الوضعية المنطقية … مرةً أخرى
كتب الدكتور زكي نجيب محمود في العدد الأخير من روزاليوسف يرد على مقال قديم لي عن الوضعية المنطقية بمقال أملاه الغضب أكثر ممَّا أملاه التأمل، والتعسُّف في تأويل العبارات والمعاني بحيث حمَّل بعض العبارات ما لا تحتمل. والدكتور زكي نجيب محمود واحد من أساتذة الجامعة الذين تتسلَّل إليهم الحساسية المفرطة في كل ما يتعلَّق بوضع الأستاذ الجامعي وعلمه حتى يصل في هذا إلى ما هو أبعد من الاعتزاز والتواضع. ولست راغبًا، ولم أكن في يوم من الأيام، في أن أُسيء إلى شخص الدكتور الفاضل، ولا كان يعنيني في مقالي القديم أن أتعرَّض لشخصه بالتجريح أو الاتهام؛ فليس ثمة مبرِّر واحد يجعلني أفعل ذلك؛ فأنا لا أعرفه شخصيًّا ولا هو يعرفني، وليس بيننا ما يدعو إلى التجريح والاتهام … وأنا فوق ذلك أعرف أنه أحد أساتذة الجامعة القلائل الذين يبذلون الجهد الكبير في القراءة والدرس والبحث. وهو أمر واضح في كتاباته الفلسفية دون استثناء … وإذا كان قد فهم غير هذا فإنني أُسارع إليه مؤكدًا أن التهجُّم على الناس والتحامل عليهم شخصيًّا لم يكن يومًا من الأيام منهجي وسلوكي طوال صلتي بالحياة العامة.
لا تحزن إذن يا سيدي الدكتور ولا تبتئس، ولا تغضب؛ فكرامتك مصونة وعلمك مقدَّر، وإن كان يفصل بيننا خلاف طويل حول قيمة هذا العلم ومغزاه. وأنا لا أتهمك شخصيًّا بالسلبية أو الانعزالية أو اللاأدارية، وإنما أقول رأيي بأن الوضعية تؤدي موضوعيًّا إلى إشاعة هذه الروح، وشتان — لو أنصفت — بين هذا وذاك، وشتان بين تقييم شخصك أنت وبين تقييم فكرة أو فلسفة ما من الناحية الموضوعية. وقد ترى أنت فلسفةً من زاوية معينة، وقد يراها آخر من زاوية أخرى، ويكون بينكما خلاف في الرؤية والنظر والتقييم دون أن يعني هذا بالضرورة انسحاب نتائج هذه الفلسفة على شخصك أنت بالذات.
واسمح لي يا سيدي أن أفعل ما فعلت أنت فأُعاتبك على ما تنثر في مقالك من غمز واضح؛ فأنت تقول في صدر مقالك: «إن من واجبي نحو الدكتور أنيس أن أُصحح له ما عسى أن يكون قد اختلط عليه الأمر فيه؛ لأنني مختص في الدراسات الفلسفية وهو مختص في سواها، ولو كانت تلك الدراسات ممَّا تنكشف دقائقها للمختصين فيها ولغير المختصين على السواء لَما جاز … إلخ.» وإذا لم يكن هذا غمزًا فماذا يكون؟ إننا نواجه هنا موقفًا أقرب إلى الدعوة إلى الحجر الفكري تحت ستار التخصُّص وعدمه، وأنت تعلم يا سيدي كما أعلم أن عديدًا من الفلاسفة والمفكرين لم يتخصَّصوا في الجامعة ولم يحصلوا على شهادة، وأنهم استطاعوا أن يكوِّنوا أنفسهم واتجاهاتهم الفكرية من خلال جهدهم الخاص من القراء والدراسة والبحث، وأنت تعلم أن في مصر نماذج معروفةً لهذا النوع من الرجال، وليس يمنع من ناحية المبدأ أن يوجد بيننا رجل متخصِّص في العلم تكون له اهتمامات جدية بالفلسفة أو الأدب أو الفن … إلخ. وأمامنا في مصر أمثلة واضحة على ذلك أذكر من بينها أستاذنا الجليل الدكتور حسين فوزي؛ فهو عالم وطبيب، ومع ذلك فقلما نجد نظيرًا له في تذوُّقه وفهمه للفن والموسيقى في مصر. ثم ما لي أروح بعيدًا وأنت تعلم يا سيدي أن عديدًا من رجال الوضعية المنطقية لم يكونوا فلاسفةً مدرَّبين، بل كانوا علماء في المحل الأول.
