الفصل السابع
– حسنًا يا بوراسول. هذه الاستدعاءات المزيفة، هل وصلت بشأنها إلى شيء؟
كان الرقيب أول جالسًا على مكتبي في حالة حرج واضح.
بدأ يغمغم: لا. حسنًا. ربما يبدو أن هناك جديدًا في إدارات برودي بالكابيتول.
– ليكن واضحًا يا بوراسول. لا أريد أن أكون مدينًا بأي شيء لبرودي. تعلَم جيدًا أنه من هذا النوع من البشر الذي يجب رد جميله مضاعفًا مائة مرة. ويعتبر نفسه «الأب الإله». أنت وحدك المسئول عن كشف هواة المزاح هؤلاء، لا أحد آخر. نحن — وحدنا — المعنيون بهذه المسألة، وليس البلدية. وبالنسبة لي، فهي مشكلة داخلية. وما الذي يحكونه؟
جلَّى بوراسول صوته قبل الإجابة: خلال انتخابات عام ١٩٨١م الإقليمية، انتشر — في كافة أرجاء المدينة — ملصق عن «الأفضل»، وهو إعلان مزيف، ظهر فيه المرشح الرسمي عاريًا في أحد الشواطئ، بين ذراعَي امرأة شابة. قبل ثلاثة أشهر، كان قد وقع له حادث سيارة خلال توجيهه لجزء من حملته عن موضوع اختلال الأمن. اجتماعات عرجاء. هل ترى الصورة؟! تلاعب العنوان المزيف بالموضوع: «حادث سيارته، انتقام زوج غيور!» قدم الشكوى ضد «إكس»، وبلا نتيجة كالعادة. وفي الأسبوع الماضي، خلال التوسعات بمبنى مطبعة البلدية، عثر عمال منشأة البناء — صدفةً — على ألواح الأوفست المستخدمة في طباعة هذه الإعلانات الصغيرة. استجوبوا موظفي القسم، فاعترف واحد منهم بمشاركته في نشاطات مجموعة الموقفيين في تولوز عام ١٩٧٦م.
– هل تكلَّم عن استدعاءات بطاقات مكافحة الإرهاب؟
– لا. اعترف بمجمل العمليات المدبرة منذ عام ٧٧ حتى عام ١٩٨٢م. وحسب أقواله، تفككت المجموعة بعد ذلك، نتيجة الاختلافات الأيديولوجية. ربما استمر بعض أعضاء المجموعة في عملهم التخريبي بمفردهم؛ ولكن في ظل ظروف أكثر صعوبة، ما دام لم يعد لديهم التموين العسكري. فعصب الحرب الرئيسي هو طباعة المنشورات والملصقات، ونسخ الأوراق الرسمية. وقد اضطروا — بعد خسارة مساندة رجل مطبعة البلدية — إلى الرجوع إلى صاحب مطبعة تقليدي.
– في هذه الحالة، فإن القبض عليهم ليس بمسألة عويصة. هل أمكن تحديد هوية أعضاء الشبكة الآخرين؟
وضع بوراسول الورقة — التي ظل يهرسها منذ بداية الحديث — على طرف المكتب. أخذت الورقة المنسوخة على الآلة الكاتبة، وقرأت الأسماء بصوتٍ عالٍ: جاك مونوري، كلود آنشيل، جان بيير بوراسول.
اصطدمت بالاسم الأخير. فسألت الرقيب أول: أهو قريب لك؟
أحنى رأسه مثل صبي ضُبط متلبسًا بارتكاب غلطة، ونطق بوهن.
– نعم أيها المفتش. هو ابني، لقد كتبت استقالتي، لا أفهم، إطلاقًا، ما حدث له.
تهاوى على المقعد، وانفجر في البكاء. لم أعرف كيف أتصرف في مواجهة هذا الموقف المستجد تمامًا عليَّ. اقتربت من بوراسول، وربَّت على كتفه كما سبق ورأيتهم يفعلون في السينما.
– لم نصل إلى هذه الدرجة بعد أيها الرقيب. ما فعلته الآن شيء شجاع جدًّا. لا يوجد كثير من رجال الشرطة ممن هم من طينتك، وعلى استعداد للتضحية بعائلاتهم من أجل فكرتهم المثالية عن العدالة الحقيقة. فأنت لم تتردد في الإبلاغ عن ابنك. ماذا نطلب أكثر من ذلك من موظفٍ في الشرطة؟ أسوأ أنواع العدالة أن ندفعك إلى الاستقالة بسبب خطأ لم ترتكبه. وإذا واجهنا الأشياء على حقيقتها، فعلينا أن نعترف أنهم لم يرتكبوا جرمًا كبيرًا. سأحاول إصلاح الأمر.
كفَّ بوراسول عن البكاء، وأخذ ينخر بشدة قبل أن يمرر كُمَّ زيِّه الرسمي تحت أنفه.
– هل تحدثت في هذا الموضوع مع ابنك؛ فمن السهل عليه — نسبيًّا — الحصول على الورق الذي يحمل شارة البوليس، بالإضافة إلى الأختام. فلا يمكن لأحد أن يشك في ابن زميل.
أجابني بصوت خافت: طبعًا فكرت في هذا أيضًا، لكنه مستحيل؛ فابني يتجول في «الآنتيي» منذ أربعة أشهر، ويؤدي الخدمة العسكرية في البحرية القومية. وبالنسبة للباقي، لا أقول لا، أما هذه الحكاية؛ فهناك عذر قوي.
قطع جرس التليفون من تتابع مغامرات عائلة بوراسول الحزينة. أخطروني بحدوث سرقة بالإكراه في محل مجوهرات بممر جان-جوريس. نجح التاجر في تشغيل جرس الإنذار، دون إثارة انتباه اللص المسلح. كان علينا التدخل بسرعة لاستغلال حالة التلبس، راجعت أداء المسدس «هيكلر» طراز ب إس٩، ثم رفعت صمام الأمان أسفل المغلاق. وجدت لاردان في انتظاري في الفناء ومحرك السيارة يدور. جلست بجواره. ولعلمه بتطور الموضوع، من لا سلكي السيارة، أسرع بها دون حاجة إلى لفت انتباهه إلى إلحاح الموضوع.
اختبأت سيارة دورية خلف كنيسة نوتردام دي جراس. أمرتها بعدم التحرك أو التصرف إلا بناءً على أوامر لاردان باللاسلكي. استطاعت الدورية — من موقعها — تغطية محل المجوهرات والشارعين اللذين يحدَّان كل ناحية منه. سرت جنوبًا، في أحد الشارعين، فأحطت بالحي. أوقفت السيارة، بالضبط قبل ممر سان جوريس. تركت لاردان وتوجهت نحو المحل متصنعًا هيئة المتجول الحر. وجدت صعوبة في تمثيل الدور. في لحظات كهذه، نأسف ألا تتضمن تدريبات الشرطة دورة أو دورتين عن التعبير الجسدي. ألقيت نظرة سريعة حولي. ظاهريًّا، لا يوجد من يراقب الرصيف؛ إلا إذا كان هناك شريك يختبئ في ركن من الباب؛ وفي هذه الحالة، أصبح هدفًا ممتازًا له.
