جوته
كثيرون من قُراء العربية يعرفون جوته شاعرًا ألمانيًّا كبيرًا، له في الأدب الألماني نفس المنزلة التي لشكسبير في الأدب الإنجليزي، وهو فوق ذلك مفكر ترك بصماته التي لا تُمحى على تطور الفكر الألماني. ولا شك أن اسم جوته سوف يقترن دائمًا في أذهان القُراء بمسرحيته الخالدة «فاوست» وروايته «آلام فرتر» التي تكاد أن تكون سيرةً ذاتية له في أوائل شبابه، والتي انتشرت كالحريق في أوروبا وخصوصًا بين شبابها، وطُبع منها خلال عشرين عامًا عشرون طبعةً إنجليزية، وعشرون طبعةً فرنسية، وكانت أول كتاب أوروبي يُترجَم إلى اللغة الصينية.
ولكن قليلًا من هؤلاء القُراء هم الذين يعرفون عن جوته أنه كان سياسيًّا مرموقًا ورجل دولة في «فايمار» بالمعنى الكامل لهذه الكلمة، والأقل من هؤلاء القُراء هم الذين يعرفون عن جوته اشتغاله بالعلوم الطبيعية، وأنه قضى جزءًا هامًّا من حياته في دراسة علم البصريات، وانتهى إلى تأليف كتاب ضخم في هذا الميدان يُدعى «نظرية الألوان».
ومع أن جوته كان شاعرًا ضخمًا وأديبًا عظيمًا ومفكرًا كبيرًا في تاريخ كل أوروبا، إلا أنه كان عالِمًا فاشلًا بالمعنى الفيزيائي لهذه الكلمة، ولا شك أنه لو كان بيننا اليوم وسمع هذا الحكم من رجال علم الفيزياء لاستشاط غضبًا؛ إذ إنه كان يعتبر كتابه «نظرية الألوان» أهم إنجاز له على طول حياته الرحيبة. كَتب جوته مرةً يقول:
«أمَّا فيما يتعلق بما أنجزته كشاعر فإنني لا أفخر به على الإطلاق … ثمة شعراء ممتازون عاشوا معي في نفس العصر، وثمة شعراء أكثر امتيازًا عاشوا قبلي، وثمة آخرون سيأتون بعدي. ولكن في هذا القرن الذي أعيش أجد أنني الإنسان الوحيد الذي يعرف الحقيقة في علم الألوان؛ ولهذا أحس بفخر غير قليل.»
ولعل هذا الادعاء من جانب شاعر كبير مثل جوته يُذكِّرنا بكلمة مشابهة للعالِم الرياضي والفيزيائي الكبير نيوتن عندما قال: «إن قوانين الحركة التي أكتشفها ليست شيئًا ذا بالٍ، ولكن الترتيب الزمني الذي وضعته لأحداث الإنجيل هو الذي يجعلني خالد الذِّكر.»
واليوم لا نحن نذكر جوته بكتابه في الألوان، ولا نيوتن بترتيبه لأحداث الإنجيل، وربما كان هذا المعنى هو الشيء الوحيد الذي يجمع بين جوته ونيوتن؛ فالحقيقة أن مأساة جوته فيما يتعلق بنظرته للعلوم الطبيعية هي في الأساس كراهيته لنيوتن ولكل ما اكتشفه من نظام علمي. ولم يُخفِ جوته هذا الاستخفاف بواحد من أكبر وأخصب العلماء الذين عرفتهم البشرية في تاريخها الطويل لا في كتابه «نظرية الألوان» ولا في شعره ومسرحيته «فاوست». وفي هذا الموقف يكمن أحد التناقضات الأساسية في فِكر جوته؛ فبينما هو يعتبر العلوم الطبيعية كما انتهت إليه في القرن الثامن عشر خرابًا ورمادًا، فإنه مع ذلك يلجأ إلى التجريب في البصريات، وتأليف كتاب كامل عن الألوان من الناحية الفيزيائية مهاجمًا لنظرية نيوتن في تحليل الضوء، داحضًا لنظرياته بتجارب جديدة ظن أنها تقضي عليه تمامًا.
نيوتن واستقلال أميركا!
لقد عاش جوته بعد نيوتن في القرن الثامن عشر، ولا شك أن نيوتن — بالقوانين الأساسية للحركة التي قدَّمها وبقانون الجاذبية العام — قد قدَّم ما يُعرف اليوم باسم «التصور الميكانيكي للون»، وهذا التصور لم يترك بصماته على العلوم الطبيعية الأخرى فحسب، بل ترك بصماته أيضًا على أوجه أخرى من المعرفة والأنشطة الإنسانية في الاقتصاد والسياسة والفلسفة والأدب والفكر المسيحي، بل يذهب الكثيرون إلى القول إن بيان إعلان استقلال الولايات المتحدة كان شديد التأثر بالنظرة النيوتونية والنظام النيوتوني! ولقد ظل العلماء على ولاء للنظام النيوتوني طوال القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، ولم يظهر تحدٍّ حقيقي لنظام نيوتن في تصوُّر هذا الكون إلا في أوائل القرن العشرين على يد أينشتين عندما اكتشف النظرية النسبية عام ١٩٠٥م!
