إحياء التراث العلمي العربي
ما من عمل يَجِل في مجال إحياء تراثنا قدر إحياء تراثنا العلمي العربي. إن هذا العلم هو إحياء لأروع أعمال الفكر العربي في أزهى عصوره، وهو ضرورة لازمة ونحن نحاول من جديد أن نبني حياتنا الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والعلمية على أُسس عقلية رشيدة. ونحن بهذا نصل الماضي بالحاضر، وننفض الغبار عن القاعدة التاريخية التي يقوم عليها بناؤنا المجيد اليوم، ونُرسي الأساس المعنوي الفكري للقومية العربية؛ فالقومية العربية ليست نشاطًا سياسيًّا فحسب، ولكنها تراث مشترك وتاريخ مشترك ولغة مشتركة وأذواق ثقافية مشتركة أيضًا. ولهذه الاعتبارات أهمية لا تقل عن أهمية الاعتبار السياسي الحالي في دعم الوحدة وجمع الصفوف؛ ولذا لن يختلف اثنان من الذين تُهمهم قضية القومية العربية حول ضرورة إحياء كل تراثنا العربي ونفض الغبار عنه وتقديمه للناشئين في صورة جديدة ناصعة وتبصير كل من لا يعرفون من صغار السن أو كباره بحقيقة هذا التراث والدور المجيد الذي لعبه في صياغة الحضارة الأوروبية في جوانبها العلمية والفنية والفكرية.
ولقد حاول بعض المفكرين الغربيين إنكار قيمة هذا التراث العلمي العربي مُدعين أن العرب قد نقلوا عن اليونان ما كان معروفًا أيامهم في الرياضيات والكيمياء والفلك والبصريات … إلخ. وليس هناك زعم أسخف من هذا الزعم. لقد أخذ العرب عن اليونان كما تأخذ الشعوب عن بعضها البعض، وأخذوا عن الفرس والهنود، ولكنهم ما أخذوا إلا ليطبِّقوا هذا العلم على مشاكل مجتمعهم العربي الاقتصادية والاجتماعية والطبيعية، وهي مشاكل تختلف كل الاختلاف عن مشاكل اليونانيين زمانًا ومكانًا؛ ولذا لم يكن من الممكن عقلًا أن يكون حظ العرب في العلم هو مجرد النقل، بل أضافوا الكثير المبتكَر الذي كان انعكاسًا وحلًّا لمشاكلهم الخاصة وأوضاعهم المحدَّدة.
ومن حُسن الحظ أن عديدًا من المؤلفين الغربيين أنصفوا في السنين الأخيرة هذا التراث العربي في العلم وأدركوا مغزاه، فأشادوا به في فروعه المختلفة وتولَّوا هم بأنفسهم الرد على الظالمين والجائرين من مفكريهم.
ولسنا في مجال تعداد الأوجه المختلفة لإنجازات العرب وبحوثهم؛ فلعل هذا العمل في حاجة إلى مجلدات كاملة تُكتب عنه، غير أننا نستطيع أن نؤكِّد أن العرب قد قدَّموا إنجازات هامةً مبتكرة في مجال العلم النظري والعلم التجريبي، وأن ما هو مجهول في تفاصيله أكثر ممَّا هو معلوم، وأن عديدًا من أجزاء هذا التراث ليس موجودًا — لأسباب تاريخية عديدة — في مكتبات العواصم العربية، وإنما هو موجود في المكتبات والمتاحف الأوروبية والأميركية، إمَّا في نسخته العربية أو في صورة مترجمة منذ عصر النهضة أو ما قبلها.