عندما وصلت بالقرب من محل المجوهرات، ألقيت بنفسي على الباب الزجاجي. اقتحمت المحل صارخًا كمجنون، وأنا أصوب المسدس: بوليس! ارموا أسلحتكم.
بدا اللص المسلح شخصًا مضطربًا وضئيلًا، يرتدى زيًّا كموظفي البنوك: بلوفر وحذاءً إيطاليين. قام بنصف دورة على عقبيه وسدد نحوي مسدسًا ضخمًا، لكن خوفه لم يكن يقل عن خوفي.
– لا تلعب بهذا. بإمكاني تسديد ثلاث طلقات في رأسك قبل أن تتمكن من شحن مسدسك.
انتقل إبهامي — خفيةً — نحو طرف المسدس؛ وضغطت — بهدوء — على الزمام الصغير جدًّا، والموجود يسارًا، خلف حامية الزناد. أي ضغط على الزناد أو أي انقباضة من سبابتي تكفي الآن لإطلاق الرصاص.
– اسمعني جيدًا. في حالة كهذه، كلامي يساوي ذهبًا، قيمته أغلى بكثير مما يمكن نهبه هنا، ليست لديك أيَّة فرصة للخلاص من هذا المأزق. لقد خسرت. هناك سيارتان تمتلئان برجال الشرطة في الشارع. وخلال خمس دقائق، ستأتي كل شرطة تولوز — كما في المؤتمرات — هذا دون ذكر التليفزيون وراديو الجنوب.
لم يتحرك وحافظ على ذراعه ممدودة، ويده متقلصة على أخمص مسدسه.
– كن عاقلًا. فحتى الآن أنت مُعرَّض لعقوبة محاولة السرقة بالسلاح. وهذه مسألة خطيرة. لكن يمكن إصلاحها إن لم تطلق الرصاص، سيطلبون مني الشهادة في المحكمة، وشهادة شرطي عاصر الواقعة تساوي وزنها سنوات من السجن. إذا حكيت لهم أنك لم تُبد أيَّة مقاومة فستكسب ثلاث أو أربع سنوات. قلل الخسائر، هذا أفضل للجميع.
بدت خطبتي بلا أي أثر عليه، أو أنها لم تحقق الهدف المرجو منها. قررت التعجيل بالأمور.
– المسألة بين يديك. أمهلك ثلاثين ثانية لتجيبني؛ وتقول لي ما إذا كان اقتراحي يلائمك. أسرع. ثلاثون ثانية تنتهي بسرعة.
لم تبرح عيناي مسدسه. فهمت أنني كسبت الجولة عندما استرخت يده وانفتحت. سقط السلاح على الأرض وهو يصدر صوتًا أجوف أشبه بصوت لعبة. اندفع الجواهرجي نحو قدمَي مهاجمه، والتقط المسدس. رفعه في الهواء وهو يضحك بعصبية: إنه بلاستيك! ما كنت أصدق ذلك أبدًا، يمكن القول إنه مؤثر بشكل غريب. يُحدث نفس أثر الحقيقي.
انتهز اللص المسلح هذه الثواني من الارتباك ليرفع يديه إلى فمه. ابتلع بمشقة، مرة إثر مرة، ثم ارتمى على الأرض وأخذ يتلوى، فريسة لتقلصات عنيفة. ركعت على ركبتي لأفحصه عن قُرب.
– لقد سمم نفسه. بسرعة اطلبوا له الإسعاف، سيموت!
شحب لون الجواهرجي: لا أيها المفتش. هذا الخفير ابتلع ماسي ولآلئي. التهم أكثر من ٣٠ مليونًا. إنه مجنون.
دخل لاردان المحل يتبعه حشد من رجال الشرطة في زيهم الرسمي ومسدساتهم في الهواء. اعترضت طريقه.
– يجب نقله إلى المستشفى فورًا، بسرعة. تصرف.
– أهو جريح؟ لم نسمع صوت طلقات رصاص!
– لا، هذا المغفل ابتلع رأسمال المحل. لديه أغلى قناة هضمية في العالم.
قادتنا سيارة الإسعاف إلى المستشفى العسكري، بالقرب من جسر سان-بيير. انتقل ملتهم الماس — فورًا — إلى يدَي الطبيب الباطني.
استقبلنا الطبيب بعد فحصه.
– لا يمكن عمل أي شيء الآن. عليَّ أن أصرح لكم بأنها أول مرة أعالج فيها مريضًا بسوء هضم حجارة ثمينة. في الأوقات العادية نجد أشياء أقل قيمة: مسامير، قطع زجاج، أسنان شوكة. شيء لا يصدق — حقًّا — ما يستطيع الناس ابتلاعه. وأنا لا أهتم إلا بما يمر عبر الفم! يستطيع زملائي — الذين يعملون على الفتحات الطبيعية الأخرى — أن يحكوا لكم، الرجال مثل النساء! سبق وفكرت أنه يجب جمع كل الأجسام الغريبة — المستخرجة منذ عشر سنوات في تولوز فقط — وإعداد متحف للأشياء الفاسدة. سيحرز ماسكم نجاحًا باهرًا.
– آسف. يجب استرداده، فهو وثيقة إثبات. هل ستطول المسألة؟
لوى الأستاذ فمه ليؤكد على أنه يُفكر: هو من عيار صغير، وهو — حاليًّا — يتجه نحو المعدة. سنتابع تقدمه بالأشعة أو الموجات الصوتية؛ حتى نجنبه جرعات كبيرة من أشعة إكس.
تدخَّل الجواهرجي في هذه اللحظة بالذات: آمل ألَّا تتعرض أحجاري للتلف بواسطة الأشعَّة أو العصارة المعويَّة!
مطَّ البروفسير شفتيه اشمئزازًا، وفضَّل تجاهله.
– خلال الساعات القادمة، ستعبر الأحجار الجزء الثاني من الجهاز الهضمي، وستقترب مرحلة العبور المعوي. وهي مرحلة حسَّاسة ولا تخلو من المخاطر. ولا يمكننا استبعاد احتمال انسداد معوي واللجوء إلى الجراحة، ولا أخفي عليكم أنها جراحة حرجة ومحفوفة بالمخاطر.
– وإذا سارت الأمور بشكلٍ طبيعي؟
– هذا ما آمله. وفي هذه الحالة، سترون الأحجار خلال ثلاثة أيام كحد أقصى، بل وأعدكم غدًا إذا وثقت من استعداد مريضنا على التعاون معنا.
– بمعنى؟
– لا زالت لدينا إمكانية إعطائه ملينًا قويًّا يؤثر — بشكلٍ فعَّال — على الأداء المعوي. وطبعًا لا نستطيع إعطاء علاج كهذا دون موافقة المريض؛ فلن تسامحنا منظمة العفو الدولية.
