تتخيل أن لديها، حقًّا وصدقًا، اعتقاداتٍ ورغبات، وأن تفترض أن لديها، حقًّا وصدقًا، أسبابًا عقلية لما تعمله؛ هو أن تخلط ما هو استعاري (مجازي) بما هو حَرفِي.

إلا أن دينيت يُصِرُّ على أن عَزو اعتقادات ورغبات إلى المتعضيات الوحيدة الخلية والنباتات والمصنوعات ليس أكثر استعاريةً من عزوها إلى إخوتنا من بني الإنسان. فكل ما يلزم لأيِّ كائن حتى ننسبَ له اعتقاداتٍ ورغباتٍ وسلوكًا عقلانيًّا هو أن يسلك هذا الكائنُ كما لو كان لديه اعتقاداتٌ ورغباتٌ وسلوكٌ عقلاني. ونحن إذ نعزو إلى الكائنات أو الأشياء اعتقادات ورغبات وأسبابًا عقلية، فإنما نتخذ إزاءها «الموقفَ القصدي». إن الموقف القصدي يُمَكِّننا من أن نُضفِي معنًى على ما يبدر منا من سلوك، وأن نتنبأ به، ولكنه لا شأن له بما إذا كانت هذه الكائنات لديها عقولٌ مثل عقولنا.

مثل هذا الصنف من الرأي يؤَوِّل المواقفَ القضوية تأويلًا «أداتيًّا» instrumentalist، بمعنى أن صحة عزو اعتقادات ورغبات وسلوك عقلاني لا تكمن في تطابقها مع وقائع أو حالات مستقلة عنها، بل في فائدة هذا العزو وجدواه العملية، أي في خدمة مصالحنا وتمكيننا من فهم سلوك الأشياء التي نتفاعل معها والتنبؤ به. وبقدر ما تنجح هذه الممارسة في ذلك، فهي مشروعة تمامًا. أما أن نتوقع منها ما يتجاوز ذلك إلى إضفاء «واقعية» على الاعتقادات والرغبات وعقلانية الفعل، فهو خلط وحيودٌ عما ترمي إليه هذه الممارسة.

من الموقف القصدي إلى الموقف التصميمي

إذن امتلاكُك اعتقادات ورغبات وأسبابًا عقلية للفعل هو، ببساطة، كونُك قابلًا لأوصافٍ مصوغةٍ في إطارِ لغةِ الاعتقادات والرغبات والأسباب العقلية. ونحن إذ نطلق مثل هذه الأوصاف نتخذ الموقف القصدي. ونحن لا يَسَعُنا إلا هذا الموقفُ في حالة إخوتنا من بني الإنسان، وكذلك أيضًا لا يَسَعُنا غيرُه حين نحاول أن نتفهمَ الأعمالَ الجريئة للمخلوقات غير البشرية. أما في حالة المتعضيات البسيطة والنباتات والجمادات، فقد نجد أن بوسعِنا أن نستغني عن الموقف القصدي، ونفسر سلوكها عن طريق استيعاب تصميمها. هنالك نكون قد انتقلنا إلى ما يطلق عليه دينيت «الموقف التصميمي» design stance. إننا في هذه الحالة نضفي معنًى على سلوك الأشياء بأن نعتبرها قد صُمِّمَت أو هُندِسَت بطريقةٍ معينةٍ لكي تحقق هدفًا معينًا.

قد تصف أنت سلوكَ حاسوبِك بأن تعزو له شتى الاعتقادات والرغبات، أما المبرمِج، فهو في موقعٍ يجعله يُضفِي معنًى على سلوك الجهاز بالإحالة إلى برنامجه. وبنفس الطريقة يمكن للبيولوجي أن يفسر سلوك كرة الدم البيضاء بالتأمل في تصميمِها من منظورٍ تطوري. أما تصميمُ الحاسوبِ فله أصلٌ بشري، وأما تصميمُ خليةِ الدم البيضاء، أو الجهاز الدوري لضفدعة، أو الآلية التي تتحكم في نمو نباتٍ ما، فإنها تعكس يدَ الأم الطبيعة. وتتكفل الضغوطُ التطورية بالتخلص من الآليات السيئة الهندسة، تلك التي يثبت أنها سيئة التكيف مع البيئة.

والموقف التصميمي لا يستبعد الموقفَ القصدي، فعندما نصل إلى فهمٍ على «مستوى التصميم» لخليةِ دمٍ بيضاء، أو لسلوكِ طائرٍ يتظاهر بالإصابة ليحمي أفراخَه، فنحن لا نختلق دعاوي مُعَدَّةً من زاويةٍ قصدية، إنما نحن، على العكس، نقدِّم تفسيرًا أعمقَ وأمعنَ في دقَّته لصحةِ هذه الدعاوي. مثل هذه التفسيرات تشبه من جهات عديدة التفسيرات الوظيفية. غير أن قدرتنا على أن نتخذ الموقف التصميمي في أمثلة معينة لا يعني، وفقًا لدينيت، أن الاعتقادات والرغبات والأسباب العقلية للفعل هي في حقيقة الأمر حالات وظيفية. نحن نتبنى الموقفَ القصدي عندما يكون اهتمامنا بفهم أو تفسير سلوك كائنٍ ما منصبًّا على الفعل، عندما يكون لدينا مصلحة في التنبؤ، بسرعة ودون بذل جهد كبير، بما عسى هذا الكائن أن يسلك. إذا كان هذا هو هدفنا، يكون الموقف القصدي فَعَّالًا واقتصاديًّا على نحوٍ مدهِش. ونحن لا نلجأ إلى الموقف التصميمي إلا عندما تتغير اهتماماتُنا، وإذا كانت الظروف تجعل من الممكن (أو المرغوب فيه) أن نفحص على نحوٍ أكثر دقة ومنهجية الآليات التي تتحكم في نشاطات كائنٍ ما، هكذا يتبنى الإيثولوجي٢٣ الموقفَ التصميمي في تفسير سلوك نوعٍ معين من الطير، أما الصياد فليس بحاجة إلى ذلك، ولن يفعل، بطبعِهِ، شيئًا من ذلك.
يتبنى السيكولوجيون، والسيكوبيولوجيون، والسوسيوبيولوجيون، والعلماء المعرفيون (علماء الإدراك) cognitive scientists بصفة عامة، بطرائقهم المختلفة، الموقفَ التصميمي تجاه الكائنات البشرية. مرةً ثانيةً، هذا ليس إقلالًا من قيمة الموقف القصدي الذي نتخذه لكي يضفي بعضنا معنًى على سلوك بعض باللجوء إلى الاعتقادات والرغبات والأسباب العقلية، ولا هو، في رأي دينيت، مسألة اكتشاف أن الاعتقادات والرغبات والأسباب العقلية هي في الواقع حالات وظيفية مسئولة عن السلوك. فالاعتقادات والرغبات وعقلانية السلوك المنسوبة لنا قد تكون منسوبة لنا هكذا لأننا نمتلك المعمار الوظيفي الذي نمتلكه. ولكن الاعتقادات والرغبات والأسباب العقلية ليست مكوِّنات قوية عِلِّيًّا لهذا المعمار.

إذن ماذا عساه أن يُشبِه وصفٌ على مستوى التصميم لكائنٍ بشري؟ بوسعك أن تدرك شيئًا من ذلك بأن تتأمل فيما يقوله الباحثون العلميون عن آليات البصر مثلًا، أو الذاكرة، أو معالجة اللغة. تتضمن تفسيرات هذه الأشياء اللجوء إلى تفصيلات جهازنا العصبي؛ مكوِّنات الشبكية والعصب البصري، مثلًا، بطريقةٍ تنظر إلى هذه على أنها تخدم أهدافًا نسقيةً معينة. تعجُّ الكتبُ الدراسية لعلم النفس والبيولوجيا بأمثلة للموقف التصميمي إزاء قدرات الكائنات البشرية وغير البشرية.

وكما قلنا آنفًا، يجب أن نفرِّق هذه المقاربة على مستوى التصميم عن الخط الذي يتخذه الوظيفيون. ينظر الوظيفيون إلى الألفاظ التي تُسَمِّي الحالات العقلية المنشودة في الموقف القصدي على أنها في حقيقة الأمر تُسَمِّي حالاتٍ وظيفيةً للمخلوقات التي تنطبق عليها الألفاظ. ولكننا حين نتبنى الموقف التصميمي، فنحن في الحقيقة نتخذ الموقف القصدي إزاء الآليات التي نعتبرها تُبَطِّن سلوك المخلوقات، فنرى هذه الآليات (بعكس المخلوق ككل) على أن لها أهدافًا، وتعمل لكي تحققها. لعلك تخشى أن هذا يجلب عنصرًا أنثروبومورفيًّا٢٤  anthropomorphic لا مبرِّر له إلى أوصافنا المدقِّقَة للتشغيلات الداخلية للمخلوقات. ولعلك تخشى أيضًا أن الاستراتيجية تسوخ في نوعٍ من النكوص regress؛ إذ نفسر حالاتٍ عقليةً معقدة بوضعِ آلياتٍ لها عينُ المظاهر التي أمَّلنا أن نفسرها. فإلى أي حد تقوم هذه المخاوفُ على أساسٍ سليم؟

من الموقف التصميمي إلى الموقف الفيزيائي

مُؤَدَّى فكرةِ دينيت أننا نُعَلِّل للظواهر العقلية بكشف آليات عصبية قادرة على أن تضطلع بوصف على مستوى التصميم، وصف يتضمن حقًّا رؤية هذه الآليات على أنها تعمل لكي تحقق أهدافًا معينة. غير أن العملية التفسيرية لا تتوقف هنا بالضرورة، فنحن نمضي لكي نفسر هذه الآليات عن طريق اكتشاف آليات أبسط تُكَوِّنها؛ تُعَدُّ شبكيةُ العين، مثلًا، قائمةً بوظيفة ذكية معينة، وهذه الوظيفة تُفَسَّر باكتشاف أن الشبكية تتكون من قضبان وأقماع وخلايا أخرى متنوعة هي نفسُها تؤدِّي وظائفَ ذكية، ولكن أضيق مَدًى وتَوَجُّهًا. وفيما نحن نحلل الأجهزة إلى منظومات مكوِّنة بهذه الطريقة، نصل في النهاية إلى مستوًى تكون الآلياتُ المكوِّنةُ عنده مركَّزةً بحدة، أو أحادية الغرض. عند هذا المستوى من التحليل، قد نتوقع مثلًا أن نجد خلايا مفردة ينحصر عملُها في كشف وجود أو غياب مادة كيميائية معينة وإبلاغ الخلايا المجاورة بذلك.

عندما نصل إلى هذا المستوى، نكون في الواقع قد فَرَغنا من الموقف التصميمي، وانتقلنا إلى الموقف الفيزيائي. وبوسعنا إذ ذاك أن نرى كيف تؤدِّي الخليةُ المتخيَّلة وظيفتَها عن طريق فحص كيميائها. بهذه الطريقة تكون أبحاثُنا جائلةً في اللاعقلي، ونكون بمنأًى من خطر الدور المنطقي. فها هي القصدية، ذلك الملمح من ملامح الأفكار الذي بفضله تكون الأفكار عن، أو حول، شيءٍ أو آخر، تُرَى نابعةً من الكيمياء الحيوية للمتعضيات التي تتمتع بها.

وقبل أن نتناول وصف دينيت للخبرة الواعية، قد يكون من المفيد أن نتوقف ونراجع النظرية كما استَوَت لدينا حتى الآن.

