إفرست جالوا
إفرست جالوا واحد من أعظم من أنجبت أوروبا — وفرنسا بالذات — في علم الجبر في القرن التاسع عشر، عاش حياةً أغرب من الخيال ومات في الواحدة والعشرين مقتولًا بصورة تفوق خيال السينمائيين!
وكأني بقارئ يسأل: كيف يموت إنسان في سن الشباب المبكر ويكون عالِمًا فذًّا ورياضيًّا عبقريًّا؟ والإجابة على هذا السؤال الطبيعي هو أن ما ينطبق على سائر البشر لا ينطبق على أدمغة العباقرة. إن جالوا لم يترك وراءه غير ستين صفحة، ولكن هذه الصفحات الستين ظلت تشغل أذهان الرياضيين لأكثر من قرن من الزمان بعد وفاته، وما زالت بعض آثاره تشغلهم حتى اليوم.
والمأساة في حياة جالوا أن أوروبا عمومًا — وفرنسا خصوصًا — لم تُدرك عِظم الخسارة بموته إلا بعد أربعة عشر عامًا من هذا الحادث، عندما بدأ الرياضي الفرنسي الأشهر لوفيل في نشر أعمال جالوا والتعليق عليها في مجلة «الرياضيات البحتة والتطبيقية».
وقد يسأل قارئ آخر: وما علاقة هذا كله بالنضال السياسي؟ والإجابة هي أن جالوا نشأ في فرنسا الملكية عندما كان الصراع في أوج عنفوانه بين الجمهوريين والملكيين. كان أبوه جمهوريًّا شديد الحماس، وكان عُمدة القرية التي عاش فيها جالوا مع عائلته، ومن أبيه تَشرَّب مبادئ الجمهورية واشترك بحماس وعنف في نضال الجمهوريين ضد الملك … لوي فيليب. ولمَّا كان رجال الكنيسة عمومًا منحازين إلى صف الملكية، تعلَّم من أبيه كُره رجال الكنيسة، وازداد حقده عليهم بعدما تسبَّبوا بمؤامراتهم إلى دفع أبيه دفعًا إلى الانتحار نتيجةَ فِرية كاذبة ألصقوها به. ولم يستطِع جالوا أن ينسى صورة جنازة أبيه وهي تمضي في شوارع القرية وسط مظاهرة أهلها ضد رجال الكنيسة، وكان عليه أن يرى نعش أبيه ينزل إلى القبر وطوب أهل القرية ينهال على بعض رجال الكنيسة الذي حضروا المراسيم!
كان هذا النضال السياسي سببًا في دخوله السجن حيث قضى ستة أشهر … فعندما قرَّرت الحكومة الملكية حل سلاح المدفعية بالجيش الفرنسي لاحتوائه على عديد من الضباط والمهندسين الجمهوريين من خريجي مدرسة «البوليتكنيك» العليا، سارع الضباط الجمهوريين إلى إقامة احتفال كبير للاحتجاج على هذا القرار، وكان جالوا واحدًا من الحضور.
في هذا الاحتفال شرب الحاضرون — تحديًا — نُخب الثورة الفرنسية ١٧٨٩م، ونُخب ثورة ١٧٩٣م، ونخب روبسبيير، ونُخب انتفاضة سنة ١٨٣٠م، ثم وقف جالوا (وهو شاب في العشرين) كأسه في يد ومطواته المفتوحة في اليد الأخرى واقترح أن يشربوا نخب «الملك … لوي فيليب»!
للوهلة الأولى لم يفهم الحاضرون مغزى هذا النَّخب الغريب في اجتماع جمهوري، ولكن عندما لمحوا السكين في يده فهموا النَّخب على أنه تهديد بقتل لوي فيليب؟ وضجَّت القاعة بالتصفيق والهتاف، وخرج رجال المدفعية إلى الشارع يرقصون ويحتفلون طوال الليل.
وفي اليوم التالي قُبض على جالوا في منزله ووُضع في السجن. وهكذا بدأت أول محاكمة سياسية لهذا العالم الرياضي الشاب. ولقد شاءت الظروف أن يدافع عنه محامٍ فرنسي ماهر، وبمساعدة أصدقائه ادَّعى المحامي أن جالوا قال عند شربه النَّخب: «نَخب لوي فيليب إذا تحوَّل إلى خائن!» وأن الفقرة الأخيرة من جملته لم تُسمع نتيجة الضجة التي تعالت في القاعة، وأَقسَم أصدقاء جالوا على أن هذا هو ما حدث بالفعل. أمَّا السكين في يد جالوا فقد فسَّر المحامي وجوده بأنه كان يقطع به قطعة الدجاج التي كانت في طبقه! واقتنع المحلَّفون وحكموا ببراءة جالوا، وفي هدوء خرج من القفص وذهب إلى منضدة الشهود حيث الْتقط المطواة وقفلها ثم ترك المحكمة دون أن ينطق بكلمة.