ولقد بُذلت جهود كبيرة جديرة بالتقدير والاحترام من جانب عدد من كُتَّابنا وعلمائنا وبُحَّاثنا لإحياء هذا التراث وتبصير العرب به، نذكر على وجه الخصوص العمل الجليل الذي تولَّاه الدكتور مشرفة والدكتور محمد مرسي أحمد مدير جامعة عين شمس في بعث كتاب الخوارزمي «الجبر والمقابلة» عن مخطوط محفوظ بأكسفورد في مكتبة «بودلين»، وهو مخطوط كُتِب في القاهرة بعد موت الخوارزمي بنحو خمسمائة عام، وقام الأستاذان الجليلان بالتعليق على الكتاب وشرح ما صعب من معادلاته وأبحاثه. كما يقتضي الإنصافُ أن نُشير إلى كتاب أستاذنا الجليل قدري حافظ طوقان وزير خارجية الأردن السابق في بعث التراث بإصداره كتاب «تراث العرب العلمي» على نفقة الجامعة العربية، وهو كتاب لا غنى عنه لكل من يهتم بهذا اللون من الدراسات.
ثم تأتي في المقدمة كُتب أحد أساتذة الجيل الموسوعيين الأستاذ أحمد أمين ابتداءً من «فجر الإسلام» حتى جزأَي «ظهر الإسلام». وصحيح أن أحمد أمين لم يكن يستهدف في كتبه أساسًا إحياء التراث العلمي على وجه الخصوص، وإنما التعرُّض للحياة العقلية والتيارات الفكرية ودراسة ظروف نشأتها التاريخية، إلا أن هذا لم يمنع من أنْ يعطي بعض الاهتمام في كتبه بالعلم العربي ولا سيما في الجزأين الأخيرين من كتبه السابقة الهامة. وإذا كان أحمد أمين غير مشتغل بالعلم، كان من الطبيعي أن يأتي الجزء الخاص بثروتنا وكنوزنا العربية محدودًا أو موجزًا.
ولقد حدثت محاولات أخرى لإحياء هذا التراث، محاولات كلها تتسم بالجِدية والحماس الخالص والرغبة الأكيدة في خدمة تراثنا وأمتنا، فلا يمكن لإنسان أن ينسى في هذا المجال كتاب الدكتور مصطفى نظيف عن «ابن الهيثم» شارحًا فيه كل أبحاث هذا العالِم العربي الكبير في البصريات والهندسة، وباعثًا تراثه الذي كان يجهله جيلنا تمام الجهل، ثم جهد وزارة الإرشاد في إصدار بعض كُتيبات ذات قيمة تعريفية ببعض أوجه هذا التراث، وجهد الجامعة العربية في إحياء تراث بعض علمائنا وفلاسفتنا … إلخ … هذه الجهود التي بذلتها هيئات عامة أو أفراد أحسوا بمسئوليتهم في هذا السبيل فاضطلعوا بالجهد الجليل.
غير أن هذا كله ليس كافيًا، وأمامنا في هذا المجال شوط بعيد يجب أن نقطعه، لا في مجال الكتيبات الخفيفة التي تعرِّف ولا تعمِّق، وإنما في مجال البحث الجاد في أوجه هذا التراث بكل تفاصيله ومشاكله المتعدِّدة الأوجه. هنا نواجه على الفور مسألتين جديرتين بالتأمل والتفكير؛ أولاهما أن أجزاءً هامة من هذا التراث لا يعرف عنها إلا القليل في البلاد العربية، ويُحس كل من له إلمام بهذا التراث أنها في حاجة إلى أبحاث قد تستغرق سنوات.
وربما أوضحَت بعض الأمثلة هذه الحقيقة … نحن نعرف عمر الخيام شاعرًا ونحفظ له شعره الرقيق، ونعرف أيضًا أنه رياضي وفلكي جليل، وأنه تولَّى حل معادلات الدرجة الثانية واستخدام الهندسة في إيجاد حلول لبعض معادلات الدرجة الثالثة والرابعة، وأنه حل بعض نظريات نيوتن الجبرية في حالات خاصة، وأنه اهتم بالفلك وساعد في تعديل التقويم السنوي أيام السلطان «الملكشاه» وبحث نظرية أرشميدس في الكثافة النوعية. غير أن هذا الكلام كله يقال في العموميات. أمَّا حقيقة أبحاث عمر الخيام بالتفصيل والكتب التي ألَّفها في هذا الشأن فلا نعرف عنها شيئًا كثيرًا. وما يصلنا ليس إلا شذرات يتعطَّف علينا بها الباحثون الأوروبيون الذين يملكون المخطوطات أكثر ممَّا نملك.