من العقلي إلى الجسمي

هل المخلوقات — أو المصنوعات — التي ننسبُ لها، عادةً ودون تردد، اعتقادات ورغبات وأسبابًا عقلية للفعل، لديها حقًّا اعتقاداتٌ ورغباتٌ وأسبابٌ عقلية؟ هذا سؤال يعتبره الوظيفيون سؤالًا إمبيريقيًّا حقيقيًّا. وهو سؤال قد يحله بالنسبة لمخلوقٍ معين أن نكتشف ما إذا كان هذا المخلوق يشبهنا بما يكفي من الناحية الوظيفية. يرى دينيت أن هذا شيءٌ يُراد به صرف الانتباه (red herring). فامتلاكُ شيءٍ ما اعتقادات ورغبات عبارةٌ عن كون هذا الشيء قابلًا لمثل هذا الوصف. وعندما نتخيل أن الأمر أكبر من ذلك، عندما نتخيل أننا بِعَزو اعتقادات ورغبات وأسباب عقلية نحدد مكوِّنات آلياتٍ مسئولةٍ عِلِّيًّا عن السلوك، فإننا نخاطر بأنسنة (anthropomorphizing) الفجوة، وبالتالي إغفالها، بين عقول الكائنات البشرية وعقول المخلوقات الأخرى.
الفكرة واضحةٌ مباشِرة؛ باتخاذنا الموقفَ القصدي — أي بِعَزو اعتقادات ورغبات وأسباب عقلية للأفعال — فنحن نشهر منظومةً من المقولات التي تُمَكِّننا من تصنيف سلوك المخلوقات والمصنوعات والمنظومات الطبيعية، ومن التنبؤ بهذا السلوك. وتبرير هذه الممارسة يستند، لا إلى السرد الناجح لقائمةِ تروسٍ وروافع مسئولة عن تشغيل ما نريد تفسيره، بل إلى فائدتها وجدواها، فهي كل ما نحتاج إليه لأغراضٍ كثيرةٍ جدًّا. فأنت تفسِّر لرفيقٍ لك ما يعمله حاسوبُك بأن تخبره بأن الحاسوب «يريد» أن يطبع مستندًا، و«يكتشف» أن الطابعة نَفِدَ ورقُها، و«يود» أن يلفِتَ انتباهَك بواسطة الطنين.

والكلمات التي تحتها خط في العبارة السابقة، إذا كان دينيت على حق، غير مستخدمة مجازيًّا، إنها تَصدُق حَرفيًّا على حاسوبك. وأنت تستخدمها بالمعنى عينِه الذي ستستخدمها به في وصف سلوك زميل من بني الإنسان. غير أنك ستكون مخطئًا إذا تخيلتَ أن ما يجري داخل حاسوبك يماثل — من الناحية الوظيفية أو غيرها — ما يجري داخل كائنٍ بشري. إن فهم ما يجعلنا نَتِك يتطلب منا أن نهبط إلى الموقف التصميمي. وعندما نفعل ذلك نبدأ في ملاحظة فروقٍ واسعة بين الحواسيب والكائنات البشرية والمخلوقات الأخرى.

ونحن باتخاذنا الموقفَ التصميمي فإننا، في حقيقة الأمر، نمد الموقف القصدي إلى مكونات المنظومة الذكية. والمشروع محصَّنٌ من نكوصٍ لا قرار له بحقيقة أنه قائم على إمكان أن نصل إلى مستوًى نَسَقِي تشغيله تافه من ناحية التصميم، وإن يكن ربما معقدًا فيزيائيًّا. هنا ننتقل إلى الموقف الفيزيائي و«نَفرغ» من حديثنا ذي المستوى الأعلى عن الاعتقادات والرغبات والأسباب العقلية للفعل. إلا أن وصولنا إلى هذا المستوى، أي تحقيقنا الموقف الفيزيائي، لا يدحض، أو يحل محل، تقييمات موقفَينا القصدي والتصميمي الأعلى مستوًى. وإذا تخيلنا أنه كذلك، فنحن نَعمَى عن النفع والاقتصاد الذي يقدمه الموقفان القصدي والتصميمي. يقدم هذا النفعُ والاقتصاد كلَّ مبرر يلزمنا لكي نتخذ هذين الموقفين.

تمثيل الدرجة الثانية second-order representation

يتقبل دينيت، شأنَ معظم المنظِّرين الذين يرَون إلى أنفسهم كعلماء إدراك cognitive scientists، فكرةَ أن الكائنات البشرية والمخلوقات غير البشرية تعالج المعلومات، وتتناول داخليًّا تمثيلاتٍ للأشياء المحيطة بهم. إلا أن استرشادَ سلوكِ الكائن بتمثيلاتٍ هو شيء، وإدراكَ الكائنِ بأن هذا ما يفعله هو شيءٌ آخر مختلف تمامًا. كما أن الفرق، كما يذهب دينيت، ليس مجرد فرقٍ في الدرجة، بل فرق في النوع، بين قدرةٍ على التمثيل (وهو شيء قد يُحاجُّ بأنه موجود لدى المتعضيات الوحيدة الخلية) وقدرةٍ على تمثيل الدرجة الثانية؛ تمثيل التمثيل، أو تمثيل المرء لنفسِه على أنه يُمَثِّل الأشياء. وَحدَها المخلوقاتُ القادرة على فحصِ تمثيلاتها نفسها (وتمييزِ هذه التمثيلاتِ على أنها خاصتُها)؛ وحدَها المخلوقاتُ القادرة على اتخاذ الموقف القصدي تجاهَ نفسِها، تستحق أن توصف بأنها «تفكر». إن بزاقات البحر العريانة والمخلوقات الوحيدة الخلية تمثل جوانبَ من عوالمها المحدودة، ولكنها لا تفكر. وماذا عن كلاب البيجل٢٥ والدولفينات والشمبانزي؟ مرةً ثانية، قد يُحاجُّ بأن مثلَ هذه المخلوقاتِ تمثل الأشياءَ المحيطةَ بها، ولكن هل تفكر؟ إنها لا تفعل ذلك إلا إذا كانت تمثل بوعيٍ ذاتي، إذا كانت تمتلك قدرةً على تمثيل الدرجة الثانية، قدرة على إدراك (وبالتالي تمثيل) تمثيلاتِها على أنها تمثيلات.

يعتقد دينيت أن هذه القدرةَ الأخيرة لا تظهر إلا مع مجيءِ اللغة. فإذا قبلنا اقتراحَ دينيت السالف بأن التفكيرَ يتضمن قدرةً على تناولِ التمثيلاتِ بوعيٍ ذاتي؛ فسوف يترتب على ذلك أن التفكيرَ يتطلب اللغة. ليس هذا لأن اللغةَ مطلوبةٌ كوسيطٍ للفكر (وهذا هو رأي أنصار لغة الفكر)؛ فالتفكير لا يتعين عليه أن يكون لغويًّا أو شبهَ لغوي، فالتفكير قد يكون صُوَرِيًّا، إنما الصلة بين الفكر واللغة أقل مباشرةً. ليس ثمة ضغوط تطورية من أجل التمثيل الواعي بذاته حتى ميلادِ المجتمعِ المتعاوِن، فالتواصل يقدم سبيلًا لشراكةِ المعلومات. وأهم من ذلك (من منظورٍ تطوري) أن التواصل يقدم للمخلوقات طريقةً لتحويلِ امتلاكِ معلوماتٍ لا يمتلكها الغيرُ إلى ميزةٍ يتمتع بها الممتلِك. فإذا كنتُ أعلم شيئًا ما لا تعلمُه أنت ولا يُحتَمَل أن تعلمَه ما لم أُخبِرْك به، فقد أَتَّجِر بمعلوماتي من أجل منفعةٍ ما، أو، إذا اقتضَت مصلحتي، قد أُضَلِّلُك.

إذا نظرنا إلى المسالك التطورية للأنواع غيرِ البشرية نجد أن أعضاءَ هذه الأنواعِ يقطنون عادةً بيئاتٍ تتصف بأن المعلومة التي يحصِّلها أحد الأفراد منها يمكن أن يحصِّلها كل فردٍ آخر. عندما يختلف الأمر عن ذلك، فقد نجد أن ممارسات الخداع تظهر (كما يحدث عندما تتخذ الشمبانزي خطواتٍ لمنع زملائها من اكتشاف لقمةٍ مخبأةٍ من الطعام). مثل هذه الممارسات تستلزم درجةً من التعقُّد التمثيلي تشكِّل ما يمكن أن نسميه proto-thought (تفكير بدئي). هذه مرحلةٌ على الطريق التطوري لتفكيرٍ مكتمل النضج.

يفتقر الرُّضَّعُ وصغارُ الأطفال لذلك النوع من القدرات الانعكاسية التي يعتبرها دينيت ضروريةً للتفكير الحقيقي. في إحدى التجارب، عُرِضَ أمام طفلٍ دميةٌ متحركة تخبئ لعبةً في مكانٍ معين، ثم تبتعد الدميةُ المتحركةُ عن المشهد، وأثناء غيابها يقوم القائمُ بالتجربة، على مَرأًى تام من الطفل، بنقلِ اللعبة إلى مخبأ جديد. ثم يُسأل الطفلُ أين ستبحث الدميةُ عن اللعبة عندما تعود. يجيب أطفالُ الثلاثة أعوام بأن الدمية ستبحث في المخبأ الجديد، أما الأطفال الأكبر سنًّا فسوف يجيبون بأن الدميةَ ستبحث في المكان الذي خُبِّئَت فيه اللعبة في الأصل. من التفسيرات الممكنة لهذا الفارق أن الأطفالَ الأصغر يمثلون العالم، ولكنهم غيرُ قادرين على تمثيل تمثيلات العالم. وهم بالتالي ليسوا في وضعٍ يتيح لهم أن يمثلوا تمثيلاتِ الدميةِ المتخيَّلةَ للعالم، وهم من ثم غير قادرين على اعتبار الدمية تمثل موضعَ اللعبة تمثيلًا خاطئًا. إن التنبؤ بأن الدمية سوف تبحث في المخبأ الجديد لا يتطلب (أو هكذا يُدَّعَى) من الطفل أن يمثل الدمية على أن لديها تمثيلًا صحيحًا، ومن ثم لا يتطلب من الطفل أن يمثل الدمية على أنها تمثل أي شيء.

إن الحجةَ المضمَرة في الخط الاستدلالي لدينيت لا تقوم على اعتباراتٍ فلسفية خالصة أو قَبْلِية٢٦  a priori تتعلق بشروط التفكير. وإنما وجهُ الأمر أننا عندما ننظر تحت السطح إلى كيف تعمل المخلوقاتُ الأخرى ما تعمله، لا نجد ما يدفعنا على الإطلاق إلى تخيلها تنخرط في تفكيرٍ واعٍ بذاته بمعنًى يشبه وعيَنا بتفكيرنا من قريب أو بعيد. ربما يشير أحدُ الفلاسفة، أو أحدُ أصحابِ الحيواناتِ المدللة، بأنه ما زال من الجائز أن الرُّضَّع، أو الشمبانزي أو الدولفينات أو البيجل، تنخرط في ضروبٍ من التفكير الخفي. يشير دينيت بأن هذا الانطباعَ ما هو إلا نتيجةُ المضي بالموقف القصدي إلى حد الشَّطَط.

