الفصل الأول
سعيد ميلاش
أخذ المطر يتساقط حوالي الساعة الرابعة. اقترب سعيد ميلاش من حوض البنزين ليزيل الحبر الأزرق الذي لطَّخ يديه. وكان المحصل — وهو شابٌّ أصهب — قد أخذ أمر التعبئة وحل محله على طرف مطبعة الهايدلبرج. اكتفى ريمون — الذي يدير الآلة — بإبطاء سرعة الطباعة. وها هو يعود — الآن — إلى السرعة الأولية، والملصقات تتكدس — بانتظام — فوق الطاولة؛ يضبط إيقاعَها صوتٌ جاف تصدره المشابك وهي تتفتح. ومن حين لآخر، يلتقط ريمون ورقة، يطويها ويراجع وضع علامات الطبع، ثم يضغط بإبهامه فوق اللون المُوَحَّد؛ ليتأكد من جودة أداة التحبير. راقبه سعيد للحظة، ثم قرر أن يطلب منه إحدى نُسخ البروفة. ارتدى ملابسه بسرعة، وخرج من الورشة. مدَّ سعيد يده بتصريح الخروج الذي حصل عليه في الصباح، متذرعًا بمرض أحد أقاربه. ثلاثة أعذار في أقل من عشرة أيام! آن أوان وضع حد لهذا الأمر. أخذ الحارس الورقة ووضعها في جيبه: يبدو أنك تختلقها يا سعيد. وإذا استمر الحال هكذا، فستُرسل بتصاريح الخروج بالبريد، ولن تحتاج إلى المجيء هنا.
أجبر نفسه على الابتسام. ظلت علاقاته بزملائه في العمل وديَّة؛ لأنه بذل قصارى جهده في أن يبعد عن ذهنه تعليقاتهم التي لا تنتهي.
كان الوناس ينتظره بعيدًا. عند تقاطع ممر ألبينيل. لذا، فعليه أن يعبر قناة سان-دني، ويسير بمحاذاة الأكواخ المصنوعة من الخشب والصفيح التي احتلت حافة القناة. بدا الجسر محدبًا. ومع صحو الجو، يمكن رؤية كنيسة «القلب المُقدَّس» بكاملها خلف مدفأة «سان-جوبان» الهائلة المبنية من القرميد الأحمر. أبطأ خُطاه وأخذ يتسلى بتحريك رأسه ليضع كنيسة «البازيليك» فوق تلال الكبريت المُكدَّسة داخل سور المصنع. ولكي ينجح، انحنى دون أن يبالي بدهشة المارَّة. وتحت، على الرصيف، كانت رافعة تلتقط — من داخل قارب نهري — ألواحًا معدنية يحملها ونش شوكة «فنويك» — على الفور — نحو عنابر «بروزيلور».
وتتالت المقاهي، والمطاعم، والفنادق، «عند روزا»، «عند ماريوس»، «قهوة العدالة»، «مشهيات»، «بار الجاز». وكُلٌّ منها أكثر بؤسًا من الآخر. فمع مرور الوقت، كان المُلاك قد باعوا متاجرهم إلى جزائريين احتفظوا بلافتاتها القديمة. والاستثناء الوحيد هو اﻟ «دجرجورا»؛ آخر مطعم عربي قبل الحي الإسباني. دفع سعيد الباب الزجاجي، وتقدم نحو الصالة الفسيحة، والرائحة المألوفة — خليط من النشارة والرطوبة — تنبعث من الأرض الخشبية المُطهَّرة بالكلور، وعشرة رجال يجلسون على مقاعد تحيط بمدفأة فحم، يراقبون لاعبي الدومينو. اتكأ سعيد على البار دون أن يلتفت إليه أحد: هل وصل الوناس؟
أشار صاحب المقهى أن لا، وقدَّم له القهوة.