أدت الآثار المخيفة والمتوقعة للعملية الجراحية إلى أن يحسم اللص المسلح الموضوع، ويوافق على إدخال مواد تهدف إلى الإسراع من وظائف أعضائه. حرصت على وضع شرطي مسلح في غرفة الخزانة المتحركة، وأمرته بمراجعة فضلات السجين.
وافق التاجر — عن طيب خاطر وشعور بالعرفان — على الاقتراح الذي عرضته عليه بملازمة الشرطي ومساعدته في مهمته.
•••
عند عودتي إلى المكتب وجدت تلغرافًا من باريس في انتظاري. عثر دالبوا على أثرٍ لقاتل روجيه تيرو، وستصلني منه رسالة تفصيلية في الليلة نفسها.
حاولت الاهتمام برزمة من الملفات المؤجَّلة دون اقتناع كبير؛ سلسلة سرقات في البيوت الصغيرة، حالتين — أو ثلاث — قيادة في حالة سكر، ورفض تنفيذ إنذار بالدفع. رحتُ أقتل الوقت بمراجعة الحالة المهنيَّة لطاقم العاملين بالقسم، وجدول الترقيات. اكتشفتُ أن بوراسول يستطيع أن يُرقَّى إلى الدرجة الرابعة، إلا إذا أضمر له المأمور ماتبيو الضغينة وتذكر له طيش ابنه، فخصَّه بعامين إضافيَّين في الدرجة الثالثة.
كنت أنتفض مع كلِّ جرس تليفون، وكلِّ دقَّة على الباب. يمرُّ الساعي — بانتظام — في الساعة الخامسة بعد الظهر، خلال جولته المسائيَّة، لكنَّني تمنَّيتُ أن يخالف العرف. اندفعت نحو السلالم ما إن رأيته وهو يجتاز البوابة. حصلت على كل المراسلات وفرشتها على لوح مكتبي الخشبيِّ. وجدت رسالة دالبوا بينها. فتحتها مُمزِّقًا الظرف من تعجُّلي. لم يستنكف مفتش المباحث العامة من استخدام الصيغ التي لا فائدة منها.
«عزيزي كادان
رجلك من قوات الأمن الجمهوريَّة اسمه بيير كازاس، وينتمي — في الواقع — إلى القوَّات الخاصَّة، المكلَّفة بتصفية المسئولين في منظمة الجيش السِّريِّ وجبهة التحرير الشعبية، خلال الأعوام الأخيرة من الحرب، ومهما حدث، أبلغك أن كافَّة الحقائق المرتبطة بحرب الجزائر قد تم كتمان أمرها بواسطة مرسوم يوليو ٦٢، والذي ينصُّ — ضمن أشياء أخرى — على أنه لا أحد سيصبح موضوعًا لمساءلة الشرطة أو العدالة، ولا لأي تمييز من أيِّ نوع بسبب الأفعال التي ارتُكبت خلال الأحداث التي جرت في الجزائر، أو في البلد الأصلي (المستعمر)، قبل إعلان وقف إطلاق النار.
بيير كازاس على المعاش اليوم، وكان يقيم — منذ بضعة أشهرٍ مضت — بالمنطقة، في جريزول، وهي قرية صغيرة تقع بين جريناد وفردان، على الطريق الإقليمي السابع عشر.
انتبه. لم تعد تسير على قشر بيض، بل على متفجرات، كن ظريفًا وتخلَّص من هذه الورقة ما إن تقرأها، تصرفت بالمثل مع الصورة التي سلمتها لي.
أخرجت ولَّاعة من درجي وأحرقت الخطاب في المطفأة ومعه المظروف. عهدت بباقي المراسلات إلى السكرتيرة لتباشر توزيعها؛ ثم بحثت عن لاردان.
– دعني أرى هذا يا لاردان! اتجه إلى جريزول. إنها بلدة صغيرة موجودة في الإقليم ١٧، قبل مونتوبان.
تركته يلعب بالشرائط البيضاء، وبإشارات التوقُّف، وبالأسبقيات، وبكلِّ الرجال الصغار الذين يسيرون في نهاية بعد الظهيرة هذه بين تولوز ومونتوبان.
تولَّيتُ قيادة عملية هروب منظف المداخن الصغير، إبهامي اليُمنى للتقدُّم إلى الأمام واليُسرى للتراجع، حاولت توجيهه إلى الهليكوبتر التي تنتظره فوق إحدى العمارات، كان عليه أن يتسلَّق عددًا مُدهشًا من السلالم، وأن يعبر عددًا لا ينتهي من الأبواب التي تُقفل عند اقترابه، وتجبره على القيام بانعطافات لاهثة، شارك البواب في اللعبة أيضًا، وأخذ يطارده وهو يقذفه بأدوات المطبخ، وكان عليه — بالإضافة إلى هذا — الاحتراس من التصرفات السيئة لفأر عملاق، لا يجد شيئًا أكثر إثارة من أكل طوابق بأكملها.
وعند المرور على قرية «فردان»، نجحت في الوصول بمنظف المداخن إلى السطح، ولكن — وفي هذه اللحظة الأخيرة، وبسبب حركة خاطئة من إبهامي اليُمنى — اختلت الهليكوبتر وتحطمت على نوافذ الطابق المائة والثلاثين؛ فانتهز البوَّاب المضحك الفرصة ليغرس سكين جزارٍ رهيبًا في ظهر مُنظف المداخن، واندفع الفأر ليلْتَهِم الجُثَّة. انبعثت قطعة موسيقية خشنة صغيرة، أولى شارات الموسيقى الجنائزية.
– نجحت بكَم؟ ما هو مجموعك أيها المفتش؟
ضغطت على زرِّ إعلان النتيجة.
– تسعمائة وتسع وثلاثون درجة!
– رقمي الشخصي ألف وخمسمائة وخمسة عشر. ليس أمرًا سهلًا أيها المفتش قريبًا سأدفع لنفسي ثمن «ياكون»؛ فهي لعبة أكثر إثارة بعشرة أضعاف؛ فالشخص يواجه عدوًّا يجهل هيئته ويبعث له بمخلوقاته، ولا تعرف ما إذا كان الذي أمامك عدوًّا أم صديقًا، وإذا استبعدت مُعاونيك، تتناقص حمايتك بنفس القدر، وعليك إنهاء اثنتي عشرة مباراة للوصول إلى المعركة الأخيرة مع الياكون. إضافة إلى هذا، فصانع اللعب يعدل من حالة الأشكال بعد كلِّ مباراة، التي تتضاعف في اللانهائي. تحتاج إلى ما لا يقلُّ عن شهرين للسيطرة على المستوى الأول. إنها لعبة خُرافيَّة!
– هل لاحظت لوحة العلامات يا لاردان؟
– أيَّة لوحة أيها المفتش؟
– طريق «جريزول»! تخطَّيته لتوِّك. وهنا لا تتمتع باثني عشر احتمالًا للاستدراك، لا يوجد إلا واحد فقط: أن تعود أدراجك!
