الطريق المسدود
منذ أيام كتب الأستاذ توفيق الحكيم يصف روايات الأستاذ إحسان عبد القدوس قائلًا: إنها القصة ذات المفتاح. وهو يعني بذلك أن الرواية كثيرًا ما تنطوي على مبدأ معين، فكرة معينة … وحينما تدرك من أحداث الرواية هذه الفكرة تكون قد فتحت الباب إلى فهم القصة فهمًا صحيحًا.
وإحسان مغرم بالقصص ذات المفتاح، ولكنه فوق ذلك مغرم بوضع مفتاح كل قصة من قصصه على صورة شعار معين، فمثلًا في رواية «الطريق المسدود» يقدِّم لنا إحسان منذ البداية وقبل أن نعرف أحداث الرواية الشعار التالي:
«إن الخطيئة لا تُولد معنا ولكن المجتمع يدفعنا إليها». وهذا هو (في تقديره) مفتاح قصته.
فلنتخذ إذن من مناقشة هذه المسألة نقطة بدء …
أولًا: يُعتبر تقديم «مفتاح القصة» في البداية خطأ فنيًّا واضحًا؛ فالمفروض أن الروائي يقودنا، نحن قُراءه، في طريق أوله مجهول ووسطه غموض وآخره وضوح عند القارئ اللبيب.
إن المؤلف يفتح لنا الباب لندلف منه إلى عالم كامل حافل بغابات الفكر الإنساني وشواهق المأساة الإنسانية ووديان العواطف البشرية … عالم كامل بعواصفه ونسائمه، بأنهاره وبحاره بمنعطفاته وسهوله، بمرئياته وسرابه. والمؤلف يفتح لنا الباب ويقول: تفضلوا، لقد تركت لكم علامات متباعدةً تدلكم على الطريق! … ونحن ندخل هذا العالم مدفوعين بغريزة فضولنا البشري ورغبتنا الدائمة في أن نستكشف أنفسنا من جديد.
وحينما نعود من هذه الرحلة الجميلة، نقصد أول ما نقصد بيت المؤلف ونطرق بابه لنحاسبه حسابًا جادًّا ونسائله: أكان هذا العالم الذي دعانا له حقًّا عالمنا؟ ماذا أضاف المؤلف إلى ذخيرة تجاربنا الإنسانية حتى نشكره على هذه الرحلة أو لا نشكره؟
ولكن إحسان لا يفعل هذا، بل يقيم لنا حفلةً بسيطة قبل الرحلة … ليس فيها شيء من كرمه المعهود … لا أكل ولا زاد ولا شراب، ونلبِّي دعوته فإذا به يقدِّم لكل واحد نسخةً من خريطة عن هذا العالم الذي سندخل لنستكشفه، وإذ به يشرح لنا ما دق في هذه الخريطة، ثم يفتح لنا الباب، باب العالم الذي ألَّفه ويقول لنا: تفضَّلوا من غير مطرود! … وهو بهذا العمل يقتل متعتنا في الاستكشاف منذ البداية. لا جديد … لا جديد، نحن نعرف ما سنراه ونتوقعه منذ البداية ونحن نسير في الطريق.
ثانيًا: ولكن الأخطر من ذلك في رواية «الطريق المسدود» أن إحسان قد نسي فيما يبدو وأعطانا خريطةً أخرى تشابهت مع الخريطة الصحيحة. إن الخريطة التي أعطاها لنا إحسان قبل رحيلنا إلى عالم «الطريق المسدود» كتب عليها: «إن الخطيئة لا تُولد معنا ولكن المجتمع يدفعنا إليها.» وكان واجبه أن يعطينا خريطةً أخرى كتب عليها: «القانون الأزلي: كل الناس سفلة وحقراء ومنافقون ومنساقون وراء غرائزهم وأولها الغريزة الجنسية!»
ولو أعطانا إحسان هذه الخريطة الثانية لوفَّر علينا كثيرًا من المشقة والعناء؛ عناء أن نضل الطريق، وعناء معاتبة إحسان على استخفافه بالقُراء عندما عادوا من الطريق! … ولا يحسبن أحد أني أتجنَّى على إحسان؛ فلو طلب مني أن أُلخِّص رواية «الطريق المسدود» لقلت:
ملخصها أن إحسان يدفع بطلة الرواية فايزة، الفتاة المصرية التي تريد أن تحافظ على استقامتها وأن تكسب الرزق الحلال لاختبار هذا «القانون الأزلي» على مستويات مختلفة وفي أجواء اجتماعية مختلفة.
-
إنها تختبر هذا «القانون» في مجتمعها الصغير (نعني أسرتها) فتجد أنه صحيح! … ففايزة تكتشف أن أمها توحيدة وشقيقتها فوقية وخديجة يعشن في جو الخلاعة والمجون والسُّكْر والعربدة وتصيُّد الرجال، وأن فوقية وخديجة على استعداد لأن تمنحا الرجال كل شيء إلا شكل الشرف! …
-
ثم تخرج فايزة من مجتمعها الصغير إلى المجتمع الأكبر؛ مدينة القاهرة؛ لتختبر هذا «القانون» عند رجال الفكر والثقافة وأجواء المعاهد العلمية العالية، فإذ بها تجد أنه صحيح.
