جاليليو
كتب المؤلف المسرحي الكبير بريخت ثلاثة نصوص مسرحيةً مختلفة عن حياة جاليليو في مسرحيته المعروفة باسم «حياة جاليليو». والنص الأول لهذه المسرحية انتهى منه بريخت في الدنمرك عام ١٩٣٨–١٩٣٩م عندما ذهب إليها مهاجرًا بعد أن استتبَّ النظام النازي في ألمانيا. وهذا النص يعكس بشكل ما وقائع حياة جاليليو كما تشير إليها الكتب والروايات، وإن امتاز باتجاه واضح في معاداة الكنيسة الكاثوليكية، كما أنه كان قليل الاحتفال بالنواحي السياسية في حياة جاليليو.
وعندما استقر بريخت في الولايات المتحدة عام ١٩٤٠م، أعاد — تحت تأثير الممثل تشارلز لوتون — كتابة المسرحية، بحيث بدا العالمُ الرياضي والفيزيائي العظيم في صورة الانتهازي الجبان. وفي هذه الصياغة الثانية للمسرحية نجد منظرًا يثير الاشمئزاز وفيه يتعاون جاليليو مع بعض القوى السياسية الإيطالية الرجعية، ويملي فيه خطابًا يناقش كيف يمكن استخدام نصوص الإنجيل لكبت ثورات فقراء الفلاحين!
غير أنه خلال إعادة كتابة المسرحية وقع حادث عالمي كان له دوي شنيع … فقد أُلقيت أول قنبلة ذرية على هيروشيما ومات في الدقائق الأولى لسقوطها نحو ربع مليون من البشر … وهذه القنبلة صنعها علماء كبار … رياضيون وفيزيائيون لا يقلون أكاديميًّا في عصرهم عن مستوى جاليليو في عصره، رجال طيبون لم يكونوا يومًا من الأيام مرتاحي الضمير إلى صُنع هذا السلاح الرهيب، ولكنهم تهيَّبوا التمرُّد على السلطة واستسلموا في آخر الأمر لها، واستطاعوا بشكل أو آخر أن يبرِّروا هذا الاستسلام أمام ضمائرهم. وفي لحظة خاطفة من لحظات التأمُّل بدا جاليليو — في عيون بريخت — ممثلًا لكل هؤلاء العلماء.
كتب بريخت يقول:
«إن العصر الذري قد فرض نفسه علينا خلال عملنا (كتابة المسرحية)، وفي ليلة واحدة أصبح لتاريخ حياة مؤسس النظام الجديد للفيزياء معنًى مختلفًا.»
وهكذا نجد أنه في الصيغة الثالثة والأخيرة لمسرحية بريخت «حياة جاليليو»، يتحوَّل جاليليو من مُناضل في سبيل التقدُّم إلى تابع، ويبدو ممثلًا لعالَم الفيزياء الذري الحديث … رجلًا عالي الكفاءة من الناحية العلمية، ولكنه لا يجب أن يكون شهيدًا في هذا العالم، وهو يُفضِّل إنقاذ حياته وعلمه بالتكيُّف مع ما تطلبه السلطة وبالخضوع! إن جاليليو الذي قدَّمه بريخت في الصيغة الثالثة والأخيرة (وهي الصيغة التي قُدمت على مسرح بريخت في برلين الشرقية) لا تنفي عنه صفة البطولة فحسب، بل تقدِّمه كمجرم اجتماعي في قضايا عصره، وبريخت يعتبر أن استسلام جاليليو (١٥٦٤–١٦٤٢م) أمام الكنيسة الكاثوليكية في نهاية الأمر هو الخطيئة الأولى في حياة هذا العالِم الكبير.
أيٌّ من هذه النصوص الثلاثة أقرب إلى الحقيقة التاريخية؟ وإلى أي حد كان بريخت صادقًا في تصوير حياة جاليليو جاليلي؟ أكان بريخت مغاليًا في تحميل هذا العالِم الكبير مسئوليات فوق ما تتطلَّبه ظروف عصره؟
أسئلة هامة … وإن كان ليس من السهل الوصول إلى إجابات شافية لها قبل استعراضٍ مُفصل لحياة جاليليو وإبعاد الصراع والمواجهة بينه وبين الكنيسة الكاثوليكية آنذاك.