•••
كان بيير كازاس يُقيم في منزل صغير بالبلدة، تُحيطه حديقة جميلة مُعتنًى بها تمامًا. اقتربت من السُّور وحرَّكت جرسًا صغيرًا مُثبَّتًا بالدِّعامة. ظهر — في نافذة الدور الأرضي — رجل في الستِّين من عمره، له وجهٌ مُتغضِّن.
– نعم، ماذا تريدون؟
– أنا المفتش كادان من تولوز. وهو الرقيب لاردان مُساعدي. أودُّ الحديث معك على انفراد.
ظهر في المدخل. أدار جهازًا كهربائيًّا لفتح الباب. سرتُ في الممرِّ ولاردان في إثري. استقبلنا في المدخل.
– لِمَ أستحقُّ شرف زيارة الشرطة؟ ليست عندي أخبارٌ سيئة كما آمل. خرجت زوجتي للتسوق في البلدة، لكنني أستطيع — رغم هذا — أن أقدِّم لكما فاتحًا للشهية.
أصبحنا في قاعةٍ فسيحة، ينتظم أثاثها حول مدفأة من الحجر، ومؤثثة بذوق رفيع. أثناء حديثه، وضع كازاس عدَّة زجاجات على المائدة، ثُم كوبين، وطَبقًا من «الساليزون» المتنوع.
– لا يوجد إلا كوبان، فلا يَحِقُّ لي الشراب؛ لأنني أحافظ على صحَّتي بتعاطي الأدوية.
– حسنًا أيها المفتش. تقوم بتحريات عني، أو عن زوجتي؟
– لا، ليس هذا بالضبط، أتُزعجك بضع خطوات في الحديقة؟ أرغب في التمشية.
أبدى بيير كازاس بعض الدهشة، لكنه وافق على اقتراحي. قررت أن أكون مباشرًا.
– حسنًا. أولًا مَسعاي ليس له أيُّ طابع رسمي. أقبل — بسهولة — أن ترفض الإجابة …
أشار إليَّ بالاستمرار.
– خلال هذا الشهر، قُتل شابٌّ في تولوز؛ برنار تيرو.
راقبت وجهه. لم يظهر على ملامحه أيُّ انفعال خاصٍّ عند ذكر الاسم.
– قُتل في قلب الشارع، ودون دافع واضح. راجعنا كلَّ شيء. ليس مُتورطًا في قضية نقود، أو آداب. لا شيء. الغموض التام. وأثناء استجوابي للعائلة، لاحظت أنَّ والد هذا الشابِّ مات في ظروفٍ دراميَّةٍ مماثلة منذ عشرين عامًا. لقد قُتل في الشارع، برصاصة في رأسه، وقتها لم يقوموا بأيِّ تحقيق حول الجريمة، وبالصدفة البحتة، قام فريق من التليفزيون البلجيكي، أتى لتصوير استعراض جاك بريل الغنائي في «الأوليمبيا»، بتسجيل اللحظات الأخيرة من حياة روجيه تيرو، والد برنار. حدث هذا في باريس، في أكتوبر ١٩٦١م. كلُّ شيء يدعو إلى الاعتقاد بأنه أنت من أمسك بالمسدس.
غرس بيير كازاس يديه في جيبَي بنطلونه الجينز. جمع كلَّ قواه، وضمَّ قبضتيه وقد أحنى كتفيه. أغلق عينيه وأخذ نفسًا طويلًا وشفتاه منفرجتان، ثُم انحنى. جلس بصعوبة فوق أحد الأحجار الضخمة التي تحدد الممشى.
– كيف عرفت؟ كلُّ الوثائق مُصنَّفة «سري جدًّا».
– الصُّدفة، كما قلت لك.
– هيا. على مهلك. اجلس أيها المفتش. أنت تُقلِّب ذكريات موجعة جدًّا. لم أتوقع ضربة كهذه. آه. عبثًا حاولت اتخاذ كافَّة الاحتياطات. وما دام مُقدَّرًا، لن تستطيع عمل أيِّ شيء. ماذا تريد أن أقول؟ إنه أنا بلا رَيب!
– لماذا قتلت روجيه تيرو؟
خلال جزء من الثانية تاهت عيناه في الفراغ.
– يا للعجب. لا أعرف شيئًا عن هذا. صدرت لي الأوامر، ويجب الامتثال لها.
– أهي من القوَّات الخاصة؟
– حتى بالنسبة لمسألة شارع نوتردام دي بون نوفيل؟
– لا، خلال فترات منتظمة، يختارنا المركز لقتل كلب مزعج. فضلت — بكثير — نوعًا آخر من العمل، يجعل العدوَّ مُحايدًا. لكن تصفية رجل بسيط لم تُشعرني أبدًا بالرضاء. ولن أحدِّثك عن أشياء أخرى. تعرف، شاركت في المقاومة، وفي التحرير في الغرب، وحملت البندقيَّة في الهند الصينية. اعتدت على النظر إلى الخطر — مباشرةً — في عينيه، فليس مُمتعًا، بوجه خاص، أن تُصوِّب البندقية في بطن ألمانيٍّ أو فيتنامي، حتى لو كان يتأهَّب ليُعرِّضك لنفس المصير، لكنْ أن تضع رصاصة في رأس شابٍّ فرنسي تجهل عنه كلَّ شيء، هو أعزل، وأنت تطعنه في ظهره، كان عليَّ تنفيذ هذا. وحتى أهدِّئ من روعي، أقول إن ما فعلته ربما أتاح تحاشي محاولة اغتيال، أو قصَّر الحرب ساعة أو يومًا.
– وكيف حدث موضوع روجيه تيرو بالضبط؟ ومن الذي حدده لك؟
– كالعادة. أودع ضابط اتصال رسالةً في صندوق خطابات المناوبة الذي أفتحه مرتين أسبوعيًّا، حيث أجد التعليمات والخطوات التي يجب أن أتبعها. بالنسبة لتيرو — لو كان هذا اسمه — زودوني بصورة الهدف، وبالمعلومات التي تخص تحركاته وعاداته. اخترت العمل خلال المظاهرة. كان يقيم في أحد مواقع التجمع. ومنطقيًّا، توقَّعت عودته قبل بداية موكب المتظاهرين. فكرت في الاتصال به بأيَّة حُجَّة لأدفعه إلى النزول. لم أضطر إلى تنفيذ هذه الخُطَّة. لم يعد مباشرة. اشترى تذكرة سينما أمام سينما «ركس». أوشكت على القيام بعملي في الصالة. لو فكرت؛ لنفذت ذلك وقتها، ولتجنبت أن يُصوِّرني فريق من التليفزيون البلجيكي.
