الفصل العاشر
أخذ الرقيب لاردان يُكمل إفطاره في بار الفندق، ويحاول فكَّ طلاسم الكلمات المتقاطعة بصحيفة «لوفيجارو». شاهدته يضع قطعة خبز مدهونة بالزُّبد، ويملأ عدَّة أسطر دفعةً واحدةً.
– صباح الخير يا لاردان. أنت من هواة الكلمات المتقاطعة أيضًا! فلتذهب إلى الكازينو بين حين وآخر، يبدو أنه يوحشك.
انتفض عندما سمع صوتي.
– المفتش! الآن في باريس! لم أتوقع وصولك قبل الظهيرة. سافرت ليلًا، نمت؟
– نعم، وجدت سريرًا في عربات النوم. حسنًا. هذا الكونستابل، هل لحقت به؟
– نعم، مساء أمس حوالي الساعة الحادية عشرة، في معسكر «ماريديك روز» في تريبوردن، توصلت إليه بالتليفون. الرينو «٣٠ ت. إكس» مسجلة في باريس حقًّا. يجب الاتصال بمكتب البطاقات الرمادية للحصول على اسم المالك.
– ألم يذكره لك؟
– لا، ما إن أوقفناه حتى أخرج بطاقة ثلاثية الألوان، وصاح محتجًّا بأنه في مهمَّة، تركه الشرطي يُسرع، لكنه التقط الرقم آليًّا «٣٦٢٧ دي أشْ أ ٧٥».
– ممتاز يا لاردان! سأتولَّى البحث عن اسم مالك السيَّارة. أما أنت، فأسرع إلى مدام تيرو، شارع نوتردام دي بون نوفيل، واسألها إن كانت تذكر رحلة قام بها زوجها إلى تولوز في أكتوبر ١٩٦١م، قبل موته ببضعة أيام، ثُم اذهب لتصحب كلودين شينيه من منزلها، انتظراني — بهدوء — أنتما الاثنان في مقهى «دي باليه» على حافة السين، بعد مديرية الأمن بقليل. سأكون هناك حوالي الثانية بعد الظهر!
أتاح لي طول الفترة الصباحية المرور على قسم البطاقات الرمادية ومعرفة اسم مالك الرينو، والعثور عليها، والحديث مع سائقها المعتاد.
ثُم اتصلت بمسئول الشئون العامة بمديرية أمن تولوز، الذي رحَّب بالإجابة عن أسئلتي. ولأختم المسلسل، أخبرت دالبوا بقدومي إليه.
– أهلًا كادان. هل أفادك خطابي في شيء؟ ليس سهلًا العثور على رجُلك؛ فهم يحتفظون به سرًّا. أهو فعلًا؟!
– نعم، لقد قُتل روجيه تيرو عام ٦١ تنفيذًا للأوامر، لكنني لا أعتقد أنه شارك في اغتيال ابنه، والحقيقة أنني قابلت رجلًا مريضًا على المعاش، لا يأمل إلا في شيء واحد: أن يصبح منسيًّا، إلا إذا كان تمثيله أفضل مما أتصور.
– هذا محتمل جدًّا. رَجُلك الوديع — المُحال على المعاش — تحرك بعد زيارتك. تلقَّيت الأصداء ممن أعطاني بطاقته. لا تثق — بالذات — في هذا النوع من الناس؛ فمَن ينفِّذ عملًا كهذا، ليس صبيًّا بريئًا! فاحذر الأشباح.
– وتعتقد في إمكانية العثور عليه هنا، أأنا مُخطئ؟
– لا، أنت مُحقٌّ. حسنًا، يلزمني إثبات ما، لقد كوَّنت وجهة نظري، لكنك تعرف ضرورة تقديم شيء ملموس. كلُّ موظف في الشرطة تشرف عليه الإدارة، من يوم دخوله الخدمة حتى يوم إحالته على المعاش، ولي — مثلك — ملف يُرفع — كلَّ عام — ومعه تقرير من الرئيس الإداري. حسنًا؟
– نعم، طبيعي، ولا أعرف طريقة أخرى لإدارة هيكل يتألف من مائة ألف رجلٍ، وعن كَثَبٍ.
