الخريطة والألوان الأربعة
في يوم عادي من أيام شتاء لندن البارد عام ١٨٥٢م، كان أحد تلاميذ المدارس الثانوية (فرانسيس جوثري) يقوم بتلوين خريطة لإنجلترا بمقاطعاتها المختلفة، وكان من الطبيعي أن يراعي عند التلوين ألَّا يكون لمقاطعتين متجاورتين (أي بينهما حدود مشتركة) نفس اللون، وخطر له أن يسأل نفسه: كم عدد الألوان الضرورية لإنجاز هذا العمل؟ لقد لاحظ فرانسيس من خلال عمله أن أربعة ألوان تكفي، وبدأ يسأل نفسه: هل هذه قاعدة عامة؟
بمعنًى آخر هبْ أن فرانسيس كان يقوم بتلوين خريطة لأوروبا مثلًا، فهل تكفي أربعة ألوان لإنجاز هذا العمل بشرط ألَّا يكون لدولتين متجاورتين نفس اللون؟
أعاد فرانسيس التجربة على خريطة لأوروبا، ووجد مرةً أخرى أن أربعة ألوان كافية. وبدا للفتى أن أفضل ما يمكن صُنعه للإجابة على هذا التساؤل أن يناقش أخاه فردريك جوثري؛ فأخوه طالب بجامعة لندن يدرس الرياضيات على يد أستاذ من أقدر علماء عصره (الأستاذ دي مورجان)، وربما يستطيع أن يبرهن رياضيًّا على أن أربعة ألوان كافية لتلوين أية خريطة تحت هذا الشرط الذي سبق ذكره.
وتداول الأخوان طويلًا في الموضوع دون حل. لقد كان واضحًا لفردريك أن ثلاثة ألوان لا تكفي لإنجاز هذا العمل.
ولكن لماذا تكفي أربعة ألوان بالذات؟ كيف يمكن إثبات هذا نظريًّا؟ وما هو الشيء السحري في العدد أربعة الذي يجعل منه فارسًا في هذه المهمة؟
كان الفيثاغوريون في اليونان القديمة — وهم أول مدرسة رياضيات عرفتها البشرية — ذوي اتجاه صوفي محدد، يقرنون بين الأعداد والصفات، فيقولون إن من الأعداد البهي الكريم، ومنها القبيح المضجِر. فهل يكون العدد أربعة من بين هذه الأعداد البهية الكريمة التي تلعب دورًا خاصًّا في تكوين الخرائط؟
لا شك أن هذه النظرة الصوفية للأعداد كانت بعيدةً عن ذهن الأخوين فرانسيس وفردريك.
وعندما عجز الأخوان عن الوصول إلى حل للمشكلة، حملها فردريك في اليوم التالي إلى أستاذه دي مورجان، ودخل عليه في غرفته وهو متهيِّب أن يكون سؤاله سخيفًا تافهًا وأن تكون الإجابة عليه معروفةً منذ زمان طويل. ولم يخطر على بال الفتى أن العقل البشري سوف يظل مشغولًا بهذا السؤال لمدة تقرب من مائة وخمسة وعشرين عامًا! وأنه خلال هذه المدة لا يكاد يوجد عالِم رياضي مرموق في هذا العالم لم يحاول البحث عن برهان لهذه المقولة دون نتيجة، وأنه في عام ١٩٧٦م فقط توصَّل رياضيان أميركيان من جامعة إلينوي إلى برهان كامل لهذه المقولة!
والأغرب من هذا كله أن هذا البرهان الذي نُشر عام ١٩٧٦م يقع في مائة صفحة كتلخيص، ومائة صفحة من التفاصيل، وسبعمائة صفحة من الهوامش، كما يشتمل على ١٢٠٠ ساعة عمل على الحاسب الآلي (الكمبيوتر).
سوف يقول قارئ أريب على الفور: إن هذا جنون بلا ريب؛ إذ لماذا تُنفق البشرية كل هذا الجهد للإجابة على سؤال من هذا النوع؟ وما هي قيمته العملية على أي حال؟
للإجابة على هذا السؤال المشروع … على القارئ أن يدرك أن القضية نشأت أولًا من خلال مشكلة عملية، وأن الإجابة على أسئلة من هذا النوع كانت في الحقيقة بداية فروع جديدة في العلوم الرياضية. وقد تبدو هذه الفروع مجردةً في بادئ الأمر وبلا تطبيقات لفترة من الزمن. ولكن البشرية في إحدى لحظاتها تجد استخدامًا لها في أكثر فروع العلوم والتكنولوجيا الْتصاقًا بمشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية، وأن مشكلة «الخريطة والألوان الأربعة» كانت على أي حال فتحًا جديدًا لمجالات رياضية جديدة ذات تطبيقات هامة.