وليس يختلف اثنان اليوم حول المضمون الكبير لصراع جاليليو مع الكنيسة، وهو صراع لا يزال يحمل في طياته مغزًى هامًّا لنا في الربع الأخير من القرن العشرين، في العالم المسيحي والعالم الإسلامي على السواء؛ لأنه صراع بين الذين يُريدون أن يفرضوا — بسُلطتهم الدينية — على الدين أن يكون أداةً باطشة في يد السلطة الحاكمة والطغيان، لمصلحة الأغنياء وضد الفقراء، وأن يكون أداةً ضد التقدُّم، ضد العلم ومكتشفاته التجريبية … وبين هؤلاء الذين ينزِّهون الدين عن أداء هذه المهمة ويفسِّرون النصوص الدينية في رحابة صدر واتساع أفق بحيث يواكب مقتضيات التقدم ويرتفع فوق مستوى خلافات العلماء.
من المؤكد أن جاليليو كان مسيحيًّا صادقًا، بل إنه لم يكن بطبيعته مُعاديًا لكنيسة روما، ولكن مأساة حياة جاليليو، ومأساة خلافه مع الكنيسة كان مصدرها في الأصل خلافه هو مع أفكار وآراء أرسطو في علم الفيزياء والفلك.
ولمَّا كانت الكنيسة — منذ عهد توماس الأكويني — قد تبنَّت كل آراء أرسطو كجزء لا يتجزَّأ من الفكر المسيحي واعتبرته بمثابة ترشيد للمسيحية، أصبح العداء لأرسطو في نظر الكنيسة عداءً أيضًا للمسيحية، وعلى هذا الأساس حوكم جاليليو وأُدين وصُودرت كتبه وظل معتَقَلًا في منزله بفلورنسا حتى مات!
أرسطو وعالم الفيزياء
ولكي نفهم إذن طبيعة الصراع الفكري لا بد من أن نتعرَّض — بشيء من التوسع — لفيزياء أرسطو، هذا المفكر الكبير الذي عاش ومات قُبيل المسيحية ولكن آراءه ونظرياته قد أصبحت بعد ذلك جزءًا لا يتجزَّأ من الفكر الكنسي المسيحي!
إن من الممكن استخلاص وجهة نظر أرسطو في الفيزياء من كتابَيه «الفيزياء»، و«حول السموات». وهذان الكتابان يرتبطان بشكل وثيق، ويؤكِّد برتراند رسل في كتابه «تاريخ الفلسفة الغربية» إن هذين الكتابين كان لهما تأثير شديد. لقد سيطر كل منهما على روح العلم حتى عصر جاليليو. وما يزال كثير من الكلمات مثل «عالم ما تحت القمر»، وغيرها من المصطلحات مشتقةً من النظريات المذكورة في هذين الكتابين؛ ولذا فلا بد من تلخيص الأفكار الأساسية لهذين الكتابين، على الرغم من أنه يصعب اليوم قَبول أي فكرة من أفكار هذين الكتابين على ضوء نتائج أبحاث العلم الحديث.
وغني عن البيان أن جمهرة المفكرين والعلماء المعاصرين لا يُنكرون ما لأرسطو من فضلٍ في ميدان علوم المنطق وعلوم الحيوان، ولكنهم يعتبرون كتابَيه في الفيزياء والفلك مأساةً كاملة استطاعت أن توقف نبض البحث العلمي في الفيزياء نحو ألفي عام!
وحتى اليوم يرى الكثيرون أن دم برونو (وقد أُحرق خلال حياة جاليليو لتمرُّده على آراء أرسطو) وجاليليو في عنق أرسطو على وجه التحديد!