ونفس الشيء يمكن أن يقال عن أبي جعفر الخازن الذي عاش في أوائل القرن الرابع الهجري؛ فما يقوله ابن النديم في «الفِهرِست» عنه قليل لا يشفي غليل أي باحث، والواضح أنه من أجلِّ العلماء العرب، والأوروبيون أنفسهم يقولون إنه أول عربي حل المعادلات التكعيبية هندسيًّا بواسطة قطاعات المخروط، وإنه قدَّم أبحاثًا هامة جدًّا في هندسة الكرة وفي الجبر والفلك، حتى شرحه لكتاب «الأصول» لإقليدس ليس موجودًا في إحدى المكتبات العربية، وإنما هو موجود في أحد مكاتب الآستانة فيما أعلم.
وقِس على ذلك أمثلةً كثيرة لا أريد أن أُثقل على القارئ بها، فخلاصة هذا الكلام أن أجزاءً هامة من هذا التراث غير معروفة إلا في عمومياتها، وأن بعض هذا التراث غامض في حقيقته لم يُجلِه بحث أو تحقيق، وأن ما لدينا عنه ليس إلا شذرات ممَّا هو موجود في عواصم أوروبية عديدة.
أمَّا المسألة الثانية فهي أخطر وأكثر أهميةً من المسألة الأولى التي تتعلق بما هو مجهول، ونعني بالمسألة الثانية منهج الدراسات التي نُشرت فيما هو معلوم. لقد أسلفتُ كلمةً عن تقديري واحترامي للأعمال الجليلة التي اضطلع بها عديد من كُتَّابنا وعلمائنا وبُحاثنا في هذا المجال؛ إذ إن المنهج الذي اتُّبع في هذه الدراسات كان منهجًا أُحادي الجانب يركِّز على الإنجازات العلمية في حد ذاتها دون اهتمام كافٍ بتوضيح وتقدير الصلة بين هذه الإنجازات والظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمعات العربية آنذاك، أو دون اهتمام على الإطلاق بأثر التيارات الفكرية والفلسفية المختلفة في إنجازاتنا العلمية، ولا التأثير العكسي للعلم العربي في هذه التيارات الفكرية والفلسفية.
ولعل هذا الحديث يمس أخطر قضية فكرية تواجهنا اليوم في حياتنا الفكرية، ونعني بها قضية المنهج؛ فكل دراسة عن العلم العربي وتراثه مطالَبة بأن تضع هذا التراث ضمن إطاره الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والفكري العام. وبذلك يكون لهذا التراث معناه الواضح، وتبدو قيمته وتُحَل أسراره. إن ازدهار العلم العربي في القرن الرابع والخامس لم يكن معزولًا عن التجارة والدور الهام الذي لعبته في الحضارة الإسلامية آنذاك. وفي هذه الفترة لم تكن هناك في الإمبراطورية الإسلامية عاصمة تماثل روما في الإمبراطورية الرومانية التي كانت تسيطر على وتمتص كل اقتصاد الإمبراطورية. نعم لقد ظلَّت بغداد العاصمة الدينية ولكنها فقدت أهميتها كعاصمة سياسية أو اقتصادية أو ثقافية. وبدلًا من ذلك انتعشت المدن القديمة مثل الإسكندرية وأنطاكية ودمشق ثم القاهرة وقرطبة … إلخ. وكل هذه المدن كانت على صِلة ببعضها البعض، وكان تنوُّع إنتاجها أساسًا للتجارة وتحسين التكنيك. ولقد كانت هذه المدن بؤرة الاتصال بالمعرفة الآسيوية والأوروبية. وكان من نتيجة ذلك أن تجمَّعت في المدن العربية سلسلة جديدة من الاختراعات غير المعروفة للتكنولوجيا اليونانية أو الرومانية. ومن هنا نشأت في هذه المدن صناعات جديدة كانت أساسًا لإنجازات علمية أوسع دفعت الغرب دفعًا نحو الثورة التكنيكية في القرنين السابع عشر والثامن عشر.