وما إن ندرك هذا، وما إن نهبط إلى الموقف التصميمي حتى نتعلم أن الطبيعة قد قدمت حلولًا أكثرَ أناقةً بكثيرٍ للمشكلات التي تضعها البيئة. فإذا كان عليكَ أن تشرع في بناء عش، فسوف تبدأ بغير شك في تخطيط مسار للعمل وتحتفظ به في ذهنك (معدِّلًا إياه إذا لزم الأمر) وأنت تتقدم في مهمتك. وقد تتخيل، مدفوعًا بالموقف القصدي، أن الطائرَ الذي يبني عشًّا يعملُ بالطريقةِ عينِها، إلا أننا حين نبدأ في دراسةِ سلوكِ الطيور بتمعُّنٍ أكثر، نكتشف أن حلولَها المعقدةَ، والعبقريةَ في حالاتٍ كثيرة، لمشكلة بناء العش ليست نتاجَ تفكيرٍ معقد وعبقري، بل نتاج آلياتٍ أكثرَ بساطة. تلك آلياتٌ عبقريةٌ بالتأكيد، غير أنها عبقريةُ الأم الطبيعة لا عبقرية الطيور.

أصناف العقل

رغم أنه من حقنا أن نصف الرضع والشمبانزي والدولفينات وكلاب البيجل وبزاقات البحر، وحتى الثرموستات، على أن لديها اعتقاداتٍ ورغباتٍ وأسبابًا لما تعمله، فإن من الحكمة أن نحتفظَ بتصورِ التفكيرِ للكائنات التي طَوَّرَت، مثلنا، قدرةً على التمثيل الواعي بذاته، أيْ قدرةً على إضمارِ تمثيلاتٍ لتمثيلات. هل يعني ذلك أننا وحدَنا المخلوقاتُ التي لديها عقول؟ يجيب دينيت بالنفي، فامتلاكُ عقلٍ عبارةٌ عن الاهتداء بتمثيلات، ولدينا دلائلُ وافرة على أن نشاطاتِ الرُّضَّع والشمبانزي والدولفينات وكلاب البيجل وبزاقات البحر محكومةٌ بتمثيلاتٍ لأهدافها وظروفها، وربما يكون الأمر كذلك حتى بالنسبة لثرموستاتٍ بسيط.

إلا أن التسليمَ بأن لِبزاقاتِ البحر عقولًا ليس بالتسليم الكثير، على الأقل إذا كان دينيت على حق في مسألة العقول؛ إذ لا يزال بوسعِنا أن نحددَ تمييزاتٍ كيفيةً واسعةً بين أصنافٍ من العقل. يتصور دينيت تراتبًا هرميًّا من العقول؛ في المستوى السفلي هناك العقول «الداروينية» Darwinian البدائية، تلك التي تَهَيَّأَ عتادُها الصلب لكي تستجيبَ بأمثل طرق لِبيئتِها. والعقول الداروينية تمتلكها المخلوقاتُ الأبسط، تلك التي طَوَّرت حلولًا ماهرةً للمشكلات التي تفرضها ظروفُها. في حالةِ المخلوقاتِ الداروينية، قد تكون الخطواتُ من الموقفِ القصدي إلى الموقف التصميمي، ومن الموقف التصميمي إلى الموقف الفيزيائي، خطواتٍ مختصرةً نسبيًّا.
وتأتي على درجةٍ أعلى من المخلوقات الداروينية تلك المخلوقاتُ التي تمتلك «عقولًا سكينرية» Skinnerian minds (نسبةً إلى السيكولوجي السلوكي ب. ف. سكينر B. F. Skinner)، وهي عقولٌ تمتلكها مخلوقاتٌ قادرة على التعلم من خلال الإشراط الإجرائي operant conditioning، المحاولة والخطأ. يُظهِر المخلوق السكينري درجةً من «الطواعية» plasticity العقلية لا تملكها المخلوقاتُ الداروينية الأبسط. بوسع المخلوق السكينري أن يُكَيِّفَ سلوكَه وفقًا للتغيرات في ظروفه، وبذلك يكون لديه تحكُّمٌ في تشكيلِ نفسِه بما يلائم محضنَه البيئي. هذا الدورُ بالنسبة للمخلوقات الداروينية تلعبه الأمُّ الطبيعةُ بشكلٍ حصري، فمثل هذه المخلوقات تشكِّلها الضغوطُ التطورية على نحوٍ تام.
أما «العقول البوبرية» Popperian minds فتُنسَب للمخلوقات التي تَمَكَّنَت من حيلةِ تمثيلِ بيئتِها بطريقةٍ تُمَكِّنها من اختبارِ مآلِ مساراتٍ محددةٍ من الفعل «في رءوسِها»، ومن ثم تتعلم دون أن تكون عُرضةً للخطرِ العتيد، خطرِ الأخطاءِ القاتلة الممكنة.٢٧ (تعمل المخلوقاتُ البوبريةُ بمبادئَ تُذَكِّر بتلك التي يعتقد الفيلسوف كارل بوبر Karl Popper أنها تقع في القلب من العقلانية العلمية. يرى بوبر أن نجاح العلم كمشروعٍ عقلاني يتوقف على رغبة العلماء في الانخراط في «التخمين٢٨ والتفنيد» conjecture and refutation. يقوم العلماء بتخمين (حدس افتراضي) النظريات واختبارها قبالة الدليل. ولا تُقبَل نظريةٌ إلا بقدر ما تَثبُت لاختبارٍ عنيفٍ.) فالكائن السكينري يتعلم من الخبرة، المحاولة والخطأ، أما الكائن البوبري، فإن بِمُكنَتِهِ أن يتعلم باستباق الخبرة. الفئران بوبرية بشكلٍ واضح؛ فالفأر الذي أُتِيح له أن يستكشف متاهةً قد يستخدم معرفتَه بالمتاهة فيما بعدُ في نَيل مكافأة معينة. وهو يقوم بذلك (وفقًا لِعالِم النفس تُلمان E. C. Tolman) عن طريق تشييد «خريطة إدراكية (معرفية)» cognitive map للمتاهة. وما إن يشيِّد هذه «الخريطة» حتى يمكنَه الإفادة منها في اجتياز المتاهة لنيل كُرَيَّة طعام.

«تسأل المخلوقاتُ السكينرية نفسَها: «ماذا عليَّ أن أفعل بعد ذلك؟» ولا تمتلك مفتاحًا لكيف تجيب حتى تكون قد تَلَقَّت ضرباتٍ قاسية. أما المخلوقاتُ البوبرية فإنها تحرز تقدمًا كبيرًا بأن تسألَ نفسَها: «ماذا عليَّ أن أفكر فيه بعد ذلك؟» قبل أن تسأل نفسَها: «ماذا عليَّ أن أفعل بعد ذلك؟» (من الجدير بالذكر أنه لا الكائنات السكينرية ولا البوبرية يلزمها أن تُحَدِّث نفسَها أو تفكِّر هذه الأفكار. إنها ببساطة مصمَّمةٌ لكي تعمل «كما لو» أنها قد سألَت نفسَها هذه الأسئلة.)»

(Dennett, 1996, p. 100)
وعلى قمة تراتب دينيت، تأتي المخلوقات الجريجورية Gregorian creatues (نسبةً لا للبابا جريجوري، بل لِعالِم النفس ريتشارد جريجوري R. Gregory). والكائنُ الجريجوري، شأنه شأن أسلافِه البوبريين، قادرٌ على اختبار الفرضيات في رأسه. والفرق هو أن المخلوقاتِ الجريجوريةَ قادرةٌ على التمثيل عن وعي ذاتي. وهذا يفتح لها آفاقًا جديدةً وإمكاناتٍ غيرَ متاحةٍ للكائنات البوبرية.

والكائناتُ البشرية، وقد أُنعِمَ عليها باللغة مثلما نحن، كائناتٌ جريجورية. ونحن أيضًا، بدرجةٍ ما، داروينيون وسكينريون وبوبريون. ويحمل الجهازُ العصبي البشري علاماتِ تاريخِه التطوري، فيُبدِي عناصرَ داروينيةً وسكينريةً وبوبريةً وجريجورية. ويتطلب أيُّ فعلٍ معقَّد تناسقَ هذه العناصر جميعًا. علينا إذن ألا نخلط بين أصناف العقل وأصناف المخلوق، فدماغُ الكائنِ السكينري مثلًا، الكائنِ القادر على التعلم، يدمج آلياتٍ داروينيةً بعتادِه الصلب، مثلما تفعل الأدمغةُ المتطورةُ للثدييات. والمخلوقُ الجريجوري، ذلك المخلوقُ القادرُ على الانعكاس على الذات، ليس مخلوقًا لاداروينيًّا أو لاسكينريًّا أو لابوبريًّا، وإنما المخلوقاتُ الجريجورية (الكائنات البشرية بين الأنواع الأرضية) قد طوَّرَت قدراتٍ إضافيةً تميِّز عقولَها عن عقولِ المخلوقات التي تفتقر إلى الوعي الذاتي.

لا تتسنى رؤيةُ الفروقِ الشاسعة بين المخلوقاتِ الجريجورية وبقيةِ المخلوقات ما بقينا قانعين بالموقف القصدي. فنحن نَعزو اعتقاداتٍ ورغبات وأسبابًا عقلية للفعل بطريقة إذا أُسِيء تأويلُها تجعل عقولَ المخلوقاتِ اللاجريجورية تبدو مماثلةً لعقولِنا. وهذا الموقفُ معقولٌ ومبرَّرٌ ما دام اهتمامُنا منصبًّا على التفاعل مع هذه المخلوقات والتنبؤ بسلوكها. ولكن عندما نلتمس فهمًا أعمق لما يجعل المخلوقات الأخرى تَتِك، عندما نلتمس الارتقاءَ بفهمنا وزيادةَ احتمالات نجاح تنبؤنا بسلوكها والتحكم فيه، فإننا ملزمون بأن ننظر تحت السطح. عندما نفعل ذلك، عندما نهبط إلى الموقف التصميمي، نكتشف أن الاختلافات تكتسح التشابهات.

ومن أهم الأمور التي سنكتشفها أن ذكاءَ الكائنات غير البشرية، بالمقارنة بنا، ذكاءٌ متصلبٌ مليءٌ بالثغرات؛ فسمكُ النعَّاب الأرقط، الذي يُبدِي في سلوكه ذكاءً كبيرًا في مجالات عديدة، عاجزٌ عن الوصول إلى حلٍّ لمشكلة كيف يفك مقوَدَه من شجرة هو مربوطٌ بها. ويبدو أنه لا يخطر للدلافين (التي يَعُدها بعضُ المتحمسين مكافئةً لنا فكريًّا) أن تهرب من شباك التونا بالقفز من فوقها، رغم أن هذا عملٌ بوسع أي دولفين أن يعمله بسهولة. هذه الثغرات تبدو محيِّرةً، فحسب، ما دمنا نتخيل المخلوقات الأخرى تفكر مثلَنا. بينما نتائج العمل التجريبي الدقيق تشير إلى غير ذلك. فالشمبانزي المستخدمة الأدوات، والنمل المشترك في «زراعة» فطرٍ يُحصَد للغذاء؛ كل ذلك، وإن يكن مثيرًا للإعجاب، لا يَبلُغ الهضبةَ الجريجورية. ولعل التقارير عن قردة الشمبانزي (والقردة الأخرى) المنخرطة في ممارساتٍ خداعية في الظاهر؛ تشير إلى أن هذا التقييمَ مفرطٌ في التفاؤل، قد يكون للشمبانزي «نظرية للعقل» theory of mind تستخدمها في تقرير كيف تتفاعل مع رفاقها. يستنكر دينيت هذا التأويل؛ فالذكاء الذي تُبدِيه الشمبانزي وبقية المخلوقات غير البشرية لا يهيب بالحل الجريجوري. والحق أننا إذا فهمنا قردةَ الشمبانزي على أنها تفكر مثلنا في الأمور التي تخصها لَبَدا عجزُها عن تعميم هذا التفكير بطرقٍ واضحة أمرًا مُربِكًا ومحَيِّرًا.