– ألم تسأل نفسك لتعرف لماذا سيموت هذا الرجل على يديك؟
– وهل تعتقد أنَّ منظمة الجيش السري قد عانت من مشاكل الضمير، حينما قتلت دستة من أفضل أصدقائي، عندما ملأت قاعة اجتماعاتهم بثلاثين كيلوجرامًا من لدائن البلاستيك؟ جمعوهم قطعةً قطعة، وأكبر قطعة لم تتجاوز — للدقة — حجم يدي، أو عندما ألقَوا بقُنبلةٍ يدويَّةٍ في حوش مدرسة؟ رأيت وجوه أطفالٍ أصبحوا عميانًا، لهدف وحيد: إنعاش الرعب. في هذه الفترة، تجنبت سؤال نفسي أصغر الأسئلة؛ حتى لا يزداد سخطي عشرة أضعاف.
– من أرسل هذه الأظرف؟ تستطيع أن تقول لي. مضت عشرون عامًا، وهذا جزء من التاريخ.
– رئيسك هذا، فييو، ربما يكون وراء قرار تصفية روجيه تيرو؟
– اطَّلع عليه بالضرورة؛ فجهازنا القياديُّ يُكرِّر — بدقَّة — نموذجنا التنظيميَّ كفِرقة فدائية. عليه أن يكون الأكثر صرامة ليتمكن من اتخاذ القرار في زمن قياسي؛ وأن يتمتع بأكثر الفرص الممكنة للتخلص من نُظُم العدو الاستطلاعية. عمل مع فييو ما لا يقلُّ عن ثلاثة مساعدين، إلا أنه كان بمقدوره التصرُّف وحده في حالة الطوارئ.
– ما الذي يفعله اليوم؟
– سرعان ما يصبح مثلي؛ فمع حلِّ القوات الخاصَّة، حصل على وظيفةٍ في إدارةِ الشئون الإجراميَّة في مُديرية باريس. تعرف الحكومة كيف تكافئ أفضل موظَّفيها.
فجأة، انحنى نحو الأرض ودعاني إلى تقليده.
– تعالَ، وانظر أيها المفتش. قرية نمل. عبثًا حاولت القضاء عليها مرةً أو مرتين سنويًّا، وسرعان ما تتكون — مرةً أخرى — أبعد قليلًا. هل سبق وراقبت الداخل؟
– بالتأكيد، عندما كنت أصغر سنًّا.
– إنها مدهشة، يُشيِّدون السراديب والمداخل. قرأت أنه يوجد أكثر من ألفَي نوع من الحشرات المُصنَّفة «نمل»؛ نمل أحمر، أسود، نمل العسل، نمل صيَّاد، نمل الأمازون. وعندما تراه عن قرب، لا تفوتك ملاحظة نوع يطابق — بالضبط — طباعك الخاصة. منذ فترة قصيرة، اكتشفت أيَّة نملة أكون!
أخذ غصن تفاح وطعن حافة قُمع صغير وعريض — مفروش في الرمال — وفي اتساع عمله فئة الخمسة فرنكات، ولا يزيد سُمكه عنها إلا قليلًا.
– إنها النملة-الأسد. هي وحيدة! تنقر حُفرتها، وتقيم في أعماق الكمين، ثم تنتظر — بصبر — أن تقع حيوانات تشبهها في متناول يديها.
جلَدَ الأرض بالغصن في غضب شديد. غطَّى وابلٌ من الرمال النملة الأسد. نهضت. أخذ بيير كازاس ينظر إليَّ نظرة ساخرة، ثابتة وهادئة.
– أستاذ كازاس. أشكرك على الموافقة على الحديث معي.
أُتيحت لي فرصة مشاهدة الجراج من الداخل، حيث تصدرته مرسيدس ضخمة — لونه ا أخضر معدني «إس أو ٢٥٠» — من الستينيَّات، ومقدمتها بلون الكروم. الحلم!
التفت نحو لاردان: يا لها من سيارة! هناك محظوظون.
– لا يجب أن تصدق هذا أيها المفتش. زوجته عادت خلال حديثكما في الحديقة. اعتقدت أن المستشفى أرسلنا. لم يعد للعجوز الكثير. أرأيت سحنته؟ الأطباء يُقدِّرون له ثلاثة أو أربعة أشهر، مرةً أخرى، واحد آخر لن يستفيد من معاشه.
– شيء لا يصدق. إنه يحافظ على معنوياته بالنسبة لشخصٍ يعلم أن لا أمل في شفائه.
– إنه يجهل خطورة مرضه. جعلوه يعتقد أنه مصاب بقرحة حادة.
قبل المنعطف، التفت من مقعدي. رأيت امرأة عجوزًا — في زيٍّ رمادي — واقفة على باب الحديقة، خُيِّل إليَّ أنها تسجل رقم سيارتنا. انعطف لاردان؛ فاختفت من مجال المرآة الخلفية.
•••
يردد الحائط المقام أمام القسم — منذ الأبد — أصداء أحداث هزَّت العالم، وخلالَ الأوقاتِ العادية، المخصصة للتأمل، تشرد نظرتي — دقائق بأكملها — في الحجارة التي أقرأ عليها — مرات ومرات — حروفًا بيضاء لجملة «أفرجوا عن هنري مارتان»، أو أرى الآثار شبه الممحُوَّة لشعار «للاستفتاء العام»، دون أن أكون قادرًا على الحسم: هذا الخط، أهو بداية حرف النون في نعم، أم بداية اللام في كلمة لا؟ أمَّا هنري مارتان هذا، فلم أعرف أيهم أختار من كتيبة مارتان التي تحمل نفس الاسم في القاموس.
أهو «هنري مارتان» ١٨٣٠–١٨٨٣م، المولود في سان كنتان، مؤرخ فرنسي («تاريخ فرنسا» ١٨٣٣–١٨٣٦م)، عضو «كوليج دي فرانس»، أم «هنري مارتان» ١٨٧٢–١٩٣٤م، وُلد في دانكيرك، شاعر رمزي فرنسي «الزئبق والفراشة» (١٩٠٢م)، جائزة الأكاديمية الفرنسية عام ١٩٢٧م عن ديوانه «خضراوات ومحار»؟
أو أيضًا «هنري مارتان» ١٩١٢–١٩٦٧م، وُلد في سان-دني، معماري فرنسي. تجديد باريس. مشروع بولفار الضواحي الدائري (تنفيذ مارتان)؟
ظللت مترددًا إلى أن جاء يوم أبلغني فيه بوراسول، الذي أخذ يُعمِّق من معرفته بالوسط البحري منذ إبحار ابنه على متن الأسطول الفرنسي، أن مارتان، الذي احتفظ الحائط باسمه، عرف رطوبة الأرصفة وقسوة السلاسل؛ لأنه رفض إطلاق بضع مئات من القذائف — كانت في عهدته — ضد أحياء «هافونج» الآهلة بالسكان؛ في بداية الخمسينيَّات.
لكن الحائط لم يعش فقط في الماضي.
في نهاية شهر يونيو، كتب فريق يُروِّج لدعوة العقيدة الشيعية — وبحروفٍ بيضاء — كلامًا ضخمًا منقوشًا: «التضامن مع إيران.»