ولو جاز أن نقبل مقاييس الدكتور زكي نجيب محمود التي تقول: أنت رجل تخصَّصت في العلم فما دخلك بالفلسفة، لكان علينا أن نُطبِّق هذه المقاييس على الدكتور نفسه ونقول له: وما دخلك أنت بالوضعية المنطقية وهي فلسفة مادتها ونسيجها هي العلوم والرياضيات. إن من المعروف أن الدكتور زكي نجيب محمود لم يدرس الرياضيات دراسة تخصُّص ولم يقتحم أبحاثها ولم يقضِ شطرًا من حياته داخل المعامل وبين أجهزتها (كما فعل الضعفاء من أمثالي)، فكيف إذن يتحدَّث في مقالاته العديدة وكُتبه عن المنطق الرياضي وهو لا يعرف الرياضة إلا من الخارج؟ وكيف يكتب عن الفيزياء وهو لم يدرس الفيزياء في مدرجات الجامعة ومعاملها؟!
كان من الممكن أن نقول هذا وأن ننكر على الدكتور الفاضل اقتحامه هذه الميادين دون تخصُّص في علوم يصعب فيها التخصُّص أكثر ممَّا يصعب في الفلسفة، لكننا لا نقول هذا بل نُقدِّر الدكتور اقتحامه هذه الآفاق وإن اختلفنا معه، ونرجو منه ألَّا يُنكر على غيره حقه في أن يقتحم ما يشاء من آفاق الفكر البشري، وأن يكون الفيصل في الحساب هو ما يكتب الإنسان وليس تخصُّصه في الجامعة أو عدم تخصُّصه.
الآن، قد انتهينا من كل ما يتعلَّق بشخص الدكتور وغمزه، يُهمني أن أوضِّح بادئ ذي بدء أن ما كتبته في نقد الوضعية المنطقية ليس من ابتكاري ولم أخترِعه اختراعًا، وإنما هو أمر شائع في عديد من كتب الفلسفة، وهو ثمرة قراءتي واقتناعي بها؛ فما قلته عن موقف الوضعية المنطقية من نظرية المعرفة وعن أفكارها لموضوعية القانون العلمي (وهو أمر ما زلت أُصر عليه رغم إنكار الدكتور) وعن خطورة رد «قضايا التاريخ» «إلى المشاهدة الحسية»، وعن إنكار الوضعية المنطقية للمحتوى الموضوعي للعلوم الرياضية … إلخ … ما قلته عن ذلك كله موجود وقائم في كتب الفلسفة ودورياتها، وهو نقد لا ينكر الوضعيون المنطقيون في الغرب قيمته حتى لو اختلفوا معه؛ ولذلك يدهشني أن ينكر الدكتور ذلك. ولو شاء الدكتور أن يرجع إلى بعض دوائر المعارف عن الفلسفة والفلاسفة لوجد شيئًا كثيرًا من هذا النقد تحت مادة الوضعية والتجريبية والمنطق؛ فتنجنشتين وماخ وراسل … إلخ. ولولا ضيق المقام والخوف على القارئ من الملل لأوردت أسماءً عديدة من الكتب الأخرى في هذا المجال.