الموضوع إذن مهم ويستأهل هذا الجهد. ولكن الأهم في هذا المقال أن نستعرض كيف استغرق العقل البشري كل هذا الوقت ليصل إلى إجابة على سؤال يبدو في مظهره بسيطًا إلى هذا الحد؟ وكيف ظن كثيرون على طول الطريق أنهم وصلوا إلى إجابة ثم تَبين أنهم خُدعوا.
لنعد إذن إلى فردريك جوثري ومقابلته لأستاذه دي مورجان حيث عرض عليه المشكلة. بطبيعة الحال لم يكن لدى دي مورجان إجابة، ولكنه كتب إلى الرياضي الأيرلندي الكبير سير وليم هاملتون خطابًا. وفي هذا الخطاب ذكر دي مورجان أن أحد تلاميذه هو الذي طرح المشكلة وأنه يود أن يعرف إن كان عند سير وليم إجابة عليها.
ولم يكتفِ دي مورجان بهذا، بل قام بطرح هذه المشكلة عام ١٨٦٠م علنًا لأول مرة من خلال مقال له كان يستعرض فيه أحد الكتب الرياضية الجديدة. وسارع الفيلسوف وأستاذ المنطق الأميركي بيرس بنشر «برهان» لهذه النظرية بعد قراءته للمقال، ثم تبيَّن أن البرهان خاطئ!
•••
وصفَّق العالَم الرياضي كله لهذا الرياضي الهاوي الذي أنجز ما عجز عنه الرياضيون المحترفون، وعُيِّن كمب أمينًا لصندوق الجمعية الرياضية بلندن، ثم انتُخب رئيسًا لها مكافأةً له على هذا العمل الجليل. والأكثر من هذا أنه انتُخب عضوًا بالجمعية الملكية البريطانية — وهو شَرَف لا يحظى به إلا كبار العلماء — تقديرًا لعبقريته في هذا المجال.
أُغلق الباب إذن على المشكلة باعتبارها منتهية، وأخذ بعض نُظار المدارس الثانوية يعرضون منطوق النظرية على الممتازين من تلاميذهم في تحدٍّ واضح للوصول إلى برهان كمب أو أي برهان آخر، حتى إن ناظر إحدى مدارس بريستول طرَحَها على تلاميذه مشترطًا أن أي حل يقدِّمونه «لا ينبغي أن يزيد عن ثلاثين سطرًا بالإضافة إلى صفحة من الرسم البياني»!
وكنوع من التسلية والترويج طُرحت المشكلة في عدد من المجلات المتخصِّصة، ومنها «مجلة التعليم» التي تصدر في لندن. وبعد سنتين من طرحها نشرت نفس المجلة عام ١٨٨٧م حلًّا للمشكلة قدَّمه أسقُف لندن آنذاك (فردريك تمبل) الذي أصبح فيما بعدُ كبير أساقفة بريطانيا، وقد ذيَّل الأسقف البرهان بسطرين قال فيهما إنه وصل إلى هذا الحل بينما كان شارد الذهن خلال اجتماع ممل للكنيسة!
لكن المفاجأة المذهلة وقعت عام ١٨٩١م؛ أي بعد أن نشر كمب برهانه باثني عشر عامًا، عندما نشر الأستاذ هيوود — أستاذ الرياضيات بجامعة ديرهام — بحثًا يبيِّن فيه أن برهان كمب يحتوي على مغالطة تنسف البرهان من أساسه، وأن مشكلة «الخريطة والألوان الأربعة» ما تزال دون حل!
ورغم هذه الصدمة فقد كان الشائع في أوساط الرياضيين الأوروبيين أن الخطأ في برهان كمب ليس من النوع الخطير، وأنه يسهل تداركه، وأن النظرية مبرهنة في أساسياتها وإن كان البرهان في حاجة إلى بعض التعديل ليكون مقبولًا.
لكن السنين مضت دون أن يستطيع أحد تعديل البرهان حتى يكون مقبولًا، وشيئًا فشيئًا بدأ العلماء الكبار في أوروبا يُدركون أن المشكلة أعمق ممَّا كانوا يتصوَّرون.