بعد هذا الحادث بشهرين أُلقي القبض على جالوا مرةً أخرى … كإجراء وقائي هذه المرة إذ كان الجمهوريون على وشك عقد اجتماع كبير. وعبثًا حاولت الحكومة توجيه تهمة إليه، فلمَّا فشلت وجَّهت إليه تهمة لبس زي سلاح المدفعية عند إلقاء القبض عليه، وهذا العمل غير قانوني ما دام سلاح المدفعية قد حُل، وفي هذه المرة أُدين جالوا وحُكم عليه بستة أشهر في السجن.
كان جالوا في العشرين من عمره، وقد حاول استغلال هذه الأشهر الستة في كتابة كل بحوثه الرياضية استعدادًا لتقديمها للأكاديمية الفرنسية بهدف الحصول على الجائزة التي تمنحها الأكاديمية سنويًّا لأعظم الرياضيين الفرنسيين!
•••
ثم يبقى العنصر الثالث الذي ميَّز حياة جالوا، ونعني به سوء الحظ!
إن جالوا لم يدخل مدرسةً قطُّ قبل سن الثانية عشرة، وفي السنتين الأُوليين كان تلميذًا عاديًّا في ليسيه لوي لي جراند بالقرب من باريس، وكان هذا النوع من المدارس آنذاك يهتم بالدرجة الأولى بالمواد الكلاسيكية في الدراسة؛ الخطابة، اليونانية، اللاتينية. أمَّا الرياضيات فقد كانت تُدرَّس كمادة ثانوية يختارها الطالب في السنة التي يريدها.
وبعد أن بدأ جالوا بدايةً مشجعة في السنتين الأُوليين في دراسة المواد الكلاسيكية أدركه الملل وهو في الرابعة عشرة، عندما بدأ ذهنه يتفتَّح بصورة انفجارية على العلوم الرياضية. ولقد قيل إن البداية في تفتُّح عبقرية جالوا الرياضية وقعت عندما رأى بالصدفة كتاب ليجندر في الهندسة، وكان هذا الكتاب تحفةً من العمل الفني تُضرَب بها الأمثال. ولقد كان تقدير الأساتذة أن طالب الليسيه الممتاز قادر على دراسة هذا الكتاب خلال عامين، ولكن جالوا قرأه واستوعبه وكأنه يقرأ قصةً بوليسية!
كان جالوا قادرًا على أن يُجري في دماغه أعقد العمليات الرياضية دون ورقة أو قلم؛ ولذا كان أساتذته غير قادرين على متابعته حتى كتب أحد أساتذته عنه يقول: «إن جنون الرياضيات يسيطر على هذا الصبي.» وعندما تقدَّم للامتحانات الشفوية في مدرسة «البوليتكنيك» العليا، دخل في نقاش رياضي معقَّد مع أحد الأساتذة، وكان هذا الأستاذ مخطئًا فيما يقول، وحاول جالوا أن ينبِّهه، ولمَّا أصرَّ الأستاذ على موقفه فقَدَ جالوا السيطرة على أعصابه، فما كان منه إلا أن رمى وجه الأستاذ بماسحة السبورة!
في الخامسة عشرة من العمر لم يقتنع جالوا بكتب الرياضيات المدرسية التي كانت في يديه، بل ذهب إلى الأصول، إلى كتابات كبار الرياضيين في فرنسا، فبدأ بقراءة الرياضي النابغة لاجرانج، ثم تحوَّل إلى قراءة بحوث ومذكرات الرياضي النرويجي آبل — أعظم من أنجبت أوروبا في علم الجبر — وهي بُحوث لم تكن موجهةً إلى الصِّبية المراهقين، وإنما إلى كبار الرياضيين في أوروبا وأميركا. وهكذا غرق جالوا في بحوث عن الحلول العددية للمعادلات، وفي دراسات عن نظرية الدوال الناقصية، وبدا له أنه قد استطاع أخيرًا أن يحصل على الحل العام لمعادلات الدرجة الخامسة، الأمر الذي عجز عنه أعظم رياضيي أوروبا من قبل. ولقد اكتشف جالوا بعد ذلك أنه كان يبحث عن المستحيل، وأن آبل نفسه قد وقع في نفس الخطأ، وأنه لا يوجد حل عام لمعادلات الدرجة الخامسة.
