الفصل الحادي عشر
وجَّه القاضي الاتهام إلى بيير كازاس في المساء، بعد الساعة السابعة بقليل، أصبح من المشكوك فيه أن يبقى على قيد الحياة حتى موعد نظر القضية، فرصة مناسبة لوأد الموضوع. أسرعت لألحق بكلودين شينيه، أتت لتفتح لي، لم تترك لي وقتًا لأتعرف على الحُجرة التي دخلت فيها، التصقت بي ووضعت يديها خلف عنقي، انسابت راحتا يدي على طول ظهرها، قبَّلتها وعيناي مغمضتان، ودفعت بالباب المُطلِّ على الممرِّ برجلي اليمنى، انفلتت مني بهدوء وأتت لتجلس على حافة السرير، نظرت إليها دون أن أجرؤ على الحركة، أخذت دموعها تسيل على خدَّيها.
– لماذا تبكين؟ كلُّ شيء انتهى، يجب النسيان.
– لا، ليس للسبب الذي تعتقده، أنا خجلة لأنني سعيدة رغم كل هذا. لا تستطيع أن تتخيل إلى أي حدٍّ شعرت بالوحدة، بأنني مهجورة. منذ ذلك اليوم، احتجت إلى الشعور بوجود شخص بجواري؛ أنت بالذات. يصعب الاعتراف بذلك، لكنني لا أريد اعتياد التعاسة، مثل والدة برنار.
ابتسمت، وقبَّلتني من جديد.
– انتهى، هيا، لن أبكي. انظر، لقد اشتريت بعض الفاكهة: فراولة، وخوخ، تريد منهما؟
جلست فوق الغطاء، وأخذتها بين ذراعيَّ.
– أنا أيضًا شعرت بالرغبة منذ أول لقاء لنا.
– لن أحدثك عنه أبدًا بعد ذلك، وعد، لكن اشرح لي لماذا حقد الرجل العجوز على برنار إلى هذا الحد وعلى والده؟ أحتاج إلى أن أفهم ذلك، ليس سرًّا؟
– لا، فالصحفيُّون سيستفيضون في الحديث عن الموضوع في كل الكتابات الباريسية! لم يحمل أندريه فييو أيَّة ضغينة ضد عائلة تيرو، لقد رأى برنار مرة واحدة في تولوز، بل أعتقد أنه لم يعرفه.
– كان مجنونًا إذَن.
– لا، مجرد موظف بسيط، بدأ مهنته الإداريَّة عام ١٩٣٨م في تولوز، كان في العشرين من عمره — بالضبط — عندما انطلق لغزو قسم الشرطة مدججًا بالشهادات. وفي أقلَّ من عام، تمت ترقيته سكرتيرًا عامًّا مساعدًا مسئولًا عن القطاع الاجتماعي: إعانة العائلات المنكوبة، ثم رأس — عام ١٩٤٠م — منظمة مساعدة النازحين، واستقبال الفرنسيين الهاربين من زحف القوَّات الألمانية. وفي عام ١٩٤١م، وسَّعوا من اختصاصاته في «شئون اللاجئين والمسائل اليهودية».
– لكن والد برنار كان طفلًا في هذه الفترة، وليس باستطاعته التدخل في كل هذا.
قاطعتني كلودين: ولكن، ألمْ تُجرِ تحقيقات — بعد التحرير — لتحديد مسئولية كل واحد؟
– بلى، بالتأكيد، فييو وليكوسان ليسا أحمقَين. أثبتا ذلك بأن ظلَّا غير مشكوك فيهما طوال أكثر من أربعين عامًا؛ فقد شعرا — في بداية ١٩٤٤م — أن لحظات التعاون الكبرى على وشْك الانتهاء، وسُرعان ما سيكون عليهما تقديم كشف حساباتهما. ابتعدا عن فيشي، وكرَّسا جهودهما لمساعدة شبكات المقاومة، بأوضح الطرق. ومع التحرير، منح فييو وسامًا لشجاعته!
لم يسمح أحد لنفسه بالتشكيك في مزايا بطل يتباهى بالوردة التي وضعها على الوجه الآخر من معطفه. ومنذ هذه الفترة، لم يكف فييو من ارتقاء الدرجات: سكرتيرًا عامًّا لمديرية بوردو عام ١٩٤٧م، رئيس مكتب رئيس مديرية باريس عام ١٩٥٨م. وخلال عام ١٩٦٠م، عهدوا إليه بمهمَّة سرية: تكوين فريق مكلَّف بتصفية أنشطة المسئولين في جبهة التحرير الشعبية، وامتدت نشاطاته إلى منظمة الجيش السريِّ عام ١٩٦١م.
أخذت حبة مشمش من طبق الفاكهة وأكملت.
– عندما أخطره ليكوسان — عام ١٩٦١م — بالأبحاث التي يقوم بها روجيه تيرو، والد برنار، استخدم فييو — بطبيعة الحال — قدرات واحد من رجاله: بيير كازاس، وأغفل طبعًا كشف السبب الحقيقي لإعدام روجيه تيرو. ظل الشرطي مقتنعًا — حتى الأسبوع الماضي — بأنه وضع حدًّا لنشاط إرهابي خطير. وكمحترف كفء، استفاد بيير كازاس من اضطرابات ١٦ أكتوبر، والمظاهر الجزائرية؛ لينفذ الاتفاق. وعندما أراد برنار إنهاء كتاب والده، وصل إلى نفس النتائج عن ترحيل الأطفال، فأراد مراجعة المصادر، والنتيجة أنه تعرض لمصير والده، ولكن — هذه المرة — على يد فييو نفسه، بعد والده بعشرين عامًا.
– أتعتقد أن كل هذه الحكاية ستُنشر في الصحف؟
لم أستطع إجابتها بأنه سبق إصدار الأمر لي — بوضوحٍ — بالتخفيف من وقع الأحداث. وفي الوزارة، طبخوا سيناريو أكثر مطابقة للفكرة التي يجب أن يكوِّنها المواطنون عن حُماة النظام العام.
– ربما لا يكشفون كل شيء، ولكنهم سيُضطرون إلى السماح بجزءٍ هام.
انحنت كلودين وتكوَّرت في صدري. توقفت عن الكلام. أخذت أداعب شعرها، وأنا أتأرجح يمينًا ويسارًا، وكأنني أُهدهدُها وأهدِّئ من روعها. وبعد ذلك بكثير، أخذني النوم على حين غفلة، وقد طوَّقتني رائحة بشرتها.