ومنذ عام ١٨٩١م حتى ١٩٧٦م بُذلت محاولات شتى دون جدوى، ولا يكاد يوجد عالم رياضي مرموق في هذه الفترة إلا وقد حاول أن يحرق أصابعه دون طائل في البحث عن برهان … إلى أن أعلن الرياضيان الأميركيان آيل وهاكن الأستاذان بجامعة إلينوي منذ أربع سنوات عن برهان جديد، هذا البرهان الذي استغرق ٧٠٠ صفحة من الهوامش، ١٢٠٠ ساعة عمل على الكمبيوتر!
هل هذه هي نهاية المشكلة إذن؟
الذين اطَّلعوا على البرهان من الرياضيين يقولون: نعم ولا في نفس الوقت. نعم … لأن النظرية قد عُرف لها برهان في آخر الأمر؛ ولا … لأنه لا يمكن للبشرية أن تستقر على قَبول مثل هذا البرهان المطول جدًّا والذي يصعب على الآخرين التحقُّق من صحته. فما هي قيمة أي برهان رياضي لا يستطيع الآخرون متابعته؟
ومع أن المشكلة قد حُلَّت من ناحية المبدأ فيما يبدو، إلا أن السنوات القادمة سوف تشهد محاولات أخرى مثيرةً إمَّا لاختصار برهان آيل وهاكن، أو لإيجاد طريقة أخرى للبرهان مختلفة كيفيًّا عن طريقتهما التي هي في الحقيقة تطوير واستمرار لبرهان الإنجليزي كمب.
إن هذه النتيجة التي توصَّل إليها العالمان هي بالتأكيد انتصار للإنسان وللعقل البشري، وهي علامة من علامات ارتقاء هذا الكائن الذي هو نحن. وليس السؤال المهم هو: ماذا أعمل بهذه النظرية الآن؟ لأن البشرية على طول تاريخها وتجاربنا قد علَّمتنا أن ما حقَّقه العقل البشري من انتصارات إنما كان دائمًا نحو فهم أفضل لهذا الكون الذي نعيش فيه، وأن ما قد يبدو شديد التجريد في العلوم الرياضية أحيانًا إنما يجد طريقه في نهاية الأمر في مكان ما من صورة المعرفة الإنسانية التي يزداد اكتمالها.
وإلا فماذا كُنا صانعين بالنظرية النسبية لأينشتين عندما صدرت عام ١٩٠٥م؟
لنتذكَّر قصة إقليدس الذي كان يُدرِّس الهندسة لتلاميذه في جامعة الإسكندرية قبل ألفين من السنين، وهذا التلميذ الذي سأله: «وما فائدة هذه النظريات يا سيدي؟» والتفت إقليدس غاضبًا إلى خادمه وقال مشيرًا للتلميذ: «يا غُلام، أعطِه درهمًا»!
ثم لنتذكَّر الجهود الجبارة التي بذلها المهندسون العرب في بناء قصر الحمراء بالأندلس، والأشكال الهندسية ذات التماثل الغريب التي راعَوها في تزيين القصر. إن من المؤكد أن عرب الأندلس لم يكونوا يعرفون شيئًا عن هندسة التحويلات، لكن أشكالهم الهندسية هذه كانت المفتاح الأول لدى الأوروبيين عندما ابتكروا كثيرًا من أفكار هندسة التحويلات، وأن هذا الفرع من الرياضيات يجد له تطبيقات مثيرةً في علوم مختلفة كالفيزياء والكيمياء.
ولعل من أروع عِبر هذه القصة المثير عن «الخريطة والألوان الأربعة» أنها مقولة تبدو بسيطةً إلى حد الاستهتار (وهذا فيما يبدو طابع كل عميق في المعرفة البشرية)، وأنها قد طُرحت على يد تلميذ بالمدارس الثانوية، تلميذ لم يخطر في خَلَده أن يجتاز العقلُ البشري هذه المرحلة الشاقة للوصول إلى حل لها، وهو درس جدير بعنايتنا عند تربية أولادنا في البيت والمدرسة، هذه التربية العلمية القائمة على الفضول ومحبة المعرفة والسعي إليها وتحكيم العقل وتنمية الاعتماد على الذات. إن هذا هو طريق اللحاق بالأمم التي سبقتنا في مضمار الحضارة والنهضة.