الوعي

وماذا عن الخبرة الواعية؟ ماذا عن الوعي؟ يرى دينيت أن هاجس مشكلة what it’s like (ما يُشبِه أن يكون) قد حَجَب عن الفلاسفة حلًّا «في اليد» للغز الوعي. إن التمثيلات تلعب دورًا مهمًّا في إنتاج السلوك حتى في أبسط المخلوقات. إلا أن الوعي لا ينبثق إلا مع القدرة على الانعكاس على هذه التمثيلات، وكما رأينا فإن هذه القدرةَ، وفقًا لدينيت، موصولةٌ بالقدرة على إصدار اللغة. وبصريح العبارة، إذن، فالفكرُ والوعيُ غيرُ ممكِنَين إلا للمخلوقاتِ الممنوحةِ لغةً. الحالاتُ العقليةُ الواعية بالنسبة لهذه المخلوقات ليست الحالات التي تَعرِض ملامحَ كيفيةً أو «فينومينولوجية» phenomenological مميزة، وليست الموضوعة في حجرةٍ مركزيةٍ ما للمخ، ولكنها تلك الحالات التي، بالتنافس مع العناصر التمثيلية الأخرى، تتولى زمامَ التحكم في السلوك.

لماذا يكفي هذا الملمح لتحديد الوعي؟ فمن المؤكد أن تمثيلًا ما يتطلب أكثر من ذلك لكي يتحلى بخصائص الخبرة الواعية.

«مثل هذه الأسئلة تكشف خلطًا عميقًا؛ لأنها تفترض مسبقًا أن ما تكونه (أنت) هو شيءٌ آخر، شيءٌ ما كارتيزيٌّ٢٩ يفكر بالإضافة إلى كل هذا الدماغ والنشاط الجسمي. ولكن ما تكونه إن هو إلا هذا التنظيم لكل النشاط التنافسي بين مجموعة من القدرات التي طَوَّرَها جسدُك.»
(Dennett, 1996, pp. 155-6)
هل يعني ذلك أن الكائنات الأخرى — الشمبانزي والدولفينات وكلاب البيجل — هي «زومبيات» zombies، أنها لا تشعر بالألم مثلًا؟ كلا، مثل هذه الكائنات لديها آلامٌ وحالاتٌ حسية أخرى متنوعة. والذي ينقصها هو قدرةٌ، مضافة، على الانعكاس على هذه الحالات. وهذا النقص، فيما يشير دينيت، يعني أنها، رغم أنها قد يُقال إنها تشعر بالألم، فهي لا «تعاني». وكلُّ محاولةٍ لمطابقة آلامها بآلامنا هي محاولةٌ مضلِّلةٌ بلا استثناء.

يدري دينيت أنه في تقديمه لمثل هذا الرأي يُستهدَف للهجوم من جانب أصحاب الحيوانات المدلَّلة ونشطاء حقوق الحيوان. إلا أنه يُحاجُّ بأن واجبنا الأخلاقي بالامتناع من إيذاء المخلوقات الأخرى بلا داعٍ ليس نابعًا من امتلاكها قدرةً على أن تعاني مثلما نعاني، بل فقط من حقيقة أنها مثلنا، يمكن أن تكون في ألم. يجب رغم ذلك أن نفرق بين القدرة على التألم وبين قدرةٍ أخرى على مستوًى أعلى، هي قدرتك على تأمل أنك في ألم. ليس بِمُكنةِ كائنٍ تنقصه هذه القدرةُ أن يتمعَّنَ في ألمِه، أو يرهبَ حدوثَه، أو تنتابه ذكرياتٌ مؤلمة. والقدرة على هذه الأشياء تتبطَّن القدرةَ على المعاناة.

كيف يمكن لامتلاك المرء القدرة على الانعكاس الذاتي أن يؤثر على الشعور بالألم، ذلك البُعد الكيفي لخبرةٍ بالألم؟ يؤكد دينيت أن هذا هو السؤالُ الخطأ. فالكيفياتُ الخبروية — «الكواليا» — كياناتٌ غير يقينية، مخلفاتٌ لتصورٍ ديكارتي مرفوضٍ ومهجور. وبوسعنا أن نعلِّل للنتوء الظاهر لهذه الكيفيات بإدراكِ أنك عندما تكون في ألم مثلًا فأنت في نوع معين من الحالات، من شأنه أن يؤدي بك، بجانب أشياء أخرى، إلى أن تعتقد أنك في حالة ذات كيفيات معينة. والكائنات التي تنقصها اللغةُ تنقصها قدرةٌ على تفكير الدرجة الثانية، وبالتالي على أفكارٍ من هذا الصنف. مثل هذه المخلوقات قد تكون في حالات تشبه من الناحية الوظيفية حالات ألمنا، ولكنها تفتقر إلى الشيء الذي به تنعكس على تلك الحالات.

هل يتضمن ذلك أن هذه المخلوقات لا تشعر بشيءٍ عندما تكون في ألم؟ يفترض هذا السؤالُ مسبقًا ما هو كاذب، ألا وهو أن حالات أو نوبات الألم تمتلك ملامحَ كيفيةً داخلية. وهي لا تمتلك ذلك، على الأقل لا تمتلك ذلك إذا كان دينيت على حق. ولكن هذا لا يعني أن الكائنات غير البشرية لا ينتابها الألم، أو أن آلامَها أقلُّ حِدةً أو كربًا من آلامنا، وإذا اعتقدتَ أنها كذلك فأنت تفترض، كذبًا، أن الآلام هي ما هي (أيْ آلام) بفضل طابعِها الكيفي الداخلي. ولكن لا شيء يمتلك طابعًا كيفيًّا داخليًّا. وحقيقة أن حالات الألم خِلوٌ منها هي إذن حقيقةٌ غير ذات بال على الإطلاق.

قد تجد مثلَ هذا الرأي غيرَ مقبول على الإطلاق. إلا أن دينيت، وهو مما يُحمَد له، أَخَذ مأخذَ الجِد مشكلةَ التوفيق بين الطبيعة الكيفية الواضحة للخبرة الواعية وبين طابع الحالات والأحداث المادية التي يبدو أنها «تتبَطَّن» هذه الخبرات. من الصعب، كما يود كثيرٌ من الفلاسفة أن يبينوا، أن ترى كيف يمكن التوفيق بين هذه الأشياء دون القبول بشكلٍ ما من الثنائية. واستراتيجية دينيت هي تحليل كيفيات الخبرة الواعية بِلُغةِ الحالات العقلية التي هي ذاتُها خِلوٌ من مثل هذه الكيفيات. تمامًا مثلما تَخبُر صورةً بَعديةً لبرتقالةٍ مستديرةٍ مُحمَرَّة، ولا شيءَ ماديًّا بمقربةٍ منك — وبالتأكيد لا شيء في دماغك — يتعين أن يكون برتقالة مستديرة ومحمَرَّة، أو عندما تَخبُر ألمًا كألمٍ نابضٍ، ولا شيء يتعين أن يكون نابضًا. ربما لا يكون هذا أكثرَ إلغازًا من إضمارنا أفكارًا عن التنين أو عن حوريات البحر، بينما ليس ثمة شيء من قبيل التنين وحوريات البحر.

اعتراض سيرل

أحد الردود على مثل هذه المحاولات للتحليل الاستبعادي٣٠ للخبرة الواعية هو أن تُحاجَّ، مثلما فَعَل جون سيرل، بأن النقلةَ لا تعدو أن تكبِتَ مشكلةً دون أن تحلها. والحجةُ بسيطة: افترِضْ أنك تبصر هلوسةً نبتةَ غرنوقي (إبرة الراعي) برتقالية محمَرَّة على الطاولة أمامك. ليس لازمًا أن يكون ثمة شيءٌ برتقاليٌّ محمَرٌّ أو على شكل الغرنوقي بجوارك. ولكنْ تأمل الآن في هلوستك ذاتها. يبدو أننا قد أزلنا بندًا برتقاليًّا محمَرًّا أو غرنوقي الشكل من العالم المادي العام ووضعناه داخل عقلك. إن الكيفياتِ التي يبدو أنك تجدها في «العالم الخارجي» موجودةٌ، ربما، ولكن فقط في عقلك. ومع ذلك، فهي موجودةٌ هناك دون أدنى شك، في عقلك. وهذا شيءٌ لا يفيد على الإطلاق إذا كان هدفُنا هو أن نقدم تصورًا ماديًّا تمامًا للعقل.
إذا تذكرنا نقطةً قابلناها في الفصل الأول، فنحن جميعًا نفرق بين المظهر والواقع. إلا أنه إذا كان الأمرُ أمرَ العقل فالمظهرُ واقع. افترِضْ أننا اتفقنا على أن مجرد أن شيئًا ما يبدو وردي اللون يعود أمرُه لا إلى أنه وردي، بل إلى أنك في حالةٍ عقلية معينة. إننا ننفي اللونَ الوردي المدرَك إلى العقل. يبدو أن دينيت يريد أن يقوم بنفس النقلة بخصوص اللون الوردي المدرَك، ولكن كيف يكون ذلك؟ ربما تكون الورديةُ المدرَكةُ هي «ظاهرية فقط». وهذا يعني أن خبرتك بالوردية هي فقط مسألة اعتبارك نفسك تَخبُر وردية. وهذا، فيما يبدو، لا يعدو أن يكون إزاحةً ﻟ «الكيفية الظاهرية» phenomenal quality المزعِجة من خبرةٍ إدراكيةٍ من الدرجة الأولى إلى خبرة من الدرجة الثانية (تمامًا كما نُقِلَت الكيفيةُ في الأصل من العالم الخارجي إلى العقل). إلا أن هذا لا يُزيل الكيفيةَ المزعجة، بل يزيحها لا أكثر من جزء من العقل إلى جزء آخر.

يترتب على ذلك، فيما يبدو، أن محاولات استبعاد كيفيات الخبرات الواعية تحليليًّا بإلحاقها بالحالات العقلية من الدرجة الثانية — اعتقاداتك عن الألم الذي تحسه الآن مثلًا — هي محاولات مُقَدَّر لها الفشل. فنحن لا نستبعد الكيفيات المزعجة من حالة ألمِك إلا بإيداعها في تمثيلاتك لحالةِ ألمِك.

لقد تطرقنا إلى هذه المسائل في الفصلين الثالث والرابع، حيث بَيَّنتُ أن من الضروري أن نفرق كيفيات الأشياء المخبورة٣١ عن كيفيات الخبرات.٣٢ فخبرتُكَ البصرية بطماطمةٍ حمراء في ضوء الشمس الساطع لها طابعٌ كيفي مميز. وبوسعنا أن نُسَمِّي هذه الكيفيات بِذِكرِ عِلَلِها؛ طماطم أحمر مُضاء بسطوع. ولكن يجب ألا نخلط بين كيفيات العلة وكيفيات المعلول. إن خبرةً بطماطمةٍ حمراء لا يتعين أن تكون (خبرة) حمراء. حقيقة الأمر أن الخبرة، على خلاف الطماطمة الحمراء، ليست ذلك الصنف من الأشياء الذي يمكن أن يكون أحمر. وعندما تبصر هلوسةً طماطمةً حمراء، أو تَخبُر صورةً بعدية برتقالية محْمَرَّة زاهية، فأنت تمر بخبرة شبيهة على نحوٍ ما بخبرتِك عندما ترى طماطمةً حمراء في ضوء الشمس الساطع. ومرةً أخرى، رغم أن خبرتَك هي خبرةٌ «ﺑ» شيءٍ برتقاليٍّ محمَرٍّ مستدير، فإن خبرتَك ليست هي ذاتُها مستديرةً أو برتقاليةً محمَرَّة.