لست إذن مُجدِّدًا ولا مبتكِرًا في نقدي للوضعية المنطقية، وأنا ما زلت أُنكر على الدكتور تمسُّكه بالخبرة الحسية لتكون هي السند الوحيد في تحصيل معرفتنا؛ لأن قضايا التاريخ تصبح عندئذٍ عديمة المعنى، ولأنه في هذا المجال تنتفي قابلية البيانات العلمية للتحقيق بشكل متبادل بين العلماء. ولقد أنكرت على رجل مثل شليك قوله بأن مضمون الخبرة الفردية يظل دائمًا غير قابل للوصف حتى بالنسبة للمشاهد نفسه، وقلت إن هذا الادعاء صوفية معادية للعلم. ولست أدري كيف ينكر الدكتور موقفي هذا؟
لقد ركَّزت في نقدي للوضعية المنطقية على مبدأ التحقُّق الذي يقول بأن قضيةً ما تكون ذات معنًى إذا كانت خبرة الحواس كافيةً لتقرير صحتها. وقلت إن مأزق الوضعية المنطقية يكمن في المنطق البسيط التالي: إذا كانت كل القضايا الشكلية تنتمي إلى المنطق وكل القضايا الواقعية تنتمي إلى خبرة الحواس، فأين إذن نضع مبدأ التحقُّق ذاته؟ تساءلت عن هذا وقلت في مقالي القديم إن أستاذهم ومُلهمهم فتجنشتين عندما رأى هذا المأزق أدان حجته باعتبارها هراءً … فهل ينكر الدكتور زكي نجيب محمود أن فتجنشتين قد فعل هذا حقًّا؟ ثم بماذا يرد الدكتور الفاضل عندما واجهناه بهذا المأزق.
أجاب في جرأة غريبة بأن الخروج من هذا المأزق يسير؛ ذلك بأن المعيار لا يخضع لِما يخضع له الشيء الذي أقيسه بذلك المعيار؛ فالمتر الذي أقيس به القماش لا يكون قماشًا بالضرورة. ولو كان الحل بهذه السهولة واليسر فكيف لم يرَه فيلسوف ورياضي مثل فتجنشتين؟ ولكن الحقيقة أن الدكتور الفاضل يهرب من مواجهة المشكلة … وذلك أن مبدأ التحقُّق نفسه قضية ككل القضايا؛ ولذلك فمثل المتر والقماش لا ينطبق بتاتًا هنا.
ولقد قلت في مقالي القديم أيضًا إن قَبول مبدأ التحقق يلغي كل معنًى لدروس التاريخ ونتائجه الفكرية لأنها ليست قابلةً للتحقق بدلالة خبرة الحواس، وعلينا إذن أن نرفض معناها. وما دام الأمر كذلك فليس أمام قوى التقدم الاجتماعي أي دروس نستفيد منها، وليس ثم معنًى للحديث عن القانون العلمي للتجربة الاجتماعية ولا عن حتمية الحل الاشتراكي، قلت هذا وما زلت أُصر عليه؛ فالوضعية المنطقية تقطع صلة الإنسان الاجتماعي بماضيه، فماذا قال الدكتور الفاضل في رده على هذه النقطة الحيوية؟ قال: «لا تخشَ يا صديقي بأسًا على قضايا التاريخ؛ فليس هي ممَّا لا يمكن تحقيقه بطريقتنا؛ إذ كل ما نطالب به هو أن تكون الشواهد التي يستشهد بها على صدق القضايا هي ممَّا يرتد آخر الأمر إلى مادة محسوسة.»
ولكنك لم تقل لنا يا سيدي الدكتور كيف يمكن أن ترتد قضايا التاريخ إلى مادة محسوسة اليوم؟
وقلت في مقالي القديم إن القوانين الطبيعية ليست أيضًا قابلةً للتحقق وفق مبدئهم؛ إذ إن أي سلسلة من المشاهدات هي بطبيعتها محدودة؛ ولذا فهي ليست كافيةً لضمان صحة هذه القوانين. فماذا قال الدكتور الفاضل في الرد؟ إنه ينكر أن هذا هو موقف الوضعيين المنطقيين، ثم يعترف بعد ذلك أن القانون العلمي هو عندهم أداة سلوك فحسب. وأنا يكفيني هذا الرد لأنني أعتبر هذا إنكارًا واضحًا للمحتوى الموضوعي للقانون الذي هو روح العلم وطبيعته.