– لا أنتقد النظام، كلُّ مهنتنا تتلخَّص في هذه الوثيقة التي تُرسَل إلى مدير المديرية في فترة الانتقالات. عندما وصلت إلى تولوز، كان ماتبيو مُطَّلعًا على تصرفاتي السابقة وآراء رؤسائي السابقين. حسنًا، آمل في الحصول على ملف كهذا. ممكن؟
– ملفك الشخصي؟ لا، لا أستطيع، إنه في تولوز! هنا لا أستطيع الاقتراب إلا من بطاقات باريس.
– لا يُهمُّني ملفي، إنني أعرفه أفضل من أيِّ شخصٍ آخر! أريد الحصول على ملف موظف بمديرية أمن باريس.
– ذلك أفضل، سأبحث عن واحد من النقابيِّين، ممن يهوُون إلقاء نظرةٍ متأنية على شئون العاملين.
– آه! تطبخ الأمور مع النقابيِّين! إنه آخر ما كنت أتوقعه!
– باعتدال؛ فالعمل في المباحث العامة يتطلب توزيع العلاقات، بعضها مفاجآت غير متوقَّعة، لكنها، على أية حال، مفيدة. ونقابات الشرطة متفردة إلى حدٍّ ما، خاصة مجموعة الأقليات. فمَن يحصد أقل من عشرة في المائة من الأصوات في الانتخابات يبحث عن تأييدٍ، وما نستخلصه من ذلك: أنها لحظة التدخل. وإذا تضخموا، نستطيع — دائمًا — أن نذكرهم ببعض العلاقات المزعجة إلى حدٍّ ما! كل شيء قابل للتفاوض، وخاصة الشرف. أعطني اسم صاحبك، وانتظرني في الممرِّ، سأعطيك الملف خلال ساعة من الآن.
اكتفيت — في الغداء — بسندوتش «سوفلاكي»، اشتريته من صاحب كشك يوناني مزعوم، التهمت السندوتش وأنا أسير في اتجاه جزيرة «لا سيتيه». البصل كثير جدًّا.
جلس الرقيب لاردان وكلودين شينيه يتحدثان — بهدوء — على رصيف مقهى «دي باليه». كانت كلودين ترتدي فستانًا، فرأيت — لأول مرة — ساقَيها الناعمتَين الذهبيتَين. قامت عند اقترابي.
– ماذا يحدث أيها المفتش كادان؟ زميلك لا يريد أن يقول أيَّ شيء، أهناك جديد؟
– نعم، هيا بنا.
دخلت فناء مديرية الأمن، يتبعني الرقيب لاردان وكلودين. وكانت سيارة مرسيدس لونها أخضر معدني تقف في ساحة الشرف، أشار لنا حاجب — يرتدي الزي الرسمي — إلى الباب «ﺣ» وهو يمُدُّ ذراعه نحو القبة؛ حيثُ وُضع مكتب ومقعد في المدخل. اعترضنا الحاجب على عتبة سلم كبيرة.
– ماذا تريدون؟
تقدمت نحوه.
– نأمل في مقابلة السيد فييو.
– السيد المدير مشغول في اجتماع. ألديكم موعد؟
أجبت بالنفي. مدَّ يده بسجل وبقلم حبر.
أبعدت السجل.
– لا نستطيع الانتظار، وصلت من تولوز خصوصًا للاجتماع به، ارفع سماعة التليفون، وقل للسيد فييو إن المفتش كادان تحت، ويريد رؤيته في الحال.
نفَّذ المطلوب منه على مضض. أدار رقم الشئون الإجرامية. وعندما وضع السمَّاعة، أحنى رأسه وقال بصوت مخنوق: سيد كادان، هذا مستحيل، حاول حضرتك العودة مرة أخرى، بعد الظهيرة أو غدًا.
قررت تجاوزه. حاول الحاجب منعي، لكنني أبعدته بلا مجاملة. كانت الدرجات مُغطاة بسجاد سميك. أخذنا نرتقيها بلا صوت.