اكتفى رسَّامون آخرون، يُرجَّح اختلافهم مع الأفكار الخومينية، بشطب «إيران» واستبدلوها ﺑ «فلسطين»، دون حساب رد فعل الطلبة الصهاينة الذين أخفَوا فلسطين، واستولَوا على الشعار لأنفسهم فكتبوا — بحروفٍ زرقاء — كلمة «إسرائيل».
وأخيرًا ظهر رجل حكيم، جعل الكلَّ في حالة وفاق، أزال بالأسطوانة أسماء إيران وفلسطين وإسرائيل. وكي يكون منصفًا؛ دهن أيضًا حرف الجر «مع»، ولم يترك إلا كلمة «التضامن».
عاد المأمور ماتبيو من إجازته، اقتحم مكتبي مع دقات الساعة العاشرة، ولم يُمهلني حتى أوجِّه له «صباح خير» وديًّا.
– اتبعني يا كادان. أريد بعض الإيضاحات حول ما حدث خلال غيابي.
بدا في حالةٍ مزاجية رديئة. أخفت السُّمرة الكورسيكية — بصعوبة — سحنته الصفراوية. لم يمسك بالباب وهو يدخل مكتبه؛ فكدت أتلقاه كله في وجهي. وضع ماتبيو طرف مؤخرته على حافة مكتبه الخشبية وشبك ذراعيه على صدره. يبدو أنه اضطُرَّ إلى القيام بسرعة؛ فقد لاحظت أنه ارتدى فردة جورب بالمقلوب.
– حسنًا يا كادان، أنا أنتظر!
– لم يحدث أي شيء استثنائي حقًّا أيها المأمور، عدا إضراب الحانوتية. أخذت أحاول كسب الوقت لأعرف إذا كان كازاس قد تدخَّل وتقدم بشكوى من زيارتي.
– هذا إضراب لم يستمرَّ إلا أسبوعًا، ثم استتبَّ النظام، بضع مشاجرات بين المضربين وعائلات المتوفين. عدا هذا، فالحياة تسير في مجراها الطبيعي. شكاوى بكافة أنواعها، أنا لا أبالغ، وأنا شخصيًّا خصصت الأساسي من وقتي لأكبر قضية في الشهر، برنار تيرو. هناك ملف كامل عن اتصالاتي في باريس، وأيضًا في تولوز.
– أهذا كل شيء؟
نطق سؤاله بصوت مرهق، وهو يحرك ذراعيه.
– نعم. لا أرى شيئًا آخر مهمًّا. لن أحدثك عن السطو المسلح في ممر سان جوريس، هناك أعمدة كاملة في الجرائد. ألمحت لهذا عن خبرة. فقد أكدت الصحف كلُّها على شجاعتي في مواجهة رجل عصابات مسلح، وتجاهلت طبيعية المسدس الذي كان في مواجهتي. أدت الإشارة البسيطة الأخيرة إلى تلطيف موقف المأمور.
– نعم يا كادان. قرأت كلَّ هذه المطبوعات. أهنئُك على رباطة جأشك التي استطعت البرهنة عليها في هذه الظروف. ما يشغلني — حقًّا — هو مشكلة الموقفيين؛ فما إن عدت من إجازتي حتى حاصرتني المكالمات من العمدة، ومن المساعد للإعلام؛ برودي، احذر هذا الأخطبوط. لم أفهم شيئًا من هذيانهما سوى أن الرقيب أول بوراسول تورط في الحكاية. لم أسمع أبدًا شيئًا أكثر غرابة! أتتخيل بوراسول في هيئة الموقفيين؟ هل أنت على علم بهذا الاختلاق الأسطوري؟ أيمكن أن تقول لي عن مصدره؟
حاولت تخليص الرقيب أول بوراسول من الورطة: ليس لبوراسول أية علاقة بالموضوع، يخترعون أيَّ شيء لإزعاجنا، لقد ألقوا القبض — بكل بساطة — على شبكة الموقفيين، وهي مصدر سجلات المجالس البلدية المزيفة منذ ١٩٧٧م، بالإضافة إلى الملصق المزيف عن «الأفضل». شارك ابن بوراسول في المجموعة، لكن ليس له علاقة بالاستدعاءات المزيفة المُرسلة من المديرية، ولديه دافع قوي بالغيبة، فابنه يتجول بين المارتينيك وجوا ديلوب، بفضل الرحلة البحرية التي تنظمها البحرية الوطنية.
قذف المأمور ماتبيو بنفسه من فوق الكتب، وأتى لينغرس أمامي.
– استدعاءات مزيفة! سمعتها جيدًا. ألا ترى أنها أكثر أهمية من باقي الأشياء كلها؟ لا تعنيني جريمتك ولا فقيرك بمحل المجواهرت. قبل سفري في الإجازة، تشكَّكت فيما إذا كنت ستضعني في موقفٍ سوقيٍّ. حسنًا. هذه الأوراق المزيفة، ما هي بالضبط؟
– لا زلنا نبحث أمرها. تلقى عدَّة مئات من أهل تولوز ورقة تُقلَّد — دون أي عيب — استمارة رسمية تلزمهم بالحضور — على وجه السرعة — إلى القسم، وذلك من أجل بطاقات مكافحة الإرهاب. الاستدعاء مُوقَّع باسمك والتأشيرة تشبه تأشيرتك، وكأنه اتفاق. تم اختيار الأشخاص — المرسل إليهم هذا الأمر — من بين أكثر الشخصيات شهرةً في المدينة؛ كبار التجار، والصناعيين، رجال الدين، ورؤساء الجمعيات، ولا سيما تجمعات قدامى المحاربين.
– أتستطيع أن تعرض عليَّ واحدةً من هذه الأوراق؟
سحبت محفظتي من الجيب الخلفي لبنطلوني الجينز. وبحرص شديد، أمسكت بين أصابعي مربعًا أزرق فردته قبل إعطائه إلى ماتبيو. فحصه صامتًا سطرًا سطرًا. ولدهشتي الشديدة، جعلته هذه القراءة المتأنية يستعيد هدوءه. أعاد إليَّ الاستدعاء.
– ليس مُزوَّرًا. هذا نموذج حقيقي تمامًا وقَّعته ليلة سفري إلى كورسيكا، لا أفهم كيف حدثت هذه الأكاذيب!
أعتقد أنه لو اعترف لي بأنه قاتل برنار تيرو، لما كانت مفاجأتي أكبر من هذه.
– لم أُجَن بعد يا كادان! أتذكر صورتي وأنا أعطي النموذج الأصلي — من هذا الخطاب — إلى الرقيب لاردان؛ بالإضافة إلى القائمة بالأربعمائة شخص المعنيين في تولوز. قدَّرت أنَّ لديك ما يكفي من العمل في أوراق القسم القديمة، فلم أُسند إليك هذه السُّخرة الإضافية. ما كان أمام لاردان إلا لعبة التصوير الفوتوغرافي، وضمان وضع النموذج في المظروف. اذهب وائتِ لي به، أريد توضيح هذا فورًا!