وعبر الزجاج، كان يمكن لسعيد رؤية بناء ضخم — أهم بناء في الحي — إذا ما استثنينا المصانع. وحده البرج، بأجراسه الثلاثة، كان يدل على أنه ليس ورشة أخرى. لم يسبق له عبور مدخل إرسالية «سانت-تريزا دي جزيه» من قبل إلا مرة واحدة، مدعوًّا إلى حفل زفاف زميل له في العمل من قطالونيا. طغت أصوات قرقعات الدومينو — فوق المائدة الفورميكا — على جرس باب الدخول: أهلًا سعيد. تأخرت عليك. لم يكن صاحب العمل يريد أن أخرج.
استدار سعيد ووضع يده على كتف الوناس.
– المهم أنك هنا. فلنذهب إلى المكتب. لم يبقَ لنا إلا ساعة.
أصبحا الآن في غرفة صغيرة جدًّا تزدحم بالصناديق والزجاجات. وعلى المائدة، أكداس من الأوراق والفواتير تحيط بتليفون أسود.
أنزل سعيد إعلانًا لشركة «بيكاردي» للنبيذ. أزاح الإطار بحرص شديد، وسحب ورقة مخبأة بين الكرتون والصورة. كان الوناس قد جلس على المكتب.
– أرأيت؟ لن يستطيع «ريمز» البقاء في الصدارة. أنا واثق أنهم سيُسحقون سحقًا قبل نهاية الدوري، ثلاثة/واحد لصالح «صدان»! مباراة أخرى كهذه ويسبقهم «لينز».
– هناك أمور أخرى أكثر أهمية من الحديث عن كرة القدم. اتصل بزعماء المجموعة الخمسة عشر. قل لهم «ركس» فقط، وسيفهمون. وفي هذه الأثناء، سأذهب لأرى المسئولين عن القطاع، الحقْ بي أمام «راديو بيجمي» بالسيارة، بعد ثلاثة أرباع ساعة من الآن. لا تنسَ إعادة القائمة مكانها.
غادر قطارُ المحطة. تركهما الكمساري ينتظران قليلًا قبل أن يثقب تذكرتيهما. توجه الوناس نحو خريطة شبكة الطرق، وأشار بإصبعه إلى محطة بون نوفيل.
– نُبدِّل المترو في «جار دي لاست» ثم في «ستراسبورج سان-دني»، أم نأخذ خط «شوسيه دانتان» مباشرة؟
– فلنأخذ «شوسيه دانتان»، يبدو أطول لكننا لن نبدِّل الخط إلا مرة واحدة، وسنصل أسرع.
راح المترو — في كل محطة — يمتلئ بالجزائريين، وفي محطة ستالينجراد، ازدحم تمامًا. كان الأوروبيون القليلون يتبادلون نظرات قلقة، فيما سعيد يبتسم. تذكَّر — فجأة — الملصق الذي طلبه من ريمون قبل مغادرة المطبعة. أخرجه من جيبه، وفرده بحرص قبل عرضه على الوناس.
– تفرج على ما أطبعه على آلتي منذ يومين! فوق صورة «جياني إسبوزيتو» و«بتي شنيدر»، كان هناك نص قصير عن أول فيلم لجاك ريفيت، وقد امتد عنوانه في أحرف زرقاء، بعرض الورقة: «باريس ملكنا.»
– الوناس؛ تخيَّل! باريس ملكنا.
– لمدة ليلة. بالنسبة لي، سأترك باريس حقًّا وكل ما تبقى من أجل قرية صغيرة في «الهدنة».
– أظن أنني أعرف اسمها.
– إذن قُلْه!
تجهَّم سعيد.
– لا تقلق. إذا كنا هنا هذه الليلة؛ فذلك ليحق لنا أن نشيخ في جبل رفاعة.