فاجأنا انفجار فرقعة جافَّة في اللحظة التي بلغنا فيها الطابق الثاني، حيث مكتب فييو. وبشكل عفوي، أخرج لاردان سلاحه، بينما كان أول رد فعل لي هو إسقاط كلودين على الأرض. أخرجت — بدوري — مسدسي من جرابه. عندئذٍ، دوَّت طلقة ثانية خلف المكتب. اقتحم الطابق رجال الشرطة بزيِّهم الرسمي. وللحظة خاطفة، ظنوا أنهم يواجهون مجموعة من القتلة؛ فصوَّبوا أسلحتهم نحونا.
رفعت يديَّ.
– نحن زملاء. أنا المفتش كادان من تولوز. الطلقات من عند المدير!
أشرت إلى الغرفة وأنا أحرِّك سلاحي وفوهته مرفوعة في الهواء.
أخذ شرطيَّان وضع الاستعداد، بينما وقف آخرون أمام الباب. تهيَّئوا لتحطيمه، لكن مشروعهم لم يكتمل؛ فقد انفتح الباب ليمُرَّ منه رجل وجهه مهزوم تمامًا، وكأنه مجروح داخليًّا.
لمس لاردان كتفي.
– المتقاعد من «مونتوبان»!
ظل رجال الشرطة بلا حراك، وقد صدمهم ظهور هذا الشبح المأساوي.
دخلت مكتب فييو الفسيح، وجدت مدير الشئون الإجرامية وقد كفَّ عن الحياة، وخيط من الدماء يسيل من صُدغه، فيمتصه — على الفور — الموكيت الأزرق السميك. وبالقرب منه، رقد مسدس «بروني» موديل قديم، من مجموعة ما قبل الحرب.
عندما عدت إلى الممرِّ، رسم بيير كازاس ابتسامة ألم.
– كان سيقتلك أيها الصغير؛ فقد اتفق عليه مُقدمًا.
واقتادوه.
•••
فيما بعد، خلال تناولنا الطعام بمطعم تركي صغير، بالقرب من سنتييي، أخذ لاردان وكلودين يحاصرانني بالأسئلة.
– لن نعرف أبدًا ما إذا كان هو القاتل حقًّا. كيف خمَّنت هذا؟
– رغم أن هذا واضح، فييو هو الذي قتل برنار تيرو في ٢٨ يوليو في تولوز، وأمر — أيضًا — باغتيال والد برنار، في أكتوبر ١٩٦١م، عندما كان رئيسًا للقوَّات الخاصة.
– هل أنت متأكد؟
قاطعتني كلودين: أتسمي هذا دليلًا؟ كيف تتأكد أن ليكوسان اتصل به؟ هو أيضًا مات.
– قليل من الصبر. الاتصال التليفوني حدث فعلًا، ومديرية تولوز مزوَّدة بسنترال آلي يُصنِّف المكالمات ويجمعها حسب الأقسام. هذا السنترال مصمَّم بهدف التقشف في الميزانيَّة، ليحدَّ من استهلاك مكالمات كل موظف، ويتم تجميع اتصالات المدن على كاسيت، لكن الاتصالات بين المدن وبين الدول يتم عمل كشف جانبي بها. وبطلبٍ بسيطٍ، يزودك النظام بقائمة المكالمات التابعة لهذا القسم أو ذاك. استخدم ليكوسان القسم ٢١٤، وقد سجَّل شريط الإثبات مكالمة مع مديرية باريس في ١٨ يوليو الساعة ٨:٤٦ صباحًا. وإذا أردْتُما التأكد من حقيقة الأمر، فاتصلا بترومبل، بالشئون العامَّة بمديرية أمن تولوز، وسيسُرُّه تأكيده لكما.
حرَّك لاردان وكلودين رأسَيهما في توافق جميل. واصلت الحديث.