الهدف من كل هذا هو أن نشير بأن ما ذهب إليه سيرل من أنه عندما نكون بصدد العقل يكون المظهرُ هو الواقع؛ هذا المذهب ليس مذهبًا واضحًا مستقيمًا. إذا كان سيرل يَعنِي أنك عندما تَحدُث لك صورةٌ بعدية برتقالية محمَرَّة، عندما يبدو لك شيءٌ ما برتقاليًّا محمَرًّا، إذن فإن شيئًا ما هو برتقالي محمرٌّ — إلَّا يَكُن شيئًا ما خارجك فشيءٌ ما عقليٌّ — هذا الرأي لا مبرر له. على أننا إذا أَوَّلنا سيرل على أنه يقول بشيءٍ أكثر مرونة، أي يقول إنك عندما تَخبُر شيئًا ما يكون لخبرتك طابعٌ مميز، فلن يكون واضحًا إذن بأي عمقٍ يختلف عن دينيت.

ودينيت، بالمناسبة، ينكر أن الخبرات لها أي طابع كيفي على الإطلاق. إلا أن هناك، كما سوف نرى في الفصل القادم، أسبابًا وجيهة للاعتقاد بأن لكل شيء كيفيات، وله بالتالي طابعًا كيفيًّا ما. لذا يبدو هذا الإنكارُ غيرَ مقبول بادئَ الرأي. افترِض أننا نؤوِّل دينيت — بإحسان — على أنه ينكر أن للخبرات كيفياتِ الأشياء المختبَرة. فالخبرة البصرية الجلية بطماطمة حمراء ساطعة الإضاءة لا يلزم أن تكون هي نفسُها حمراء. إذن فشكوى سيرل بأن دينيت لا يمكنه أن يعلِّل للمظاهر هي شكوى مُضَلَّلة.

غير أن هجوم سيرل يمضي في المضمار الصحيح في أحد الجوانب. إذا فرقنا بين كيفيات الأشياء (المهلوَسة أو سواها) وكيفيات خبراتنا بتلك الأشياء، لما كان ثمة دافع معين، إذن، لإدخال حالاتٍ عقلية من الدرجة الثانية — اعتقاداتِ المرءِ عن آلامه مثلًا — لكي تعلِّلَ لكيفيات الخبرة الواعية. فإذا كان امتلاكُك خبرةً واعيةً هو مسألة كونك في حالةٍ معينة ذات كيفيات معينة، فليس ثمة إذن ما يدعو إلى أي خفةِ يدٍ فلسفية لكي تستوعب الكيفيات الواعية.

على أية حال، فالانتقال إلى حالات الدرجة الثانية ينبغي أن يثير الشك للتو. افترِضْ أنك تعتقد أن فرنسا مسدسةُ الشكل، إن امتلاكَك هذا الاعتقاد، وفقًا لأغلب الآراء بما فيها رأي دينيت، ليس مسألةَ مرورِك بخبرة واعية. تخيل الآن أنك تأخذ في الاعتقاد بأنك تعتقد أن فرنسا مسدسة. إن امتلاكك هذا الاعتقاد عبارة عن كونِك في حالةٍ معينة من الدرجة الثانية، هي امتلاكُك اعتقادًا عن اعتقاد. ولكن إذا كان اعتقادُك الذي من الدرجة الأولى ليس اعتقادًا واعيًا، فلماذا يجب أن تؤدي إضافةُ اعتقادٍ من الدرجة الثانية (عن اعتقاد) إلى حالةٍ واعية؟ إن ملاحظة أن الأفكارَ المنعكسةَ على ذاتها واعيةٌ في معظمها هي ملاحظةٌ خارجةٌ عن الموضوع. فالسؤال هو ما إذا كان الوعي يعتمد على تفكير الدرجة الثانية. من المؤكد أنك على وعي بأشياء كثيرة — بالأشياء المحيطة بك مثلًا، أو بِمَيْل أطرافِك — دون أن تكون على درايةٍ بأنك على دراية بهذه الأشياء. إن الحالات العقلية التي من الدرجة الثانية، على أهميتها المؤكدة، تبدو غيرَ ملائمةٍ لوضعِ الحد الفاصل بين «واعٍ» و«غير واع».

المذهب الاستبعادي (الحَذفي) eliminativism

قبل أن نمضي قُدُمًا في بحثنا، أقترح أن ننظر باختصارٍ شديد في الرأي القائل بأنه ليس ثمة شيء من قبيل الحالات القصدية؛ لا اعتقادات، لا رغبات، لا مقاصد، لا أسباب عقلية للأفعال. هذا الرأي — المذهب المادي الحذفي eliminative materialism، أو المذهب الحذفي eliminativism للاختصار — قد دافع عنه باتريشيا تشِرشلَند وبول تشرشلند Patricia and Paul Churchland، بين آخرين. يستحق المذهبُ الحذفي الذِّكرَ لِسببين؛ الأول أنه يمثل امتدادًا طبيعيًّا لأفكار دينيت عن الموقف القصدي. يرى دينيت أن عَزوَ الحالات السيكولوجية المألوفة — الاعتقادات والرغبات والأسباب العقلية للفعل على سبيل المثال — هو طريقةٌ فحسب لإضفاء معنًى على المنظومات المعقدة. إذا أردنا رغم ذلك أن نفهم بالضبط كيف تعمل هذه المنظومات، فلا بد أن نهجر الموقف القصدي، ونمضي إلى الموقف التصميمي، ونمضي في النهاية إلى الموقف الفيزيائي. من شأن هذا أن يكشف أن الحديث التقليدي عن العقول ومحتوياتها يمثل جوهريًّا نوعًا من الادعاء، ادعاء يمكننا، لو أن اهتمامنا الوحيد سبر أغوار الواقع بدقة، أن نعيش بدونه.

وسببٌ ثانٍ لِتَناوُل المذهب الحذفي، هو أنه قد يجد البعضُ إغراءً بوصف نوعية الموقف الذي أطوِّرُه في الفصل القادم على أنه موقفٌ حذفي، وسوف أُحاجُّ بأنه ليس كذلك. سيكون مفيدًا إذن أن تكون لدينا نظرةٌ واضحة لِما يكونه المذهبُ الحذفي بالضبط، على الأقل لكي نميزَه عن المذاهب المنافسة له.

النظريات والرد النظري

وفقًا للزوجين تشِرشلند، يُعَد الحديث عن العقول مجرد طريقة موغِلة في القِدَم لمحاولة امتلاك ناصية تعقيدات السلوك الذكي. غير أننا عندما ننظر إلى ما يجعل الكائنات الذكية (بما فيها البشر) تَتِك، نكتشف آلياتٍ عصبيةً معقدة. لا تحمل المبادئ التي تعمل بها هذه الآليات شبهًا يُذكَر بابتذالات «السيكولوجيا الشعبية» folk psychology، وهي نظريةُ الحس المشترك عن العقل المبَيَّتةُ في لغتنا، والمذخورةُ في مؤسساتنا الاجتماعية والقانونية، والمنقحةُ في العلوم الاجتماعية والسلوكية. ويخلص الزوجان تشِرشلند إلى أن أغلبَ المقولاتِ السيكولوجية وصيغِ التفسير السيكولوجية هي إما «قابلة للرد» reducible إلى مقولات نيوروبيولوجية أكثر أساسية، وإما لا تنطبق على شيء، ومن ثم لا تستحق الإبقاءَ عليها.
لِمَ نقول هذا؟ إن علم النفس يزودنا بنظريةٍ في العقل تتأسس على مقولاتٍ قصدية (الاعتقاد، والرغبة، والقصد، على سبيل المثال). وهذه النظرية، شأنها شأن أي نظرية، قد يتبيَّن أنها غيرُ وافية في ضوء بزوغ نظرية جديدة وأفضل. افترِضْ أن علماء الأعصاب يطورون نظريةً في العقل أكثرَ كفاءةً بكثير في التنبؤ بنشاطات الكائنات الذكية وتفسيرها من النظريات السيكولوجية التقليدية. افترِضْ أيضًا أن علم الأعصاب يقوم بذلك دون اللجوء إلى المفاهيم العقلية المألوفة؛ الاعتقادات، والرغبات، والصور الذهنية، وما إلى ذلك. (تخيَّلْ أنه في النظرية الجديدة لا ذِكرَ البتة لمثل هذه الأشياء، ليس غير النيورونات neurons والمُشتَبَكات العصبية synapses والعُقَد ganglia والموَصِّلات العصبية neurotransmitters.)
عندما ننظر إلى تاريخ العلم، نكتشف أنه عندما تُهَدِّد نظريةٌ جديدةٌ بأن تحل محلَّ نظريةٍ قائمة، فإن هناك مصيرَين ممكنين؛ الأول أن النظرية القديمة قد يَثبُتُ أنها «قابلة للرد إلى» reducible to النظرية الجديدة. والثاني أن تتمكن النظريةُ الجديدةُ من إزاحة النظرية الأقدم إزاحةً تامة.
تأملْ أولًا رد النظرية theory reduction. يحدث الرد عندما تكون مفاهيمُ النظرية القديمة معكوسةً في مفاهيم النظرية الجديدة. في هذه الحالة يمكن أن يُقال إن المفاهيمَ القديمة لا تَعدو أن تُسَمِّي ما تُسَمِّيه المفاهيمُ الجديدة. فيتبين مثلًا أن «الحرارة» إن هي إلا متوسط الطاقة الجزيئية للجزيئات، و«البرق» ما هو إلا تفريغ كهربي. النظريات التي يتمثل فيها مفهومُ الحرارة، إذن، يمكن رَدُّها إلى نظرياتٍ فيزيائية وكيميائية أكثر أساسية. ويمكن النظر إلى النظريات المردودة على أنها «حالات خاصة» للنظريات (الجديدة) التي رُدَّت إليها. كما أننا نميل إلى رؤية الكيانات والخواص المتضمَّنة في النظرية المردودة على أنها تستضيء بالنظرية الرادَّة. فالحرارةُ، في نظرنا الآن، هي متوسطُ الطاقة الحركية الجزيئية للجزيئات، والبرق شعاع من الإلكترونات.
ورغم أن تاريخ العلم يتضمن أمثلةً هامةً لِرَد النظرية، فإن الأغلب الأعم لنظريةٍ جديدةٍ أن تحل ببساطةٍ محل نظرية قديمة. كانت الحرارة يومًا ما تُفَسَّر عن طريق افتراض وجود سائلٍ غير ملموس هو «الكالوريك» caloric، يُظَنُّ أنه يتدفق من الأجسام الساخنة إلى الأجسام الأبرد المجاورة. ورغم أن الكالوريك لا وزن له، فقد اعتُبِر أنه يشغل حيزًا من المكان. وانتقالُ الكالوريك إلى جسمٍ بارد يؤدي إلى أن ينتفخ هذا الجسم، ومن ثم يعلِّل التمددَ (دون زيادة مصاحِبة في الوزن) الملاحَظَ في الأجسام عندما تُسَخَّن. ومع مجيء الثورة الكيميائية، هُجِرَ الاعتقادُ بالكالوريك، وحَلَّ مَحَلَّه تصوُّرُ أن الحرارة ليست جوهرًا، بل هي ضربٌ من الطاقة. لم يتم رَدُّ الكالوريك إلى أي شيءٍ أكثر أساسية، لم يُرَد الكالوريك، بل حُذِف (استُبعِد).