في الساعة السابعة وخمس وعشرين دقيقة من الثلاثاء ١٧ أكتوبر ١٩٦١م، كان سعيد ميلاش والوناس توجور يصعدان درجات محطة مترو بون نوفيل، وسينما «ركس» الفخمة تعرض «مدافع نافارون»، ومئات الباريسيين ينتظرون — بنظامٍ — حفلَ الساعة الثامنة مساءً.
روجيه تيرو
لم تكن «العصور الوسطى» — فقط — هي التي تثقل على الفصل وتفرض عليه هذه الأجواء الفاترة؛ فبدايات البرد الأولى، والمطر الذي يُظلم المبنى القديم لهما فضل في ذلك، بالإضافة إلى وجبة مطعم الليسيه الدسمة. تساءل روجيه تيرو بقلق في بداية الدرس، عما إذا كان عليه البحث عن سبب هذا الفتور في طريقة تدريسه الخاصة. لقد شُغِف — منذ حمل زوجته — بتاريخ الطفولة، وأدخل — في شرحه — عدة ملاحظات حول هذا الموضوع. فمن ذا الذي اهتم — في وقت ما — بوضع الطفل الرضيع في القرن الثالث عشر؟ لا أحد! ومع ذلك، يبدو له بحثٌ كهذا لا يقل شأنًا عن الأبحاث التي أجراها عشرات المتخصصين الأفاضل حول أحداث حاسمة، كتداول النقود البرونزية في حوض «الأكيتان»، أو تطور البلطة في «بواتو» الواطئة. سعل واستأنف قائلًا: بعد فترة الرضاعة الطبيعية (لم يجرؤ على القول من «الثدي» أمام تلاميذه)؛ لم يكن نادرًا — في القرن الثالث عشر — رؤية المرضعة وهي تمضغ الطعام قبل دسِّه في فم الطفل، ما إن تظهر له أسنان.
انتبه الاثنان وعشرون تلميذًا مرة واحدة، وأظهروا تقززهم — بجلبة — إزاء سلوكٍ كريه كهذا. تركهم روجيه تيرو يهدءون، ثم قرع السبورة بطرف مسطرته: تعالَ يا هيبير، اصعد إلى المنصة، واكتب عناوين الأعمال الآتية التي عليكم جميعًا — وأشدد على «جميعًا» — مراجعتها من مكتبة الليسيه، أولًا: «عن ملكية الأشياء» لبارتيلمي الإنجليزي، الفصل السادس، وسيكون مفيدًا لكم لتألفوا اللغة اللاتينية أكثر. ثانيًا: «الاعترافات» لجيلبير دي نوجان. انتهى الدرس. نلتقي يوم الجمعة، الساعة الثالثة بعد الظهر.
خلت الحجرة من الجميع، إلا من صبي يتلقى درسًا خصوصيًّا في اللغة اللاتينية، مرتين في الأسبوع، ويقيم في ميدان القاهرة. وقد اعتادا أن يصعدا — معًا — ضاحية بواسونيير، وهما يدردشان حول أحداث النهار. وقبل الوصول إلى البولفار، تذرع روجيه تيرو بضرورة شراء أشياء من أحد المحلات ليترك الصبي. دلف إلى شارع بيرجير، ودار بسرعة حول مجموعة البيوت التي تضم مبنى صحيفة «لومانيتيه» فوجد نفسه في البولفار. أخذ يرقب تلميذه — على بُعد مائتَي متر — وهو يعبر الطريق جريًا بين سيل السيارات. سار في هذا الاتجاه وتوقف أمام واجهة «ميدي-مينوي». انسل إلى البهو خلسة، دفع ثمن مقعده، ودخل القاعة السوداء. مدَّ يده بالتذكرة إلى عاملة السينما ومعها عملة فئة العشرين سنتيم. كان الفيلم قد بدأ، وعليه انتظار بداية العرض التالي ليعرف عنوانه.
كل أسبوع، يوم الثلاثاء أو الأربعاء، كانت هاتان الساعتان من الأحلام تُعوِّضان الجهد الكبير الذي يبذله ليقفز بخطواته قفزًا ويجلس في مكان الضياع هذا؛ حتى لا يكون شبيهًا بهم!