فمنير حلمي الكاتب الروائي الشهير تكتشف حين تزوره أنه يريد اغتصابها منذ الزيارات الأولى وأنه على علاقة بأختها فوقية.
والدكتور رشاد أستاذ الأدب الإنجليزي في المعهد العالي الذي الْتحقت به، أيضًا يغازلها ويود اغتصابها.
وهدى، صديقة فايزة في المعهد، هدى التي أحبَّتها ووثَّقت بها وائتمنتها على أسرارها في مسألة الدكتور رشاد، حتى هذه الصديقة تكتشف فايزة أنها أذاعت أسرارها على الطالبات.
وهناك عزيزة، زميلة فايزة في الدراسة (وإن لم تكن صديقتها)، والتي تُضيع وقتها في شُرفة المعهد تغازل الشبان ويغازلونها، هذه العزيزة تصفع فايزة وتُعيِّرها بسمعة أمها وشقيقتيها.
وثم عميدة المعهد التي ترفض أن تصدِّق رد فايزة على كل الوشايات التي بلغتها عنها من الدكتور رشاد ومن زميلاتها.
وضابطة المعهد وخادمة المعهد اللتان عاملتاها بقسوة ووحشية حينما أُغمي عليها في المعهد.
فأنت ترى إذن أن المجتمع القاهري كله قد تآمر على فايزة … هذا المجتمع «الحقير المنافق المُنساق وراء غرائزه وأولها الغريزة الجنسية!» …
-
وهكذا يُخرج إحسان بطلة القصة فايزة من مجتمع المدينة، ودَفَعها إلى مجتمع الريف المصري إلى البلدة الريفية الصغيرة لتختبر «قانون إحسان»؛ فتجد أيضًا أنه صحيح!
فحين تُعيَّن في مدرسة ريفية للتدريس تلتقي بالنماذج الآتية:
-
(١)
الدكتور عوض صاحب الصيدلية: وتدور كل جهوده منذ وصول فايزة على محاولة الاتصال بها واغتصابها.
-
(٢)
عُمدة كفر شرف: والد ثلاث تلميذات بالمدرسة … هو أيضًا يريد افتراس المدرسات جملةً واحدة!
-
(٣)
سعدية: زميلة فايزة في المدرسة. إنها تجيد الوساطة في العلاقات الغرامية!
-
(٤)
عائشة: زميلتها أيضًا في التدريس. بائسة حزينة لأنها زلَّت من قبلُ وتود الاحتفاظ بسرها.
-
(٥)
أحمد: الشاب الذي أحبَّته فايزة وأَحبها، ولكنه تخلَّى عنها في أدق لحظات حياتها.
-
(٦)
أم أحمد: التي أحبَّتها حبًّا جمًّا ثم رفضت مقابلتها حينما ذاعت الإشاعات الكاذبة عنها.
وهكذا …
إن المجتمع الريفي كله تآمر على فايزة كما تآمر عليها المجتمع في القاهرة.
-
(١)
-
وتهرب فايزة من الريف ومن تحقيق وزارة التربية والتعليم بعد أن تيقَّنت من صحة «قانون إحسان»، وتعود إلى القاهرة لتُقرِّر أمرًا؛ الانتقام من المجتمع. أمَّا كيف تفعل ذلك فقد سلكت فايزة طريقًا غريبًا …
تعذيب الرجال بادعاء حبهم! وفي سبيل تحقيق هذا «الانتقام» ليس من مانع أن تمنحهم كل شيء إلا شكل الشرف …
-
تعود فايزة إلى الكاتب منير حلمي لتقوم معه بتجربة «الانتقام» فتفشل حتى في هذا؛ لأنها تصطنع ولا تجيد الاصطناع؛ فمنير حلمي يُقبِّلها فيجد أنها باردة، ويمر بيده على صدرها فيجد أنها باردة، فيبتعد عنها ويؤدِّي فجأةً دَور الواعظ بعد أن عاف دَور العاشق وينصحها بالبُعد عن الرذيلة.
-
وتنتهي الرواية كما يمكن أن يتوقَّع كل إنسان؛ فايزة تفكِّر في الانتحار!
«ووجدت نفسها تُبحلق في عجلات الترام التي تمُر أمامها، ووجدت نفسها ترى سطح العمارة التي تقيم فيها، وتقيس المسافة بين السطح والأرض، ووجدت نفسها تعد حبات الأسبرين في الأنبوبة التي تحتفظ بها بجانب فِراشها.»