إن الدكتور زكي نجيب يورد فقرةً من مقالي عن التقدُّم العظيم الذي تمَّ في هذا القرن وتحقَّق على يد التجربة التي كانت صراحةً أو ضمنًا مادية، ثم يقول اتفقنا إذن يا صديقي لأن التجربة «المادية» هي في التحليل النهائي «خبرة حسية». وكم كنت أود أن يكون هناك اتفاق بيني وبين الدكتور لكن هذا ليس هو الواقع! فثمة فَرق بين الموقف «المادي» الذي يقوم في الجوهر على أساس الاعتراف بالوجود الموضوعي للمادة، وبين القول بأن الخبرة الحسية هي السند الوحيد للمعرفة. ولقد قلت في مقالي القديم — وما زلت أُكرر — إن الوضعيين الأوائل كانوا يحتقرون المفاهيم المادية مثل مفهوم الذرة، وإنهم وقفوا إلى جانب فكرة المجال في الفيزياء. فهل يا تُرى يُنكر الدكتور هذا أيضًا؟
إنني أعرف أن الصراع بين الطبقات هو القانون الأول الذي يحكم تطوُّر كل المجتمعات الطبقية تاريخيًّا، وأنا أعرف أن الحل الاشتراكي لمشاكل مصر هو الحل الصحيح حتى من سنين طويلة قبل أن تتطوَّر مصر في طريق الاشتراكية. أعرف هذا وليس سندي الوحيد هو خبرتي الحسية. فهل يعرف الدكتور ما أعرف أم إن منهجه الفكري يُنكر عليه هذه المعرفة؟
وبعد … فلعل الفيصل الحاسم في هذا كله أن يدلنا الدكتور زكي نجيب محمود على موقف الفكر الوضعي المنطقي من الفكر الاشتراكي. وليُصدِّقني إذا أقسمت له مخلصًا أنني لا أعني إحراجًا له أو لغيره؛ فالذي يعنيني عند إثارة هذه القضايا الفكرية هو الوضوح الفكري بين الناس ونحن نمضي في طريق الاشتراكية … وليس إحراج أحد، أليست الحقيقة أن الوضعية المنطقية كفكر لا تنسُق مع الفكر الاشتراكي ولا مع الإقناع بصراع الطبقات وحتمية الحل الاشتراكي؟ ذلك هو رأيي وهو رأي الكثيرين في الغرب كذلك.
وليسمح لي الدكتور الفاضل أن أقول له أخيرًا إن وجود كرسي لمادة من المواد في الجامعة لا يعني قداسة دراسة هذه المادة وارتفاعها فوق مستوى النقد؛ فقديمًا كان هناك أساتذة اقتصاد في الجامعة يدرَّسون الاقتصاد الرأسمالي وكأنه هو وحده الاقتصاد، ويعتبرون هذا هو العلم الذي لا علم خارجه، وكانت كلمة «الاقتصاد الاشتراكي» تُعتبر جريمةً وهرطقة آنذاك. لقد تغيَّر هذا الوضع اليوم، وكما أنه من حقك أن تُبشِّر بالوضعية المنطقية ولا اعتراض على ذلك من أحد، كان من حق غيرك أيضًا أن يقدِّم الأفكار التي تنقد الوضعية وتُدينها. ومن حق هذه الأفكار أن تجد طريقها إلى الجامعة؛ فإن كان هذا لم يحدث بعد، فلا أقل من أن تجد هذه الأفكار الناقدة للوضعية المنطقية طريقها إلى الصحافة والرأي العام.