تحيَّة … لا مقدِّمة
بعد حوالي ثُلث قرن ألْتقي الدكتور عبد العظيم أنيس، ثانية، في موقع يحاصرني فيه شُعوران؛ الحرج، والاغتباط. أمَّا الحرج فلأنه موقعُ من يُقدِّم كاتبًا لا يحتاج إلى تقديم … وأمَّا الاغتباط فلأنه موقعٌ حميم للالتقاء الفكري والروحي مع عالِم ومفكر وأديب من طراز د. أنيس أو محمود أمين العالم …
في ملتقانا الأول كانا معًا؛ د. أنيس والعالم، وكانت مقدمتي لكتابهما المشترك «في الثقافة المصرية» هي الملتقى، وكان كتابهما ذاك عملًا تأسيسيًّا في مجال النقد الأدبي الذي انتهج، خلال الخمسينيات، في العالم العربي، منهجَ الواقعية بمفهومها الجمالي الماركسي، ودَخَل الكتاب معركته التأسيسية حينذاك بعنف، وبقيت أرجاعه تتردَّد حتى اليوم.
المسافة طويلة في الزمن بين الملتقيين … لكن المسافة الفكرية والروحية بينهما هي مسافة العمق والاكتناز والنُّضج … إنها المسافة بين د. عبد العظيم نفسه في عهدين من مسيرة عطائه الفكري والعلمي والأدبي …
•••
العمق والاكتناز والنُّضج، هذا الثلاثي يرتسم أمامي هنا علامةً بارزة يتميَّز بها معظم ما يعالجه الدكتور أنيس، في فصوله هذه، من قضايا ومشكلات ومواقف وأفكار، في كلٍّ من حقول العلم والأدب والفلسفة … والفكر …
لكن هذا «الثُّلاثي» لا يحدِّد القيمة الجوهرية لهذه الفصول؛ فالعمق والاكتناز والنُّضج إنما ترسم السِّمة العامة هنا، ولا تندخل في التحديد والتعيين … أما ما يحدِّد ويُعيِّن القيمة الجوهرية لفصول الدكتور أنيس هذه، فيبرز في علامتين متلازمتين؛ الطابع الموسوعي-الشمولي أولًا؛ والمنهجية التكاملية ثانيًا …
•••
جولة عاجلة في فِهرِست هذا الكتاب، تفسِّر — أوليًّا — ما أعني بالطابع الموسوعي-الشمولي هنا … إنه أمر عجيب أن تجد نفسك تتجوَّل بين صفوف من المعارف الإنسانية قد نراها متباعدةً بعضها عن بعض، أو غير متجانسة … وقد نرى نوعًا من المفارقة، مثلًا، بين «ذكريات عن طه حسين» والبحث في «التكنولوجيا الجديدة» والدراسات عن آينشتين وإفرست غالواه أحد كبار علماء الجبر في القرن التاسع عشر وغاليليو وأرسطو وابن الهيثم، وعن الفلسفة الوضعية المنطقية، وعن «مستقبل البحث العلمي في وطننا العربي»، ثم عن شاعر الألمان العظيم غوته، وبعد: عن القصص ذات المفتاح عند إحسان عبد القدوس … إلخ، إلخ. وقد يكون في هذه الفصول ما هو أكثر إمعانًا في المفارقة من تلك النماذج …
لكن ليس في المسألة مفارقة إلا لدى النظر السطحي … وإنما هي ظاهرة التنوُّع المعرفي. وهي ظاهرة تُعلن التفسير البَدَهي لطابع الموسوعية-الشمولية في فكر الدكتور عبد العظيم أنيس … وينبغي أن نتذكر هنا أن الرجل رجلُ تخصُّص علمي؛ فهو متخصِّص بعلم الإحصاء الرياضي، وهو لذلك يمارس — أكثر وقته — الغوصَ في عالم الأرقام والمقاييس الرياضية في مُناخاتها التجريدية العليا … وهذا، خصوصًا، يُثير العجب بقُدرة رجل العلم هذا على التعامل الأليف والتعايش الحميم مع مسائل الفلسفة، مع مسائل النقد الأدبي، مع قضايا الأدب والفن، ومع نصوص التراث العربي-الإسلامي ومشكلاته وقضاياه المتنوعة.