وطبقًا لِما قاله أرسطو تُعتبر الفيزياء ليس ما نعنيه اليوم (قوانين حركة المادة غير الحية) بل على العكس؛ ففيزياء (أي طبيعة) أي كائن هي اتجاه نمو هذا الكائن وكيف يتصرَّف. وقد يبدو هذا غريبًا لنا اليوم، غير أنه من الضروري أن نُدرك أن أرضية أرسطو التصوُّرية تختلف عن أرضية الفكر المعاصر. ونحن اليوم نبدأ بدراسة الميكانيكا التي توحي طبيعة اسمها بالماكينات. والطالب اليوم يَألف السيارات والطيارات، وهو لا يعتقد — حتى في أضيق حيِّز من تصوره الباطني — أن السيارة تحتوي على حصان بداخلها أو أن الطائرة تطير لأن بها أجنحة طائر سحري. والحقيقة أن الحيوانات اليوم فقدت أهميتها في صورنا التخيلية عن هذا العالم الفيزيائي الذي يقف فيه الإنسان وحيدًا في بيئة عديمة الحياة أساسًا. أمَّا بالنسبة لليونانيين فقد كان من الصعب وهم يُحاولون تكوين صورة علمية عن الحركة، أن تبدو لهم النظرية الميكانيكية البحتة إذا استثنينا رجالًا عباقرة مثل أرشميدس.
ولقد بدت لليونانيين أهمية مجموعتين من الظواهر؛ حركة الحيوانات، وحركة الأجسام السماوية، وكان طبيعيًّا أن يؤالفوا بين الحركات التي لا حياة فيها وبين حركة الحيوانات، وما زال الطفل حتى اليوم يميِّز الحيوانات عن الأشياء الأخرى بحقيقة أنها تتحرَّك من تلقاء نفسها. وهذه الخاصية هي النظرية العامة للفيزياء عند أرسطو، وقد شجَّعته على هذا — مع الأسف — أبحاثه في علم الحيوان.
ولكن ماذا عن الأجرام السماوية؟
إنها تختلف عن الحيوانات بانتظام حركتها، وربما كان ذلك نتيجة كمالها الأعلى. ولقد كان كل فيلسوف يوناني يتعلَّم في طفولته أن ينظر إلى الشمس والقمر كإلهين، ولقد أُدين انكسابورس بتهمة الكفر لأنه اعتقد أن الأجرام السماوية ليست حية. وعندما ينظر الفيلسوف إلى الأجسام السماوية كأجسام مقدسة، يكون من الطبيعي أن يعتقد أنها تتحوَّل بإرادة مقدسة لها ولع بالنظام والبساطة الهندسية. وهكذا فالمنبع النهائي لكل حركة هو الإرادة … إرادة الكائنات البشرية والحيوانات على الأرض، وإرادة الخالق الأعلى بالتصوُّر اليوناني لهذا الخالق.
وعلى الرغم من أن هذا المفهوم الكامل عن الطبيعة يبدو في الظاهر مناسبًا لتفسير نمو الحيوانات والنباتات، إلا أنه أصبح في النهاية عقبةً كَأْداء في نمو العلم؛ فأولًا ينبغي أن نقول إن وجهة نظر أرسطو هذه تتناقض مع نسبية الحركة بالمعنى الحديث. ونحن نقول اليوم إنه عندما تتحرَّك أ بالنسبة إلى ب فإن ب تتحرَّك نسبيًّا إلى أ، ولا معنى إذن أن نقول إن إحداهما تتحرَّك بينما الأخرى ساكنة. وعندما يُمسك الكلب بعظمة يبدو للذوق الفطري أن الكلب يتحرَّك بينما العظمة ساكنة، وأن للحركة هدفًا ونعني تحقيق طبيعة الكلب. غير أنه قد اتضح اليوم أن هذه النظرية لا يمكن تطبيقها على المادة الميتة، وأنه لأغراض الفيزياء العلمية فإن مفهوم «الغاية» ليس مفيدًا، فضلًا عن أنه لا يجوز من الناحية العلمية اعتبار أي حركة إلا نسبية.
النظرية وصعوباتها
وأرسطو عندما يبحث عن تفسير علمي لسقوط حجر مثلًا إلى الأرض، لا يجد ما يقوله لنا إلا: هذه هي طبيعته وهي إجابة لا تخرج في الواقع عن القول بأن هذه هي إرادة السماء، وإن بدت أكثر علمية.