ولمَّا كان نظام نيوتن الكوني يتسم بالشمول الذي يكون فيه الإنسان ذرةً بسيطة، ولمَّا كانت ثورة نيوتن هي المقدمة الطبيعية للثورة الصناعية التي قامت على أساس ميكانيكي وتميَّزت بظاهرة الإنتاج الواسع، فقد أعقب هذه الثورة في أوروبا رد فعل طبيعي إلى حد كبير، وهو ما يسمَّى بالحركة الرومانسية في أوروبا … وهي حركة ضد إهمال الذات على حساب الموضوع ضد الإساءة إلى روح الإنسان التي هدَّدتها في رأيهم ثورة نيوتن والثورة الصناعية ذات الإنتاج الكبير، ضد المدينة بمصانعها الكريهة ودُخانها القاتل، ومن أجل الرفق بحياته العضوية الطبيعية، بجمالها وألوانها.
وفي ألمانيا كان جوته قائدًا من قادة الحركة الرومانسية، وعبَّر عن هذا بوضوح في شعره وفي مسرحيته «فاوست»، وكانت روايته «آلام فرتر» هي الصرخة الرومانسية الكبرى في عالم يتجه إلى الصناعة الكبيرة!
لقد دعت الحركة الرومانسية إلى ارتباط الإنسان عضويًّا بالطبيعة، إلى أن «يذوب في الطبيعة» كما يقولون، وكانت على هذا الأساس شديدة الارتباط بالتصور اليوناني القديم للكون، وكانت تعتبر أن نظام نيوتن الكوني — الذي يتخذ من نموذج ساعة الحائط أساسًا له — هو محاولة لتحطيم أرسطو، إلى درجة أن جوته قال يومًا: «إنني أُفضِّل أن أكون مخطئًا مع أفلاطون على أن أكون مُصيبًا مع أعدائه!»
لماذا البصريات؟
كيف أمكن إذن لرجل مثل جوته أن يهتم بعلم البصريات وينشئ فيه التجارب ويؤلف فيه كتابًا؟
ربما كان السبب في هذا يعود إلى زيارته لإيطاليا عام ١٧٨٦م لأول مرة في حياته. وهناك بهرته ألوان الريف الإيطالي، كما بهرته الألوان التي استخدمها كبار الرسامين الإيطاليين في لوحاتهم، وأحسَّ بالحاجة إلى تقديم نظرية في تفسير الألوان.
في ذلك الوقت كان لنيوتن نظرية في الضوء استخلصها بعد تجارب معقدة استهدف منها أن يُبعد عن مشاهداته العنصر الذاتي في الحكم على الأشياء؛ أي يُبعد الذات عن العلم، وكانت النتيجة التي توصَّل إليها نيوتن من تجاربه هي أن الضوء الأبيض يحتوي على كل الألوان في داخله، وأنه يمكن — باستخدام منشور — فصل هذه المركبات اللونية.
ولكن جوته كان يرفض نظرية نيوتن، ويعتبرها أمرًا غير مُرضٍ؛ فقد كان شديد الارتباط بفكر أرسطو وتصوراته. وعلى هذا الأساس بحث عن نظرية في تفسير الألوان تقوم على الأضداد (وهي في هذه الحالة الظلام والنور). ولقد حاول جوته أن ينظر إلى جسم أبيض من خلال منشور، وبدلًا من أن يرى هذا الجسم في ألوان مختلفة (كما توهَّم أن هذا ما يدعيه نيوتن)، وجد ألوانًا على حروف المنشور فقط، وعلى الفور أدرك أن نظرية نيوتن باطلة، وقدَّم جوته بدلًا من ذلك نظريةً تقوم على أن عين الإنسان هي التي تخلق الألوان من بين الخلائط المختلفة للنور والظلام. هكذا يصبح الإنسان هو مركز عملية المشاهدة الفيزيائية؛ فالإنسان عند جوته هو أدق جهاز فيزيائي ممكن، ومشكلة فيزياء نيوتن هي أنها تعترف بالطبيعة فقط عندما تحاصرها في أجهزة صناعية!
ولقد امتلأ كتاب جوته «نظرية الألوان» بالهجوم غير المسئول على نيوتن متهمًا إياه بمقاومة الأدلة الواضحة وضوح الشمس، ناعتًا إياه بأنه «زعيم العصابة» ومسميًا كل الفيزيائيين «قطيع نيوتن»!
وغني عن البيان أن نظرية جوته في الألوان كانت موضع رفض العلماء الفيزيائيين منذ ظهرت وحتى اليوم، وجاء هذا الرفض على أسس علمية قاطعة. ولقد كشف جوته في هذا الهجوم على نيوتن عن مدى ارتباطه بفكر أفلاطون وأرسطو كما أسلفنا، وكانت خشيته شديدةً من أن تدخل الرياضيات في علوم الفيزياء فتدمِّر المشاهدة الفردية ونضوجها، ولم يكن موقفه هذا إلا صدًى لهجوم أرسطو على المدرسة الفيثاغورية.