تخيَّل — دون مشقة — سخط زملائه عندما يعلمون أن الأستاذ تيرو — تصوروا، مدرس التاريخ واللغة اللاتينية — هذا الشاب الذي تنتظر زوجته طفلًا، يتردد على دور عرض تُقدِّم أفلامًا لا تليق بعقلية علمية. كيف يفسر لهم شغفه بكل ما هو خياليٌّ؟ لا أحد منهم قرأ لوفير كرافت! ربما يعرفون — بالكاد — إدجار بو. فما بالك ببوريس كارلوف ودونالي في «محصَّل الجثث». استغرق الفيلم ساعة وربعًا بالضبط. خرج من القاعة وفي ذهنه اسم المخرج. وايز، روبرت وايز، مخرج سيكون له شأن.
تردد بين بار «تبغ الصباح» وكافتيريا مبنى «لومانيتيه» بالدور الأرضي؛ حيث يمكنك أن تأخذ قهوة وتحملها في صينية إلى المائدة. وبينما ترتشف السائل الساخن، تتسلى بالتعرف على كبار كتاب الجريدة، وأشهر وجوه الحزب الشيوعي عند مرورهم. توريز، ديكلو، حتى آراجوان، كانوا يأتون هنا ليتناولوا وجبة بين اجتماعين، أو لينتظروا وصول مقالاتهم إلى المطبعة.
تأخر كثيرًا — لسوء الحظ — هذا المساء، فقنع بوجبة من محل تبغ. كانت جريدة «لوموند» تتناول الصعوبات التي تواجه الاتفاق الفرنسي-الألماني، والشائعات الكثيرة المنتشرة في كواليس المؤتمر الثاني والعشرين — هناك — في موسكو. قبل أن يعبر بولفار بون نوفيل، وتحت إعلان «ركس» المضيء عن «عالم جنيات الماء»، اشترى باقة من الميموزا وقطعتَي جاتوه. فكَّر في اليوم الذي سيحتاج فيه إلى ثلاث قطع وابتسم. أوشك — من شدة شروده — أن يصدمه شابان — فتًى وفتاة — يركبان موتوسيكلًا برتقالي اللون.
لم يتبقَّ أمامه سوى ارتقاء درجات شارع نوتردام دي بون نوفيل الخمس عشرة ليجد نفسه في بيته. نظر — بشكل عفوي — في اتجاه المترو، مثلما اعتاد أن يفعل منذ بضعة أعوام وهو ينتظر مورييل. وفي نفس اللحظة، ظهر جزائريان، ياقتاهما مرفوعتان، ليحتميا من الريح. كانت ساعة روجيه تيرو تشير إلى السابعة وعشرين دقيقة من مساء الثلاثاء ١٧ أكتوبر ١٩٦١م.
خيِّرة جيلانين
تقهقر الخروفان مذعورين عندما انحرف الموتوسيكل عن الطريق، وجاء ليستقر على حافة الأرض المستخدمة كمرعًى. خفَّف عونة من سرعته الآن وأخذ يطلق المحرك من حين لآخر. رفع السبابة والإصبع الوسطى — ليده الطليقة — إلى فمه وراح يصفِّر طويلًا، ثم أشار إلى الصبي ليأتي إليه: يجب أن تعود فورًا؛ فالوالد بحاجة إليك في الدكان.
– وخروفاي؟
– لا تخَفْ. لن يهربا! ماذا تريد لهما أن يفعلا؟ هل يُلقيان بأنفسهما في السين؟ هيا، اصعد خلفي.
جلس الصبي في مقعد الموتوسيكل «فلاندريا». وضع عقبَيه على مسمار محور العجلة الخلفية، وتشبَّث — بشدة — بدعامة المقعد. ورغم انشغال ذهنه، كان قادرًا على الحديث مع أخيه.