يقول العالم البريطاني برنال في كتابه «العلم في التاريخ»: «لقد أنشأ أرسطو عالمه الفيزيائي في صورة عالم اجتماعي مثالي يكون فيه الخضوع هو الحالة الطبيعية. وفي هذا العالم عرف كل شيء مكانه، وفي معظم الأحيان يلتزم به؛ فالحركة الطبيعية تحدث فقط عندما يكون الشيء في غير مكانه ويميل إلى العودة إليه مرةً أخرى، كالحجر عندما يسقط إلى الأرض، أو الشرارة عندما تنطلق إلى أعلى، وهذا ينطبق فقط على الأشياء التي ليس لها حركة خاصة بها؛ فمن طبيعة الطير أن يطير في الهواء، ومن طبيعة السمكة أن تسبح في الماء. إن هذا هو في الواقع ما خُلقت الأسماك والطيور من أجله. وفي هذا نرى أحد أفكاره القائدة، فكرة العلل الغائية … قد اعترف أرسطو بأسباب أخرى (مثل العلة المادية والعلة الفعالة اللتين تقدِّمان الدعامة المادية وتجعلان الأشياء تعمل)، ولكنه اعتبرهما أسبابًا أدنى من العلل الغائية. ولقد كان هذا المبدأ لعنةً على العلم؛ إذ إنه يقدِّم وسيلةً كاذبة لتفسير أي ظاهرة بالتسليم بوجود غاية مناسبة لها، دون أن نكلِّف أنفسنا بحث كيف تعمل هذه الظاهرة.»
وغني عن البيان أن فيزياء أرسطو لا تتسق مع قانون نيوتن الأول عن الحركة الذي كان جاليليو أول من أشار إليه. وينص هذا القانون على أن كل جسم متحرك في خط مستقيم وبسرعة منتظمة — إذا ترك لنفسه — يستمر في الحركة، وهو ما يُعرف بقانون القصور الذاتي. وهكذا فإننا لا نحتاج إلى أسباب خارجية في تفسير الحركة، وإنما من أجل تفسير التغيُّر في الحركة (التغيُّر إمَّا في الاتجاه أو السرعة)؛ ولذا فالحركة الدائرية التي ظن أرسطو أنها طبيعية للأجسام السماوية تتضمَّن في الحقيقة تغيُّرًا مستمرًّا في اتجاه الحركة؛ ولذا لا بد من وجود قوة موجَّهة إلى مركز الدائرة كما هو الحال في قانون نيوتن للجاذبية.
ولقد قدَّم أرسطو في كتابه «حول السموات» نظريةً بسيطة وطريفة في فهم علم الفلك؛ فالأشياء أسفل القمر تخضع للتوالد والتحلُّل. أمَّا ابتداءً من القمر فما فوق فكل شيء غير قابل للتوالد أو الهدم. والأرض في مركز الكون، وفيما تحت القمر يتكوَّن كل شيء من أربعة عناصر (الهواء، الماء، التراب، النار)، ولكن هناك عنصر خامس تتكوَّن فيه الأجسام السماوية وهو الأثير. والحركة الطبيعية للعناصر الأرضية الأربعة هي خطية، بينما حركة العنصر الخامس دائرية. والسموات عند أرسطو كرات كاملة، والأجزاء العليا أكثر قداسةً من الأجزاء السفلى، وما حركة النجوم والكواكب إلا نتيجة حركة كرات رُبطت بها هذه الأجرام السماوية.