وفي سن السادسة عشرة قرَّر جالوا — وهو لا يزال تلميذًا في الليسيه — أن يتقدَّم لامتحانات مدرسة البوليتكنيك العليا، وكان حلم جالوا في دخولها يتمثَّل في أن هذه المدرسة هي موطن أعظم الرياضيين الفرنسيين من ناحية، وأنها من ناحية أخرى موطن الضباط المتمردين على الملكية في نفس الوقت. ولكن جالوا رسب! وقيل في تفسير رسوبه إنه كان في مستوى عرضه للبراهين الرياضية أكثر تقدُّمًا من أساتذته، وإن هؤلاء الأساتذة لم يستطيعوا أن يفهموه.
في هذا الوقت كان جالوا قد استطاع أن يصل إلى عدد من الكشوف الأساسية في نظرية المعادلات، ونظرية الرمز، وكان من المفارقات أن أستاذه في الليسيه ريشار يشرح نظريات جالوا للتلاميذ مُشيدًا بعبقريته مناديًا بضرورة دخوله «البوليتكنيك» دون امتحان.
وعندما بلغ جالوا الثامنة عشرة سجَّل كل اكتشافاته في مذكرة واحدة تَقدَّم بها إلى الأكاديمية الفرنسية، وكانت الأكاديمية تُرسل هذا النوع من المذكرات إلى كوشي أعظم الرياضيين الفرنسيين آنذاك لكتابة تقرير دقيق عنها يبيِّن مدى الجديد فيها. ولقد عُرف عن كوشي الدقة في تقاريره والسرعة في عمله، إلا أنه فقد مذكرة جالوا!
ثم لاحق سوء الحظ الشاب النابغةَ بعد هذا بعام … كان جالوا قد كتب ثلاثة أبحاث جديدة في نظرية المعادلات، وكانت النتائج التي توصَّل إليها غير معروفة بالمرة. ولقد تقدَّم بهذه البحوث على هيئة مذكرة إلى الأكاديمية الفرنسية للحصول على جائزتها السنوية. وفي أمان وصلت المذكرة إلى سكرتير الأكاديمية الذي أخذها منه إلى منزله لدراستها. ولكنه مات بعد ذلك بأيام، وعندما بحثوا عنها في أدراج منزله لم يجدوا لها أثرًا!
وهكذا بدأ جالوا يعتقد أن شيئًا آخر غير مجرد الصدفة يحاربه؛ فقد رسب في امتحان مدرسة «البوليتكنيك» العليا مرتين، وضاعت بحوثه التي قدَّمها للأكاديمية الفرنسية مرتين، وهكذا اشتدَّ حقده على الأكاديمية والأكاديميين، وتحوَّل من العلم إلى السياسة إلى جانب الجمهوريين في فرنسا الملكية عندما كانت مشايعة الجمهورية تُعتبر راديكاليةً خطيرة!
وعندما بدأت أحداث انتفاضة سنة ١٨٣٠م، امتلأ قلب جالوا بالسعادة، وحاول أن يقود زملاءه في الليسيه إلى الشوارع، ولكنهم تردَّدوا. ولقد رفض جالوا أن يعطي مدير الليسيه وعدًا بعدم مغادرة المدرسة، بل حاول أن يقفز من سورها لينضم إلى طلبة «البوليتكنيك» الذين كانوا يملئون الشوارع ويصنعون التاريخ … فلمَّا فشل في ذلك بسبب ارتفاع السور أخذ يكتب خطابات إلى الصحيفة المحلية مهاجمًا المدير والتلاميذ، وتسبَّب أحد هذه الخطابات في فصله!
قال في أحد هذه الخطابات لطلبة الليسيه: «إنني لا أطلب منكم شيئًا لشخصي، ولكني أطلب منكم أن ترفعوا أصواتكم دفاعًا عن شرفكم وضمائركم!» ولقد خرج جالوا من انتفاضة ١٨٣٠م الفاشلة بنتائج سياسية جديدة أكثر راديكالية، وأذهل أساتذته وزملاءه عندما أعلن ولاءه لصالح الجماهير الكادحة في فرنسا.
بعد فشل انتفاضة ١٨٣٠م، وفصله من الليسيه، كان جالوا في التاسعة عشرة من عمره، فماذا يصنع شاب صغير في هذه السن؟ ربما يبحث عن عمل يكسب به قُوت يومه؟
لا … ليس جالوا، وإنما أعلن في الصحف عن إنشاء «فصل خاص» في الجبر العالي يجتمع مرةً واحدة في الأسبوع! كان ينوي أن يُحاضر في نظرية الأعداد التخيُّلية ونظرية حل المعادلات ونظرية الدوال الناقصية معالَجةً بطريقة جبرية، وكل هذه المواد العلمية كانت من ابتكاره هو لم يسبقه إليها أحدٌ من قبل. ولكن أحدًا لم يحضر، فاضطُر إلى أن يتجه إلى العمل السياسي مرةً أخرى.