قُضي الأمر إذن … فطريق المرأة إلى الشرف والاستقامة وكسب العيش الحلال في هذا المجتمع مسدود … أو هكذا يقول لنا إحسان؟
ماذا يمكن أن نقول ردًّا على إحسان؟ هل نقول إن كل شيء وكل إنسان في مجتمعنا شريف وطاهر ونظيف، وإن إحسان يتحدث عن عالم غير عالمنا؟
كلا … فلو قلنا هذا لاتخذنا نفس الموقف الساذج المتحيِّز الذي اتخذه إحسان … ولكننا نقول إن الخطأ الكبير أنه يتحدَّث عن الجزء الأقل من مجتمعنا، ثم يريد أن يوهمنا أن هذا الجزء يمثِّل كل مجتمعنا. أمَّا الخطأ الذي لا يُغتفر له «وهو كاتب ذو تجربة كبيرة في الحياة»، فهو أنه ينظر إلى الخير والشر عند الأفراد نظرةً مثالية؛ فنحن نُحس من الرواية أن الناس أشرار على طول الخط … في كل مشاعرهم وتجاربهم وأفكارهم.
والحياة بعيدة كل البعد عن هذه النظرة المثالية الخاطئة. نحن نعرف أن كل إنسان بشكل عام تتنازعه عوامل الشر والخير. إنه يحمل، انعكاسًا لواقع مجتمعنا، هذا التناقض الداخلي؛ ففي داخل نفوس معظمنا دوافع الصراع بين الجبن والشجاعة بين الاستهتار والاستقامة، بين الكراهية والمحبة، بين النفاق والصراحة، بين الأنانية ونكران الذات.
ومن واقع مجتمعنا يقع البعض صرعى الجبن والاستهتار والكراهية والنفاق والأنانية … وفي الهاوية يسقطون ويستسلمون، «وحتى هؤلاء الساقطون لا تخلو حياتهم عادةً من لحظات خيِّرة تعود إليهم فيها المحبة والشجاعة ونكران الذات.»
ولكن من واقع مجتمعنا أيضًا تنتصر الشجاعة والاستقامة والمحبة والصراحة ونكران الذات عند الكثيرين … وهؤلاء هم أملنا في الحياة … ألوف من عُمالنا وفلاحينا ومثقفينا … ألوف فوق ألوف تغلبوا في معظم الأحيان على ضعفهم الإنساني وشقوا طريقهم رغم العقبات، وجَنَوا ورد المحبة من خلال الشوك، ونسوا مصالحهم الشخصية أو كادوا من أجل الآخرين. وحينما حانت اللحظة الحاسمة استجمعوا إرادتهم وغلبوا ضعفهم ومات مئات منهم في بورسعيد …
وإحسان ينسى هؤلاء جميعًا … إنه يظلمهم ويظلم الفن الأصيل بنسيانهم، وهو يظلم قُراءه فلا يقدِّم واحدًا منهم. ولو كان حقًّا مجتمعنا بهذه الصورة الساذجة المتحيِّزة القائمة التي عرضها إحسان، لكان من واجب كل منا ألَّا ينام قبل «أن يعد حبات الأسبرين في الأنبوبة التي يحتفظ بها بجانب فراشه»!
ومن حسن الحظ أننا لا نفعل ذلك، والذي أدريه أن إحسان لا يفعل ذلك أيضًا!
بقيت مسألة هامة جديرة بالتدبُّر … إن إحسان لا يدفعنا من خلال القصة إلى اليأس من النفس البشرية فحسب، بل يريد منا أن نستخلص نتيجةً أخرى تتعلَّق بمركز المرأة المصرية في مجتمعنا. فالمنطق الطبيعي للطريق المسدود هو أن المرأة لا ينبغي أن تخرج إلى العمل، وفايزة بخروجها للتدريس كانت مُعرَّضة جدًّا للزلل؛ لأن كل الرجال ذئاب تنتظر على ناصية الطريق على باب الصيدلية وفي دوار العمدة وفي منازل كُتاب القصص وعند ساقية الغيط!
•••
وبعد … فأنا أعلم أن البعض سيُضيف هذا النقد لقصة «الطريق المسدود» بأنه نقد اجتماع، والحقيقة أنه نقد لمضمون القصة، ونحن هنا لا نفصل بين قضية المضمون والشكل في العمل القصصي.
إن إحسان كاتب صاحب أسلوب دون شك، وهو ليس في حاجة إلى اعترافي هذا ليعرف الناس عنه هذه الحقيقة، ولكن كثيرًا من شخصيات الرواية غير مُقنع. والفصول تمر عند قراءتها في تكرار ورتابة مملة ليست من صفات إحسان في كتاباته العادية، وكل هذا بسبب هذه الفكرة الثابتة الساذجة المتشائمة عن المجتمع التي تسلَّطت عليه.
لقد ضَيَّق إحسان على نفسه كثيرًا، باستبعاد الصراع الإنساني في داخل معظم شخصياته، وباستبعاد الصراع بين الخير والشر في داخل المجتمع، وباستبعاده الصورة الحقيقية لمجتمعنا. ومن أجل هذا كانت الرتابة والملل.
ومن أجل هذا كان القحط الذي لا أعرف أنه من شِيَم إحسان.