– هذا المساء، سأذهب إلى باريس مع خيِّرة. وللأسف بقيت ثلاث بهائم يجب تجهيزها لزفاف ابن الأطرش. ألن تذهب إلى المدرسة غدًا؟
– لا. المعلم مريض، وكما تعرف، فلديَّ يوم الثلاثاء مباراة، وسنقابل — أيضًا — فريق شارع «الربيبليك».
– في ملعب سيميتير دي فيو؟
– لا. في هيرونديل. وزيادة على ذلك، فهم يلعبون في أرضهم. لن يكون الأمر سهلًا. وإذا لم أذهب، فسيضعون صبي «الوادي» حارسًا للمرمى، ليحل محلي. إنه «كسكسية» حقيقية.
– يقولون — بالفرنسية — «مصفاة».
– والوادي، أتعتقد أنها كلمة فرنسية؟!
اجتاز الموتوسيكل طريق جرِّ السفن على مرتفع إيل فلوري، ليطوف بمستودعات «الورق المتحدة». بدأ الضباب البارد يهبط ممزوجًا بالمطر، وقد حجب — الآن — الأطراف العليا لمصنع الغاز. دخلا مدينة الصفيح كالإعصار عبر شارع بريه. جذبت فرقعة المحرك نحوهما — وقد تكررت مرتين — سربًا من الصبية سيطرت على كلٍّ منهم فكرة واحدة؛ أن يمتطي مؤخرة الجهاز. أبطأ عونة السرعة، واتجه نحو كوخ من أكواخ الأسمنت القليلة؛ حيث حمل رجل خروفًا مسلوخًا على كتفه. فتح عونة الباب بقدمه، فظهرت كلمة «جزارة» مكتوبة بالطباشير وبالحروف الكبيرة. كان شباك المنزل هو مكان تسليم اللحوم. وفي الشارع، وقف زبونان في انتظار أن يلبي الجزار طلباتهما. وبجانبهما، انهمك بعض الرجال في ترميم سقف كوخ. كانوا يسمِّرون أطراف الألواح الخشبية ويثبتونها بأربطة من المطاط، اقتطعوها من الإطارات البالية.
دخل عونة الدكان وهو يدفع بالفلاندريا، واجتاز الغرفة التي تؤدي إلى الحوش الداخلي. منذ خمسة أعوام، اشترى والده — بثلاثمائة ألف فرنك فرنسي قديم — الكوخ رقم ٢٤٧ من أسرة من منطقة «جيمار» قررت العودة إلى الوطن. في هذه الفترة عام ١٩٥٦م، ما كانوا يمتلكون سوى ثلاث غرف والفناء: الدكان، وغرفة نوم الوالدين؛ حيث ينام أصغر الأطفال، والغرفة التي اقتسمها مع أخيه وخيِّرة. وفيما بعد، قام — هو ووالده — ببناء حجرتين؛ مما أتاح لأخته الكبرى أن تصبح أكثر استقلالًا.
كانت خيِّرة تنتظر في الفناء. لم تكن تشبه فتيات مدن الصفيح الأخريات؛ فكل صديقاتها — وهن في الخامسة والعشرين — قد تزوَّجن منذ سنوات ويسحبن خلفهن جيشًا من الصبية، عالمهن الوحيد هو هذا الفناء — أو آخر يشبهه تمامًا — إضافة إلى محل «بريزونيك» في نانتير. أفق من أرض بور محصورة بين المصانع ونهر السين؛ على بُعد عشر دقائق — بالأتوبيس — من الشانزليزيه! عرفت خيِّرة نساءً لم يخرجن من مدن الصفيح منذ عامين، بل ثلاثة.