وفقًا للزوجين تشِرشلند، فإن هذا المصيرَ الحذفي الأخير هو ما ينتظر مفاهيمَنا العقلية القصدية الاعتيادية. فَعِلمُ الأعصاب لن يضيءَ مقولاتِنا العقلية، بل سيحل محلها. والأفكار والاعتقادات والخيال وما شابه سوف يتبين لا أنها مجريات عصبية معقدة بل أنها، شأنها شأن الكالوريك، لا وجود لها. قد نظل، طبعًا، نتحدث مثلما نفعل، تمامًا كما نظل نتحدث عن طلوع الشمس وغروبها وإن كنا نعلم أفضل من ذي قبل. ولكن إذا كنا نهدف إلى رؤيةٍ دقيقةٍ للأمور، فسوف نكون مضطرين للاعتراف بأنه، ببساطة، كذبٌ وزيفٌ أن أي شخص لديه اعتقادات أو رغبات أو أسباب عقلية للفعل. زيفٌ أنَّ أيَّ مخلوق ترشده المخيلة، وزيفٌ أنَّ أي واحد قد فَكَّرَ في أي شيءٍ قَط.

هل المذهب الحَذفِي داحضٌ لِذاتِه؟

ذهب بعضُ الفلاسفة إلى أن هذه النتيجة تدحض ذاتَها self-refuting. فإذا كان لا أحد يعتقد بأي شيء، فكيف لنا نحن — أو أنصار الدعوى الحذفية — أن نعتقد فيها؟ إذا كان لا أحد يفكر، ولا أحد لديه أسبابٌ عقلية للفعل، فكيف يمكن للحذفيين أن يتوقعوا منا أن نقبل حُجَجَهم؟ ذلك أن قبولَ حجةٍ ما عبارةٌ عن قبول عبارات معينة على أنها تقدم أسبابًا وجيهة للاعتقاد في نتيجة معينة. ولكن لا شيء من هذا يتحلى بأي معنًى إذا كان المذهب الحذفي صحيحًا.

لا يلزم المرءَ أن يكون من أنصار الحذفية لكي يشك في وجاهة هذا الرد. فمن المؤكد أن فرضيةً ما يمكن أن تأتي بحيث يكون صدقُها غير متسق مع إقرار، أو حتى الاعتقاد، بأنها صادقة، وتكون برغم كل هذا صادقة. تأمل فرضية أن جميع العبارات كاذبة، وافترضْ لحظةً أن الفرضية صادقة، أي إن كل عبارة هي كاذبة. فإذا كانت هذه العبارة كذلك لاستحال الإقرار بها! ثمة إذن شيءٌ ما يهزم ذاتَه في توكيد شخصٍ ما بأن كل عبارة هي كاذبة. وقد نرى إلى الحذفيين على أنهم يشيرون إلى إمكانٍ ما باستخدام مصطلحات قمينة بأن تكون فارغة إذا ما كان هذا الإمكان صحيحًا. إلا أنه ليس يترتب على ذلك أن الإمكان المَعنِيَّ ليس صحيحًا. ليس يترتب أن الحذفي في «إقرار» دعواه لا يقرر شيئًا، ولكن هذا نتيجة مترتبة على النظرية، وليس اعتراضًا عليها!

في هذا السياق قد يكون مفيدًا أن نقتبس فقرةً شهيرةً من «رسالة منطقية فلسفية» Tractatus Logico-Philosophicus لِفتجنشتين Wittgenstein (1922–1961, § 6.54). تتعلق «الرسالة» (بين أشياء أخرى كثيرة) بالشروط المطلوب توافرُها في الأفكار لكي «تصوِّر» العالم. لأسبابٍ معقدة يمكننا أن نضرب عنها صفحًا هنا، فإن الموقف الذي يتخذه فتجنشتين، إذا صَحَّ، يجعل من المستحيل على أي شخص أن يُضمِر أفكارًا تتصل بالعلاقة بين الأفكار والعالم. إلا أن من الواضح أن هذا موضوع مركزي في «الرسالة»!

هل يعني هذا أن دعوى فتجنشتين داحضة لذاتها؟ لا يرى مؤلفها أنها كذلك:

«إن قضاياي تعمل كإيضاحاتٍ بالطريقة التالية: أيُّما شخصٍ يفهمني يميزها في النهاية على أنها هُراء، عندما يكون قد استخدمها كدرجات سلم ليرتقي إلى ما وراءها. (وعليه، إذا صح التعبير، أن يرمي بالسُّلم بعيدًا بعد أن يكون قد ارتقاه.)

إن عليه أن يتجاوز هذه القضايا، وعندئذٍ سوف يرى العالمَ رؤيةً صحيحة.»

تنجح الجملُ المستخدمة لصياغة الدعوى على نحوٍ غير مباشر، بأن «تُشهِدَ» القارئَ الأمرَ المقصود بدلًا من أن «تقوله» دفعةً بغير تَحَفُّظ.

إذا كانت الحذفية صحيحة، فربما يكون هذا هو كل ما يَسَع الحذفيَّ أن يفعل. أما من جهة هل هي صحيحة أم لا، وهل يستحيل الاعتقاد عقلانيًّا بها دون افتراض كذبها، فقد يكون من التسرع أن تتصور أن هذا يُثبِت أن المذهب الحذفي كاذب. ولندفَع الأمورَ إلى نهايةٍ قَصِيَّة، وافترضْ أنه إذا كانت الحذفيةُ صادقةً، فلا شيء مما نقوله يتحلى بأي معنًى. فهل يترتب على ذلك أن الحذفيةَ غيرُ صادقة، وأن العالم ليس بالوصف الذي تقدِّمه الحذفيةُ للعالم؟ شخصيًّا، لا يمكنني أن أرى أن هذا يترتَّب.

هذه التعليقات يجب ألا تؤخذ على أنها تصديقٌ على المذهب الحذفي. وكما سوف يتضح في الفصل القادم، فليس ثمة سبب مفحِم لقبول النتائج الحذفية، حتى إذا اعتنقنا فكرةَ أن علم الأعصاب قد يحل يومًا ما محلَّ علم النفس.