ولقد قدَّمت هذه النظرية صعوباتٍ عديدةً للأجيال التالية؛ فالشهُب — التي عُرف أنها تتحطم — نُسبت إلى كرة «ما تحت القمر». ولكن وُجد في القرن السابع عشر أنها ترسم مسارات حول الشمس، ونادرًا ما تكون قريبةً إلينا قرب القمر. ومن الصعوبات أيضًا أنه لمَّا كانت الحركة الطبيعية للأجسام الأرضية — عند أرسطو — هي الحركة الخطية، فقد ظُن أن القذيفة التي تُطلق بشكل أفقي تتحرَّك أفقيًّا لفترة ثم تبدأ فجأةً في السقوط رأسيًّا؛ ولذا كان اكتشاف جاليليو بأن القذيفة تتحرك في قطع مكافئ صدمةً قاسية للعلماء المؤمنين بأرسطو. ولقد كان على كوبرنيكس وكبلر وجاليليو أن يقفوا ضد أرسطو عندما أكَّدوا أن الأرض ليست مركز الكون، ولكنها تدور حول نفسها مرةً كل يوم، وتدور حول الشمس مرةً كل عام.
يقول برتراند رسل في كتابه «تاريخ الفلسفة الغربية»:
«لقد كان من الضروري التخلي عن النظرية القائلة بأن الأجسام السماوية خالدة وغير قابلة للفساد؛ فللشمس والنجوم حياة طويلة، ولكنها لا تعيش للأبد. لقد وُلدت من سديم وهي في النهاية إمَّا أن تنفجر أو تموت من البرودة. وليس هناك في العالم المنظور شيء مُعفًى من التغيُّر والانحلال. وعقيدة أرسطو المقابلة هي في الحقيقة نتائج العبادة الوثنية للشمس والقمر والكواكب، على الرغم من أنها قُبلت من المسيحيين في القرون الوسطى.»
ولقد استعان جاليليو في هدم أفكار أرسطو بأسلوبين؛ البحث الرياضي الذي أجاده جاليليو وإن لم يُجده أرسطو، والتجربة العلمية الفيزيائية التي لم يعرفها أرسطو؛ فعندما ادَّعى أرسطو أن الجسم يسقط إلى الأرض بسرعة تتناسب عكسيًّا مع وزنه، ارتقى جاليليو برج بيزا المائل وألقى بجسمين مختلفَي الوزن إلى الأرض، فوجد أنهما يصلان إلى الأرض في نفس اللحظة!
ولقد سمع جاليليو عام ١٦٠٩م عن اكتشاف التلسكوب في هولندا، واستطاع بجهد خارق أن يطوِّره. وبمساعدة هذا التلسكوب استطاع جاليليو أن يشاهد أربعة أقمار من أقمار المشتري، وبدت هذه الأقمار وكأنها صورة مصغَّرة للمجموعة الشمسية، ومن هنا بدت فكرة دوران الأرض حول الشمس تبدو أقرب إلى المعقولية. كما أوضحت المشاهدات التلسكوبية أن القمر والشمس ليسا بالأجسام التامة كما يدَّعي أرسطو. لقد بات من الواضح أن على القمر جبالًا وأن للشمس بقعًا، وكل هذا يناقض ادعاءات أرسطو.
شبح مصير برونو
جاليليو إذن انتهى إلى أن أفكار أرسطو في الفيزياء والفلك خاطئة من أولها إلى آخرها، ولكنه كان يعلم أن هدم أرسطو معناه المواجهة مع الفكر الذي تبنَّته الكنيسة في روما واعتبرت أن أي هجوم عليه يعني الهجوم على الدين المسيحي نفسه.
إن من الضروري أن نُشير إلى المُناخ الذي نشأ فيه جاليليو حتى نفهم طبيعة مشكلته مع الكنيسة … المُناخ الأوروبي العام والجو العائلي الخاص.
لقد وُلد جاليليو عام ١٥٦٤م في بيزا بإيطاليا، بعد بدء حركة الإصلاح الديني في أوروبا بأربعين عامًا، وبعد وفاة ميكائيل أنجلو بثلاثة أيام. ولا شك أن جاليليو قد استفاد في شبابه من الاتجاه العقلاني الذي ساد الفلسفة الطبيعية في عصر النهضة، كما أنه نشأ في كنف والد من صلب أرستقراطية فلورنسا، ولكنه كان رجلًا شديد الإيمان بأهمية المناقشة الحرة لكل الموضوعات من أجل الوصول إلى الحقيقة، وكانت مواقف والده في هذا المجال ذات تأثير كبير عليه في شبابه. ولكنه نشأ أيضًا في ظل نمو تهديد حركة الإصلاح البروتستانتية لسلطة الكنيسة الكاثوليكية، في ظل الحروب الدينية التي اكتسحت أوروبا من الشمال وهدَّدت سلطة الكنيسة كما لم تُهدَّد من قبل.