وكان جوته في كل هذا يحاول أن يسبح ضد التيار، تيار العلم الدافق في القرون الثلاثة الأخيرة؛ ولذا ليس بمستغرب ألَّا تجد صرخات جوته بأن يترك الضوء وشأنه (كظاهرة غير قابلة للتقسيم) صدًى لدى جميع الفيزيائيين في هذا العالم.
ولقد انعكس موقف جوته المناقض للمعرفة العلمية «الجافة» في مسرحيته «فاوست». كان فاوست يبحث عن معنًى للحياة، ومع أنه قضى سنين طويلةً في الدراسة وبحوث العلوم، فإنه لا يلبث أن يكتشف أنه ليس أكثر حكمةً بعد كل هذه الدراسة. وفي محاولة أخيرة يوقِّع فاوست عقدًا مع مفستوفيليس يريه بمقتضاه كل مباهج وإغراءات هذا العالم، على أن تُقبض روح فاوست إذا قال أبدًا: «أحب هذه اللحظة، وأتمنى أن تدوم إلى الأبد.» كان معظم المسرحية يدور حول هذه المباهج التي يريها مفستوفيليس لفاوست بهدف إغرائه، ولكن نصوصها مليئة بأفكار جوته عن العلم كنشاط قاتل لروح الإنسان.
كل علم، أيها الصديق، أغبر ورماد …
أمَّا الشجرة الذهبية للحياة فهي وحدها خضراء …
«حمى فرتر»
إن جوته يَعتبر العلوم بمثابة خراب ثقافي، وهي كما تمارَس على يد الفيزيائيين تمضي في خط مضاد لصلة الإنسان بالطبيعة؛ ولذلك اعتبر البعض أن «فاوست» هي في الحقيقة محاولة لاستكشاف بدائل ثقافية للعلوم.
على أن النموذج الأعظم لرومانسية جوته إنما يتمثل في روايته الذائعة «آلام فرتر» التي تكاد أن تكون نوعًا من السيرة الذاتية كما أسلفنا. ولقد كتب جوته هذه السيرة الذاتية ونشرها وهو في الخامسة والعشرين، وإذ بها تجد انتشارًا ذائع الصيت في طول أوروبا وعرضها.
والرواية — كما هو مُدون — قصة شاب عاشق يحاول جاهدًا في أن يكون جزءًا متكاملًا من الطبيعة، أن «يذوب» في الطبيعة، وقد كُتبت الرواية بشكل ذاتي لا عقلاني على صورة خطابات كلها صادرة من «الأنا»، وهذه الخطابات لا تجد ردًّا من العالم الخارجي، بحيث يرى القارئ الكون كله في مرآة ذات واحدة مفردة، تصرخ من أجل أن تتكامل مع الطبيعة.
إنها قصة حب ذا طبيعة عضوية، وهي تبدأ في الربيع وتنتهي في الساعة الحادية عشرة مساءً يوم ٢٣ ديسمبر (لاحظ أن هذا هو بدء الشتاء، بدء موت الطبيعة) عندما يُهزم فرتر في حبه أمام خصمه، فيقرِّر أن يذهب إلى الغابة ويطلق الرصاص على نفسه!
ولقد أدَّى ظهور هذا الكتاب إلى انتشار مرض مُميت بين المراهقين آنذاك عُرف باسم «حمى فرتر»؛ فقد أخذ مئاتٍ من شباب أوروبا الفاشلين عاطفيًّا يذهبون إلى الغابات في نفس ملابس فرتر وينتحرون بنفس طريقته، في نفس اليوم المشئوم … ٢٣ ديسمبر.
حتى إن جوته اضطُر في الطبعات اللاحقة أن يطلب من القارئ ألَّا يأخذ مثال فرتر بهذا المستوى من الجدية.
والخلاصة أن جوته كان واحدًا من الرجال الذين حاولوا وفشلوا في توحيد الثقافتين الأساسيتين؛ الثقافة العلمية، والثقافة الإنسانية، وعبَّر بوضوح عن تمرد رومانسي على التصور الميكانيكي للكون وما ترتب على هذه النظرة من أفكار وفلسفات، على العلوم الطبيعية بشكل عام، وعلى الآلة. ولقد ارتدَّ جوته في فكره إلى النظرة الأرسططالية للكون ككائن حي وحاول أن يفرض هذه النظرة على العلم دون أي نجاح. لقد فشل جوته في محاولاته لتوحيد الثقافتين لأنه يتخذ من الإجماع العلمي في عصره نقطة بدء في هذا التوحيد. لقد تمرد بشكل رومانسي وانتهى إلى الاغتراب عن كل الثقافة العلمية.
ومع ذلك فنحن نرى في حركة الرومانسيين بشكل عام وفي جوته بشكل خاص أُسس الانقسام الاجتماعي العميق الذي لا يزال قائمًا في حياتنا، ليس بين المعرفة التكنولوجية والعلوم الإنسانية فحسب، وإنما بين تصورين متناقضين لا يزالان يحومان حولنا حتى اليوم … التصور الميكانيكي للكون الذي تعود جذوره إلى نيوتن، والتصور العضوي للكون الذي تعود جذوره إلى أرسطو.