قراءات مقترَحة

My discussion of Davidson’s views draws on “Truth and Meaning” (1967), “Radical Interpretation” (1973), “Belief and the Basis of Meaning” (1974), and “Reality without Reference” (1977); see also “Psychology as Philosophy” (1974b). The omniscient interpreter is introduced in “A Coherence Theory of Truth and Knowledge” (1986). Those seeking for an introduction to Davidson’s views might look at Simon Evnine’s Donald Davidson (1991). Some components of my discussion of Davidson were introduced in an earlier attempt to explicate Davidson in Perception and Cognition (1983) chap. 7.
Tarski’s discussion of truth is contained in his “The Concept of Truth in Formalized Languages” (1956). Quine’s account of radical translation appears in the first two chapters of Word and Object (1961). Neither is a text for beginners or the faint of heart. Alfred Mele provides an explanation and defense of the distinction between desires’ motivational strength and their evaluative standing in the psychological economy of agents. See his Irrationality: An Essay on Akrasia, Self-Deception, and Self-Control (1987), chaps 3 and 6.
For an account of dispositions and their relation to counterfactual and subjunctive conditional locutions, see C. B. Martin, “Dispositions and Conditionals” (1994).
In The Hidden Life of Dogs (1993), Elizabeth Marshall Thomas provides detailed descriptions of complex states of mind she finds in dogs. She does the same for cats in The Tribe of the Tiger (1994). Her cats, for instance “look up to” a particular dog, “believing that when cosmic troubles threaten, he’ll know what to do.” More remarkably, Stanley Coren, in The Intelligence of Dogs: Canine Consciousness and Capabilities (1994) claims to have decoded signals expressed by specific sorts of canine behavior (see especially chap. 6). When Spot sits with one paw slightly raised, for instance, he is thinking “I am anxious, uneasy, and concerned”.
For more serious treatments of the mental lives of non-human creatures, see Fritz de Waal’s Chimpanzee Politics (1982) and Dorothy Cheney and Robert Seyfarth’s How Monkeys See the World: Inside the Mind of Another Species (1990). The latter book is the subject of a Behavioral and Brain Sciences debate; see Cheney and Seyfarth, “Précis of How Monkeys See the World” (1992).
A good place to start for anyone interested in an introduction to Daniel Dennett’s work is Kinds of Minds: Toward an Understanding of Consciousness (1996). Anyone wanting more details should consult The Intentional Stance (1987), and Consciousness Explained (1991a). See also “Real Patterns” (1991b). In The Nature of True Minds (1992), chap. 6, I explore an argument — very different from Dennett’s — used by Davidson to establish that thought requires language. Davidson’s own account of the relation of language and thought can be found in “Thought and Talk” (1975).
E. C. Tolman’s discussion of rats’ use of “cognitive maps” to negotiate mazes can be found in his “Cognitive Maps in Rats and Men” (1948). My depiction of an experiment designed to show that very young children lack a capacity for representing self-consciously is an amalgam of a number of experiments. See Heinz Wimmer and Josef Perner, “Beliefs about Beliefs: Representation and Constraining Function of Wrong Beliefs in Young Children’s Understanding of Deception” (1983). See also Perner’s Understanding the Representational Mind (1991). Related experimental work can be found in Alison Gopnik and J. W. Astington, “Children’s Understanding of Representational Change and its Relation to the Understanding of False Belief and the Appearance-Reality Distinction” (1988), and Louis J. Moses and J. H. Flavell, “Inferring False Beliefs from Actions and Reactions” (1990). (I am grateful to Eric Schwitzgebel for these references.)
The line of argument I attribute to Searle against Dennett’s notion that consciousness can be understood as a kind of second-order representation can be found in The Rediscovery of the Mind (1992), chap. 5, especially pp. 121-2. See also Searle’s review of Chalmers’s The Conscious Mind: In Search of a Fundamental Theory (1996) in “Consciousness and the Philosophers” (1997). Chalmers’s reply to Searle, and Searle’s response, appear in “Consciousness and the Philosophers: An Exchange” (Chalmers and Searle, 1997).
Eliminativism is defended by Paul Churchland in Scientific Realism and the Plasticity of Mind (1979); and in “Eliminative Materialism and the Propositional Attitudes” (1981). See also Patricia Churchland’s Neurophilosophy (1986). Stephen Stich defends his own brand of eliminativism in From Folk Psychology to Cognitive Science: The Case Against Belief (1983). Lynne Rudder Baker (responding to Stich, among others) has argued that eliminativism is self-refuting; see her Saving Belief (1987), chap. 7, “The Threat of Cognitive Suicide”. For an extended discussion of the question whether eliminativism is self-refuting, see my The Nature of True Minds (1992), pp. 5–11.
١  التراجع أو الارتداد أو النكوص اللانهائي infinite regress: خطأ في التفكير ينبغي اجتنابه، إما في سلسلة حُجج لها صيغة: «أ» تلزم عنها «ب»، «ب» تلزم عنها «ج»، «ج» تلزم عنها «د» … وهكذا إلى غير نهاية، وإما في سلسلة تفسيرات لها صيغة: «أ» لأن «ب»، «ب» لأن «ج»، «ج» لأن «د» … وهكذا إلى غير نهاية. (المترجم)
٢  العوالم الممكنة possible world: مفهوم منطقي بالأساس. وهو الفكرة المحورية للاستكشاف السيمانتي لما يُعرَف بالمنطق الجِهَوي modal logic. ويُعتبَر العالم الممكن هنا وضعًا بكامله، أو هو عالم تكون فيه لكل قضية قيد البحث قيمة صدق truth-value محددة. فالقضية ق تكون قضيةً ضرورية إذا كانت صادقةً في جميع العوالم الممكنة، وتكون ممكنةً إذا كانت صادقةً في بعض العوالم الممكنة، ومستحيلةً إذا لم تكن صادقةً في أي عالمٍ ممكن. ورغم جدوى هذه الفكرة وفائدتها المؤكدة في استكشاف المنطق الجهوي، فهي على الصعيد الفلسفي مثار جدل كبير. وقد اختلف الفلاسفة حولها اختلافًا شبيهًا باختلافهم حول الرياضيات؛ فمنهم مَن اتخذ إزاءها موقفًا أفلاطونيًّا واقعيًّا (الواقعية الجهوية modal realism)، ومنهم مَن اتخذ موقفًا بنائيًّا constructivist زاعمًا أننا نبدعها ونخلقها، ومنهم مَن ذهب مذهبًا صوريًّا formalist واعتبر فكرة العوالم الممكنة مجرد أداة نافعة في المنطق لا أكثر ولا أقل. (المترجم)
٣  لاحِظ الفارق الدقيق في الهِجاء بين intension (مفهوم)، وintention (قصد). (المترجم)
٤  prelinguistic.
٥  ثمة تفرقة مهمة في فلسفة اللغة بين «معنى الكلمة، أو معنى الجملة» word meaning, or sentence meaning، وما يُسَمَّى «المعنى عند المتحدث» speaker’s meaning أو مقصد المتحدِّث. وهي تفرقة تقع ضمن مبحث البراجماطيقا (التداولية) pragmatics في علم اللغة العام. في أمثل الأحوال، يكون ما أعنيه بالكلمة التي أستعملها هو بعينِه ما تعنيه الكلمة، وما أقصد إليه بالجملة التي أستخدمها هو بعينِه ما تقوله الجملة. غير أن ما أعنيه (مقصِدي الاتصالي) متميزٌ من حيث المبدأ — وربما مختلف عمليًّا — عن المعاني القياسية للعناصر اللغوية التي يقع عليها اختياري. والمثالُ الذي أَورده المؤلفُ واضحٌ ودال. إن اختلاف مقصد المتحدث عن معنى الكلمة أو الجملة يحمل إمكان إساءة الفهم وإساءة التأويل. غير أن معظم الناس لديهم القدرة (باستخدام السيكولوجيا الشعبية والمفاتيح الموقفية) على استشفاف ما يعنيه المتحدث في حقيقة الأمر، حتى لو ابتعد ذلك عما قاله بالفعل. (المترجم)
٦  تعني «سيمانطيقا شروط الصدق» truth-conditional semantics أن فهمنا لجملة معينة — س — هو أن نعرف الشروط التي في ظلها تكون س صادقة. فأنا إذ أفهم جملة «السماء تمطر»، فإنما أفهمها لأنني أعرف صنف الطقس الذي من شأنه أن يجعلها صادقة، وصنف الطقس الذي من شأنه أن يجعلها كاذبة، ولأنني لست قادرًا فقط على تقديم وصفٍ مجرد لذلك الطقس المؤيِّد للجملة وذلك المفنِّد لها، بل قادرًا أيضًا على تمييز كل منهما حيث يحدث ويكون، وقادرًا من ثم على أن أقرر أي قيم الصدق هو الذي تحمله «السماء تمطر» في أية مناسبة من المناسبات. (المترجم)
٧  يشيران (يحيلان) إلى نفس الشيء (co-referring). (المترجم)
٨  في النص الأصلي: تحملها جملة It’s raining بجُمَلِ الإنجليزية. (المترجم)
٩  تُستخدَم كلمة «ميتا» meta اليونانية، وتعني «بعد» أو «وراء»، لتشير إلى «حديث عن حديث» أو «خطاب عن خطاب». من ذلك أن «الميتا أخلاق» metaethics هي خطاب حول الخطاب الأخلاقي، تتناوله بالنقد والتحليل، وتقيِّم الأسس التي يقوم عليها، و«الميتا تاريخ» هو خطاب جامع حول التاريخ يسبغ المعنى على سِجِله الغُفل، ويُضفِي النظام على أحداثه المتناثرة. و«الميتا لغة» metalanguage هي لغة تتحدث عن لغة. ويُقال للغة التي هي موضوع الحديث «اللغة-الموضوع» object language. وقد كان ألفرد تارسكي (١٩٠١–١٩٨٣م) هو أول من وضع هذا التمييز بين اللغة والميتا لغة، حين كان بمعرض الحديث عن «المفارقات السيمانطيقية» الشهيرة، إذ خلص إلى أننا لكي نتناول الصدق والكذب في اللغة-الموضوع، يتحتم علينا أن نصعد درجة، إلى ميتا لغة، وهكذا في تراتب هرمي. وقد تعَرَّض مصطلح «ميتا لغة» مؤخرًا لابتذال كثير، وأُسيء استخدامه لكي ينسحب على أي خطاب يتناول أقوالًا أخرى (كالخطاب النقدي مثلًا)، وإن كان مَصوغًا باللغة نفسها التي صيغت بها هذه الأقوال. (المترجم)
١٠  تُعَد نظرية «نزع علامات التنصيص» disquatational view of truth صيغةً من صيغ «نظرية الفائض اللفظي في الصدق» redundancy theory of truth، التي قال بها فريجه ورامزي، ومفادُها أن عبارة «إنه من الحقيقة أن ق» ليست أكثر ولا أقل من ق وحدها. وبتعبير آخر، فإن «ق صادقة» لا تزيد شيئًا على ق. فالمحمول «صادقة» لا مفادَ له، ولا يعبر عن مفهوم عميق أو تفسيري يستحق أن نُفرد له مبحثًا فلسفيًّا. وهذا هو سر تسمية النظرية بنظرية «الفائض اللفظي». (المترجم)
١١  من مترتِّبات مثل هذا الرأي (التي ألمعنا إليها آنفًا) أنه: وحدَها المخلوقات القادرة على النطق اللغوي يمكن أن يُنسَب (يُعزَى) لها مواقفُ قضوية؛ الفكر يتطلب النطق. (المؤلف)
١٢  يُطلق على هذه الحلقة أحيانًا «الدائرة التأويلية» أو «الدائرة الهرمنيوطيقية» hermeneutical circle. فالأمر في مسألة الفهم بصفة عامة (فهم أي نص وأي شخص) ينطوي، للوهلة الأولى، على تناقض: لكي يفهم المرءُ ينبغي أن يفهم سَلَفًا! أن يكون لديه موقف، استباق، سياقية. فكيف يمكن للنص أن يُفهَم إذا كان الشرط اللازم لفهمه هو أن تكون على فهمٍ أصلًا بما يتحدث عنه؟! الجواب أن فهمًا جزئيًّا، بطريقةٍ ما وبعمليةٍ ديالكتيكية، يُستخدَم لفهم المزيد، تمامًا مثل استخدام قِطَع من لغز الصور التركيبية لاكتشاف ما هو ناقص منها. من جهة، لا بد من توافر قدر معين من الفهم المسبق للموضوع، وإلا فلن يحدث تواصل على الإطلاق، ومن جهة أخرى، ينبغي لهذا الفهم المسبق أن يتغير أو يتعدل في عملية الفهم. (للمزيد عن الدائرة التأويلية، انظر كتابنا «مدخل إلى الهرمنيوطيقا»، دار النهضة العربية، بيروت، ٢٠٠٣م، ص٣٥–٣٧، وص٦٧-٦٨). (المترجم)
١٣  البولنج bowling: لعبةٌ بالكرات الخشبية. (المترجم)
١٤  قبعة مستديرة سوداء. (المترجم)
١٥  يذهب عدد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع، من بينهم كواين وكمبل وديفيدسون، إلى أننا لا يمكننا أن نفهم الآخرين أو نترجمهم ما لم يكونوا متفقين معنا إلى حد كبير حول ما هو حق أو ما هو مقبول أو مُبَرَّر … إلخ. وتُعَد أطروحة ديفيدسون هي أشهر هذه الأطروحات وأكثرها تفصيلًا. يهيب بنا ديفيدسون أن نتخذ «مبدأ الإحسان» إذا شئنا أن نترجم أو نؤول أو نفهم ثقافةً مغايرة لنا حديثة الاكتشاف، أو إذا شئنا أن نفهم أي شخص آخر لا عهد لنا به. وبغضِّ الطرف لحظةً عن الصياغات التفصيلية، يشير علينا المبدأ أن نؤول الآخرين بطريقة تجعل أكبر قدر ممكن من اعتقاداتهم صحيحًا. ليس مبدأ الإحسان مبدأ فلسفيًّا فحسب، وإنما يُعَد مبدأ ميثودولوجييًّا مهمًّا في الأنثروبولوجيا المقارنة وعلم النفس الثقافي. وكما أوضح كمبل:

«فقد تبين أن العلامة الرئيسية التي تدل عالِمَ الأنثروبولوجيا على تَحقق التواصل هي التماثل بين استجابة الآخر للمنبه وبين الاستجابة التي كان الأنثروبولوجيُّ نفسُه حَرِيًّا أن يأتيها. كما تبين أن عدمَ اتفاقِ الاستجابتين هو دليلٌ على فشل التواصل.»