هكذا كانت والدتها. ويوم وفاتها، أقسمت خيِّرة ألا تصبح مجرد امرأة عادية. أخذت ترعى إخوتها، وتهتم بكل ما تحتاجه الحياة اليومية لستة أشخاص: السوق، الطبيخ، الأعمال المنزلية، المحافظة على الملابس، تموين الخشب والحطب، وقبل كل شيء، سُخرة المياه. هذه الجرادل التي يجب ملؤها — شتاءً وصيفًا — من حنفية الميدان وتخزينها — في الحوش — للطبيخ، والغسيل، والاستحمام، والدكان. تمسكت بقسمها. وحتى تعوض هذه الطاعة البديهية من أجل سعادة أسرتها، تخلَّصت — شيئًا فشيئًا — من عبء التقاليد. وبالنسبة للجيران، أخذ هذا التطور البطيء أشكالًا فجائية جريئة، يصعب تصورها من «امرأة جزائرية حقًّا».
تتذكر خيِّرة أول صباح تجرأت فيه على الخروج — وهي ترتجف — بالبنطلون. لم يكن جينز كالذي يرتديه إخوتها، بل مجرد بنطلون من الترجال، واسع ويخفي هيئتها؛ مثله مثل الثوب. لم يجرؤ أحد — لحظة مرورها — على إبداء أية ملحوظة بصوت مسموع. فقط بضع ابتسامات طمستها — بسرعة — نظرتها الراسخة. كانت شديدة الاعتداد بنفسها، وتفضل الموت على الاعتراف بأنها تدربت — أسابيع بأكملها في المنزل — قبل مواجهة تعليقات الآخرين.
تقدمت نحو أخيها وقدح في يدها.
– أمسك، اشرب. إنه عصير البرتقال. إذَن قررتَ المجيء معنا؟
– أنا ملتزم بما قلتُه لكِ. سأصحبك إلى موعدك، ثم أُهرَع إلى النادي بأسرع ما يمكن. سيقدمون «لي شاسوفاج» — هذا المساء — في برنامج ألبير رينيير. أكيد ستفوتني البداية.
– لو كان ذهابك معي يضايقك، فسآخذ الأتوبيس والمترو.
وضع عونة ذراعيه حول كتفَيْ خيِّرة وقبَّلها بلطف على خدها.
– تصبحين شديدة الحساسية عند الحديث عن حبيبك.
انفلتت من العناق بحيوية، ولاذت بالمطبخ.
– افهم ما تشاء! فحتى نكون في باريس الساعة السابعة والنصف — بالمواصلات العامة — يجب الذهاب الآن فورًا، كما أنني سألتقي — أيضًا — بأهالي أحياء ناننتير الأخرى. وبصرف النظر عن ذلك، فالكُسْكُسيُّ لم يُجهَّز بعد، وأنت لن تهتم بإطعام الصغار.
– انسي ما قلته لك. أردت فقط أن أداعبَك. ومتى ينتهي الموضوع؟
– لا أعرف. في العاشرة أو الحادية عشرة. لا تقلق. سعيد والوناس سيعيدانني إلى المنزل، حسب اتفاقهما مع صديق لهما، يقيم في شارع دي لا كارين، بالقرب من ورش «سيميكا». غدًا صباحًا سيصلون إلى بوابة مايو، ويأخذون الأتوبيس حتى محطة لافيلات. لقد ترك الوناس سيارته بالقرب من هذا المكان.
– الأسهل أن تذهبوا جميعًا وتأخذوا السيارة هذه الليلة، حتى لا ينزعج صبي «لا جارين».
– ربما تكون على حق. لكنها التعليمات. وجودنا في المترو أكثر أمانًا من وجودنا في السيارة، خاصة بعد المفاجأة التي نعدُّها لهم!
أخذت — وهي تتحدث — تخلط الكَسْكسي وتهرس حبَّات السميد بين أصابعها. أسقطت بملعقة عدةَ بيضات في إناء به ماء مغلي. أعدت المائدة للأطفال، ثم أخرجت ثلاث علب زبادي «فيتو» من النملية ذات السلك المعلقة على الحائط.