وعندما وضحت عبقرية جاليليو في الرياضيات عُيِّن أستاذًا لها بجامعة بادو في جمهورية فلورنسا وهو في الثامنة والعشرين من العمر، وظل أستاذًا بهذه الجامعة حتى عام ١٦١٠م. في هذه الفترة توصَّل جاليليو إلى معظم اكتشافاته العلمية الفيزيائية الهامة، وحقَّق اتصالات ضخمةً مع عدد كبير من علماء أوروبا، وأصبح في نظرهم — كما هو في نظر العلماء — أول عالم فيزيائي بالمعنى الحديث لهذه الكلمة.
كتب جاليليو عام ١٥٩٧م إلى كبلر يقول:
«منذ سنوات وأنا مقتنع بنظرية كوبرنيكس التي تفسِّر لي أسباب كثير من الظواهر الطبيعية التي تبدو لي غير قابلة للتفسير في ظل الفروض الشائعة. ولإثبات خطأ هذه الفروض جمعتُ عددًا كبيرًا من الحجج والأسانيد. ولكني لا أجرؤ على نشرها علنًا حتى لا يكون مصيري هو مصير مُعلمنا كوبرنيكس … هذا الرجل الذي نعتبره خالد الاسم، وإن كان عند أعداد لا نهائية من الناس (هذا هو عدد البُلهاء) مصدر التحقير والسخرية.»
ولقد كانت نظرية كوبرنيكس عن الكون ترفض اعتبار الأرض مركزًا له وتقول بدوران الأرض حول الشمس. والحقيقة أن جاليليو لم يكن يخاف من التحقير والسخرية فحسب، ولكنه كان يخاف أكثر من ذلك أن يكون مصيره هو مصير برونو الذي أُحرق لأنه أشار إلى احتمال وجود حياة على بعض الكواكب الأخرى … الأمر الذي اعتُبر بمثابة تهجُّم على الإنجيل والتوراة!
إن من المؤكد أن جاليليو لم يكن مستعدًّا لتفسير نظرية كوبرنيكس تفسيرًا مُعاديًا للمسيحية، بل على العكس فقد كان يعتقد طوال حياته أن مفهوم الشمس الساكنة والأرض المتحركة حولها تتفق تمامًا مع الكتاب المقدس … إذا قُرئ هذا الكتاب قراءةً سليمة.
وقد شجَّعه على هذا الموقف أن نظريات كوبرنيكس لم تعترض عليها الكنيسة عند أول ظهورها. والواقع أن كوبرنيكس أهدى كتابه المتضمِّن نظرياته إلى البابا بول الثالث، وكان واثقًا من أن كتابه سوف يُستقبل استقبالًا طيبًا. وأدَّى هذا الشعور بجاليليو إلى أن اطَّلَع عددًا من رجال الدين على تجاربه التلسكوبية حيث شاهدوا بها أقمار المشتري، وكان أن أيَّده الجيزويت علانيةً واستقبله البابا بول الخامس مؤيدًا. ولقد بلغ من ثقة جاليليو في تأييد الكنيسة لأفكاره أن ذهب إلى روما وقضى بها ستة أشهر مناقشًا ومدافعًا ومتابعًا!
في مواجهة الأدعياء
ولكن ما اتضح بعد ذلك كان عكس ما قد توقَّعه جاليليو؛ فتحت السطح كان هناك تيار كاسح في الكنيسة تمثِّله أعداد كبيرة من المنافقين والمضلِّلين وأدعياء العلم ومن يسمون أنفسهم بالأكاديميين الكَنَسيين، وهؤلاء كانوا ينسبون إلى أنفسهم اكتشافات علميةً ليست لهم، ويعتبرون فكر أرسطو جزءًا لا يتجزَّأ من الفكر المسيحي يُعتبر التخلي عنه بمثابة التخلي عن المسيحية ذاتها. واستطاع هؤلاء أن يُقنعوا البابا أن آراء جاليليو هي جزء لا يتجزأ من المؤامرة الكبرى على الكنيسة التي بدأها ملوك الشمال بالسلاح ودعمها كوبرنيكس وجاليليو بالفكر.