كان الرقيب لاردان يُنهي شوطًا في الفليبير بمقهًى قريب. اقتلعته من مائدته الوامضة، مائة مرة قبل الشوط المجاني؛ مخاطرًا بأن أجعل من نفسي عدوًّا له. شرحت له الوضع بسرعة قبل الوصول إلى مكتب ماتبيو. رسم المأمور لنفسه قناعًا تراجيديًّا. رفع ذقنه عندما انفتح الباب: لاردان، أنت مدين لي بتوضيح، حاول أن تبدو مقنعًا، لو أردت ألا أنقلك عسكري حراسة في برج المراقبة! المفتش كادان أطلعك على الأمر كما أتصور. ما الذي لديك لتقوله تبريرًا لسلوكك؟
– لا أعرف.
– حسنًا. الأمر يتعلق بشخصٍ يضحك عليك أنت يا لاردان!
– لقد أحضرت العمل إلى مدام «جولان» في السكرتارية. شرحت لها ما تريد تنفيذه مستخدمًا نفس عباراتك.
– براڤو أيها الرقيب! أعهد إليك بمهمةٍ محددةٍ — ذات أهمية كبرى — وأنت تُسرع ببيعها لأول عابر سبيل! اذهب وائت لي بمدام «جولان».
غاب لاردان فترة قصيرة وظهر ثانية بصحبة السيدة المهيبة الهائلة، التي ترأس — منذ سنوات طويلة — إدارة تسليم البطاقات الشخصية وجوازات السفر. شغلت حيزًا كبيرًا من الفراغ، إلا أنها أخذت تحاول، مع ذلك، ألا تجعل أحدًا يشعر بها. بديهي أنها تعبر العتبة المقدَّسة لصاحب العمل لثاني مرة في حياتها المهنية، بعد المقابلة التي تسبق التعيين للوظيفة. عكَس سلوكها تقديرها للحدث حق قدره. أثبت ماتبيو أنه يتمتع بكثير من المهارة. فبأقلِّ جهد ممكن، نجح في اكتشاف السر. كانت السيدة المسكينة هي الطيبة المجسدة. فنادرًا ما رفضت خدمة أيِّ زميلٍ مُرْتبك. ولم يمرَّ يوم دون أن يطلبوا منها إنقاذًا من هذا النوع أو ذاك، بدعوى كثافة العمل الحالي، ودائمًا ما صحب طلبَهم عبارةٌ من نوع «سأرد لكِ نفس الخدمة عند الحاجة»، والتي هي شكلية تمامًا. كانت مدام «جولان» الخدومة تطوي، وتلصق، وتُدخل الأوراق في الملفات، وتدبِّس للقسم كلِّه.
عندما ظهر لاردان متوجًا بمهمَّته، وطلب منها — باسم المأمور ماتبيو — أن تتولَّى إرسال أربعمائة استدعاء لبطاقات مكافحة الإرهاب، وافقت بلا تردد، وشكرت الرقيب لأنه فكَّر فيها في عمل بهذه الخطورة. وفي اليوم التالي، تصرفت بالمثل، عندما توسَّل إليها رئيس إحدى الإدارات لتضع أشياء في مظروف، وتلى ذلك إرسال ثلاثمائة وثمانٍ وسبعين ورقة مقواة نصُّها كالتالي: «إدارة بوليس تولوز الاجتماعية، وكل شرطة الضواحي، تشكركم على هباتكم الكريمة التي ستخصص — مثل كل عام — في التخفيف عن آلام الأرامل واليتامى من زملائنا، الذين سقطوا أثناء كفاحهم من أجل الأمن العام.»
لا أحد يعرف كيف استُبدِلت قائمة «مكافحة الإرهاب» بالقائمة التفصيلية الخاصة بأسماء المحسنين، لكن إذا ما اشتكى عِلية القوم في تولوز — بمرارة — من اعتبارهم جزءًا من الأشباح الكوزموبوليتانية المنذرة بالخطر، فلا أحد من واضعي القنابل، أو المشبوهين، قد تقدم ليعبر عن دهشته من شكره على هبته الوهمية.
كان لاردان أول من غادر المكتب والسكرتيرة في إثره، ذرع ماتبيو الغرفة في خطوات واسعة، وهو يرغي ويزبد من مرءُوسيه ومن الإدارة بشكل عام.
– تصور يا كادان؛ ساعة من العمل وها أنا ذا وقد فقدت كل فوائد إجازتي، عاد إليَّ توتري العصبي مرةً واحدةً، شهر من الهدوء والاستجمام كان جميلًا جدًّا أن يدوم، أفضل لو يتحمَّل ابن بوراسول هذا الخطأ، على الأقل هو ليس واحدًا من «البيت». آه، يبدون ماكرين حقًّا. ما الذي سيقولونه عني؟ متصالح؟ هذا اللاردان لن يخسر شيئًا لو انتظر. حتمًا سيعرف ما هو برج المراقبة، وعد مني! حسنًا. ليس هذا كل شيء، جريمة القتل هذه، أهناك تقدم؟
– ليس بالشكل المطلوب، ولا بالسرعة التي آملها، لدينا بعض الأدلة. قُتل برنار تيرو على يد باريسي عمره ستون عامًا. لدينا أقوال شاهد لاحظ القاتل — خلال مغادرته لسيارة رينو ٣٠. ت. إكس، لونها أسود، مسجَّلة في باريس — أثناء تتبعه للضحية. حدث هذا أمام المديرية، قبل الاغتيال بدقائق. فحص لاردان كل المراكز الحساسة بين باريس وتولوز، والطرق السريعة، والقومية، لكن لا أحد يتذكر عبور سيارة المشتبه فيه، أو شخصًا تتطابق بياناته مع بيانات القاتل.
– لو أن لاردان هو الذي يتولى هذا العمل، فمن الأفضل مراجعة …
– لا أدافع عنه، لكنني أثق فيه بالنسبة لهذا العمل.
– اتفقنا. استمر.
– بالنسبة لتحديد الباعث، لم نتقدم كثيرًا، كان الفتى سيتوجه إلى المغرب برفقة خطيبته.
– لا أعرف لماذا يعرج باريسي على تولوز في طريقه إلى المغرب! ليست هذه أكثر الطرق مباشرةً نحو مراكش.
– لا. في الواقع، برنار تيرو وخطيبته دارسان للتاريخ، وقد قاما بانعطافة في تولوز للاطلاع على وثائق في الكابيتول والمديرية، أكداس من الأوراق عن التاريخ الإقليمي، اطلعت عليها طوال يومين مع لاردان بلا أية نتيجة، غير أنني ذهبت إلى باريس، واكتشفت أشياء أكثر إثارة. والد الضحية قُتل في ظروف مُزعجة حقًّا، في أكتوبر ١٩٦١م، خلال مظاهرة نظمها الجزائريون. أستطيع حتى أن أقول إنه قُتل بطريقةٍ مدروسة.