•••
ثم كان يوم ٩ مايو سنة ١٨٣١م، الذي هو بداية النهاية لحياة جالوا … في هذا اليوم وقع احتفال الجمهوريين الذي سبق الحديث عنه، واقترح فيه نُخب ملك فرنسا لوي فيليب، وقُبض عليه بسبب قصة هذا النُّخب في اليوم التالي في منزل أمه. ورغم أنه حوكم ولم يُدَن، إلا أن هذه الحادثة جلبت العداء بينه وبين الملكيين عداءً حادًّا، وأشعلت قلوب شبابهم بكراهية جالوا.
وبعد شهرين قُبض على جالوا مرةً أخرى بتهمة ارتداء زي سلاح المدفعية، وهو السلاح الذي حلَّه النظام الملكي، وفي هذه المرة أُدين وحُكم عليه بالسجن ستة أشهر.
وخرج جالوا من السجن في ٢٩ مايو ١٨٣٢م راغبًا في الذهاب إلى الريف للراحة والاستجمام. وفي مساء هذا اليوم وقع حادث غريب أدَّى إلى مقتل جالوا، واختلفت الروايات حول حقيقة هذا الحادث، غير أن معظم الروايات تقول إنه عند خروجه من السجن وجد شابَّين من شباب الملكيين في انتظاره، وتحداه أحدهما إلى مبارزة بالمسدسات، وأنه اضطُر إلى قَبول هذا التحدي دفاعًا عن شرفه!
كتب جالوا في هذه الليلة الحاسمة إلى صديقين له يقول:
«لقد تحداني مواطنان، وكان مستحيلًا عليَّ أن أرفض، ولقد أخذا مني وعدًا بالشرف ألَّا أخبر أحدًا. أرجو أن تسامحاني لذلك، وأن المهمة التي أطلبها منكما سهلة جدًّا … أن تُثبتا أنني قبلت التحدي رغم أنفي، وبعد بذل كل جهد للتفاهم. أرجو أن تحافظا على ذكراي؛ فالقدر لم يُعطِني وقتًا كافيًا لتعرف فرنسا اسمي. سأموت صديقًا وفيًّا لكما.»
كانت هذه الرسالة آخر رسالة شخصية كتبها قبل فاجعة موته، ثم ظل طول الليل يكتب بشكل جنوني كل اكتشافاته الرياضية على هيئة وثيقة كما كتب وصيته. وفي كثير من هذه الصفحات الستين التي تركها جالوا كثيرًا ما نجد هوامش تقول: «ليس عندي وقت لبرهان هذا الجزء»، ولكن الرياضيين الفرنسيين أجمعوا بعد ذلك على أن هذه الصفحات الستين ظلَّت تشغل رياضيي العالم قرنًا من الزمان. لقد وجد جالوا لأول مرة حلًّا لمشكلة رياضية ظلَّت تشغل الرياضيين سنين طويلةً دون إجابة؛ تحت أي شروط عامة يمكن حل معادلة جبرية؟ ليس هذا فحسب، بل إن جالوا قد استخدم في هذه الخطابات الأخيرة نظرية الزمر بنجاح مذهل، وكان هذا الاستخدام عملًا طليعيًّا في عالم الرياضيات.
بالإضافة إلى هذا فقد ائتمن جالوا بِدلِّه أصدقائه على مخطوطات رياضية كان قد أعدَّها لتقديمها للأكاديمية الفرنسية للمرة الثالثة، وقد نُشرت كل هذه الكنوز الرياضية بعد وفاته بأربعة عشر عامًا.
كتب جالوا في وصيته إلى صديقه الحميم أوجسته شفالييه يقول: «لقد حقَّقت اكتشافات جديدةً في التحليل … وأرجوك أن تسأل الرياضي الألماني جاوس علنًا أن يعطي رأيه، لا عن صحة هذه النظريات التي اكتشفتها، وإنما عن أهميتها.»
وفي فجر يوم ٣٠ مايو سنة ١٨٣٢م واجه جالوا خصمه في «ساحة الشرف»، دون أن يعرف أحد من أهله وأقاربه تحقيقًا للوعد الذي قطعه على نفسه. كانت المبارزة بالمسدسات، وكانت المسافة بين الخصمين خمسًا وعشرين خطوة!
ووقع جالوا … ولم يكن هناك طبيب قريب لإسعافه. وهكذا تُرك جالوا في مكان مهجور مُلقًى على الأرض حتى الساعة التاسعة صباحًا عندما عثر عليه قروي بالصدفة فنقله إلى المستشفى بعد فوات فرصة إنقاذه.
وحضر أخوه على عجلة إلى المستشفى باكيًا، ولكن جالوا الْتفت إليه في هدوء وقال: «لا تبكِ … فأنا في حاجة إلى كل شجاعتي لكي أموت في سن العشرين!»