وفي ظل هذا الجو المحموم يطفو على السطح سماسرة الدين وأصحاب الأوجه ذات الألف لون، وتكون الحقيقة هي آخر ما يُهم الهمس والنقاش؛ لأن المهم هو التصيد ثم الإدانة حتى تخرس الألسنة وتُشل العقول.
وقد تم تصيُّد جاليليو بإحدى رسائله التي تبدو لنا اليوم بكل المقاييس رسالةً عاقلة، ولكنها كانت في نظر الكنيسة رسالة كفر وزندقة!
كتب جاليليو في هذه الرسالة يقول:
«وعلى أثر ذلك يبدو لي أنه لا ينبغي أن نلقي بظلالٍ من الشك على أي عمل من أعمال الطبيعة نتعلَّمه بخبرة عيوننا أو يقوم عليه برهان حاسم … مستخدمين في ذلك نصوصًا من الكتاب المقدس؛ فكل نص في الكتاب لا يخضع لقوانين في حدة القوانين التي تخضع لها أعمال الطبيعة. ولمَّا كان من المستحيل على حقيقتين أن تختلفا فإن واجب المفسِّر العاقل للكتاب المقدس أن يحاول أن يجد المعنى الحقيقي لنصوصه بما يتفق مع هذه الاستقراءات الضرورية التي تقوم على شواهد محددة أو براهين معينة.»
لقد كان جاليليو مقتنعًا أنه لمَّا كان الله قد منحنا الحواس فإن لنا الحق كل الحق في استخدامها. ولقد بلغت به براءته أن وافق على توزيع هذه الرسالة على نطاق واسع فوقعت في يد أعدائه!
كتب أحد أعداء جاليليو من رجال الكنيسة يقول: «إن المسئولين عن هذه الرسالة يستهدفون تفسير الكتاب المقدس بطريقتهم الخاصة وضد التفسير المقبول من الآباء المقدسين … ولمَّا كنت قد أُبلغت أن هؤلاء الرجال يتكلمون بلا احترام عن الآباء المقدسين، ويدوسون بأقدامهم كل فلسفة أرسطو …»
وهكذا أصدر البابا عام ١٦١٦م أمرًا إلى رجال الكهنوت في مكتبه أن يجتمعوا ليقرروا ما إذا كانت:
-
(أ)
الشمس مركز الكون وبالتالي غير قابلة للحركة.
-
(ب)
الأرض ليست مركز الكون، وإنها قابلة للحركة.
وصدر قرار للجنة العليا بأن هذين التقريرين خاطئان، وأن الأول على وجه الخصوص يناقض الكتاب المقدس. وبعد يومين طلبت الكنيسة من جاليليو ألَّا يتبنى آراء كوبرنيكس الخاطئة، وصُودر كتاب كوبرنيكس إلى أن تُعاد مراجعته …
لحظة المحاكمة
وظل جاليليو طليقًا وإن كان مُدانًا، ولسبع سنوات لم ينشر جاليليو شيئًا. لقد أفلحت الكنيسة في إسكاته، غير أنه في عام ١٦٧٣م بدأ تطوُّر جديد مُبشر بتغيُّر لصالح جاليليو؛ إذ أصبح صديقه ومؤيده الكاردينال باربريني هو البابا الجديد. ومع أنه لم يكن في استطاعة البابا الجديد أن يلغي القرارات القديمة ضد كوبرنيكس، إلا أنه لم يمنع مناقشة نظرياته كفرض تخميني. وهكذا دبَّت الحياة في جاليليو من جديد، ونشر في عام ١٦٣٢م كتابًا جديدًا يسمَّى «المحاورات» ويتضمَّن نقاشًا بين أنصار أرسطو وأنصار كوبرنيكس عن تصوُّر الكون. وبعد أن وافقت الرقابة أولًا على الكتاب وصدَر، جُمع من المكتبات، وقيل آنذاك إنه لم يكن من الممكن على الكنيسة أن تتجاهل مثل هذا التحدي لسُلطتها، بينما ملك السويد في الشمال يقلب الموازين على جيوش الكاثوليك بحيث كانت الكنيسة نفسها في ميزان القدر! والحقيقة أن عدد الأرسطاطاليين في مجلس البابا كان ساحقًا، وكانوا جميعًا في انتظار فرصة تصفية الحساب مع جاليليو!