غير أن الطابع الموسوعي-الشمولي هذا، قد تكون الصُّورة عنه، في بعض الأذهان، أنه يتشكل كتجميع كَمِّي لأنواع من المعارف يفتقر إلى الوحدة النوعية بين أجزائه، أو كخليط من المعلومات يتكدَّس بعضه فوق بعض دون نسقٍ جامع، أو دون تفاعل يُنتج هذا النسق الجامع …
هذه الصورة «الكاريكاتورية»، هي النقيض للطابع الموسوعي بمفهومه العلمي، هذا أولًا … وهي — ثانيًا — منقوضة كليًّا بهذا النموذج الحي الذي يقدِّمه الدكتور عبد العظيم أنيس في دراساته وكتاباته المتواصلة منذ أكثر من ثلاثين عامًا حتى اللحظة هذه … إنه نموذج متميِّز للتناسق والتفاعل والتحوُّل النوعي المتبادل بين مختلِف المكنوزات المعرفية التي يدأبُ الدكتور أنيس في احتوائها دائمًا بشغفٍ ورهافة ونفاذٍ إلى اللُّباب.
•••
على أن هناك ميزة ثانية للدكتور أنيس سمَّيناها، فيما سبق، بالمنهجية التكاملية … فمن هذه المنهجية ذاتها اكتسب الطابع الموسوعي-الشمولي، في كتاباته ودراساته، حيوية التناسق والتفاعل والتحوُّل النوعي المتبادَل بين مختلِف القضايا والمعارف التي تعالجها هذه الكتابات والدراسات.
إن المنهج العلمي المستمد من نظرية علمية ومن فكر ثوري قد جعل الطاقة الذاتية لدى الدكتور أنيس تستكمل شروط قدراتها الفعلية، حتى رأينا هذا المنهج يؤدي دورَه الخلَّاق في إضفاء العلاقة التكاملية الدياليكتيكية بين الموضوعات والمعالجات ذات الأصول والمصادر والاختصاصات المتنوِّعة؛ أي بين قضايا العلم والأدب والفكر والفلسفة والتراث …
وهذه المنهجية التكاملية، ذات الأساس العلمي والمنحى الثوري، قد صادفت في الطاقة الذاتية للدكتور عبد العظيم مُناخًا ملائمًا للحوار من الداخل بين الأشياء والأفكار والمفاهيم والقضايا والمواقف، حتى المتناقضة منها … وصادفت كذلك في هذه الطاقة قدرةً على الاستيعاب بالعمق وعلى التكيُّف الطوعي مع مختلِف المُناخات الفكرية والعلمية والأدبية.
ونلحظ أيضًا أن «ثلاثي» العمق والاكتناز والنضج، وجَدَ في الموسوعية-الشمولية والمنهجية التكاملية مصدر رسوخه وحُضُوره في هذه الكتابات والدراسات كلها …
•••
لكن، هل «ثلاثي» العمق والاكتناز والنضج، يجري بمستوًى واحد في هذه الفصول جميعًا؛ أي هل يتساوى رسوخه وحضوره في كل منها دون ما تفاوت؟ …
هذه مسألة أخرى … أما الرأي الصريح في هذه المسألة، فهو أن المستوى الواحد، أو التساوي المطلق، أمر غير ممكن لأحد، عالِمًا عظيمًا كان أم مفكرًا وباحثًا كبيرًا، أم أديبًا مبدعًا، أم فيلسوفًا عبقريًّا … معنى ذلك أن التفاوت بين هذه الفصول من حيث العمق والاكتناز والنضج، لا بد من الاعتراف به، وهو طبيعي، وليس يشكِّل قضيةً للجدل والنقاش … غير أن التفاوت هنا يبقى داخل إطاره المتميز بالعلامتين الراسختي الجذور في أعمال الدكتور أنيس دائمًا، أعني بهما الموسوعية-الشمولية، والمنهجية التكاملية …
•••
وبعد، فهذه أيها الصديق العزيز
تحية … لا مقدمة.