تكمن المشكلة الأساسية التي يتعين على «التأويل الجِذري» radical interpretation أن يتناولها، في أن المرء لا يستطيع أن يُضفي معاني على منطوقات المتحدث دون أن يعرف اعتقاداته، ولا يستطيع في الوقت نفسه أن يحدد اعتقادات المتحدث دون أن يعرف ما تعنيه أقواله! تلك معضلة تأويلية، فيما يبدو، ما دمنا مطالَبين بتقديم نظرية عن الاعتقاد ونظرية عن المعنى في آن معًا. يطرح ديفيدسون «مبدأ الإحسان» (الحسنى) principle of charity كحَلٍّ ممكن لهذه المعضلة. ووفقًا لهذا المبدأ، فنحن نبدأ بافتراض أن اعتقادات المتحدث (على الأقل في الحالات البسيطة والأساسية) مماثلة لاعتقاداتنا إلى حد كبير، وأنها بالتالي صحيحة إلى حد كبير. عندئذٍ يمكننا أن نستخدم اعتقاداتنا نفسها كدليلٍ مرشِدٍ إلى اعتقادات المتحدث. ثم بافتراض أن بإمكاننا تحديد العبارات الإخبارية البسيطة لدى المتحدث يمكننا، من خلال الصلة بين الاعتقاد والمعنى، أن نستخدم اعتقاداتنا كدليل مرشد إلى معاني منطوقات المتحدث. هكذا تستوي لدينا نظريةٌ مبدئيةٌ في الاعتقاد ونظريةٌ مبدئيةٌ في المعنى. وما إن نصل إلى تحديد مبدئي لمعاني عددٍ كبير من المنطوقات حتى يكون بمكنتنا اختبارها في ضوء السلوك الجديد الذي يبدر من المتحدث، ونعدِّل هذه المعاني وفقًا لما يجِدُّ من سلوك. وفي ضوء المعاني التي نحصِّلُها بشكل متزايد يمكننا أن نختبر الاعتقادات المبدئية التي أسبغناها على المتحدث حين طبقنا عليه مبدأ الإحسان، ونعدلها أيضًا إذا لزم الأمر. وهذا بدوره يتيح لنا مزيدًا من تعديل المعاني، ثم مزيدًا من تعديل الاعتقادات. وهكذا دواليك إلى أن نصل إلى نوع من «التوازن» equilibrium. هكذا نعدل المعاني في ضوء الاعتقادات، ونعدل الاعتقادات في ضوء المعاني، إلى أن نصل إلى نظرية شاملة في سلوك المتحدث تجمع كلًّا من نظرية المعنى ونظرية الاعتقاد في نظرية واحدة في التأويل. وصفوة القول في «مبدأ الإحسان» هو أن الترجمة أو التأويل الناجح لا يكشف فحسب عن قدرٍ كبيرٍ من الاتفاق في أغلب الأحيان، بل إن قدرًا كبيرًا من الاتفاق هو شرطٌ مسبَق لكل ترجمة أو تأويل ناجح! (المترجم)
١٦  هذه الطريقة في وضع المسألة مضلِّلةٌ بعض الشيء. فكل اعتقاد له عِلَلٌ لا نهاية لها، وتعتمد عِلةُ اعتقادٍ ما، العِلة التي تحدد محتواه، على أية علة تلك التي تبرُز للمُؤَوِّل أو الجديرة بأن تبرز. وهذا من الأسباب التي تجعل المؤَوِّل في نظرية ديفيدسون محوريًّا لا يمكن استبعاده. (المؤلف)
١٧  تَحَكُّمِيَّة/اعتباطية. (المترجم)
١٨  أي متماثلتين شكلًا. (المترجم)
١٩  جرَى الاتفاق على أن تُتَرجَم كلمة reasons التي تعني المبرِّرات العقلية ﺑ «الأسباب»، وأن تُتَرجم كلمة causes التي تعني الأسباب الطبيعية ﺑ «العِلَل»، حتى نساير المصطلح الفلسفي الحديث. ثمة وجهتان من الرأي بين الفلاسفة فيما يتعلق بالشروط الضرورية لنجاح التفسير بالأسباب (العقلية)؛ الأولى، وهي التي يقول بها ديفيدسون، ترى أن هذه التفسيرات لا تنجح إلا إذا كانت الأسباب reasons (العقلية) عِللًا reasons (طبيعية) أيضًا. والثانية ترى أن الأسباب (العقلية) مستقلة مكتفية بذاتها، ولا يمكن ردها إلى عِلل (طبيعية)؛ فالرابطة بين الفعل وسببه (العقلي) هي رابطة منطقية وليست رابطة عِلِّية (طبيعية)، فما كان للفعل أن يكون ما هو لو لم يتخذ هويتَه من موقعِهِ في خطةٍ قصدية للفاعل (بل سيكون مجرد جزئية سلوكية غير قابلة لأي تفسير عقلي على الإطلاق)، فالأسباب (العقلية) والأفعال ليست أحداثًا سائبةً منفصلة تُمسِكها العلاقاتُ العِلِّية الطبيعية معًا أو تلصقها سويًّا. أما الرأي المضاد، وهو رأي ديفيدسون، فيذهب إلى أن وجود سببٍ (عقلي) هو حدث عقلي، وما لم يرتبط هذا الحدث عِلِّيًّا بعملية الفعل لما أمكننا أن نقول إنه السبب الذي يؤدَّى هذا الفعل من أجله. إن الأفعال قد تؤدَّى بباعث من سببٍ (عقلي) معين وليس بسببٍ آخر؛ ذلك أن السبب (العقلي) الذي يفسرها هو ذلك السبب الأقدر «عِلِّيًّا» causally على إثارة الفعل. (المترجم)
٢٠  العبارة اللاوقائعية (أو ضد-الوقائعية) counterfactual (واللفظة تعني حرفيًّا: ضد الوقائع المقررة) هي عبارة شرطية مُقَدَّمُها antecedent كاذب، وتاليها consequent يصف كيف يكون العالم لو أن المُقَدَّم لم يَحصُل قَط. تتخذ القضية اللاوقائعية صورة عبارة شرطية خائلية subjunctive conditional (صورة العبارة الشرطية الخائلية بعامة هي: إذا كان ق قد حصل، إذن لكان ك قد حصل). في حالة العبارة اللاوقائعية، فإن المقدَّم كاذب، وتريد العبارة أو القضية أن تقدِّر كيف يكون الحال لو أن المقدم لم يحصل. مثال ذلك: «لو لم تبلغ سرعة الريح خمسين ميلًا في الساعة، لما انهار الجسر»، «لو أن مجلس الأمن كان قد قام بدوره، لكان أمكن تجنُّب الحرب». (المترجم)
٢١  يُطلَق مصطلح «السيكولوجيا الشعبية» على النظرية التي نشترك فيها جميعًا، ونستخدمها في فهم سلوك الناس من حولنا والتنبؤ به. وهي في معظمها مضمَرة أو غير صريحة. إلا أن أكثر ما يلفت النظر إلى السيكولوجيا الشعبية هو نجاحها الواقعي الكبير. إن بإمكاننا في كثير من الأحيان أن نفسر ما يشغل الآخرين حاليًّا، بل إن بإمكاننا كذلك أن نحدس حدوسًا ذكية بما هم يعتزمون فعله. ورغم أن السيكولوجيا الشعبية قد تكون شديدة التركُّب والتعقيد، فهي تقوم على عدد قليل من الأفكار البسيطة. إحدى هذه الأفكار مفادها أن لدى الناس اعتقادات. والفكرة الثانية أن لديهم رغبات. وهناك بَعدُ فكرةٌ أخرى لعلها واسطة العقد بين هاتين الفكرتين، وهي أن الناس «عقلانيون»، إذا «رغبوا» في شيء، و«اعتقدوا» أن «سلوكًا» ما قمينٌ بتحقيق هذا الشيء، فسوف يتبنَّون هذا السلوك. (المترجم)
٢٢  الأداتية instrumentalism: هي وجهة النظر القائلة بأن النظريات العلمية (والأفكار والتصورات والألفاظ …) ليست صورًا صادقةً للواقع، بل هي مجرد أدوات (وسائل/ذرائع/وصفات إجرائية) مفيدة لوضع حسابات وتنبؤات. (المترجم)
٢٣  الإيثولوجيا ethology: هو العلم الذي يدرس سلوك الحيوانات في بيئتها الطبيعية. (المترجم)
٢٤  تتألف كلمة أنثروبومورفيزم من كلمتين يونانيتين؛ anthropos، وتعني «إنسان»، وmorphe، وتعني «شكل». الأنثروبومورفية إذن هي «أَنسنةُ» غيرِ الإنسان، أو أخذ اللاإنساني مَأخذَ الإنساني، أو إضفاء صبغةٍ بشرية على ما ليس بشرًا. والأنثروبومورفية (الأنسنة) وفقًا لمعجم أكسفورد الفلسفي هي «تمثيل الآلهة، أو الطبيعة، أو الحيوانات غير البشرية، على أن لديها أفكارًا ومقاصد إنسانية. أحيانًا ما يكون ذلك تمثيلًا استعاريًّا معلَنًا، فتكون المشكلة إذ ذاك أن نفهم وجهَ الاستعارة».
وقريب من ذلك مصطلح «المغالطة الوجدانية» pathetic fallacy، أي إسباغ الخصائص الإنسانية، المشاعر بخاصة (أو الانفعال أو «الوجدان» pathos) على الطبيعة والجمادات، من مثل قولنا: السماء الضاحكة، البحر الغاضب، إعصار لا يرحم، بحيرة هادئة، أشجار حزينة … إلخ.
الأمر كما ترَى هو نوع من «التمركز على الإنسان» anthropocentrism يُصادِر بأن كل شيء آخر في الوجود لا بد يشبهنا على نحوٍ ما. أو هو محاولة منا، نحن البشر، لفهم أي شيء لا نملك إليه منفذًا معرفيًّا مباشرًا، فنتخيل أنه يسلك مثلنا تمامًا. وقد يوغِل العقل، البدائي بخاصة، إلى حد أنسنة أرواح الأشياء والظواهر الطبيعية، الرياح والأنهار والرعد … إلخ، والأحداث، كالحرب والموت … إلخ، والمفاهيم المجردة، كالحب والكره والجمال والخصام … إلخ! (للمزيد عن الأنثروبومورفيزم، انظر الطبعة الثانية من كتابنا «المغالطات المنطقية»، دار رؤية، القاهرة، ٢٠١٣م، ص٣٩٣–٤٠٦). (المترجم)
٢٥  Beagle: من كلاب الصيد. (المترجم)
٢٦  القَبلي/الأوَّلِي/السبقي/الأولاني a priori: يعني المعرفة التي لها أسبقية منطقية على التجربة (الخبرة)، أو الاستدلال المبني على مثل هذه المعرفة، وهو، بالتالي، المعرفة الفطرية في مقابل تلك التي تُستمَد من الحواس. ويُقال هذا المصطلح في مقابل «البَعدي» a posteriori، أي المستمَد من التجربة (الخبرة) أو المبني عليها. (المترجم)
٢٧  يقول بوبر في كتابه «المعرفة الموضوعية»: «إن لنا أن نعد هذه الأساطير، وهذه الأفكار، وهذه النظريات من أهم منتجات العمل الإنساني وأميزها. إنها، شأنها شأن الأدوات، أعضاء تتطور خارج جِلدِنا. إنها مصنوعات خارج الجسد. ولنا من ثم أن نعد من أخصِّ هذه المنتجات ذلك الذي أسميناه «المعرفة البشرية»، آخذين لفظة «معرفة» بالمعنى الموضوعي أو غير الشخصي، الذي يتيح لنا أن نقول إنها توضع في كتاب أو تُذخَر في مكتبة أو تُدَرَّس في جامعة.» «يُنظَر عادةً إلى الانتخاب الطبيعي والضغط الانتخابي على أنهما نتاجان لصراعٍ عنيف من أجل الحياة. غير أنه مع انبثاق العقل، وعالم٣ (عالم المعرفة البشرية الموضوعية) والنظريات، تَغَيَّرَ الأمر، وصار بوسعنا أن نترك نظرياتنا تصطرع نيابةً عنا، وتموت بدلًا منا. ومن وجهة نظر الانتخاب الطبيعي، فإن الوظيفة الرئيسية للعقل وللعالم٣ هي أنهما جعلا من الممكن استخدام منهج المحاولة وإقصاء الخطأ بدون إقصاءٍ عنيفٍ لأنفسنا، ها هنا تكمن القيمةُ البقائية الكبرى للعقل وللعالم٣. فمع انبثاق العالم٣ لم يعد الانتخابُ بحاجةٍ إلى العنف، لقد أصبح بوسعنا أن نستبعد النظريات الزائفة بواسطة نقدٍ لاعنفيٍّ. لم يعد التطور الثقافي اللاعنفي مجرد حلمٍ يوتوبي، بل أصبح نتيجة ممكنة لبزوغ العقل من خلال الانتخاب الطبيعي.» (المترجم)
٢٨  أو «الحَدس الافتراضي». (المترجم)
٢٩  أيْ ديكارتي.
٣٠  to analyze away.
٣١  experienced.
٣٢  experiences.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