وليس هذا إلا مثالًا واحدًا يُبيِّن صلة ازدهار العلم بالتجارة، ونستطيع مثلًا أن نضع ضمن الاعتبارات الهامة التي دفعت بالعرب دفعةً كبيرة في علم الكيمياء التطبيقي بالنسبة لليونان خلاصهم إلى درجة كبيرة من العداء الطبقي الواضح الذي أبعد مثقفي اليونان في عصر العبيد عن الحِرف اليدوية والعمل اليدوي عمومًا باعتباره أمرًا يخص العبيد. وقِس على ذلك أمثلةً عديدة تُبيِّن صلة العلم بالفلسفة والفكر والمجتمع بكل أوضاعه، الأمر الذي يكشف لنا عن أهمية أن تكون دراستنا للتراث العربي دراسةً متكاملة موسوعية تتناول القضية في إطارها الصحيح وتعترف بالتفاعل المتبادَل بين العوامل المختلفة في المجتمع. تلك هي النظرة الاشتراكية في حقيقتها.
فإذا تحوَّلنا إلى ما لدينا من دراسات مطبوعة ألفينا أنها إمَّا تركِّز على دراسة العوامل السياسية والاجتماعية والفكرية في العصور الإسلامية المختلفة — مثل كتب الأستاذ أحمد أمين — ولا تعطي بطبيعتها للتراث العلمي العناية المنشودة. ولست أكتب هذا لائمًا لأنني أول من يُقدِّر ويحترم العمل العظيم الذي أنجزه أستاذنا الجليل.
وإمَّا أنها دراسات تُركِّز على ما هو معروف من تراثنا العلمي دون أن تُعنى بوضعه في إطاره السليم اقتصاديًّا واجتماعيًّا وفكريًّا.
ومرجع الصعوبة أننا في حاجة إلى باحث من نوع جديد لكي يُنجز ما نطالِب به … فيه المعرفة العلمية والفنية الواسعة، وفيه المعرفة الاقتصادية والتاريخية والسياسية والفكرية اللازمة. وقلما يتوفَّر هذا النوع الموسوعي من البُحَّاث اليوم.
ولعل الأقرب إلى الواقع أن نطالب بتوفُّر مجموعة متكاملة من البُحَّاث فيهم عالم الكيمياء والرياضيات والفلك وعالم الاقتصاد والاجتماع والباحث في العلوم السياسية والتاريخية … إلخ، ويجمع بينهم جميعًا رغبة مشتركة وحماس مشترك في إحياء تراثنا العلمي العربي من جميع نواحيه، وكل منهم يُكمل الآخر. وتلك مهمة نبيلة جديرة بأن تنقطع لها هذه المجموعة من البُحاث سنين طويلةً قبل أن تُقدِّم شيئًا له وزنه وقيمته للرأي العام.
ولا بد لهذا العمل الكبير من تشجيع ورعاية وأموال تُغدَق عليه إغداقًا من كافة الحكومات والهيئات العربية المسئولة. ولعل خير بدء في هذا الاتجاه أن تنشئ جامعة القاهرة أو جامعة الدول العربية معهدًا جديدًا يُدعى «معهد إحياء التراث العلمي العربي»، وأن توفر له الأساتذةَ المتخصِّصين. أكتب هذا وأنا أعرف أن هناك معهدًا للدراسات العربية يتبع الجامعة العربية، غير أن هذا المعهد يُركِّز على الدراسات العربية الحديثة في المجالات المختلفة، وهو بهذا الوضع لا يستطيع أن ينهض بالعبء المطلوب في إحياء التراث العلمي العربي. ولعل اقتراحي هذا يجد بعض الصدى عند الهيئات المسئولة وعند الباحثين في هذا التراث.