– أعتقد أنه طلب من ليكوسان التخلُّص من برنار تيرو، لكن هذا رفض متذرعًا بإعاقته، أصبح فييو محاصرًا، فلم يتردد لحظة واحدة، غادر مكتبه فورًا؛ فمكانته تعطيه الحق في هذا النوع من الامتياز، يكفي سؤال سكرتيرته أو الحاجب للتأكد من ذلك. ورغم هذا، أعترف أنه عبقري من نوع ما؛ فأيُّ مجرم كان سيندفع نحو تولوز مستخدمًا أقصر الطرق، فنقبض عليه بسرعة، على الطريق السريع أ-١٠ «باريس–بوردو–تولوز»! لكنه لعب بحذر. خمَّن أن أوَّل ما سنفعله هو مراجعة كل نقط المرور، فخدعنا باختيار طريق تلاميذ المدارس، طريق «سولي» السريع. سياحة حقيقية: باريس–ليون–آفينيون–كاركاسون–تولوز! ألف ومائة كيلومتر، وأنت يا لاردان اكتفيت بالدورة السياحية عبر بوردو في الاتجاهين، مستجوبًا مديري مطاعم الطرق، ومحطات البنزين، وموظفي رسوم الطرق. عمل مجاني. اعتقدنا أننا نتتبع سيارةً وهميَّةً، فمَن كان يشكُّ في أن شخصًا أكثر دهاءً — من الجميع — سيقطع ثلاثمائة كيلومتر إضافيَّة في الذهاب، ومثلها في العودة؛ ليخلط الأوراق. لقد أوشك على النجاح! لكن الإدارة الإقليمية لتجهيزات «جارون العليا» أعادتنا إلى الصواب دون قصد، واتَتْهم الفكرة الحسنة بتغيير خريطة حائطنا القديمة، وإرسال أخرى عليها علامات وامضة للطرق السريعة.
تألق وجه لاردان.
– قلت في نفسي هناك علاقة حقًّا.
استأنفت.
– اجتاز فييو الألف مائة كيلو متر وقد أوقف العداد، اكتفى — فقط — بمَلء الخزان عن آخره، وصل تولوز قبل الساعة السادسة، ركن العربة أمام المديرية وانتظر خروج برنار تيرو، كان ليكوسان قد رسم له صورة دقيقة لملامح برنار بالتليفون، وتصرَّف بحيث يُبقيه حتى المساء. وما إن ظهر الشابُّ، حتى تعقَّبه واغتاله في أكثر اللحظات مناسبة، ثم عاد فورًا إلى باريس؛ ليُثبت وجوده في المكتب منذ ساعات النهار الأولى. خسارة؛ أفضل السيناريوهات لا تصمد أمام القدر، والذي تجسد — هذه المرة — في صورة كونستابل ضواحي مونتيليمار … في …
– سان–رمبار–دالبون.
– شكرًا يا لاردان. في الساعة الحادية عشرة وسبع وخمسين دقيقة — بالضبط — من هذا المساء، زودنا الكونستابل بالرقم المسجل — رسميًّا — للسيارة المعنيَّة رينو «٣٠ تي إكس». تحدثت طويلًا مع سائق فييو في جراج المديرية، ومثل كل السائقين المحترفين، فهو حريص على حسن أداء آلته وعملها، خاصة وأنهم في حالة وقوع حادث يحمِّلونه مسئوليته. لم تفته ملاحظة القفزة التي سجَّلها عداد الكيلومترات خلال ليلة ١٨–١٩ يوليو. أكثر من ألفَي علامة كيلومترية، هذا واضح، إضافة إلى أنه قد وضع برنامجًا لعملية تفريغ يوم ٢١: لقد سجلت السيارة ٣٥ كيلومترًا! لم يكن فييو يتكلم معه أبدًا، وإلا للاحظ أن رئيس الجراج قد وبَّخه بسبب تجاوز الكيلومترات هذا.
ظلت كلودين صامتة حتى ذلك الحين.
– غريبة، لكن موته لم يُرحني؛ حتى اعتقدت أن اعتقال قاتل برنار سيُسعدني.
دفعت ثمن الوجبات الثلاث، وعلى الرصيف همست لها — قبل أن تبتعد — ببضع كلمات.
– يُمكننا تناول العشاء معًا هذا المساء، لن أعود إلا صباح غد.
– مع الرقيب؟
– لا، هو يفضِّل الصحبة الإلكترونية، وينتظر — بفارغ الصبر — إصلاح دِش التليفزيون.
– اتفقنا، نلتقي الساعة الثامنة، مُرَّ عليَّ لتأخذني من المنزل. أتذكر العنوان؟
وهل لشُرطي من معدني نسيان معلومة بهذه الأهمية؟!