وهكذا صدر في نهاية ١٦٣٢م أمرٌ من مكتب البابا في روما إلى جاليليو أن يحضر إلى روما ليواجه المحاكمة!
إن موقف جاليليو في مواجهة المحكمة هو المصدر الأصلي لسخط بريخت عليه؛ فقد جبن وتراجع وقال في مواجهة جلاديه: «إنني لا أعتبر أفكار كوبرنيكس صحيحة، ولم أعد مقتنعًا بها منذ اللحظة التي طُلب مني أن أتخلى عنها.»
ولم يُعفِه هذا الموقف المتخاذل من قرار المحكمة بسجنه ومصادرة الكتاب. وكان عليه أن يركع وأن يُعلن تخليه عن النظرية التي تقول إن الأرض تدور! وبعد شهور قليلة، منذ السجن في روما، أُعيد إلى فلورنسا حيث ظل معتقَلًا في منزله حتى مات عام ١٦٤٢م. ومن الإنصاف لتاريخ جاليليو أن نشير إلى أنه بعد أربعة شهور من سجنه، أرسل نسخةً من المحاورات إلى ستراسبورغ وطلب أن تُنشر ترجمةٌ لاتينية له. وبينما حاول في الظاهر أن يحافظ على ما أعلنه من تخلٍّ عن نظرية كوبرنيكس إلا أنه كان في الجوهر مخالفًا لهذا التعهُّد عندما أرسل الكتاب إلى ستراسبورغ. ومن الواضح أن الكنيسة كانت مهتمةً بالمظاهر فحسب، وكانت على استعدادٍ لتجاهل اتصالات جاليليو مع العالم الخارجي.
ويبقى بعد هذا الاستطراد أن نشير إلى عدد من الحقائق التاريخية، التي تُلقي أضواءً أكثر على إدانة بريخت لجاليليو؛ فمن المؤكد تاريخيًّا أن جاليليو قد انتبه إلى أهمية استخدام التلسكوب من الناحية العسكرية، وأنه أهدى اكتشافه هذا إلى حكام جمهورية فينسيا لاستخدامه في الحرب، وكوفئ على ذلك برفع راتبه وتثبيته في عمله. كما أنه من المعروف أن جاليليو ابن أرستقراطية فلورنسا لم يكن متعاطفًا مع الحركات الثورية لفقراء الفلاحين.
أكان بريخت على حق إذن في إدانة جاليليو في مسرحيته الثالثة؟ هل كان جاليليو بطلًا أم جبانًا رِعديدًا؟ أسئلة نتركها للقارئ يصل فيها إلى النتيجة التي يراها، إلا أننا سوف نختتم هذا المقال بما كتبه العالم الأميركي دويتش شرواير في كتابه «الفيزياء وبُعدها الخامس: المجتمع» تعليقًا على قصة جاليليو:
«لقد كان جاليليو رجل عصره، بكل العيوب والفضائل. صحيح أنه باع عمله التطبيقي لمن دفع أكثر، ولكن تلك كانت طريقة الحياة في تلك الفترة عندما لم يكن العلم المستقل موجودًا. وصحيح أنه خنع أمام المحكمة والكنيسة. ولكن أكان هناك أي خيار؟! إن الخلاف كان واضحًا غير قابل للتوفيق؛ فلِكي يتقدَّم العلم كان لا بد من تحدي السلطة القديمة. لقد كانت هذه روح العصر. ومن ناحية أخرى لم يكن في قدرة الكنيسة آنذاك أن تقبل هذا التحدي، وهكذا وقع جاليليو بين المطرقة والسندان.»