– ومَن قتله؟
– للوهلة الأولى، تبدو المسألة تصفية على مستوى سياسي، لدواعي المصلحة العليا. عثرت على العميل الذي كلفوه بهذا العمل، وهو يقيم على طريق منتوبان، في بلدة صغيرة، وعلى المعاش حاليًّا. في ذلك الحين، كان يتبع القوات الخاصة نوع من القوات الفدائية السرية التي شكلتها الوزارة لإضعاف المسئولين عن منظمة الجيش السري وجبهة التحرير الشعبية، وعند الضرورة، تحييدها نهائيًّا. أدار المكتب أندريه فييو، وهو شخصية هامَّة في مديرية الشرطة، وطبعًا تصرف بحيث يتجنب التحقيقات وتشريح الجُثَّة. الملفات خاوية، ولا أعرف ما إذا كان مفيدًا مَلؤها؛ فكل هذه الأحداث في مأمنٍ بمرسوم عفو.
– ولكنك تعتقد أن المشكلتين مترابطتان، أليس كذلك؟ ليس صعبًا تكوين فرضية مفادها أن الابن تيرو توصَّل إلى تحديد هويَّة قاتل والده، وأنه أتى لمنطقتنا ليثأر له. وهو ما يبرر خط سيره.
– لن يزعجني هذا كثيرًا. لكنْ لديَّ أكداسٌ من التفاصيل لا تدخل في هذا التصور، أولًا بيير كازاس؛ فعدا السن، لا تتطابق أوصافه — كثيرًا — مع البورتريه الذي رسمه لنا الشاهد، ولا أظنه يُعقِّد — بلا طائل — من عمله، فيحصل على سيارة مسجَّلة في باريس ليرتكب جريمته في وضح النهار، بأقصى حدٍّ من المخاطر!
– إذا ما كان محترفًا، ونحن بصدد محترف من الطراز الأول، وهذا هو — بالضبط — نوع المنطق الذي سيحب أن يرانا نتبناه. القاتل يسيطر تمامًا على الوضع يا كادان. لو لم تجد أثرًا، لهذه الرينو ٣٠. ت. إكس، فذلك ربما لأنها لم تقطع هذه المسافة من باريس إلى تولوز!
– من الضروري أن توجد مع ذلك! فلم يُعلن عن سرقة أيَّة سيارة — من هذا الموديل — خلال الأسبوع السابق لموت برنار تيرو. لقد فحصت — شخصيًّا — القائمة القومية.
– ولماذا لا نفترض أنهم أعاروه هذه السيارة؟ ابحث قليلًا في جدول بيير كازاس الزمني وانظر إذا ما كان أحد أصدقائه لا يقود رينو سوداء. هل رجعت إلى الأرشيف بعد أن كشفت حكاية المظاهرة الجزائرية؟
– لا. ولماذا يجب عليَّ العودة؟
– لو أنني مكانك، فسأدفع لنفسي ثمن جلسة إزالة غبار جديدة. أنت الآن تعرف ما الذي تبحث عنه: الرابط مع هذا البيير كازاس أو مع القوَّات الخاصة. المسألة تستحق عناء التنقيب ساعتين أو ثلاثًا. لديك فرصة ضئيلة في اكتشاف تفسيرٍ ما، لكنْ ربما تعود بخُفَّي حُنَين؛ لو أن الضحية كان يطَّلع — حقًّا — على ملف يتعلق بعمله كمؤرخ. في هذه الحالة، ستحتفظ قضية روجيه تيرو بغموضها إلى أن يأتي اليوم الذي سنضع يدنا فيه على وثيقة للحياة، أو خطاب عادي بقطع علاقة ما. أجمل الجرائم هي — غالبًا — أكثرها اعتيادية. أليس كذلك؟
– ليست هذه الجريمة، هناك مصادفات كثيرة وتشعبات، والحقُّ يقال يجب أن أكشف قاتل برنار تيرو، والشيء الوحيد الذي يحمسني — حقًّا — هو معرفة لماذا يصفُّون مدرس تاريخ صغيرًا — في ليسيه لا مارتين — بواسطة عميل من البوليس السياسي يتخفَّى في زيِّ قوَّات الأمن الجمهورية، خلال مظاهرة جزائرية؟ لو كنت واثقًا من نفسي بما فيه الكفاية لذهبت إلى رئيس القوات الخاصَّة السابق — أندريه فييو — لأسأله عن أسباب كلِّ هذا. لكن كل شيء تم العفو عنه. لن يخاطر بشيء عند الكلام.
– لن أعلمك كيف تُجري تحقيقًا يا كادان؛ رغم أنني لن أتخلَّى أبدًا عن إسداء بعض النصائح. اسمع. اعمل بطريقتك، تستطيع أن ترجع إلى قديم الزمان، إلى «آليزيا» أو إلى «سان-بارتليمي»، لو رأيت ذلك ضروريًّا، وأنه سيؤدي إلى القبض على المُتَّهم. الهدف هو حلُّ المشكلة. وبوضوح، لا أعبأ بالطرق التي تتبعها للوصول إليه، لكنْ إذا خرجت — إلى حدٍّ ما — عن الشرعية؛ فلا تتوسع في الموضوع، وأعلن — بصوتٍ عالٍ — أن ذلك نابع من كادان، لا من أحد آخر. لا أريد أن يرتبط اسمي بأيَّة تعديلات من أيِّ نوع! ليكُنْ هذا في علمك.
– لقد كنت دائمًا مسئولًا أيها المأمور. أنا على اقتناع بترابط هاتين الجريمتين.
– الرابط — حتى هذه اللحظة — على مستوًى عائليٍّ فقط. لا شيء يسمح لك بالتعميم، كن شديد الحذر. ذكرت توًّا جريمتين، في حين أنه منذ ما لا يقلُّ عن خمس دقائق، افترضت أن عملية قتل روجيه تيرو محميَّة بالعفو، انتبه تمامًا إلى موقع قدميك يا كادان.
– أحاول أيها المأمور.
– لا يكفي أن تحاول، ولا تركز — بشكل خاصٍّ — على «اعتقاداتك» الراسخة، اترك هذا إلى القُضاة، أنا بحاجة إلى متَّهَمٍ حاضرٍ بنفس قدر حضور الجثة التي التقطناها بالقرب من كنيسة سان-جيروم. والأفضل — من جميع النواحي — أن تظلَّ على رأس القسم حتى انتهاء هذا التحقيق. ستكون حركتك أكثر حرية، لا زال لي يومان أو ثلاثة من إجازتي، كنت سآخذهم مع الأعياد، لكن لا شيء يمنع استخدامهم هذا الأسبوع! ما رأيك؟
لم أطلب أكثر من هذا.
– موافق. اللعبة تستحقُّ ثمنها.
وعلى أية حال، لديَّ انطباع غامض بأن هذا الكرم المفاجئ يُخفي شيئًا وراءه. خلصني ماتبيو من هذا الشك.
– سأستغلُّ الإجازة في بعض الإصلاحات المنزلية، هناك — دائمًا — ما يجب عمله في منزل صغير. آخر شيء يا كادان، تصرَّفْ مع برودي في حكاية البطاقات المُتبادلة، اعتمد على حسِّك الدُّبلوماسي في حلِّها للأفضل.