– ستقول للوالد إن كل شيء جاهز.
غادرت المنزل. وفي الشارع، حيَّت زبائن والدها. توجهت نحو منازل شركة المياه. هنا أقام سكان مدن الصفيح الأوائل. لا أحد يعرف لأي سبب غامض تركت الشركة هذه الأراضي البور عرضة لتقلبات الدهر. أربعة مبانٍ لم تكتمل. نوع من الصناديق المستطيلة الفخمة من القرميد الأحمر، أقامت فيها عدةُ عائلات فوسَّعت مأواها، وأضافت إليها طابقًا من صفائح الحديد والخشب. ومع مرور الأشهر والأعوام، انضمت إليهم عائلات أخرى. واليوم، أصبحت هذه المباني مركزَ وقمةَ تجمُّعِ الأكواخ والملاجئ التي يعيش فيها ٥ آلاف شخص: مدينة صفيح برية.
قبل أن تصعد الطابق، أشعلت خيِّرة عودَ كبريت وأضاءت درجات السُّلم المنفصلة، كان في انتظارها ثلاث نساء ورجل في حجرة فقيرة الأثاث. نهضوا عند دخولها، ووضع كلٌّ منهم — بدوره — يده على قلبه وجبينه بعد أن سلَّم عليها.
– وقتنا ضيق، فانتبهوا: هدفنا — أساسًا — جسر نويي. موعدكم الساعة الثامنة إلا خمس دقائق، مع أهل بوزون، سارتروفيل، وبيتو، على رصيف دي ديون-بوتون، أمام حدائق ليبودي، وسيكون أهالي كولومب، وكوربفوا، وآسنيير في الجانب الآخر من الجسر، على رصيف بول-دومي على مرتفع جزيرة دي لا جراندجات. وللوصول إلى نويي، عليكم بالمرور عبر بيتو، وتجنب المحاور الرئيسية. احذروا الاقتراب — بشكل خاص — من المون فاليريان؛ فهو يكتظ برجال الشرطة، وأعتقد أن خط السير الأكثر أمانًا هو شارع كارنو والباروجيه؛ في اتجاه المقابر القديمة. وعندما تصلون إليها، انتظروا حتى الساعة الثامنة إلا خمس دقائق، ثم اصعدوا جسر نويي. ستجدون كمال ورجاله في الموقع، وسيخبرونكم بما نقرر. نهضت، لكن الرجل أمسك بها من كُم بلوفرها الصوفي.
– خيِّرة، قولي لنا، لم يعد في الأمر أية خطورة. أين سنصل؟ إلى الشانزليزيه؟
صرخت خيِّرة.
– عونة؛ توقف. وصلنا. سعيد ينتظرني عند فتحة خروج المترو؛ أمام استديو للتصوير. تعالَ معي؛ على الأقل لتقول له صباح الخير.
ربط عونة دراجته في عمود لافتة حظر الوقوف. سارا في البولفار مسافة عشرة أمتار. لم يكن هناك أحد بعدُ أمام استديو موجيه. لكنهما اضطرا إلى إبطاء خطواتهما عندما وجدا الرجل — الذي أوشكا أن يصدماه — يسير أمامهما. لحسن الحظ، دخل شارعًا ينحرف يمينًا بجوار السلالم، وفي نفس اللحظة، تبينت خيِّرة وجه سعيد وهو يصعد فتحة المترو. اشتدت ضربات قلبها. ورغم البرد، شعرت بوجنتيها تلتهبان فتنفست بعمق من أنفها حتى لا تندفع نحوه.
وفي واجهة محل مجوهرات يقع في تقاطع شارع نوتردام دي بون نوفيل، كانت ساعة ضخمة — ذات بندول نحاسي — تشير إلى السابعة وخمس وعشرين دقيقة، مساء السابع من أكتوبر ١٩٦١م.